بسم الله الرحمن الرحيم
قال تعالى: »ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) «
قال ابن كثير في الكلام على قوله تعالى: {فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ. فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ} وَهِيَ الْإِبِلُ الْعِطَاشُ، وَاحِدُهَا أَهْيَمُ، وَالْأُنْثَى هَيْمَاءُ، وَيُقَالُ: هَائِمٌ وَهَائِمَةٌ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْر، وَعِكْرِمَةُ: الهِيم: الْإِبِلُ الْعِطَاشُ الظِّمَاءُ.
وَعَنْ عِكْرِمَة أَنَّهُ قَالَ: الْهِيمُ: الْإِبِلُ الْمِرَاضُ، تَمص الْمَاءَ مَصًّا وَلَا تَرْوَى.
وَقَالَ السُّدِّيُّ: الْهِيمُ: دَاءٌ يَأْخُذُ الْإِبِلَ فَلَا تَرْوَى أَبَدًا حَتَّى تَمُوتَ، فَكَذَلِكَ أَهْلُ جَهَنَّمَ لَا يَرْوُونَ مِنَ الْحَمِيمِ أَبَدًا.
وَعَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ: أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَشْرَبَ شُرْبَ الْهِيمِ عَبَّة وَاحِدَةً مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَنَفَّسَ ثَلَاثًا.
قال السَّمين في الدر المصون:
قوله: {شُرْبَ الهيم}:
والهِيْمُ فيه أوجهٌ،
أحدها: أنه جَمْعُ أَهْيمَ أو هَيْماء، وهو الجَمَلَُ والناقةُ التي أصابها الهُيامُ وهو داءٌ مُعْطِشٌ تشرب الإِبلُ منه إلى أن تموتَ أو تَسْقُمُ سُقْماً شديداً، والأصلُ: هُيْم بضمِّ الهاءِ كأَحْمر وحُمْراء وحُمْر، فقُلِبت الضمةُ كسرةً لتصِحَّ الياءُ، وذلك نحو: بِيْض في أبيض. وأُنْشد لذي الرمة:
فأصبَحْتُ كالهَيْماءِ لا الماءُ مُبْرِدٌ. . . صَداها ولا يَقْضي عليها هُيامُها
الثاني: أنه جمع هائِم وهائِمة من الهُيام أيضاً، إلاَّ أنَّ جَمْعَ فاعِل وفاعِلة على فُعْل قليلٌ نادرٌ نحو: بازِل وبُزْل وعائِذ وعُوْذ ومنه: العُوْذُ المَطافيل. وقيل: هو من الهُيام وهو الذَّهابُ؛ لأنَّ الجملَ إذا أصابه ذلك هامَ على وَجْهه.
الثالث: أنه جمع هَيام بفتح الهاء وهو الرَّمْلُ غيرُ المتماسكِ الذي لا يُرْوَى من الماء أصلاً، فيكونُ مثلَ سَحاب وسُحُب بضمتين، ثم خُفِّف بإسكان عينه ثم كُسِرَتْ فاؤه لتصِحَّ الياء، كما فُعِلَ بالذي قبله.
الرابع: أنَّه جمعُ «هُيام» بضم الهاء وهو الرَّمْل غيرُ المتماسكِ أيضاً لغةً في «الهَيام» بالفتح، حكاها ثعلب، إلاَّ أن المشهورَ الفتحُ ثم جُمع على فُعْل نحو: قُراد وقُرْد، ثم خُفِّفَ وكُسِرَتْ فاؤُه لتصِحَّ الياء. اهـ
قال الإمام الشوكاني في فتح القدير:
أَيْ: لَا يَكُونُ شُرْبُكُمْ شُرْبًا مُعْتَادًا بَلْ يَكُونُ مِثْلَ شُرْبِ الْهِيمِ الَّتِي تَعْطَشُ وَلَا تُرْوَى بِشُرْبِ الْمَاءِ، وَمُفْرَدُ الْهِيمِ:
أَهْيَمُ، وَالْأُنْثَى هَيْمَاءُ. قَالَ قَيْسُ بْنُ الْمُلَوَّحِ:
يُقَالُ بِهِ دَاءُ الْهُيَامِ أَصَابَهُ ... وَقَدْ عَلِمَتْ نَفْسِي مَكَانَ شفائها
وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَابْنُ عُيَيْنَةَ وَالْأَخْفَشُ وَابْنُ كَيْسَانَ: الْهِيمُ: الْأَرْضُ السَّهْلَةُ ذَاتُ الرَّمْلِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يَشْرَبُونَ كَمَا تَشْرَبُ هَذِهِ الْأَرْضُ الْمَاءَ وَلَا يَظْهَرُ لَهُ فِيهَا أَثَرٌ. قَالَ فِي الصِّحَاحِ: الْهُيَامُ بِالضَّمِّ: أَشَدُّ الْعَطَشِ، وَالْهُيَامُ كَالْجُنُونِ مِنَ الْعِشْقِ، وَالْهُيَامُ: دَاءٌ يَأْخُذُ الْإِبِلَ تَهِيمُ فِي الْأَرْضِ لَا تَرْعَى، يُقَالُ: نَاقَةٌ هَيْمَاءُ، وَالْهَيْمَاءُ أَيْضًا: الْمَفَازَةُ لَا مَاءَ بِهَا، وَالْهَيَامُ بِالْفَتْحِ: الرَّمْلُ الَّذِي لَا يَتَمَاسَكُ فِي الْيَدِ لِلِينِهِ، وَالْجَمْعُ هُيُمٌ، مِثْلُ قَذَالٍ وَقُذُلٍ، وَالْهِيَامُ بِالْكَسْرِ الْإِبِلُ الْعِطَاشُ.
