* بسم الله الرحمن الرحيم *
و السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
منزلة القرآن الكريم وخصائصُه
بين المُنْتفِع بآياته والجاحد لها
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلام على مَن أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فالقرآن الكريم ـ الذي هو كلامُ الله ووحيُه وتنزيلُه ـ غيرُ مخلوقٍ، مُعْجِزٌ في نَظْمِه، لا يُشْبِهُه شيءٌ مِن كلام المربوبين، ولا يقدر على مِثْلِه أحَدٌ مِن المخلوقين، «الذي في مَصاحِفِ المسلمين، لم يَفُتْ منه شيءٌ، ولم يَضِعْ بنسيانِ ناسٍ، ولا ضلالِ صحيفةٍ، ولا موتِ قارئ، ولا كتمانِ كاتمٍ، ولم يُحرَّفْ منه شيءٌ، ولم يُزَدْ فيه حرفٌ، ولم يُنْقَصْ منه حرفٌ»(١)، كُلُّه حقٌّ مِن عندِ الله، ولو كذَّب به أعداءُ الرُّسُل مِن الكُفَّار والمُشْرِكين والمُلْحِدين ومَن سارَ على نهجِهم مِن الفلاسفة وأهلِ الأهواء(٢)، الذين يسخرون مِن الرُّسُل والأنبياءِ وأتباعهم، ويَصِفونهم بالسفه، ويُسَمُّون أَنْفُسَهم بالحكماء، قال تعالى: ﴿فَلَمَّا جَآءَتۡهُمۡ رُسُلُهُم بِٱلۡبَيِّنَٰتِ فَرِحُواْ بِمَا عِندَهُم مِّنَ ٱلۡعِلۡمِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِۦ يَسۡتَهۡزِءُونَ ٨٣﴾ [غافر].
ويُلْحَقُ بهم صنفٌ مِن أهل الكتاب يؤمنون ببعض الكُتُبِ ويكفرون ببعضٍ تكبُّرًا عن الحقِّ واتِّباعًا للهوى والظنونِ الكاذبة وهُمُ اليهودُ والنصارى؛ فهُمْ يقولون: ﴿نُؤۡمِنُ بِمَآ أُنزِلَ عَلَيۡنَا وَيَكۡفُرُونَ بِمَا وَرَآءَهُۥ وَهُوَ ٱلۡحَقُّ مُصَدِّقٗا لِّمَا مَعَهُمۡ﴾ [البقرة: ٩١]، وقد تَبِعهم في مُعْتقَدِهم ونَهْجِهم أشكالٌ مِن أقوامنا وبني جِلْدتنا، وقد ذمَّ اللهُ تعالى هذا الإيمانَ المبعَّضَ الذي هو ـ في حقيقته ـ كفرٌ بجميعِ الكُتُبِ المُنْزَلةِ، وذمَّ الذين تفرَّقوا في الكتاب واختلفوا، قال تعالى: ﴿وَإِنَّ ٱلَّذِينَ ٱخۡتَلَفُواْ فِي ٱلۡكِتَٰبِ لَفِي شِقَاقِۢ بَعِيدٖ ١٧٦﴾ [البقرة]، وحَقَّ عليهم ما تَوعَّدَهم به اللهُ على أفعالهم الشنيعةِ مِن الخزي والعذاب كما في قوله تعالى: ﴿أَفَتُؤۡمِنُونَ بِبَعۡضِ ٱلۡكِتَٰبِ وَتَكۡفُرُونَ بِبَعۡضٖۚ فَمَا جَزَآءُ مَن يَفۡعَلُ ذَٰلِكَ مِنكُمۡ إِلَّا خِزۡيٞ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۖ وَيَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ يُرَدُّونَ إِلَىٰٓ أَشَدِّ ٱلۡعَذَابِۗ وَمَا ٱللَّهُ بِغَٰفِلٍ عَمَّا تَعۡمَلُونَ ٨٥﴾ [البقرة]؛ لذلك كان الإيمانُ المطلوبُ هو الإيمانَ الجامع والمُؤْتلِفَ الذي لا يقبل تفريقًا ولا تبعيضًا ولا اختلافًا.
وقد تَعهَّدَ اللهُ تعالى بحفظِ القرآنِ الكريم إلى أَنْ يرفعه إليه؛ فقيَّضَ له رجالًا أُمَناءَ حَفِظوه في صدورهم وسطورهم؛ فصانَهُ بهم مِن أَنْ تمتدَّ إليه يدٌ بالتحريف أو التصحيف أو التغيير أو التبديل؛ فبقي «في أُمَّتِه محفوظًا لم تَجْرِ عليه زيادةٌ ولا نقصانٌ كما وَعَدَ اللهُ تعالى بقوله: ﴿إِنَّا نَحۡنُ نَزَّلۡنَا ٱلذِّكۡرَ وَإِنَّا لَهُۥ لَحَٰفِظُونَ ٩﴾ [الحِجْر]، وكما قال: ﴿وَإِنَّهُۥ لَكِتَٰبٌ عَزِيزٞ ٤١ لَّا يَأۡتِيهِ ٱلۡبَٰطِلُ مِنۢ بَيۡنِ يَدَيۡهِ وَلَا مِنۡ خَلۡفِهِۦۖ تَنزِيلٞ مِّنۡ حَكِيمٍ حَمِيدٖ ٤٢﴾ [فُصِّلَتْ]»(٣).
والكُتُبُ الأولى فَقَدَتِ الهدى والنورَ والرحمةَ والموعظةَ التي حَمَلَتْها لأجيالها الأوَّلين، ولم تَعُدْ تُمثِّلُ ـ حقيقةً ـ كُتُبَ اللهِ تعالى، ولا باستطاعتها الإصلاحُ، ولا هي قادرةٌ على الهداية لأهلها فضلًا عن سائر الخَلْق، بالنظر إلى ما تَطَرَّقَ إليها مِن التحريف والتبديل، وأنَّ تشريعاتِها وأحكامَها خاصَّةٌ ببني إسرائيل؛ فهي مُعيَّنةُ الأجيال ومحدَّدةُ الأوقات.
