بسم الله الرحمن الرحيم
الإيضاح والبيان لصحة رجوع الضمير في قوله تعالى (فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا) إلى الله عز وجل
الإيضاح والبيان لصحة رجوع الضمير في قوله تعالى (فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا) إلى الله عز وجل
فمن المعلوم لدى الكافة من الثقلين الإنس والجن لزوم تنزيه المعبود من كل نقص وعيب لا يختلفون بينهم في ذلك، لكن منهم من وقف مع هذا العلم الفطري الموافق لظواهر النصوص الشرعية الثابتة في الكتاب والسنة الصحيحة، ومنهم من دفعته خيالاته إلى إنكار الأسماء والصفات التي أثبتها الله لنفسه في الوحيين وهم في ذلك متفاوتون بين مقل ومستكثر.
ولا أريد الإطالة فإنما هي فائدة مختصرة متعلقة بقوله سبحانه وتعالى في سورة الكهف ((وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80)) ، فهل الخشية هنا منسوبة لله أم للخضر؟ وإن كانت لله فما هو تفسيرها؟ وهل هي مما ينبغي تنزيه الله عنه أم هي سالمة من النقص ؟
الجواب:
اختلف المفسرون في قوله تعالى ((فَخَشِينَا)) هل هو حكاية لكلام الخضر عن نفسه بضمير الجمع أم أراد الخضر -عليه الصلاة والسلام- نسبة الخشية لله -عز وجل- ولنفسه!
1- فاختار كون ضمير الجمع عائد إلى الخضر فقط:
الزجاج في "معاني القرآن" ،وابن جزي في "التسهيل"، وابن عطية في "المحرر الوجيز" (1) ، والثعالبي في تفسيره، والرازي في "مفاتحه" وقدمه البيضاوي، وهو ظاهر كلام القرطبي في "الجامع" ، واختاره النسفي، وقدمه أبو حيان في "البحر المحيط"، وانتصر له الشوكاني في "فتح القدير"، واستظهره أيضًا الآلوسي في "روح المعاني"(1) ، والطاهر بن عاشور في "التحرير" ، وهو ظاهر كلام العلامة العثيمين في تفسيره لسورة الكهف حيث قال:
( فَخَشِينَا ) أي خفنا، والخشية في الأصل خوف مع علم، وأتي بضمير الجمع للتعظيم. ا.هــ
قلت: في التسجيل الصوتي قال:
(خشينا) بالجمع وهو بالنسبة للخضر واقع، وبالنسبة لموسى متوقع..ا.ه الخ [تفسير سورة الكهف ش4 وجه ب]
ورجح أصحاب هذا القول مذهبهم بأمرين:
أ- سياق الآيات فهي تتحدث عن محاجة الخضر لموسى وبيانه لحجته -عليهما الصلاة والسلام-، قال القرطبي:
وهو الذي يشهد له سياق الكلام ، وهو قول كثير من المفسرين ا.هــ
وقال الشوكاني:
قيل ويجوز أن يكون فخشينا من كلام الله ويكون المعنى كرهنا كراهة من خشي سوء عاقبة أمره فغيره وهذا ضعيف جدا فالكلام كلام الخضر ا.هـ
ب- ما تلا هذه الآية : قوله ((فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما)) فاحتجوا بأنّ قوله ((ربهما)) مُشعر بكون المُريد -المُتكلم- هو الخضر فقط.
قال الزجاج:
وقالوا دليلنا على أن فخشينا من كلام الخضِر قوله (فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا) ا.هـ
2- والقول الثاني : قول مَن قال الضمير في قوله تعالى "فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً " عائدٌ على الله -سبحانه وتعالى- وعلى الخضر -عليه الصلاة والسلام-، وممن اختار هذا:
ابن قتيبة فهو ظاهر سياق كلامه في "تأويل المشكل"، واختيار إمام المفسرين ابن جرير الطبري في تفسيره ، ، واختاره الفراء في "معاني القرآن" ، والأخفش! (المعتزلي) في "معاني القرآن" واحتج هؤلاء بـ:
أ- مصحف عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-.
