بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فإن من المباحث الهامة في علم القراءات: مبحث الاختيار عند القُرَّاء([1]). وإنَّ لهذا الاختيارِ شروطًا وضوابطَ, ومِن شروطه: أن يكون المُخْتَارُ أهلاً للاختيار.
وإنّ ممن توافرت فيه شروط الاختيار: الإمام أبو محمد القاسم بن فِيرُّه بن خَلَف الشاطبي الرُّعَيْنِي الأندلسي (ت590هـ) صاحب "الشاطبية" - رحمه الله -.
الإمام الشاطبي كان غرضُه الرئيسي مِن تأليفِه لـ"الشاطبية" هو اختصار كتاب "التيسير في القراءات السبع", إلا أنه لم يختصر "التيسير" اختصارًا محضًا؛ أي أنه لم يقتصِرْ فيها على ما جاء في "التيسير" دون زيادة أو نقصان؛ وإنما زاد فيها أشياء مِن اختياراته, وتَرَكَ أشياء مِما في "التيسير" لم يُضَمِّنْها إيَّاها.
والدليل على أنه زاد في "الشاطبية" أشياءَ مِن اختياراته - قوُله في خُطبتها([2]):
"وأَلْفَـافُهــا زادت بِنَشْـرِ فـوائــدٍ فَـلَفَّتْ حيـاءً وَجْهَها أن تُفَضَّلا"
قال أبو شامة: "...فتلك الألفافُ نَشَرَتْ فوائدَ زيادةً على ما في كتاب "التيسير"؛ مِن زيادة وجوهٍ أو إشارةٍ إلى تعليلٍ وزيادةِ أحكامٍ وغير ذلك مما يذكره في مواضعه... " ([3]) اهـ.
والدليل على أنه ترك أشياء مِن "التيسير" لم يُضَمِّنْها "الشاطبيةَ" - التتبُّعُ والاستقراءُ؛ فإن مَن قارنَ بين "الشاطبية" و"التيسير" يَجِدُ أن الشاطبي يترك أحيانًا بعضَ الأشياء مِن "التيسير" فلا يُضَمِّنُها "الشاطبيةَ" ([4]).
والأوجُهُ التي زادها الشاطبي على ما في "التيسير" ([5]) يُطلَق عليها: "زيادات القصيد", وهي مما زاده الشاطبي مِن مرويَّاتِه الواسعة المسنَدة.
بعد هذه التوطئة أدخل في صلب الموضوع:
ظَهَرَتْ نابتةٌ جديدةٌ في الآونة الأخيرة يمنعون القراءة بكل ما خرج به الشاطبي عن طريق "التيسير", وأيضًا إلى يلزمونه بكل ما في "التيسير"؛ وذلك بحجة تحرير الطُّرُق!
وهذا شيء عجيب!
يا سبحان الله! أفهؤلاء أعلمُ مِن كُلِّ العلماء الذين تَلَقَّوْا هذه القصيدة بالقبول وقرؤوا بها وأقرؤوا طيلة هذه القرون المتعددة؟!
وقد انبرى للرد على هذا المذهب عددٌ من علماء القراءات, منهم من رَدَّ بإجمال ومنهم مَن رد بتفصيل. ومن أجمل ما وقفتُ عليه من هذه الردود - مكتوبًا -: كتابات الشيخ إيهاب فكري (مدرِّس القرآن والقراءات بالمسجد النبوي الشريف), والتي منها: "تأصيل التحرير", وكتاب: "إنصاف الإمام الشاطبي", وما ضَمَّنَه كتابَه: "تقريب الشاطبية", وما سطَّرَه في مقدمة تحقيقه لكتاب: "شرح مقرب التحرير للنشر والتحبير". ولشيخي د. إبراهيم محمد كُشَيْدان (المقرئ بالقراءات العشر الكبرى والصغرى) ردود عليهم - أيضًا -, أتحَفَني بها حينما عرضتُ عليه عددًا مِن مباحث كتابي: "قرة العيون بتلخيص أصول رواية قالون".