بخلاف التشريع القرآنيِّ، لا مُبدِّلَ لشيءٍ مِن شرائعه بَعْدَه، وليس لأحَدٍ الخروجُ عن أحكامه؛ لأنَّ رسالة القرآن الكريم عامَّةٌ لكُلِّ الأُمَمِ وشاملةٌ لكُلِّ العصور والبلدان والأقطار؛ لذلك نَسَخَ اللهُ تعالى ـ بالقرآن الكريم ـ كُلَّ ما سَبَقهُ مِن كُتُبِ الله تعالى الأولى لفظًا وحُكْمًا؛ فلا يُعْمَلُ بما فيها مِن شرائعَ وأحكامٍ، ولا يُتعبَّدُ بتلاوتها، قال تعالى: ﴿إِنَّآ أَنزَلۡنَآ إِلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ بِٱلۡحَقِّ لِتَحۡكُمَ بَيۡنَ ٱلنَّاسِ بِمَآ أَرَىٰكَ ٱللَّهُ﴾ [النساء: ١٠٥]، وقال تعالى: ﴿وَأَنزَلۡنَآ إِلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ بِٱلۡحَقِّ مُصَدِّقٗا لِّمَا بَيۡنَ يَدَيۡهِ مِنَ ٱلۡكِتَٰبِ وَمُهَيۡمِنًا عَلَيۡهِۖ فَٱحۡكُم بَيۡنَهُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُۖ وَلَا تَتَّبِعۡ أَهۡوَآءَهُمۡ﴾ [المائدة: ٤٨]، كما نَسَخَ اللهُ تعالى ـ بالدين الإسلاميِّ ـ سائرَ الأديانِ السابقةِ مصداقًا لقوله تعالى: ﴿إِنَّ ٱلدِّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلۡإِسۡلَٰمُ﴾ [آل عمران: ١٩]، وقولِه تعالى: ﴿وَمَن يَبۡتَغِ غَيۡرَ ٱلۡإِسۡلَٰمِ دِينٗا فَلَن يُقۡبَلَ مِنۡهُ وَهُوَ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ مِنَ ٱلۡخَٰسِرِينَ ٨٥﴾ [آل عمران].
لذلك أصبح مُبْتَغِي الحقِّ والهدى لا يجد أمامَه سوى القرآنِ الكريم لإدراكِ الحقائقِ العلمية المُثْبَتةِ فيه، والوصولِ إلى التعاليم الإلهية الصحيحةِ بما حَوَى القرآنُ الكريمُ مِن أصول التشريع وقواعده، والوقوفِ على أسراره وعجائبه؛ فهو الكتابُ العزيز والقرآنُ المَجيدُ الذي حُفِظَتْ أصولُه وسَلِمَتْ تعاليمُه، واشتمل على ما لم تَشْتَمِلْ عليه كُتُبُ المتقدِّمين مِن العلم العظيم والحقِّ المبين واليقينِ المُوصِلِ إلى كُلِّ خيرٍ، والهدى المُبيِّنِ للحقِّ مِن الباطل، والصحيحِ مِن الضعيف؛ فهو الهدى المُرْشِدُ للطُّرُقِ النافعةِ للعباد في دُنْيَاهم وأُخْرَاهُم لتحقيقِ سعادة الدارين، قال تعالى: ﴿الٓمٓ ١ ذَٰلِكَ ٱلۡكِتَٰبُ لَا رَيۡبَۛ فِيهِۛ هُدٗى لِّلۡمُتَّقِينَ ٢﴾ [البقرة]، قال السعديُّ ـ رحمه الله ـ: «﴿هُدٗى لِّلۡمُتَّقِينَ﴾: لأنه ـ في نَفْسِه ـ هدًى لجميعِ الخَلْق: فالأشقياءُ لم يرفعوا به رأسًا، ولم يقبلوا هُدَى الله؛ فقامَتْ عليهم به الحجَّةُ، ولم ينتفعوا به لشقائهم، وأمَّا المُتَّقون الذين أَتَوْا بالسبب الأكبر لحصول الهداية ـ وهو التقوى التي حقيقتُها: اتِّخاذُ ما يَقِي سخطَ اللهِ وعذابَه، بامتثالِ أوامِرِه، واجتنابِ النواهي ـ فاهتدَوْا به، وانتفعوا غايةَ الانتفاع. قال تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِن تَتَّقُواْ ٱللَّهَ يَجۡعَل لَّكُمۡ فُرۡقَانٗا﴾ [الأنفال: ٢٩]؛ فالمُتَّقون هُمُ المُنْتَفِعون بالآيات القرآنية والآياتِ الكونية؛ ولأنَّ الهداية نوعان: هدايةُ البيانِ وهدايةُ التوفيقِ؛ فالمُتَّقون حَصَلَتْ لهم الهدايتان، وغيرُهم لم تحصل لهم هدايةُ التوفيق، وهدايةُ البيانِ بدون توفيقٍ للعمل بها ليسَتْ هدايةً حقيقيةً تامَّةً»(٤).
والقرآن الكريم هو الحافلُ بجميعِ ما يحتاج إليه البشرُ، والمُبيِّنُ لكُلِّ شيءٍ تتوقَّفُ عليه سعادتُهم الدنيويةُ والأخرويةُ مِن حيث العقائدُ والعبادات والأخلاق والآداب والمُعامَلاتُ؛ وهو البشرى للمسلمين بخيرِ الدنيا والآخرة؛ قال تعالى: ﴿وَنَزَّلۡنَا عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ تِبۡيَٰنٗا لِّكُلِّ شَيۡءٖ وَهُدٗى وَرَحۡمَةٗ وَبُشۡرَىٰ لِلۡمُسۡلِمِينَ ٨٩﴾ [النحل]، قال ابنُ كثيرٍ ـ رحمه الله ـ: «.. فإنَّ القرآن اشتمل على كُلِّ علمٍ نافعٍ مِن خبرِ ما سَبَقَ وعِلْمِ ما سيأتي، وكُلِّ حلالٍ وكُلِّ حرامٍ، وما الناسُ إليه محتاجون في أمرِ دنياهم ودينِهم ومَعاشِهم ومَعادِهم»(٥).