قال ابن جرير:
وقوله: (فخشينا) وهي في مصحف عبد الله:( فخاف ربك أن يرهقهما طغيانا وكفرا) ا.هــ
ب- قراءة أبي بن كعب -رضي الله عنه-:
وقال ابن قتيبة:
وفي قراءة أبيّ: فخاف ربك. ا.هـ [تأويل مشكل القرآن ص121]
فهاتان القراءتان صريحتان في إضافة (الخوف = الخشية) لله عز وجل، وهذا القول هو الأقرب للصواب فيما يظهر -والله أعلم- من وجوه:
1- يُعد هذا التأويل من تفسير القرآن بالقرآن وهذا أعلى أوجه التفسير وأرجحها من حيث الجملة.
2- هو ظاهر الآية ؛ فضمير الجمع الأصل فيه التعدد ، ومن جهة تنويع الخضر-عليه الصلاة والسلام- في استخدامه للضمائر في هذه الآيات كما سيأتي ، فلو جعلنا الضمير في الإفراد والجمع عائد عليه فقط لم تظهر البلاغة المقصودة من هذا التنويع.
3- أني لم أجد من مفسري أهل السنة المتقدمين من قال بالقول الأول، فأقدم من وقفت عليه الزجاج ، ولا يخفى ما يقع في كلامه من بعض التأويلات لبعض الصفات التي ليس في ظاهرها أي نقص ألبتة عند العقلاء، فكيف بإضافة ما قد يُتوهم معه النقص على المعنى الأظهر في اللغة(2)، ومع هذا فقد ذكر الزجاج كما سيأتي احتمال رجوع الضمير إلى الله عز وجل.
* وأما احتجاج أصحاب القول الأول بالسياق.
- فنقول السياق لا يدل على ماذكرتم، بل على العكس تمامًا ، فالخضر -عليه الصلاة والسلام- غاير بين الضمائر في خطابه مع موسى -عليه الصلاة والسلام- فمرة بالإفراد العائد إلى المتكلم فقال:
((فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا)).
ومرة بالإفراد العائد إلى الله:
((فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا ))
والمرة الثالثة قال:
(( فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا ))
فلو كان المقصود بها (خشيت) لما ظهرت المناسبة البلاغية من هذا التنويع، حيث إنّ هذه الخشية لولا أنّها مبنية على العلم اليقيني المُوحى إليه من ربه لَمَا كانت مسوغة لقتل النفس المعصومة ، فلذا استخدم ضمير الجمع ليبين أنّ هذه الخشية لم تكن منه فقط بل هي عن علم يقيني مما علمه الله، ولذا قال في آخر خطابه:
((وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي))
* وأما احتجاجهم بما أورده الزجاج:
وقالوا دليلنا على أن (فخشينا) من كلام الخضِر قوله (فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا) ا.هـ
فهذا وإن كان مُحتملا لكنه ليس بلازم، فكم من الآيات يتكلم فيها الله سبحانه عن نفسه بصيغة الغائب ، وهذا من أساليب العرب في تخطابها ، ولذا لم يُسلِّم الزجاج بهذه الحجة فقال بعد النقل السابق:
وهذا جائز أن يكونَ عن اللَّه عزَّ وجلَّ ا.هــ
لكنّا متى رجحنا قول ابن جرير -رحمه الله- لزمنا بيان معنى (الخشية) هنا ، فما هو معناها؟
أ- فالذي اختاره ابن جرير والفراء والعسكري وجزم به البغوي، واختاره جماعة أنّ المراد بالخشية هنا العلم، قال ابن جرير:
والخشية والخوف توجههما العرب إلى معنى الظن، وتوجه هذه الحروف إلى معنى (العلم بالشيء) الذي يدرك من غير جهة الحس والعيان. ا.هـ
قال العسكري:
وكذلك الخشية بمعنى العلم، قال الله: (فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا) ا.ه [الوجوه والنظائر ص204]
ب- والقول الثاني اختاره بعض أهل البصرة واعتمده الأخفش، وهو أنّ المراد بـ (الخشية) الكراهة:
قال الأخفش:
وأما {فَخَشِينَآ} فمعناه: كَرِهنا، لأنَّ اللهَ لا يَخْشى. وهو في بعض القراءات {فَخَافَ رَبُّكَ} وهو مثل "خِفْتُ الرَّجُلَيْنِ أَنْ يَقُولا" وهو لا يخاف من ذلك اكثر من انه يكرهه لهما. ا.هـ
قال ابن جرير:
وكان بعض أهل العربية من أهل البصرة يقول: معنى قوله (خشينا) في هذا الموضع: كرهنا، لأن الله لا يخشى. وقال في بعض القراءات: فخاف ربك، قال: وهو مثل خفت الرجلين أن يعولا وهو لا يخاف من ذلك أكثر من أنه يكرهه لهما. ا.ه كلامه
وقال الزجاج:
لأن الخشية من اللَّه عزَّ وجلَّ معناه الكَرَاهَةُ، ومعناها من الآدميين الخَوْفُ. ا.هـ
ويترجح قول من قال: إنّ (الخشية) بمعنى (العلم واليقين) بما أورده الطبري بسنده فقال:
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة:( وأما الغلام فكان كافرا ) في حرف أُبي.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة( وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين ) وكان كافرا في بعض القراءة.
