بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فإنّ مِما يُحزِنُ كلَّ غَيُورٍ على كتاب الله –سبحانه-: ما سمِعْنا ونَسْمَعُ مِن قولِ بعضِ الناس: إن أحكامَ التجويدِ بِدعةٌ ولَمْ تَرِد عن النبي –صلى الله عليه وسلم-!
وهذه مَقَالةٌ ظاهرةُ البُطْلان, فاسدةٌ بإجماعِ أهل العلم والإيمان, وإنّ فسادَها لَيُغني عن إفسادِها, ولكنْ عندما ينتشر الجهل تَرُوجُ أمثالُ هذه المقالات على بعض الناس ممن لا علم عندهم بحقيقة الأمر, وحينئذ لا بد مِن بيان الحق لهم, وهأنا أبيّن هذا الأمر وأجلّيه –بقدر المستطاع-؛ ذبًّا عن كتاب الله -تبارك وتعالى-, وعملًا بقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: {الدين النصيحة}, وتصحيحًا للمفاهيم, وحتى لا ينتشر بين المسلمين أمثالُ هذه المقالة التي هي إنكارٌ لما ثبت بالتواتر عن النبي -صلى الله عليه وسلم-, والذي يترتبُ عليه ما يترتب مِن الأمور الباطلة: كاتهامِ الأئمة الثقات الذين نقلوا إلينا القرآن بهذه الأحكام عن النبي -صلى الله عليه وسلم- بأنهم كذبوا عليه في ذلك, واتهامِ المسلمين عمومًا -بما فيهم أهلُ العلم والفضل- الذين قرؤوا القرآن بهذه الأحكام بأنهم يبتدعون في دين الله, إلى غير ذلك مِن اللوازم الباطلة, إضافةً إلى أن هذا القول يَرُدُّه قول ربنا -تبارك وتعالى-: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون}.
ومقالي هذا يدور أمرين:
الأمر الأول- تفنيد الشبهة التي يدندن حولها أكثرُ هؤلاء؛ ألا وهي ما فهموه خطأً مِن قولٍ وَرَدَ عن الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله- في الإدغام الموجود في قراءة حمزة والكسائي –رحمهما الله-.
الأمر الثاني- إثباتُ ثبوت الأحكام التجويدية بالتواتر عن النبي -صلى الله عليه وسلم-.
وكان الأَوْلَى أن يكون الأمرُ الثاني هو الأولَ, ولكن جعلتُه الثانيَ لغرضٍ لعلّه يَظْهَرُ للبعض.
وقد عنونتُ هذا المقال بـ: "حتى لا يُساء الظنُّ بالأئمة", وأعني بهم: أئمة القراءة من المتقدمين والمتأخرين, الذين أفنوا أعمارهم في تعلُّمِ كتاب الله -سبحانه وتعالى- وإتقانِه وضبطِه وتعليمِه, ونقلوا إلينا هذه الأحكام نظريًّا وعمليًّا بأمانةٍ وتَحَرٍّ ودقةٍ وعنايةٍ. واخترتُ للمقالِ العنوانَ المذكورَ لأن المتَّهَمَ الأولَ في هذا الأمرِ هم علماء القراءة؛ إذ إن أولئك يتهمونهم بأنهم أتوا بهذه الأحكام من عندهم! وحاشاهم من ذلك؛ فهم لم يأتوا بشيء مِن عندهم, وإنما نقلوا هذه الأحكام نقلًا محضًا, ومنَعوا القياسَ في القراءة وشددوا في ذلك, فهم على قول الإمام الشاطبي: «وما لقياسٍ في القراة مدخلٌ *** ....................», وأنكروا على كل مَن أتى بقولٍ مبتدَعٍ في القراءةِ, والتاريخُ مِن خير الشواهد على ذلك.