والقرآن الكريم هو الجامع لأَسْمَى المبادئ وأَقْوَمِ المَناهِجِ وخيرِ النُّظُم، وهو خيرُ كفيلٍ بتكوين الفرد الكامل، وإعدادِ الأسرة الفاضلة، وإيجادِ المجتمع الصالح، والوسيلةُ الناجعةُ لإقامةِ الحقِّ والعدل، وإبعادِ الظلم، وصدِّ العدوان، ودفعِ الضلال والشقاء، قال تعالى: ﴿الٓمٓ ١ تِلۡكَ ءَايَٰتُ ٱلۡكِتَٰبِ ٱلۡحَكِيمِ ٢ هُدٗى وَرَحۡمَةٗ لِّلۡمُحۡسِنِينَ ٣﴾ [لقمان].
قال السعديُّ ـ رحمه الله ـ: «آياتُه مُحْكَمَةٌ، صدرَتْ مِن حكيمٍ خبيرٍ.
مِن إحكامها: أنها جاءَتْ بأَجَلِّ الألفاظ وأَفْصَحِها وأَبْيَنِها، الدالَّةِ على أجَلِّ المعاني وأَحْسَنِها.
ومِن إحكامها: أنها محفوظةٌ مِن التغيير والتبديل، والزيادةِ والنقص، والتحريف.
ومِن إحكامها: أنَّ جميع ما فيها مِن الأخبار السابقةِ واللاحقة، والأمور الغيبيةِ كُلِّها، مُطابِقةٌ للواقع، مُطابِقٌ لها الواقعُ، لم يخالفها كتابٌ مِن الكُتُبِ الإلهية، ولم يُخْبِرْ بخلافِها نبيٌّ مِن الأنبياء، ولم يأتِ ولن يأتيَ علمٌ محسوسٌ ولا معقولٌ صحيحٌ يُناقِضُ ما دلَّتْ عليه.
ومِن إحكامها: أنها ما أَمَرَتْ بشيءٍ إلَّا وهو خالصُ المصلحةِ أو راجِحُها، ولا نَهَتْ عن شيءٍ إلَّا وهو خالصُ المفسدةِ أو راجِحُها، وكثيرًا ما يجمع بين الأمرِ بالشيء مع ذِكْرِ حكمتِه وفائدتِه، والنهيِ عن الشيء مع ذِكْرِ مَضَرَّتِه.
ومِن إحكامها: أنها جمعَتْ بين الترغيب والترهيب، والوعظِ البليغ الذي تعتدل به النفوسُ الخيِّرةُ وتحتكم، فتعملُ بالحزم.
ومِن إحكامها: أنك تجد آياتِه المتكرِّرةَ ـ كالقصص والأحكام ونحوِها ـ قد اتَّفقَتْ كُلُّها وتَواطأَتْ، فليس فيها تَناقُضٌ ولا اختلافٌ؛ فكُلَّما ازداد بها البصيرُ تدبُّرًا، وأَعْمَلَ فيها العقلَ تفكُّرًا؛ انبهر عَقْلُه وذَهِلَ لُبُّه مِن التوافق والتواطؤ، وجَزَمَ جزمًا لا يُمترى فيه: أنه تنزيلٌ مِن حكيمٍ حميدٍ.
ولكِنْ ـ مع أنه حكيمٌ: يدعو إلى كُلِّ خُلُقٍ كريمٍ، وينهى عن كُلِّ خُلُقٍ لئيمٍ ـ أَكْثَرُ الناسِ محرومون الاهتداءَ به، مُعْرِضون عن الإيمانِ والعمل به، إلَّا مَن وفَّقَهُ اللهُ تعالى وعَصَمَه، وهُمُ المُحْسِنون في عبادةِ ربِّهم والمُحْسِنون إلى الخَلْق»(٦).
والقرآن الكريم هو العلم اليقينيُّ والنورُ الكاشفُ لجميعِ الظلمات القلبية، والمُزيلُ لجميعِ الشُّبَهِ والجهالات النفسية، والمبيِّنُ للحقائق والأسرار الكونية، وقد جَعَلَ اللهُ اتِّباعَ القرآن ـ وهُوَ النورُ المنزَّل الذي جاءَ به نَبِيُّنا محمَّدٌ صلَّى الله عليه وسلَّم مبلِّغا إلى الناسِ ـ سببَ فلاحِهم وسعادتِهم في الدنيا والآخرة، قال تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ قَدۡ جَآءَكُم بُرۡهَٰنٞ مِّن رَّبِّكُمۡ وَأَنزَلۡنَآ إِلَيۡكُمۡ نُورٗا مُّبِينٗا ١٧٤﴾ [النساء]، وقال تعالى: ﴿كِتَٰبٌ أَنزَلۡنَٰهُ إِلَيۡكَ لِتُخۡرِجَ ٱلنَّاسَ مِنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ﴾ [إبراهيم: ١]، وقال تعالى: ﴿فَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِهِۦ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَٱتَّبَعُواْ ٱلنُّورَ ٱلَّذِيٓ أُنزِلَ مَعَهُۥٓ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ ١٥٧﴾ [الأعراف].
والقرآن الكريم هو الشفاءُ والرحمةُ لجميعِ الأمراض الحسِّيَّةِ والمعنوية: فهو شفاءٌ لأمراضِ الأبدان وأعراضِ الأجسام وأدوائها، وشفاءٌ لأمراض القلوب والنفوسِ والعقول؛ فهو شفاءٌ مِن الكفر والشرك، والحيرةِ والخوف، والقلقِ والاضطراب، والكِبْرِ والحسد، والعجزِ والكسل، والظلمِ والجَوْر، والبخلِ والشُّحِّ؛ فهو شفاءٌ بالتذكير والموعظة الداعيةِ إلى اكتساب كُلِّ فضيلةٍ، والزاجرةِ عن كُلِّ رذيلةٍ، قال تعالى: ﴿قَدۡ جَآءَتۡكُم مَّوۡعِظَةٞ مِّن رَّبِّكُمۡ وَشِفَآءٞ لِّمَا فِي ٱلصُّدُورِ﴾ [يونس: ٥٧]، وهذا الشفاء خاصٌّ بالمؤمنين بالقرآن، المصدِّقين بآياته، العالِمين والعامِلين به، أمَّا الظالمون الجاحدون به فإنَّ الحجَّة تقوم عليهم به ولا تزيدهم آياتُه إلَّا خسارةً، قال تعالى: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ ٱلۡقُرۡءَانِ مَا هُوَ شِفَآءٞ وَرَحۡمَةٞ لِّلۡمُؤۡمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ ٱلظَّٰلِمِينَ إِلَّا خَسَارٗا ٨٢﴾ [الإسراء].
