بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله, والصلاة والسلام على محمد رسول الله, وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه.
أما بعد:
فإنَّنا نرى مَن دَرَسَ النحو وتَشَبَّعَتْ نفسُه به يحب دائمًا سَمَاعَ كلامِ الفُصَحَاءِ, ويتذوَّقُه, ويتأثر به, ويَمُجُّ سمعُه كلامَ اللحَّانِين, ويَعْمَلُ عندَه جرسُ التنبيه عندما يسْمَعُ لَحْنًا, وربما يشتد غضبُه حتى يصدر منه ردُّ فعلٍ كلاميّ وربما فِعْلِيٍّ تجاه اللحان, ومَن طالع تراجمَ بعضِ النحويين رأى ما يُستَغْرَبُ له مِن تعامُلِهم مع اللحَّانين والكلامِ المَلْحُون.
وَنرى كذلك مَن درسَ البلاغةَ ومارسَها حتى أصبح بليغَ النفسِ - يحب دائمًا كلامَ البُلَغَاءِ, ويتذوقه, ويتأثر به, وينفر سمعُه مِن الكلامِ الغَيْرِ بليغٍ.
ونرى مَن درسَ العروضَ وضَبَطَه أو كان شاعرًا بالسليقةِ - يحب الشعر المُتقَن, وينفر مِن سماعِ الشِّعْرِ المُكَسَّر, تجد عنده (ثيرمومترًا) حساسًا للأوزان المكسّرة.
إلى غير ذلك من الأمثلة... ومَن جَرَّبَ مِثْلَ تجربتي عرف مِثل معرفتي.
هذا هو ما يحصل أيضًا لِمَن يَدْرُسُ التجويدَ ويذوقُ حلاوتَه ويُتقِنُ قراءةَ القرآنِ حتى يُصبِح التجويدُ سجيَّةً وطبعًا له؛ تجده دائمًا يحب سماع تلاوات القراء المتقنين مِن ذَوِي الصَّلَاح, ويتذوَّقُها, ويتأثر بها, ويتدبّر المعاني, وتجده يَنْفِرُ سَمْعُه مِن سماعِ القراءة الملحونة, ويعملُ عنده جرس التنبيه عندما يَمُرُّ اللحنُ بسمعِه, وينفر أيضًا مِن سماعِ القراءةِ المتكلَّفَةِ, والمبالَغِ فيها؛ وذلك لكونِها لا تتوافق مع طَبْعِه الذي هو بعيد عن التكلف والتعسف..
وإن مِن صفاتِ القارئ المتقن: أنك عندما تسمعُه دون أن تراه فإنك لا تعرفُ أعربيٌّ هو أم أعجمي, وإن كان عربيًّا لا تعرف مِن أي بلاد العرب هو! وذلك لأنه أصبح فصيح اللسان, ولم تغلب على لسانِه لهجتُه العامّيّة.
ومِن صفات القارئ المتقن: أنك عندما تسمعُه يقرأ لا تشعر أنه يتكلف؛ وذلك لأن الإتقانَ أصبح طبْعًا له وسجيةً, فتجدُه يقرأ بإتقانٍ ذاتيًّا, حتى لو كان غيرَ منتبِهٍ لذلك -بِأنْ كان يتدبَّرُ الآيات, أو كان خطر بباله موقفٌ يتعلق بما يقرؤه مِن الآيات, أو كان عقلُه مشغولًا بشيءٍ ولو دنيويًّا-, بل حتى لو قرأ شيئًا غير القرآن تجد الفصاحةَ في كلامِه وسلامةَ النطق -دون أن يتكلف ذلك-.
ومن صفات القارئ المتقن: مهارتُه في تخليص الحروف؛ فتجده عندما يقرأ كلمةً تتعاقب فيها الحروف المفخمة والمرققة (مثل: {حصحص}, و{مقتصد}, و{ترهقها قترة}) تجده ينطقها بسلاسةٍ معطيًا كل حرفٍ حقه من التفخيم والترقيق.
ومن صفات القارئ المتقن: أنك تجد أزمنة الحروف في قراءته -سواء أزمنة حروف المد أو أزمنة الغنن أو أزمنة الحروف الساكنة أو المتحركة أو غير ذلك- كأنها مَقِيسَةٌ بالمِسْطَرَة؛ فلا تجده يطيل الأزمنة أكثر من حقها أو يفاوت بين الحرف ونظيرِه, وهذا يأتِي -بعد توفيق الله- مِن الخبرةِ وكثرة الرياضةِ, تمامًا كالخيّاط ومهندس المساحة والقائد العسكري والملّاح ونحوهم؛ تجد أحدهم في بداياته يستعمل أجهزة القياس لقياس المسافات, ثم بعد التمرُّس تجده يقيس بالعين دون الحاجة إلى الأجهزة؛ لأنه أصبح الأمر عنده سجيّة وطبعًا. وقد رأيتُ مِن هذه الأصناف الكثيرَ, بل حتى في غير المسافات -كالأوزان وغيرها-, وأذكر أني رأيتُ بائعًا للخضار يزن بيده دون الحاجة إلى الميزان, فاختبرتُه ذات يوم بأوزان مختلفة؛ فوجدتُه يَزِنُ بيده باحترافيّةٍ؛ حتى إنه يميّز ربع الكيلو جرام؛ فيقول: 3ك وربع, 5 كيلو إلا ربعًا!
ومِن صفات القارئ المتقن: مهارتُه في الوقف والابتداء؛ فتجده يعرف أين يقف ومِن أين يبتدئ, وإذا وقف على حرفٍ مضطرًّا تجده يعرف كيف يقف عليه.
يتبع..