وقبل أن أبتدئ بالكلام في هذا الموضوع أذكر أمورًا ثلاثةً:
الأمر الأوّل- أن مما لا يختلف فيه اثنان:
- أن الخطأ يجب ردُّه مهما كانت منزلةُ صاحبِه ومكانتُه؛ إذْ إنه لا عصمة لأحد بعد النبي -صلى الله عليه وسلم-.
- وأن على المؤمن أن يتجرد للحق, وأن يبحث عنه, وأن يقدِّمَه على أقوال الرجال.
وقد كان معاذ بن جبلٍ -رضي الله عنه- يقول: "اقبَلوا الحقَّ من كلِّ مَن جاء به وإن كان كافرًا -أو قال: فاجرًا-، واحذَروا زَيغةَ الحكيمِ".
الأمر الثاني- أن هذا البحث يدور حول إثبات ثبوت هذه الأحكام والرد على من أنكرها وقال ببدعيتها؛ لا حول حُكْمِ تطبيقها في قراءة القرآن؛ فإنني لم أتعرض لهذه المسألة هنا.
وهذا أوان الشروع في المقصود -أسأل الله التوفيق والإعانة-:
المبحث الأول
دفع الطعون التي وُجِّهَت إلى قراءةِ حمزة
وهنا سأُجمِلُ الكلام ثم أفصّل.
أمَّا الإجمال فأكتفي بهذه النقول:
قال الإمام الذهبي في "ميزان الاعتدال" (1/ 605-606): "قد انعقد الإجماع بأخرة على تلقِّي قراءةِ حمزةَ بالقبول, والإنكارِ على من تكلم فيها, ...[و] يكفى حمزةَ شهادةُ مِثْلِ الإمام سفيان الثوري له؛ فإنه قال: "ما قرأ حمزةُ حرفًا إلا بأثرٍ". " اهـ.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (12/ 569): "وَالْقِرَاءَةُ الْمَعْرُوفَةُ عَنْ السَّلَفِ الْمُوَافِقَةُ لِلْمُصْحَفِ تَجُوزُ الْقِرَاءَةُ بِهَا بِلَا نِزَاعٍ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ, وَلَا فَرْقَ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ بَيْنَ قِرَاءَةِ أَبِي جَعْفَرٍ وَيَعْقُوبَ وَخَلْفٍ وَبَيْنَ قِرَاءَةِ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ وَأَبِي عَمْرٍو وَنُعَيْمٍ, وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا: إنَّ الْقِرَاءَةَ مُخْتَصَّةٌ بِالْقُرَّاءِ السَّبْعَةِ [وأن] مَا خَرَجَ عَنْ هَذِهِ السَّبْعَةِ فَهُوَ بَاطِلٌ..." اهـ.
وقال (13/ 392-393): "وَلِذَلِكَ لَمْ يَتَنَازَعْ عُلَمَاءُ الْإِسْلَامِ الْمَتْبُوعِينَ مِنْ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ فِي أَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ أَنْ يَقْرَأَ بِهَذِهِ الْقِرَاءَاتِ الْمُعَيَّنَةِ فِي جَمِيعِ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ؛ بَلْ مَنْ ثَبَتَ عِنْدَهُ قِرَاءَةُ الْأَعْمَشِ شَيْخِ حَمْزَةَ أَوْ قِرَاءَةُ يَعْقُوبَ بْنِ إسْحَاقَ الْحَضْرَمِيِّ وَنَحْوِهِمَا كَمَا ثَبَتَ عِنْدَهُ قِرَاءَةُ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ فَلَهُ أَنْ يَقْرَأَ بِهَا بِلَا نِزَاعٍ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ الْمُعْتَبَرِينَ الْمَعْدُودِينَ مِنْ أَهْلِ الْإِجْمَاعِ وَالْخِلَافِ..." اهـ.