والقرآن الكريم هو الذِّكْرُ الإلهيُّ، جليلُ النعمةِ عظيمُ القَدْرِ كريمُ الوصفِ، به تَحْيَا قلوبُ العباد، وتَطيبُ أرواحُهم بتلاوته، وتزكو نفوسُهم بالعمل به؛ فهو المذكِّر لهم بكُلِّ ما يحتاجون إليه مِن العلم بأسماء الله وصِفاتِه وأفعالِه، وبأصول دينهم وفروعه، وبأحكامِ المَعاد والجزاء؛ فهو يُذكِّرُهم بما فيه الخيرُ الدنيويُّ والأخرويُّ ويحثُّهم عليه، ويذكِّرُهم بالشرِّ ويُرهِّبُهم عنه، قال تعالى: ﴿صٓۚ وَٱلۡقُرۡءَانِ ذِي ٱلذِّكۡرِ ١﴾ [ص]، وقال تعالى: ﴿وَإِنَّهُۥ لَذِكۡرٞ لَّكَ وَلِقَوۡمِكَۖ وَسَوۡفَ تُسَۡٔلُونَ ٤٤﴾ [الزخرف: ٤٤].
والقرآن الكريم هو الروحُ التي تَتوقَّفُ عليها حياةُ البشر في مَنافِعِهم الدينيةِ ومَصالِحِهم الدنيوية، وإذا كان الجسدُ لا يَحْيَا بدونِ روحٍ فكذلك حالُ الناس؛ فإنهم أمواتٌ إِنْ لم تَسْرِ فيهم الروحُ القرآنية، قال تعالى: ﴿وَكَذَٰلِكَ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ رُوحٗا مِّنۡ أَمۡرِنَاۚ مَا كُنتَ تَدۡرِي مَا ٱلۡكِتَٰبُ وَلَا ٱلۡإِيمَٰنُ وَلَٰكِن جَعَلۡنَٰهُ نُورٗا نَّهۡدِي بِهِۦ مَن نَّشَآءُ مِنۡ عِبَادِنَاۚ وَإِنَّكَ لَتَهۡدِيٓ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ ٥٢﴾ [الشورى]، قال السعديُّ ـ رحمه الله ـ: «.. هذا القرآن الكريم سمَّاهُ: «روحًا» لأنَّ الروح يَحْيَا به الجسدُ، والقرآن تَحْيَا به القلوبُ والأرواح، وتَحْيَا به مَصالِحُ الدنيا والدين؛ لِما فيه مِن الخير الكثير والعلم الغزير، وهو محضُ مِنَّةِ الله على رسوله وعِبادِهِ المؤمنين، مِن غيرِ سببٍ منهم، ولهذا قال: ﴿مَا كُنتَ تَدۡرِي﴾ أي: قبل نزوله عليك ﴿مَا ٱلۡكِتَٰبُ وَلَا ٱلۡإِيمَٰنُ﴾ أي: ليس عندك علمٌ بأخبار الكُتُب السابقة، ولا إيمانٌ وعملٌ بالشرائع الإلهية، بل كُنْتَ أُمِّيًّا لا تخطُّ ولا تقرأ، فجاءك هذا الكتابُ الذي ﴿جَعَلۡنَٰهُ نُورٗا نَّهۡدِي بِهِۦ مَن نَّشَآءُ مِنۡ عِبَادِنَا﴾ يستضيئون به في ظلمات الكفر والبِدَع، والأهواءِ المُرْدِيَة، ويعرفون به الحقائق، ويهتدون به إلى الصراط المستقيم.
﴿وَإِنَّكَ لَتَهۡدِيٓ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ﴾ أي: تُبيِّنُه لهم وتوضِّحُه، وتُنيرُه وتُرغِّبُهم فيه، وتَنْهاهم عن ضدِّه وتُرهِّبُهم منه»(٧).
هذا ـ وأخيرًا ـ فإنَّ الإيمان بالقرآن الكريمِ والنصيحةَ لكتاب الله يقتضي العملَ بأوامره واجتنابَ نواهيه، وتحليلَ حلالِه وتحريمَ حرامِه، والوقوفَ عند حدوده، «والذبَّ عنه في تأويل المحرِّفين له وطعنِ الطاعنين عليه، والتصديقَ بوَعْدِه ووعيده، والاعتبارَ بمَواعِظِه، والتفكُّرَ في عجائبه، والعلمَ بفرائضه وسُنَنِه وآدابِه، والعملَ بمُحْكَمِه والتسليمَ لمُتشابِهِه، والتفقُّهَ في علومه، والتبيُّنَ لمَواضِعِ المُرادِ به مِن خاصِّه وعامِّه وناسِخِه وسائر وجوهه»(٨).
وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا.الجزائر في: ٢١ جمادى الأولى ١٤٣٦ﻫ
الموافق ﻟ: ١٢ مـــارس ٢٠١٥م
(١) «شُعَب الإيمان» للبيهقي (١/ ٣٢٦).
(٢) انظر: «شرح العقيدة الطحاوية» لابن أبي العزِّ (٣٣٣).
(٣) «الاعتقاد» للبيهقي (١١٧).
(٤) «تفسير السعدي» (٢٩).
(٥) «تفسير ابنِ كثير» (٢/ ٥٨٢).
(٦) «تفسير السعدي» (٧٥٨).
(٧) «تفسير السعدي» (٨٩٧).
(٨) «أعلام الحديث» للخطَّابي (١/ ١٩١ ـ ١٩٢).