حدثنا عمرو بن علي، قال: ثنا أبو قتيبة، قال: ثنا عبد الجبار بن عباس الهمداني، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن أبي بن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " الغلام الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافرا" ا.هـــ كلام الطبري
فهذه الآثار تدل على أنّ الخضر كان يعلم كفره لا أنه يخاف شيئا لا يجزم بوقوعه، بل هو عالم بكفره، لأنه وُلد يوم وُلد كافرًا مطبوع عليه..هكذا قالوا ، وهذا التأويل كما سيأتي يصح حتى على قول من قال ، المراد بـ (فخشينا) الخضر-عليه الصلاة والسلام- فقط.
وعمومًا متى ما جعلنا الضمير عائدًا إلى الله عز وجل وإلى الخضر -عليه الصلاة والسلام- فيكون المراد بالخشية أحد أمرين إما:
العلم أو الكراهة.
ومتى ما جعلنا الضمير عائدًا إلى الخضر وحده، أو الخضر والصالحين ممن كانوا معه فيحتمل -بالإضافة إليهما- : الخوف المبني على غلبة الظن.
وقد أطال الكلام عن هذه القضية بعض المتفقهة وبعض المفسرين، وسبب ذلك ما بناه بعضهم على هذه الآية من جواز قتل النفس بغلبة الظن، وهكذا قتل الصبي بالكفر..الخ تلك المباحث الفقهية، وهذا خارج عن مقصدنا فالمراد هنا بيان قول أئمة التفسير في الضمير في قوله تعالى (فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا )، والذي يظهر لي في آخر هذا الجمع المختصر صحة رجوع الضمير إلى الله -عز وجل- ، وإلى الخضر -عليه الصلاة والسلام- ورجحان هذا القول إنما كان لِمَا روي من قراءة ابن مسعود وأُبي بن كعب -رضي الله عنهما- ولا يخفى على القارئ ما للقراءات المختلفة من فوائد بيانية وتفسيرية توضح مقصود الله - عز وجل - من كلامه .
وأخيرًا فما كان من صواب فيما ذكرته فمن الله وما كان من خطأ فمني ومن الشيطان والحمد لله رب العالمين.
فائدة: لو قلنا برجوع الضمير إلى الخضر -عليه الصلاة والسلام- فلا يلزم من ذلك إرادته تعظيم نفسه، قال الطاهر بن عاشور-رحمه الله-:
وضميرا الجماعة في قوله (فَخَشِيَنَا) وقوله (فَأَرَدْنَا) عائدان إلى المتكلم الواحد بإظهار أنه مشارك لغيره في الفعل . وهذا الاستعمال يكون من التواضع لا من التعاظم لأن المقام مقام الإعلام بأنّ الله أطلعه على ذلك وأمره فناسبه التواضع ا.هــــ
وهذه فائدة نفسية كنت وقفت على مضمونها قديما ثم نسيت مصدرها ، فكان كلام الطاهور هنا مجزئًا إن شاء الله، وعلى هذا يُوجه كلام كثير من أهل العلم وبعض مشايخ السنة بل بعض الطلبة ، حيث ربما عبروا بضمير الجمع تواضعا من حيث هم داخلون في الجماعة لا أن لهم رأيا فردا دونهم، هذا والحمد لله على منه وفضله.
الهامش:
(1) وإن كان ابن عطية، و أبو حيان قد وجها ضمير الجمع في ((خشينا)) بعوده على الخضر والصالحين الذين كانوا معه فقال الأول:
والضمير عندي للخضر وأصحابه الصالحين الذين أهمهم الأمر وتكلموا فيه ا.هـــ
(2) وإن كنا نقول : الخشية في هذا التركيب ظاهرة في اليقين أو الكراهة فليس هذا من باب التأويل على اصطلاح الأصوليين، بل السياق واضح في هذا المعنى دون معنى الخوف.
تعليق