وأما التفصيل فسأكتفي فيه بإيراد بعض البحوث التي وقفتُ عليها حول هذا الأمر, وإِلَيْكَهَا:
البحث الأول- بحث عنوانه: "رد الكلام والشبهات عن قراءةٍ مِن المتواترات", وهو مِن تأليف السيد بن أحمد بن عبد الرحيم (عضو لجنة مراجعة المصاحف بمجمع البحوث الإسلامية), وقد قرأه وقرَّظه فضيلةُ الشيخ المقرئ علي بن عبد الرحمن الحذيفي -حفظه الله-, وآخرون. وهذا رابط الكتاب: http://www.4shared.c...qX/______.html?
وهذه صورة التقريظ الخطي للشيخ الحذيفي: https://archive.org/...531/التقريظ.png
البحث الثاني- بحث عنوانه: "قراءة حمزة وردّ ما اعتُرِضَ به عليها", وهو مِن تأليف المقرئ عبد الله بن صالح العُبَيد التميمي (المقرئ بالقراءات العشر الصغرى والكبرى والشواذ), وقد أرشدني إليه أحدُ الدكاترةِ الذين درَّسوني, وأخبرني بأنه بحثٌ جيدٌ -في الجملة-.
وهذا رابط الكتاب: http://ia600303.us.a...aat-hamzah1.pdf
ولعل فيهما كفاية -إن شاء الله-.
المبحث الثاني
إثبات ثبوت الأحكام التجويدية عن النبي -صلى الله عليه وسلم-
أريد في هذا المبحث أن أثبت هذا الأمر بطريقةٍ عقليةٍ سهلةٍ, وإليك بيانُها:
الذين يقولون ببدعية هذه الأحكام وعدم ثبوتِها هل سيسلّمون بثبوتِها إذا ثبتت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- مِن طريقٍ صحيحٍ واحدٍ فقط؟
الجواب: نعم –إذا كانوا ممن يتجرد للحق-. بل أظن أنهم لن يقتنعوا بثبوت الأحكام إلا بهذه الطريقة -أي بالطريقة التي تَثْبُتُ بها الأحاديثُ-.
إذنْ؛ فلنأتِهم بسندٍ صحيحٍ غريبٍ ينتهي إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-:
قال الإمام الداني في "جامع البيان" (1/ 290): "أما روايةُ قالون... فقرأت بها القرآنَ كله على أبي الفتح فارس بن أحمد، وقال لي:
قرأت على عبد الباقي بن الحسن، وقال: قرأت على أبي إسحاق إبراهيم بن عمر المقرئ، وقال قرأت على أبي الحسين أحمد بن عثمان بن جعفر [وهو ابنُ بُويان]، وقال: قرأت على أبي حسان أحمد بن محمد بن الأشعث، وقال: قرأت على محمد بن هارون المروزي المعروف بأبي نشيط، وقال: قرأت على قالون، وقال: قرأت على نافع", وأخذ نافعٌ القراءةَ عن سبعين من التابعين, سمَّى منهم: أبا جعفر يزيد بن القعقاع وأبا داود عبد الرحمن بن هرمز الأعرج وشَيْبَة بن نِصَاح القاضي وأبا عبد الله مسلم بن جندب الهُذَلي مولاهم القاصّ وأبا رَوْح يزيد بن رُومَان, وأخذ هؤلاء التابعون عن أبي هريرة وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عَيَّاش ابن أبي ربيعة -رضي الله عنهم-, وهم عن أُبَيّ بن كعب -رضي الله عنه-, وهو عن النبي -صلى الله عليه وسلم-.
هاهو الإمامُ الداني -وهو مِن معاصري كثيرٍ مِن أصحابِ كُتُبِ الحديث المسندة؛ إذ إنه توفي سنة 444هـ- يورِدُ هذا السند الصحيح الذي أدى إليه روايةَ قالون عن النبي -صلى الله عليه وسلم-.
إذَا انتهينا مِن هذه الخطوة؛ ننظر؛ هل نقلَها الإمامُ الداني بهذه الأحكام أم بدونِها؟
الجواب: نقلَها بهذه الأحكام. ومَن أراد مِنهم أن يقف على الأمر بنفسه فليرجع إلى الكتب التي ألّفَها الداني في القراءات والتجويد وسيجد ذلك؛ إذ إن الإمام الداني كان مِن أبرز الأئمة الذين اعتنوا بتدوين أحكام التجويد.