من الموقع الرسمي للشيخ :
محمد علي فركوس حفظه الله تعالى
و السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
منزلة القرآن الكريم وخصائصُه
بين المُنْتفِع بآياته والجاحد لها
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلام على مَن أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فالقرآن الكريم ـ الذي هو كلامُ الله ووحيُه وتنزيلُه ـ غيرُ مخلوقٍ، مُعْجِزٌ في نَظْمِه، لا يُشْبِهُه شيءٌ مِن كلام المربوبين، ولا يقدر على مِثْلِه أحَدٌ مِن المخلوقين، «الذي في مَصاحِفِ المسلمين، لم يَفُتْ منه شيءٌ، ولم يَضِعْ بنسيانِ ناسٍ، ولا ضلالِ صحيفةٍ، ولا موتِ قارئ، ولا كتمانِ كاتمٍ، ولم يُحرَّفْ منه شيءٌ، ولم يُزَدْ فيه حرفٌ، ولم يُنْقَصْ منه حرفٌ»(١)، كُلُّه حقٌّ مِن عندِ الله، ولو كذَّب به أعداءُ الرُّسُل مِن الكُفَّار والمُشْرِكين والمُلْحِدين ومَن سارَ على نهجِهم مِن الفلاسفة وأهلِ الأهواء(٢)، الذين يسخرون مِن الرُّسُل والأنبياءِ وأتباعهم، ويَصِفونهم بالسفه، ويُسَمُّون أَنْفُسَهم بالحكماء، قال تعالى: ﴿فَلَمَّا جَآءَتۡهُمۡ رُسُلُهُم بِٱلۡبَيِّنَٰتِ فَرِحُواْ بِمَا عِندَهُم مِّنَ ٱلۡعِلۡمِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِۦ يَسۡتَهۡزِءُونَ ٨٣﴾ [غافر].
ويُلْحَقُ بهم صنفٌ مِن أهل الكتاب يؤمنون ببعض الكُتُبِ ويكفرون ببعضٍ تكبُّرًا عن الحقِّ واتِّباعًا للهوى والظنونِ الكاذبة وهُمُ اليهودُ والنصارى؛ فهُمْ يقولون: ﴿نُؤۡمِنُ بِمَآ أُنزِلَ عَلَيۡنَا وَيَكۡفُرُونَ بِمَا وَرَآءَهُۥ وَهُوَ ٱلۡحَقُّ مُصَدِّقٗا لِّمَا مَعَهُمۡ﴾ [البقرة: ٩١]، وقد تَبِعهم في مُعْتقَدِهم ونَهْجِهم أشكالٌ مِن أقوامنا وبني جِلْدتنا، وقد ذمَّ اللهُ تعالى هذا الإيمانَ المبعَّضَ الذي هو ـ في حقيقته ـ كفرٌ بجميعِ الكُتُبِ المُنْزَلةِ، وذمَّ الذين تفرَّقوا في الكتاب واختلفوا، قال تعالى: ﴿وَإِنَّ ٱلَّذِينَ ٱخۡتَلَفُواْ فِي ٱلۡكِتَٰبِ لَفِي شِقَاقِۢ بَعِيدٖ ١٧٦﴾ [البقرة]، وحَقَّ عليهم ما تَوعَّدَهم به اللهُ على أفعالهم الشنيعةِ مِن الخزي والعذاب كما في قوله تعالى: ﴿أَفَتُؤۡمِنُونَ بِبَعۡضِ ٱلۡكِتَٰبِ وَتَكۡفُرُونَ بِبَعۡضٖۚ فَمَا جَزَآءُ مَن يَفۡعَلُ ذَٰلِكَ مِنكُمۡ إِلَّا خِزۡيٞ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۖ وَيَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ يُرَدُّونَ إِلَىٰٓ أَشَدِّ ٱلۡعَذَابِۗ وَمَا ٱللَّهُ بِغَٰفِلٍ عَمَّا تَعۡمَلُونَ ٨٥﴾ [البقرة]؛ لذلك كان الإيمانُ المطلوبُ هو الإيمانَ الجامع والمُؤْتلِفَ الذي لا يقبل تفريقًا ولا تبعيضًا ولا اختلافًا.
وقد تَعهَّدَ اللهُ تعالى بحفظِ القرآنِ الكريم إلى أَنْ يرفعه إليه؛ فقيَّضَ له رجالًا أُمَناءَ حَفِظوه في صدورهم وسطورهم؛ فصانَهُ بهم مِن أَنْ تمتدَّ إليه يدٌ بالتحريف أو التصحيف أو التغيير أو التبديل؛ فبقي «في أُمَّتِه محفوظًا لم تَجْرِ عليه زيادةٌ ولا نقصانٌ كما وَعَدَ اللهُ تعالى بقوله: ﴿إِنَّا نَحۡنُ نَزَّلۡنَا ٱلذِّكۡرَ وَإِنَّا لَهُۥ لَحَٰفِظُونَ ٩﴾ [الحِجْر]، وكما قال: ﴿وَإِنَّهُۥ لَكِتَٰبٌ عَزِيزٞ ٤١ لَّا يَأۡتِيهِ ٱلۡبَٰطِلُ مِنۢ بَيۡنِ يَدَيۡهِ وَلَا مِنۡ خَلۡفِهِۦۖ تَنزِيلٞ مِّنۡ حَكِيمٍ حَمِيدٖ ٤٢﴾ [فُصِّلَتْ]»(٣).
والكُتُبُ الأولى فَقَدَتِ الهدى والنورَ والرحمةَ والموعظةَ التي حَمَلَتْها لأجيالها الأوَّلين، ولم تَعُدْ تُمثِّلُ ـ حقيقةً ـ كُتُبَ اللهِ تعالى، ولا باستطاعتها الإصلاحُ، ولا هي قادرةٌ على الهداية لأهلها فضلًا عن سائر الخَلْق، بالنظر إلى ما تَطَرَّقَ إليها مِن التحريف والتبديل، وأنَّ تشريعاتِها وأحكامَها خاصَّةٌ ببني إسرائيل؛ فهي مُعيَّنةُ الأجيال ومحدَّدةُ الأوقات.