الحمد لله, والصلاة والسلام على محمد رسول الله, وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه.
أما بعد:
فإنَّنا نرى مَن دَرَسَ النحو وتَشَبَّعَتْ نفسُه به يحب دائمًا سَمَاعَ كلامِ الفُصَحَاءِ, ويتذوَّقُه, ويتأثر به, ويَمُجُّ سمعُه كلامَ اللحَّانِين, ويَعْمَلُ عندَه جرسُ التنبيه عندما يسْمَعُ لَحْنًا, وربما يشتد غضبُه حتى يصدر منه ردُّ فعلٍ كلاميّ وربما فِعْلِيٍّ تجاه اللحان, ومَن طالع تراجمَ بعضِ النحويين رأى ما يُستَغْرَبُ له مِن تعامُلِهم مع اللحَّانين والكلامِ المَلْحُون.
وَنرى كذلك مَن درسَ البلاغةَ ومارسَها حتى أصبح بليغَ النفسِ - يحب دائمًا كلامَ البُلَغَاءِ, ويتذوقه, ويتأثر به, وينفر سمعُه مِن الكلامِ الغَيْرِ بليغٍ.
ونرى مَن درسَ العروضَ وضَبَطَه أو كان شاعرًا بالسليقةِ - يحب الشعر المُتقَن, وينفر مِن سماعِ الشِّعْرِ المُكَسَّر, تجد عنده (ثيرمومترًا) حساسًا للأوزان المكسّرة.
إلى غير ذلك من الأمثلة... ومَن جَرَّبَ مِثْلَ تجربتي عرف مِثل معرفتي.
هذا هو ما يحصل أيضًا لِمَن يَدْرُسُ التجويدَ ويذوقُ حلاوتَه ويُتقِنُ قراءةَ القرآنِ حتى يُصبِح التجويدُ سجيَّةً وطبعًا له؛ تجده دائمًا يحب سماع تلاوات القراء المتقنين مِن ذَوِي الصَّلَاح, ويتذوَّقُها, ويتأثر بها, ويتدبّر المعاني, وتجده يَنْفِرُ سَمْعُه مِن سماعِ القراءة الملحونة, ويعملُ عنده جرس التنبيه عندما يَمُرُّ اللحنُ بسمعِه, وينفر أيضًا مِن سماعِ القراءةِ المتكلَّفَةِ, والمبالَغِ فيها؛ وذلك لكونِها لا تتوافق مع طَبْعِه الذي هو بعيد عن التكلف والتعسف..
وإن مِن صفاتِ القارئ المتقن: أنك عندما تسمعُه دون أن تراه فإنك لا تعرفُ أعربيٌّ هو أم أعجمي, وإن كان عربيًّا لا تعرف مِن أي بلاد العرب هو! وذلك لأنه أصبح فصيح اللسان, ولم تغلب على لسانِه لهجتُه العامّيّة.
ومِن صفات القارئ المتقن: أنك عندما تسمعُه يقرأ لا تشعر أنه يتكلف؛ وذلك لأن الإتقانَ أصبح طبْعًا له وسجيةً, فتجدُه يقرأ بإتقانٍ ذاتيًّا, حتى لو كان غيرَ منتبِهٍ لذلك -بِأنْ كان يتدبَّرُ الآيات, أو كان خطر بباله موقفٌ يتعلق بما يقرؤه مِن الآيات, أو كان عقلُه مشغولًا بشيءٍ ولو دنيويًّا-, بل حتى لو قرأ شيئًا غير القرآن تجد الفصاحةَ في كلامِه وسلامةَ النطق -دون أن يتكلف ذلك-.
ومن صفات القارئ المتقن: مهارتُه في تخليص الحروف؛ فتجده عندما يقرأ كلمةً تتعاقب فيها الحروف المفخمة والمرققة (مثل: {حصحص}, و{مقتصد}, و{ترهقها قترة}) تجده ينطقها بسلاسةٍ معطيًا كل حرفٍ حقه من التفخيم والترقيق.
ومن صفات القارئ المتقن: أنك تجد أزمنة الحروف في قراءته -سواء أزمنة حروف المد أو أزمنة الغنن أو أزمنة الحروف الساكنة أو المتحركة أو غير ذلك- كأنها مَقِيسَةٌ بالمِسْطَرَة؛ فلا تجده يطيل الأزمنة أكثر من حقها أو يفاوت بين الحرف ونظيرِه, وهذا يأتِي -بعد توفيق الله- مِن الخبرةِ وكثرة الرياضةِ, تمامًا كالخيّاط ومهندس المساحة والقائد العسكري والملّاح ونحوهم؛ تجد أحدهم في بداياته يستعمل أجهزة القياس لقياس المسافات, ثم بعد التمرُّس تجده يقيس بالعين دون الحاجة إلى الأجهزة؛ لأنه أصبح الأمر عنده سجيّة وطبعًا. وقد رأيتُ مِن هذه الأصناف الكثيرَ, بل حتى في غير المسافات -كالأوزان وغيرها-, وأذكر أني رأيتُ بائعًا للخضار يزن بيده دون الحاجة إلى الميزان, فاختبرتُه ذات يوم بأوزان مختلفة؛ فوجدتُه يَزِنُ بيده باحترافيّةٍ؛ حتى إنه يميّز ربع الكيلو جرام؛ فيقول: 3ك وربع, 5 كيلو إلا ربعًا!
ومِن صفات القارئ المتقن: مهارتُه في الوقف والابتداء؛ فتجده يعرف أين يقف ومِن أين يبتدئ, وإذا وقف على حرفٍ مضطرًّا تجده يعرف كيف يقف عليه.
يتبع..
تعليق