إذَن؛ مما سبق نستنتج أنه قد صح سندُ الأحكامِ التجويدية مِن طريقٍ صحيحٍ غريبٍ.
فإذا ثبتَ هذا عندهم؛ أسألهم سؤالًا: هل إذا جاء أحد الأئمة المشهورين بالفقه والحديث وأنكر ثبوت هذه الإحكام التي أثبتناها الآن مِن طريقٍ صحيحٍ واحدٍ - هل ستقبلون إنكارَه؟
سيجيبون: لا؛ لأن المسلمين أجمعوا على أن من استبان له سنة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يحل له أن يدعها لقول أحد.
ننتقل معهم إلى خطوة أعلى؛ لو فرضنا أن كل قراءةٍ مِن القراءات السبع ثبتت بإسناد واحد فقط إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ فكم سيتحصل لدينا مِن الطرق؟
ليذهبوا إلى جامع البيان -مثلا- ويراجعوا ذلك.
ننتقل إلى خطوة أعلى؛ ماذا لو رأيتُم عدد الطرق التي ذكرَ الإمامُ الدانيُّ في كتابه: "جامع البيان" أنها أدت إليه القراءات السبع؟
ثم ماذا لو عرفتم أنه وصلته القراءة بالأحكام مِن كل هذه الطرق؟
ثم ماذا لو وقفتم على الطرق الأخرى ذكرَها غيرُ الإمام الداني؟
أترك الجواب لهم.
وأترك لهم أيضًا الجواب عن السؤال التالي:
ماذا لو أتى أحدٌ وقال بعدم ثبوت أحكام التجويد وبأنها بدعة؟
وأظن أن ما ذكرتُه حتى الآن في هذا المبحث يُغني عن الاستمرار في البيان.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
كتبه
أبو عبد الرحمن علي المالكي
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فإنّ مِما يُحزِنُ كلَّ غَيُورٍ على كتاب الله –سبحانه-: ما سمِعْنا ونَسْمَعُ مِن قولِ بعضِ الناس: إن أحكامَ التجويدِ بِدعةٌ ولَمْ تَرِد عن النبي –صلى الله عليه وسلم-!
وهذه مَقَالةٌ ظاهرةُ البُطْلان, فاسدةٌ بإجماعِ أهل العلم والإيمان, وإنّ فسادَها لَيُغني عن إفسادِها, ولكنْ عندما ينتشر الجهل تَرُوجُ أمثالُ هذه المقالات على بعض الناس ممن لا علم عندهم بحقيقة الأمر, وحينئذ لا بد مِن بيان الحق لهم, وهأنا أبيّن هذا الأمر وأجلّيه –بقدر المستطاع-؛ ذبًّا عن كتاب الله -تبارك وتعالى-, وعملًا بقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: {الدين النصيحة}, وتصحيحًا للمفاهيم, وحتى لا ينتشر بين المسلمين أمثالُ هذه المقالة التي هي إنكارٌ لما ثبت بالتواتر عن النبي -صلى الله عليه وسلم-, والذي يترتبُ عليه ما يترتب مِن الأمور الباطلة: كاتهامِ الأئمة الثقات الذين نقلوا إلينا القرآن بهذه الأحكام عن النبي -صلى الله عليه وسلم- بأنهم كذبوا عليه في ذلك, واتهامِ المسلمين عمومًا -بما فيهم أهلُ العلم والفضل- الذين قرؤوا القرآن بهذه الأحكام بأنهم يبتدعون في دين الله, إلى غير ذلك مِن اللوازم الباطلة, إضافةً إلى أن هذا القول يَرُدُّه قول ربنا -تبارك وتعالى-: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون}.