بخلاف التشريع القرآنيِّ، لا مُبدِّلَ لشيءٍ مِن شرائعه بَعْدَه، وليس لأحَدٍ الخروجُ عن أحكامه؛ لأنَّ رسالة القرآن الكريم عامَّةٌ لكُلِّ الأُمَمِ وشاملةٌ لكُلِّ العصور والبلدان والأقطار؛ لذلك نَسَخَ اللهُ تعالى ـ بالقرآن الكريم ـ كُلَّ ما سَبَقهُ مِن كُتُبِ الله تعالى الأولى لفظًا وحُكْمًا؛ فلا يُعْمَلُ بما فيها مِن شرائعَ وأحكامٍ، ولا يُتعبَّدُ بتلاوتها، قال تعالى: ﴿إِنَّآ أَنزَلۡنَآ إِلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ بِٱلۡحَقِّ لِتَحۡكُمَ بَيۡنَ ٱلنَّاسِ بِمَآ أَرَىٰكَ ٱللَّهُ﴾ [النساء: ١٠٥]، وقال تعالى: ﴿وَأَنزَلۡنَآ إِلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ بِٱلۡحَقِّ مُصَدِّقٗا لِّمَا بَيۡنَ يَدَيۡهِ مِنَ ٱلۡكِتَٰبِ وَمُهَيۡمِنًا عَلَيۡهِۖ فَٱحۡكُم بَيۡنَهُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُۖ وَلَا تَتَّبِعۡ أَهۡوَآءَهُمۡ﴾ [المائدة: ٤٨]، كما نَسَخَ اللهُ تعالى ـ بالدين الإسلاميِّ ـ سائرَ الأديانِ السابقةِ مصداقًا لقوله تعالى: ﴿إِنَّ ٱلدِّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلۡإِسۡلَٰمُ﴾ [آل عمران: ١٩]، وقولِه تعالى: ﴿وَمَن يَبۡتَغِ غَيۡرَ ٱلۡإِسۡلَٰمِ دِينٗا فَلَن يُقۡبَلَ مِنۡهُ وَهُوَ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ مِنَ ٱلۡخَٰسِرِينَ ٨٥﴾ [آل عمران].
لذلك أصبح مُبْتَغِي الحقِّ والهدى لا يجد أمامَه سوى القرآنِ الكريم لإدراكِ الحقائقِ العلمية المُثْبَتةِ فيه، والوصولِ إلى التعاليم الإلهية الصحيحةِ بما حَوَى القرآنُ الكريمُ مِن أصول التشريع وقواعده، والوقوفِ على أسراره وعجائبه؛ فهو الكتابُ العزيز والقرآنُ المَجيدُ الذي حُفِظَتْ أصولُه وسَلِمَتْ تعاليمُه، واشتمل على ما لم تَشْتَمِلْ عليه كُتُبُ المتقدِّمين مِن العلم العظيم والحقِّ المبين واليقينِ المُوصِلِ إلى كُلِّ خيرٍ، والهدى المُبيِّنِ للحقِّ مِن الباطل، والصحيحِ مِن الضعيف؛ فهو الهدى المُرْشِدُ للطُّرُقِ النافعةِ للعباد في دُنْيَاهم وأُخْرَاهُم لتحقيقِ سعادة الدارين، قال تعالى: ﴿الٓمٓ ١ ذَٰلِكَ ٱلۡكِتَٰبُ لَا رَيۡبَۛ فِيهِۛ هُدٗى لِّلۡمُتَّقِينَ ٢﴾ [البقرة]، قال السعديُّ ـ رحمه الله ـ: «﴿هُدٗى لِّلۡمُتَّقِينَ﴾: لأنه ـ في نَفْسِه ـ هدًى لجميعِ الخَلْق: فالأشقياءُ لم يرفعوا به رأسًا، ولم يقبلوا هُدَى الله؛ فقامَتْ عليهم به الحجَّةُ، ولم ينتفعوا به لشقائهم، وأمَّا المُتَّقون الذين أَتَوْا بالسبب الأكبر لحصول الهداية ـ وهو التقوى التي حقيقتُها: اتِّخاذُ ما يَقِي سخطَ اللهِ وعذابَه، بامتثالِ أوامِرِه، واجتنابِ النواهي ـ فاهتدَوْا به، وانتفعوا غايةَ الانتفاع. قال تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِن تَتَّقُواْ ٱللَّهَ يَجۡعَل لَّكُمۡ فُرۡقَانٗا﴾ [الأنفال: ٢٩]؛ فالمُتَّقون هُمُ المُنْتَفِعون بالآيات القرآنية والآياتِ الكونية؛ ولأنَّ الهداية نوعان: هدايةُ البيانِ وهدايةُ التوفيقِ؛ فالمُتَّقون حَصَلَتْ لهم الهدايتان، وغيرُهم لم تحصل لهم هدايةُ التوفيق، وهدايةُ البيانِ بدون توفيقٍ للعمل بها ليسَتْ هدايةً حقيقيةً تامَّةً»(٤).
والقرآن الكريم هو الحافلُ بجميعِ ما يحتاج إليه البشرُ، والمُبيِّنُ لكُلِّ شيءٍ تتوقَّفُ عليه سعادتُهم الدنيويةُ والأخرويةُ مِن حيث العقائدُ والعبادات والأخلاق والآداب والمُعامَلاتُ؛ وهو البشرى للمسلمين بخيرِ الدنيا والآخرة؛ قال تعالى: ﴿وَنَزَّلۡنَا عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ تِبۡيَٰنٗا لِّكُلِّ شَيۡءٖ وَهُدٗى وَرَحۡمَةٗ وَبُشۡرَىٰ لِلۡمُسۡلِمِينَ ٨٩﴾ [النحل]، قال ابنُ كثيرٍ ـ رحمه الله ـ: «.. فإنَّ القرآن اشتمل على كُلِّ علمٍ نافعٍ مِن خبرِ ما سَبَقَ وعِلْمِ ما سيأتي، وكُلِّ حلالٍ وكُلِّ حرامٍ، وما الناسُ إليه محتاجون في أمرِ دنياهم ودينِهم ومَعاشِهم ومَعادِهم»(٥).