ومشاركةً مِنِّي في رد ذاك المذهب الغريب أكتُبَ هذا الموضوع, لاسيما وأنه قد تأثر بذاك المذهب عدد من طلبة القراءات.
وخُطَّتي في هذا الموضوع هي إيراد ما يتيسر لي من الأوجه التي يمنعون مَن يقرأ برواية قالون مِن طريق "الشاطبية" - مِن القراءةِ بها أو يلزمونه بالقراءة بها, ثم إيراد كلام الشاطبي في "الشاطبية", ثم إيراد كلام الأئمة المحققين مِن شراح "الشاطبية" وغيرهم.
وبما أن هذا البحثَ طويلٌ بعض الشيء والوقتَ ضيق؛ فإنني – إن شاء الله - سأجزئه إلى عدة مشاركات في كل مشاركة أتكلم على وجه, ثم بعد الانتهاء أقوم بدمج المشاركات كلها مع بعضها.
وسأقتصر على رواية قالون فحسب, ثم إذا انتهيتُ منها ربما أنتقل إلى غيرها إن وجدتُ مَن يساعدني في ذلك – إن شاء الله -.
أسأل الله التوفيق والإعانة والسداد, وأن يجعل هذا العمل خالصًا لوجهه الكريم, وأن ينفع به أهل القرآن, إنه – سبحانه وتعالى – ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
كتبه
علي بن أمير المالكي
([1]) أفضلُ ما وقفتُ عليه من الكتب المتعلقة بهذا الموضوع: رسالة ماجستير عنوانها: "الاختيار عند القراء .. مفهومه, مراحله, وأثره في القراءات" لأمين بن إدريس بن عبد الرحمن فلاته, قدمها لجامعة أم القرى بمكة المكرمة (وهو موجود في موضوع على شبكة الإمام الآجري).
([2]) (ص6/ البيت 69).
([3]) انظر «إبراز المعاني» (ص51).
([4]) انظرها في «تقريب الشاطبية» (ص564-565).
([5]) انظرها في «تقريب الشاطبية» (ص554-564).
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فإن من المباحث الهامة في علم القراءات: مبحث الاختيار عند القُرَّاء([1]). وإنَّ لهذا الاختيارِ شروطًا وضوابطَ, ومِن شروطه: أن يكون المُخْتَارُ أهلاً للاختيار.
وإنّ ممن توافرت فيه شروط الاختيار: الإمام أبو محمد القاسم بن فِيرُّه بن خَلَف الشاطبي الرُّعَيْنِي الأندلسي (ت590هـ) صاحب "الشاطبية" - رحمه الله -.
الإمام الشاطبي كان غرضُه الرئيسي مِن تأليفِه لـ"الشاطبية" هو اختصار كتاب "التيسير في القراءات السبع", إلا أنه لم يختصر "التيسير" اختصارًا محضًا؛ أي أنه لم يقتصِرْ فيها على ما جاء في "التيسير" دون زيادة أو نقصان؛ وإنما زاد فيها أشياء مِن اختياراته, وتَرَكَ أشياء مِما في "التيسير" لم يُضَمِّنْها إيَّاها.
والدليل على أنه زاد في "الشاطبية" أشياءَ مِن اختياراته - قوُله في خُطبتها([2]):
"وأَلْفَـافُهــا زادت بِنَشْـرِ فـوائــدٍ فَـلَفَّتْ حيـاءً وَجْهَها أن تُفَضَّلا"
قال أبو شامة: "...فتلك الألفافُ نَشَرَتْ فوائدَ زيادةً على ما في كتاب "التيسير"؛ مِن زيادة وجوهٍ أو إشارةٍ إلى تعليلٍ وزيادةِ أحكامٍ وغير ذلك مما يذكره في مواضعه... " ([3]) اهـ.
والدليل على أنه ترك أشياء مِن "التيسير" لم يُضَمِّنْها "الشاطبيةَ" - التتبُّعُ والاستقراءُ؛ فإن مَن قارنَ بين "الشاطبية" و"التيسير" يَجِدُ أن الشاطبي يترك أحيانًا بعضَ الأشياء مِن "التيسير" فلا يُضَمِّنُها "الشاطبيةَ" ([4]).