ومقالي هذا يدور أمرين:
الأمر الأول- تفنيد الشبهة التي يدندن حولها أكثرُ هؤلاء؛ ألا وهي ما فهموه خطأً مِن قولٍ وَرَدَ عن الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله- في الإدغام الموجود في قراءة حمزة والكسائي –رحمهما الله-.
الأمر الثاني- إثباتُ ثبوت الأحكام التجويدية بالتواتر عن النبي -صلى الله عليه وسلم-.
وكان الأَوْلَى أن يكون الأمرُ الثاني هو الأولَ, ولكن جعلتُه الثانيَ لغرضٍ لعلّه يَظْهَرُ للبعض.
وقد عنونتُ هذا المقال بـ: "حتى لا يُساء الظنُّ بالأئمة", وأعني بهم: أئمة القراءة من المتقدمين والمتأخرين, الذين أفنوا أعمارهم في تعلُّمِ كتاب الله -سبحانه وتعالى- وإتقانِه وضبطِه وتعليمِه, ونقلوا إلينا هذه الأحكام نظريًّا وعمليًّا بأمانةٍ وتَحَرٍّ ودقةٍ وعنايةٍ. واخترتُ للمقالِ العنوانَ المذكورَ لأن المتَّهَمَ الأولَ في هذا الأمرِ هم علماء القراءة؛ إذ إن أولئك يتهمونهم بأنهم أتوا بهذه الأحكام من عندهم! وحاشاهم من ذلك؛ فهم لم يأتوا بشيء مِن عندهم, وإنما نقلوا هذه الأحكام نقلًا محضًا, ومنَعوا القياسَ في القراءة وشددوا في ذلك, فهم على قول الإمام الشاطبي: «وما لقياسٍ في القراة مدخلٌ *** ....................», وأنكروا على كل مَن أتى بقولٍ مبتدَعٍ في القراءةِ, والتاريخُ مِن خير الشواهد على ذلك.
وقبل أن أبتدئ بالكلام في هذا الموضوع أذكر أمورًا ثلاثةً:
الأمر الأوّل- أن مما لا يختلف فيه اثنان:
- أن الخطأ يجب ردُّه مهما كانت منزلةُ صاحبِه ومكانتُه؛ إذْ إنه لا عصمة لأحد بعد النبي -صلى الله عليه وسلم-.
- وأن على المؤمن أن يتجرد للحق, وأن يبحث عنه, وأن يقدِّمَه على أقوال الرجال.
وقد كان معاذ بن جبلٍ -رضي الله عنه- يقول: "اقبَلوا الحقَّ من كلِّ مَن جاء به وإن كان كافرًا -أو قال: فاجرًا-، واحذَروا زَيغةَ الحكيمِ".
الأمر الثاني- أن هذا البحث يدور حول إثبات ثبوت هذه الأحكام والرد على من أنكرها وقال ببدعيتها؛ لا حول حُكْمِ تطبيقها في قراءة القرآن؛ فإنني لم أتعرض لهذه المسألة هنا.
وهذا أوان الشروع في المقصود -أسأل الله التوفيق والإعانة-:
المبحث الأول
دفع الطعون التي وُجِّهَت إلى قراءةِ حمزة
وهنا سأُجمِلُ الكلام ثم أفصّل.
أمَّا الإجمال فأكتفي بهذه النقول:
قال الإمام الذهبي في "ميزان الاعتدال" (1/ 605-606): "قد انعقد الإجماع بأخرة على تلقِّي قراءةِ حمزةَ بالقبول, والإنكارِ على من تكلم فيها, ...[و] يكفى حمزةَ شهادةُ مِثْلِ الإمام سفيان الثوري له؛ فإنه قال: "ما قرأ حمزةُ حرفًا إلا بأثرٍ". " اهـ.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (12/ 569): "وَالْقِرَاءَةُ الْمَعْرُوفَةُ عَنْ السَّلَفِ الْمُوَافِقَةُ لِلْمُصْحَفِ تَجُوزُ الْقِرَاءَةُ بِهَا بِلَا نِزَاعٍ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ, وَلَا فَرْقَ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ بَيْنَ قِرَاءَةِ أَبِي جَعْفَرٍ وَيَعْقُوبَ وَخَلْفٍ وَبَيْنَ قِرَاءَةِ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ وَأَبِي عَمْرٍو وَنُعَيْمٍ, وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا: إنَّ الْقِرَاءَةَ مُخْتَصَّةٌ بِالْقُرَّاءِ السَّبْعَةِ [وأن] مَا خَرَجَ عَنْ هَذِهِ السَّبْعَةِ فَهُوَ بَاطِلٌ..." اهـ.