والقرآن الكريم هو الجامع لأَسْمَى المبادئ وأَقْوَمِ المَناهِجِ وخيرِ النُّظُم، وهو خيرُ كفيلٍ بتكوين الفرد الكامل، وإعدادِ الأسرة الفاضلة، وإيجادِ المجتمع الصالح، والوسيلةُ الناجعةُ لإقامةِ الحقِّ والعدل، وإبعادِ الظلم، وصدِّ العدوان، ودفعِ الضلال والشقاء، قال تعالى: ﴿الٓمٓ ١ تِلۡكَ ءَايَٰتُ ٱلۡكِتَٰبِ ٱلۡحَكِيمِ ٢ هُدٗى وَرَحۡمَةٗ لِّلۡمُحۡسِنِينَ ٣﴾ [لقمان].
قال السعديُّ ـ رحمه الله ـ: «آياتُه مُحْكَمَةٌ، صدرَتْ مِن حكيمٍ خبيرٍ.
مِن إحكامها: أنها جاءَتْ بأَجَلِّ الألفاظ وأَفْصَحِها وأَبْيَنِها، الدالَّةِ على أجَلِّ المعاني وأَحْسَنِها.
ومِن إحكامها: أنها محفوظةٌ مِن التغيير والتبديل، والزيادةِ والنقص، والتحريف.
ومِن إحكامها: أنَّ جميع ما فيها مِن الأخبار السابقةِ واللاحقة، والأمور الغيبيةِ كُلِّها، مُطابِقةٌ للواقع، مُطابِقٌ لها الواقعُ، لم يخالفها كتابٌ مِن الكُتُبِ الإلهية، ولم يُخْبِرْ بخلافِها نبيٌّ مِن الأنبياء، ولم يأتِ ولن يأتيَ علمٌ محسوسٌ ولا معقولٌ صحيحٌ يُناقِضُ ما دلَّتْ عليه.
ومِن إحكامها: أنها ما أَمَرَتْ بشيءٍ إلَّا وهو خالصُ المصلحةِ أو راجِحُها، ولا نَهَتْ عن شيءٍ إلَّا وهو خالصُ المفسدةِ أو راجِحُها، وكثيرًا ما يجمع بين الأمرِ بالشيء مع ذِكْرِ حكمتِه وفائدتِه، والنهيِ عن الشيء مع ذِكْرِ مَضَرَّتِه.
ومِن إحكامها: أنها جمعَتْ بين الترغيب والترهيب، والوعظِ البليغ الذي تعتدل به النفوسُ الخيِّرةُ وتحتكم، فتعملُ بالحزم.
ومِن إحكامها: أنك تجد آياتِه المتكرِّرةَ ـ كالقصص والأحكام ونحوِها ـ قد اتَّفقَتْ كُلُّها وتَواطأَتْ، فليس فيها تَناقُضٌ ولا اختلافٌ؛ فكُلَّما ازداد بها البصيرُ تدبُّرًا، وأَعْمَلَ فيها العقلَ تفكُّرًا؛ انبهر عَقْلُه وذَهِلَ لُبُّه مِن التوافق والتواطؤ، وجَزَمَ جزمًا لا يُمترى فيه: أنه تنزيلٌ مِن حكيمٍ حميدٍ.
ولكِنْ ـ مع أنه حكيمٌ: يدعو إلى كُلِّ خُلُقٍ كريمٍ، وينهى عن كُلِّ خُلُقٍ لئيمٍ ـ أَكْثَرُ الناسِ محرومون الاهتداءَ به، مُعْرِضون عن الإيمانِ والعمل به، إلَّا مَن وفَّقَهُ اللهُ تعالى وعَصَمَه، وهُمُ المُحْسِنون في عبادةِ ربِّهم والمُحْسِنون إلى الخَلْق»(٦).
والقرآن الكريم هو العلم اليقينيُّ والنورُ الكاشفُ لجميعِ الظلمات القلبية، والمُزيلُ لجميعِ الشُّبَهِ والجهالات النفسية، والمبيِّنُ للحقائق والأسرار الكونية، وقد جَعَلَ اللهُ اتِّباعَ القرآن ـ وهُوَ النورُ المنزَّل الذي جاءَ به نَبِيُّنا محمَّدٌ صلَّى الله عليه وسلَّم مبلِّغا إلى الناسِ ـ سببَ فلاحِهم وسعادتِهم في الدنيا والآخرة، قال تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ قَدۡ جَآءَكُم بُرۡهَٰنٞ مِّن رَّبِّكُمۡ وَأَنزَلۡنَآ إِلَيۡكُمۡ نُورٗا مُّبِينٗا ١٧٤﴾ [النساء]، وقال تعالى: ﴿كِتَٰبٌ أَنزَلۡنَٰهُ إِلَيۡكَ لِتُخۡرِجَ ٱلنَّاسَ مِنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ﴾ [إبراهيم: ١]، وقال تعالى: ﴿فَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِهِۦ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَٱتَّبَعُواْ ٱلنُّورَ ٱلَّذِيٓ أُنزِلَ مَعَهُۥٓ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ ١٥٧﴾ [الأعراف].
والقرآن الكريم هو الشفاءُ والرحمةُ لجميعِ الأمراض الحسِّيَّةِ والمعنوية: فهو شفاءٌ لأمراضِ الأبدان وأعراضِ الأجسام وأدوائها، وشفاءٌ لأمراض القلوب والنفوسِ والعقول؛ فهو شفاءٌ مِن الكفر والشرك، والحيرةِ والخوف، والقلقِ والاضطراب، والكِبْرِ والحسد، والعجزِ والكسل، والظلمِ والجَوْر، والبخلِ والشُّحِّ؛ فهو شفاءٌ بالتذكير والموعظة الداعيةِ إلى اكتساب كُلِّ فضيلةٍ، والزاجرةِ عن كُلِّ رذيلةٍ، قال تعالى: ﴿قَدۡ جَآءَتۡكُم مَّوۡعِظَةٞ مِّن رَّبِّكُمۡ وَشِفَآءٞ لِّمَا فِي ٱلصُّدُورِ﴾ [يونس: ٥٧]، وهذا الشفاء خاصٌّ بالمؤمنين بالقرآن، المصدِّقين بآياته، العالِمين والعامِلين به، أمَّا الظالمون الجاحدون به فإنَّ الحجَّة تقوم عليهم به ولا تزيدهم آياتُه إلَّا خسارةً، قال تعالى: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ ٱلۡقُرۡءَانِ مَا هُوَ شِفَآءٞ وَرَحۡمَةٞ لِّلۡمُؤۡمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ ٱلظَّٰلِمِينَ إِلَّا خَسَارٗا ٨٢﴾ [الإسراء].