قال الإمام محمد الأمين الشنقيطي [رحمه الله] كما في الأضواء (6/315):
وَقَوْلِهِ: شُرْبَ الْهِيمِ، الْهِيمُ: جَمْعُ أَهْيَمَ وَهَيْمَاءَ وَهِيَ النَّاقَةُ مَثَلًا الَّتِي أَصَابَهَا الْهُيَامُ، وَهُوَ شِدَّةُ الْعَطَشِ بِحَيْثُ لَا يَرْوِيهَا كَثْرَةُ شَرَابِ الْمَاءِ فَهِيَ تَشْرَبُ كَثِيرًا مِنَ الْمَاءِ، وَلَا تَزَالُ مَعَ ذَلِكَ فِي شِدَّةِ الْعَطَشِ. وَمِنْهُ قَوْلُ غَيْلَانَ ذِي الرُّمَّةِ:
فَأَصْبَحْتُ كَالْهَيْمَاءِ لَا الْمَاءُ مُبَرِّدٌ ... صَدَاهَا وَلَا يَقْضِي عَلَيْهَا هُيَامُهَا اهـ
قال في التحرير والتنوير (27/310-311):
وَالْهِيمُ: جَمْعُ أَهْيَمَ، وَهُوَ الْبَعِيرُ الَّذِي أَصَابَهُ الْهُيَامُ بِضَمِّ الْهَاءِ، وَهُوَ دَاءٌ يُصِيبُ
الْإِبِلَ يُورِثُهَا حُمَّى فِي الْأَمْعَاءِ فَلَا تَزَالُ تَشْرَبُ وَلَا تُرْوَى، أَيْ شَارِبُونَ مِنَ الْحَمِيمِ شُرْبًا لَا يَنْقَطِعُ فَهُوَ مُسْتَمِرَّةُ آلَامَهُ.
ثم قال
وَإِعَادَةُ فَشارِبُونَ تَوْكِيدٌ لَفْظِيٌّ لِنَظِيرِهِ، وَفَائِدَةُ هَذَا التَّوْكِيدِ زِيَادَةُ تَقْرِيرِ مَا فِي هَذَا الشُّرْبِ مِنَ الْأُعْجُوبَةِ وَهِيَ أَنَّهُ مَعَ كَرَاهَتِهِ يَزْدَادُونَ مِنْهُ كَمَا تَرَى الْأَهْيَمَ، فَيَزِيدُهُمْ تَفْظِيعًا لِأَمْعَائِهِمْ لِإِفَادَةِ التَّعْجِيبِ مِنْ حَالِهِمْ تَعْجِيبًا ثَانِيًا بَعْدَ الْأَوَّلِ، فَإِنَّ كَوْنَهُمْ شَارِبِينَ لِلْحَمِيمِ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ تَنَاهِي الْحَرَارَةِ أَمْرٌ عَجِيبٌ، وَشُرْبُهُمْ لَهُ كَمَا تَشْرَبُ الْإِبِلُ الْهِيمُ فِي الْإِكْثَارِ أَمْرٌ عَجِيبٌ أَيْضًا، فَكَانَتَا صفتين مختلفتين. اهـ
قال في الدر المصون:
وأجاب بعضُهم عنه بجواب آخر: وهو أنَّ قولَه: {فَشَارِبُونَ شُرْبَ الهيم} تفسيرٌ للشُرْب قبلَه، ألا ترى أنَّ ما قبلَه يَصْلُح أن يكونَ مثلَ شُرْبِ الهيمِ ومثلَ شُرْبِ غيرِها ففَسَّره بأنه مثلُ شُرْبِ هؤلاء البهائم أو الرِّمالِ.
وفي ذلك فائدتان، إحداهما: التنبيهُ على كثرةِ شُرْبهم منه والثاني: عَدمُ جَدْوَى الشُّرْب، وأن المشروبَ لا يَنْجَعُ فيهم كما لا يَنْجَعُ في الهِيْم على التفسيرَين. اهـ
أسأل الله أن يجيرني وإياكم من النار.