وقال (13/ 392-393): "وَلِذَلِكَ لَمْ يَتَنَازَعْ عُلَمَاءُ الْإِسْلَامِ الْمَتْبُوعِينَ مِنْ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ فِي أَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ أَنْ يَقْرَأَ بِهَذِهِ الْقِرَاءَاتِ الْمُعَيَّنَةِ فِي جَمِيعِ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ؛ بَلْ مَنْ ثَبَتَ عِنْدَهُ قِرَاءَةُ الْأَعْمَشِ شَيْخِ حَمْزَةَ أَوْ قِرَاءَةُ يَعْقُوبَ بْنِ إسْحَاقَ الْحَضْرَمِيِّ وَنَحْوِهِمَا كَمَا ثَبَتَ عِنْدَهُ قِرَاءَةُ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ فَلَهُ أَنْ يَقْرَأَ بِهَا بِلَا نِزَاعٍ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ الْمُعْتَبَرِينَ الْمَعْدُودِينَ مِنْ أَهْلِ الْإِجْمَاعِ وَالْخِلَافِ..." اهـ.
وأما التفصيل فسأكتفي فيه بإيراد بعض البحوث التي وقفتُ عليها حول هذا الأمر, وإِلَيْكَهَا:
البحث الأول- بحث عنوانه: "رد الكلام والشبهات عن قراءةٍ مِن المتواترات", وهو مِن تأليف السيد بن أحمد بن عبد الرحيم (عضو لجنة مراجعة المصاحف بمجمع البحوث الإسلامية), وقد قرأه وقرَّظه فضيلةُ الشيخ المقرئ علي بن عبد الرحمن الحذيفي -حفظه الله-, وآخرون. وهذا رابط الكتاب: http://www.4shared.c...qX/______.html?
وهذه صورة التقريظ الخطي للشيخ الحذيفي: https://archive.org/...531/التقريظ.png
البحث الثاني- بحث عنوانه: "قراءة حمزة وردّ ما اعتُرِضَ به عليها", وهو مِن تأليف المقرئ عبد الله بن صالح العُبَيد التميمي (المقرئ بالقراءات العشر الصغرى والكبرى والشواذ), وقد أرشدني إليه أحدُ الدكاترةِ الذين درَّسوني, وأخبرني بأنه بحثٌ جيدٌ -في الجملة-.
وهذا رابط الكتاب: http://ia600303.us.a...aat-hamzah1.pdf
ولعل فيهما كفاية -إن شاء الله-.
المبحث الثاني
إثبات ثبوت الأحكام التجويدية عن النبي -صلى الله عليه وسلم-
أريد في هذا المبحث أن أثبت هذا الأمر بطريقةٍ عقليةٍ سهلةٍ, وإليك بيانُها:
الذين يقولون ببدعية هذه الأحكام وعدم ثبوتِها هل سيسلّمون بثبوتِها إذا ثبتت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- مِن طريقٍ صحيحٍ واحدٍ فقط؟
الجواب: نعم –إذا كانوا ممن يتجرد للحق-. بل أظن أنهم لن يقتنعوا بثبوت الأحكام إلا بهذه الطريقة -أي بالطريقة التي تَثْبُتُ بها الأحاديثُ-.