والقرآن الكريم هو الذِّكْرُ الإلهيُّ، جليلُ النعمةِ عظيمُ القَدْرِ كريمُ الوصفِ، به تَحْيَا قلوبُ العباد، وتَطيبُ أرواحُهم بتلاوته، وتزكو نفوسُهم بالعمل به؛ فهو المذكِّر لهم بكُلِّ ما يحتاجون إليه مِن العلم بأسماء الله وصِفاتِه وأفعالِه، وبأصول دينهم وفروعه، وبأحكامِ المَعاد والجزاء؛ فهو يُذكِّرُهم بما فيه الخيرُ الدنيويُّ والأخرويُّ ويحثُّهم عليه، ويذكِّرُهم بالشرِّ ويُرهِّبُهم عنه، قال تعالى: ﴿صٓۚ وَٱلۡقُرۡءَانِ ذِي ٱلذِّكۡرِ ١﴾ [ص]، وقال تعالى: ﴿وَإِنَّهُۥ لَذِكۡرٞ لَّكَ وَلِقَوۡمِكَۖ وَسَوۡفَ تُسَۡٔلُونَ ٤٤﴾ [الزخرف: ٤٤].
والقرآن الكريم هو الروحُ التي تَتوقَّفُ عليها حياةُ البشر في مَنافِعِهم الدينيةِ ومَصالِحِهم الدنيوية، وإذا كان الجسدُ لا يَحْيَا بدونِ روحٍ فكذلك حالُ الناس؛ فإنهم أمواتٌ إِنْ لم تَسْرِ فيهم الروحُ القرآنية، قال تعالى: ﴿وَكَذَٰلِكَ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ رُوحٗا مِّنۡ أَمۡرِنَاۚ مَا كُنتَ تَدۡرِي مَا ٱلۡكِتَٰبُ وَلَا ٱلۡإِيمَٰنُ وَلَٰكِن جَعَلۡنَٰهُ نُورٗا نَّهۡدِي بِهِۦ مَن نَّشَآءُ مِنۡ عِبَادِنَاۚ وَإِنَّكَ لَتَهۡدِيٓ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ ٥٢﴾ [الشورى]، قال السعديُّ ـ رحمه الله ـ: «.. هذا القرآن الكريم سمَّاهُ: «روحًا» لأنَّ الروح يَحْيَا به الجسدُ، والقرآن تَحْيَا به القلوبُ والأرواح، وتَحْيَا به مَصالِحُ الدنيا والدين؛ لِما فيه مِن الخير الكثير والعلم الغزير، وهو محضُ مِنَّةِ الله على رسوله وعِبادِهِ المؤمنين، مِن غيرِ سببٍ منهم، ولهذا قال: ﴿مَا كُنتَ تَدۡرِي﴾ أي: قبل نزوله عليك ﴿مَا ٱلۡكِتَٰبُ وَلَا ٱلۡإِيمَٰنُ﴾ أي: ليس عندك علمٌ بأخبار الكُتُب السابقة، ولا إيمانٌ وعملٌ بالشرائع الإلهية، بل كُنْتَ أُمِّيًّا لا تخطُّ ولا تقرأ، فجاءك هذا الكتابُ الذي ﴿جَعَلۡنَٰهُ نُورٗا نَّهۡدِي بِهِۦ مَن نَّشَآءُ مِنۡ عِبَادِنَا﴾ يستضيئون به في ظلمات الكفر والبِدَع، والأهواءِ المُرْدِيَة، ويعرفون به الحقائق، ويهتدون به إلى الصراط المستقيم.
﴿وَإِنَّكَ لَتَهۡدِيٓ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ﴾ أي: تُبيِّنُه لهم وتوضِّحُه، وتُنيرُه وتُرغِّبُهم فيه، وتَنْهاهم عن ضدِّه وتُرهِّبُهم منه»(٧).
هذا ـ وأخيرًا ـ فإنَّ الإيمان بالقرآن الكريمِ والنصيحةَ لكتاب الله يقتضي العملَ بأوامره واجتنابَ نواهيه، وتحليلَ حلالِه وتحريمَ حرامِه، والوقوفَ عند حدوده، «والذبَّ عنه في تأويل المحرِّفين له وطعنِ الطاعنين عليه، والتصديقَ بوَعْدِه ووعيده، والاعتبارَ بمَواعِظِه، والتفكُّرَ في عجائبه، والعلمَ بفرائضه وسُنَنِه وآدابِه، والعملَ بمُحْكَمِه والتسليمَ لمُتشابِهِه، والتفقُّهَ في علومه، والتبيُّنَ لمَواضِعِ المُرادِ به مِن خاصِّه وعامِّه وناسِخِه وسائر وجوهه»(٨).
وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا.الجزائر في: ٢١ جمادى الأولى ١٤٣٦ﻫ
الموافق ﻟ: ١٢ مـــارس ٢٠١٥م
(١) «شُعَب الإيمان» للبيهقي (١/ ٣٢٦).
(٢) انظر: «شرح العقيدة الطحاوية» لابن أبي العزِّ (٣٣٣).
(٣) «الاعتقاد» للبيهقي (١١٧).
(٤) «تفسير السعدي» (٢٩).
(٥) «تفسير ابنِ كثير» (٢/ ٥٨٢).
(٦) «تفسير السعدي» (٧٥٨).
(٧) «تفسير السعدي» (٨٩٧).
(٨) «أعلام الحديث» للخطَّابي (١/ ١٩١ ـ ١٩٢).
من الموقع الرسمي للشيخ :
محمد علي فركوس حفظه الله تعالى