والأوجُهُ التي زادها الشاطبي على ما في "التيسير" ([5]) يُطلَق عليها: "زيادات القصيد", وهي مما زاده الشاطبي مِن مرويَّاتِه الواسعة المسنَدة.
بعد هذه التوطئة أدخل في صلب الموضوع:
ظَهَرَتْ نابتةٌ جديدةٌ في الآونة الأخيرة يمنعون القراءة بكل ما خرج به الشاطبي عن طريق "التيسير", وأيضًا إلى يلزمونه بكل ما في "التيسير"؛ وذلك بحجة تحرير الطُّرُق!
وهذا شيء عجيب!
يا سبحان الله! أفهؤلاء أعلمُ مِن كُلِّ العلماء الذين تَلَقَّوْا هذه القصيدة بالقبول وقرؤوا بها وأقرؤوا طيلة هذه القرون المتعددة؟!
وقد انبرى للرد على هذا المذهب عددٌ من علماء القراءات, منهم من رَدَّ بإجمال ومنهم مَن رد بتفصيل. ومن أجمل ما وقفتُ عليه من هذه الردود - مكتوبًا -: كتابات الشيخ إيهاب فكري (مدرِّس القرآن والقراءات بالمسجد النبوي الشريف), والتي منها: "تأصيل التحرير", وكتاب: "إنصاف الإمام الشاطبي", وما ضَمَّنَه كتابَه: "تقريب الشاطبية", وما سطَّرَه في مقدمة تحقيقه لكتاب: "شرح مقرب التحرير للنشر والتحبير". ولشيخي د. إبراهيم محمد كُشَيْدان (المقرئ بالقراءات العشر الكبرى والصغرى) ردود عليهم - أيضًا -, أتحَفَني بها حينما عرضتُ عليه عددًا مِن مباحث كتابي: "قرة العيون بتلخيص أصول رواية قالون".
ومشاركةً مِنِّي في رد ذاك المذهب الغريب أكتُبَ هذا الموضوع, لاسيما وأنه قد تأثر بذاك المذهب عدد من طلبة القراءات.
وخُطَّتي في هذا الموضوع هي إيراد ما يتيسر لي من الأوجه التي يمنعون مَن يقرأ برواية قالون مِن طريق "الشاطبية" - مِن القراءةِ بها أو يلزمونه بالقراءة بها, ثم إيراد كلام الشاطبي في "الشاطبية", ثم إيراد كلام الأئمة المحققين مِن شراح "الشاطبية" وغيرهم.
وبما أن هذا البحثَ طويلٌ بعض الشيء والوقتَ ضيق؛ فإنني – إن شاء الله - سأجزئه إلى عدة مشاركات في كل مشاركة أتكلم على وجه, ثم بعد الانتهاء أقوم بدمج المشاركات كلها مع بعضها.
وسأقتصر على رواية قالون فحسب, ثم إذا انتهيتُ منها ربما أنتقل إلى غيرها إن وجدتُ مَن يساعدني في ذلك – إن شاء الله -.
أسأل الله التوفيق والإعانة والسداد, وأن يجعل هذا العمل خالصًا لوجهه الكريم, وأن ينفع به أهل القرآن, إنه – سبحانه وتعالى – ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
كتبه
علي بن أمير المالكي
([1]) أفضلُ ما وقفتُ عليه من الكتب المتعلقة بهذا الموضوع: رسالة ماجستير عنوانها: "الاختيار عند القراء .. مفهومه, مراحله, وأثره في القراءات" لأمين بن إدريس بن عبد الرحمن فلاته, قدمها لجامعة أم القرى بمكة المكرمة (وهو موجود في موضوع على شبكة الإمام الآجري).
([2]) (ص6/ البيت 69).
([3]) انظر «إبراز المعاني» (ص51).
([4]) انظرها في «تقريب الشاطبية» (ص564-565).
([5]) انظرها في «تقريب الشاطبية» (ص554-564).
تعليق