إذنْ؛ فلنأتِهم بسندٍ صحيحٍ غريبٍ ينتهي إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-:
قال الإمام الداني في "جامع البيان" (1/ 290): "أما روايةُ قالون... فقرأت بها القرآنَ كله على أبي الفتح فارس بن أحمد، وقال لي:
قرأت على عبد الباقي بن الحسن، وقال: قرأت على أبي إسحاق إبراهيم بن عمر المقرئ، وقال قرأت على أبي الحسين أحمد بن عثمان بن جعفر [وهو ابنُ بُويان]، وقال: قرأت على أبي حسان أحمد بن محمد بن الأشعث، وقال: قرأت على محمد بن هارون المروزي المعروف بأبي نشيط، وقال: قرأت على قالون، وقال: قرأت على نافع", وأخذ نافعٌ القراءةَ عن سبعين من التابعين, سمَّى منهم: أبا جعفر يزيد بن القعقاع وأبا داود عبد الرحمن بن هرمز الأعرج وشَيْبَة بن نِصَاح القاضي وأبا عبد الله مسلم بن جندب الهُذَلي مولاهم القاصّ وأبا رَوْح يزيد بن رُومَان, وأخذ هؤلاء التابعون عن أبي هريرة وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عَيَّاش ابن أبي ربيعة -رضي الله عنهم-, وهم عن أُبَيّ بن كعب -رضي الله عنه-, وهو عن النبي -صلى الله عليه وسلم-.
هاهو الإمامُ الداني -وهو مِن معاصري كثيرٍ مِن أصحابِ كُتُبِ الحديث المسندة؛ إذ إنه توفي سنة 444هـ- يورِدُ هذا السند الصحيح الذي أدى إليه روايةَ قالون عن النبي -صلى الله عليه وسلم-.
إذَا انتهينا مِن هذه الخطوة؛ ننظر؛ هل نقلَها الإمامُ الداني بهذه الأحكام أم بدونِها؟
الجواب: نقلَها بهذه الأحكام. ومَن أراد مِنهم أن يقف على الأمر بنفسه فليرجع إلى الكتب التي ألّفَها الداني في القراءات والتجويد وسيجد ذلك؛ إذ إن الإمام الداني كان مِن أبرز الأئمة الذين اعتنوا بتدوين أحكام التجويد.
إذَن؛ مما سبق نستنتج أنه قد صح سندُ الأحكامِ التجويدية مِن طريقٍ صحيحٍ غريبٍ.
فإذا ثبتَ هذا عندهم؛ أسألهم سؤالًا: هل إذا جاء أحد الأئمة المشهورين بالفقه والحديث وأنكر ثبوت هذه الإحكام التي أثبتناها الآن مِن طريقٍ صحيحٍ واحدٍ - هل ستقبلون إنكارَه؟
سيجيبون: لا؛ لأن المسلمين أجمعوا على أن من استبان له سنة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يحل له أن يدعها لقول أحد.
ننتقل معهم إلى خطوة أعلى؛ لو فرضنا أن كل قراءةٍ مِن القراءات السبع ثبتت بإسناد واحد فقط إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ فكم سيتحصل لدينا مِن الطرق؟
ليذهبوا إلى جامع البيان -مثلا- ويراجعوا ذلك.
ننتقل إلى خطوة أعلى؛ ماذا لو رأيتُم عدد الطرق التي ذكرَ الإمامُ الدانيُّ في كتابه: "جامع البيان" أنها أدت إليه القراءات السبع؟
ثم ماذا لو عرفتم أنه وصلته القراءة بالأحكام مِن كل هذه الطرق؟
ثم ماذا لو وقفتم على الطرق الأخرى ذكرَها غيرُ الإمام الداني؟
أترك الجواب لهم.
وأترك لهم أيضًا الجواب عن السؤال التالي:
ماذا لو أتى أحدٌ وقال بعدم ثبوت أحكام التجويد وبأنها بدعة؟
وأظن أن ما ذكرتُه حتى الآن في هذا المبحث يُغني عن الاستمرار في البيان.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
كتبه
أبو عبد الرحمن علي المالكي
تعليق