أصـــــــــــول التفسيــــــر
-------------------------------------
نعم، ذكر المؤلف في هذا الفصل ما يتعلق بنفي المجاز، يقسم كثير من المؤلفين في أصول الفقه، وفي مقدمات التفسير، وفي البلاغة الكلام إلى حقيقة ومجاز، ولهم منهجان في حقيقة كل من هذين القسمين: فطائفة تقول: الحقيقة: هي اللفظ المستعمل فيما وضع له أولا، وأن ذات اللفظ يسمى حقيقة. والمجاز: هو اللفظ المستعمل في غير ما وضع له، علي وجه يصح.
وبعضهم يقول: الحقيقة: ليست هي اللفظ، وإنما الحقيقة: هي استعمال اللفظ فيما وضع له أولا. والمجاز: استعمال اللفظ في غير ما وضع له أولا، على وجه يصح. ويمثل لذلك بمثال: كلمة الأسد، في أصل اللغة، يراد بها الحيوان المفترس، المعروف، فإذا قال إنسان: رأيت أسدا يأكل شاة. فالمراد به الحيوان المفترس، وهنا استعمال للفظ الأسد فيما وضع له. وإذا قلت: رأيت أسدا يخطب. فحينئذ لا يمكن أن يراد بهذا اللفظ ما وضع له أولا، وهو الحيوان المفترس، ولكون المراد به: الرجل الشجاع، فهنا استعملنا لفظ الأسد في غير ما وضع له أولا.
ومن أمثلته: استعمال اللفظ وإرادة جزءه، ويمثلون له بقولك: جعلت إصبعي في أذني. فأنت لم تجعل جميع الإصبع، وإنما جعلت طرفه، فحينئذ استعملت لفظ الإصبع، ولم ترد به ما وضع له من الدلالة على جميع الإصبع، وإنما أردت جزءه.
ومن أمثلته: أن تقول: قابلت الغلام العليم. فحال كونه غلاما، لا يكون عليما، وإنما إذا صار كبيرا، أصبح عليما، فهنا استعملنا اللفظ في غير ما وضع له.
وفرقوا بين الحقيقة، والمجاز بعدد من الفروق، منها:
أن الحقيقة لا يجوز نفيها، فإذا قلت: رأيت أسدا يأكل فريسته. لا يصح أن يقال لك: هذا ليس بأسد. أما إذا قلت: رأيت أسدا على المنبر، يوم الجمعة، يخطب. قيل لك: هذا شيخ، عالم، وليس أسدا.
ومن الفروق بينهما، أن الحقيقة لا تحتاج إلى قرينة، لأنها قد استعملت فيما وضعت له، بينما المجاز يحتاج إلى قرينة توضع، لأن المراد به غير الحقيقة.
إذا تقرر لنا شيء من الفروق، بين الحقيقة والمجاز، نقرر: هل يوجد في القرآن مجاز، أو ليس في القرآن مجاز؟ ينسب إلى الأكثرين، ويراد به أكثر المتأخرين، أن القرآن فيه مجاز، ويستدلون على ذلك بما ورد في النصوص، من استعمال ألفاظ في غير ما وضعت له، مثل قوله تعالى: ( وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ ) يعني المراد به: محبة العجل. وقوله سبحانه: ( وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا ) ، يعني أهل القرية.
ويستدلون على ذلك ثانيا، بأن المجاز: استعمال لغوى، والقرآن قد جاء بلغة العرب، فيكون المجاز موجودا فيه. وهذا الاستدلال فيه ضعف بيّن، وذلك لأن القرآن لم يحتوِ على جميع أساليب العرب.
والقول الثاني بنفي المجاز في القرآن، وقد اختاره جماعات من العلماء، منهم: الظاهرية، وبعض المالكية، كابن خويزمنداد، ومحمد بن سعيد البويطي، وبعض الشافعية، واستدلوا على ذلك بأن القرآن يجب الإيمان به، والمجاز يجوز نفيه، والقرآن لا يصح نفي شيء منه، ودل ذلك على أن القرآن ليس فيه مجاز، إذا وجد فيه مجاز، لجاز نفيه، واستدلوا على ذلك أيضا بأن القرآن كله حق، وحينئذ لا يمكن أن يقال فيه ما ليس بحقيقة.
وقد ألف الشيخ محمد الأمين الشنقيطي، صاحب "أضواء البيان" رسالة في منع المجاز في المنزل للتعبد والإعجاز، وأجابوا عن الآيات التي استدل بها أصحاب القول الأول، بأن فيها مجازا بأن قالوا: ليس فيها مجاز، وأجابوا عنها بأجوبة تفصيلية، فقالوا: قوله تعالى: (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ ) ليس المراد مجرد البنيان، فإن لفظ القرية في لغة العرب، يطلق على البنيان وساكنيه، ولذلك إذا لم يوجد في البلد سكان، فإنه لا يقال له قرية، وإنما يقال: هذه أطلال ومساكن، ولا يقال لها قرية. وهكذا أجابوا بإجابات تفصيلية.
إذا تقرر هذا، فهل في لغة العرب مجاز، أو ليس في لغة العرب مجاز؟
أكثر الأصوليين، والبلاغيين على إثبات المجاز في لغة العرب، وقد أثبت المجاز في لغة العرب بعض من نفاه في القرآن، واستدلوا عليه بوجود ذلك في لغة العرب، وفي كلامهم، وحديثهم، وذهب جماعة إلى نفي وجود المجاز في لغة العرب، ومن أشهرهم أبو علي الفارسي، من كبار علماء اللغة، وأبو إسحاق الإسفراييني، من كبار الأصوليين، وقد اختاره شيخ الإسلام، ابن تيمية ، كما ذكر المؤلف، واختاره ابن القيم -رحمه الله-، وخصص له ربع كتاب "الصواعق المرسلة" وجعله من الطواغيت التي يستند إليها أهل العقائد الفاسدة.
واستدلوا على نفي المجاز في لغة العرب، بأن قالوا: إن كون اللفظ مجازا، معناه ترك للحقيقة، ومخالفة للصدق، والواقع، ولا يصح لأهل لغة أن يكون الكذب، وترك الصدق منهجا لهم في لغتهم.
واستدلوا عليه، بأن قالوا بأن تقسيم الألفاظ إلى: حقيقة، ومجاز، لم يوجد في العصور الأُوَل، ولو كان هذا التقسيم ثابتا، لتكلم به السلف، وتكلم به أهل اللغة، ولانتشر بينهم، ولعرفوه، ولكن هذا لم يوجد.
وإذا تأمل الإنسان في كلام شيخ الإسلام، ابن تيمية ، ومن نحا نحوه، من نفي وجود المجاز في اللغة، وقارنه بكلام جمهور الأصوليين، والبلاغيين في إثبات المجاز في لغة العرب، نجد أن من أثبت المجاز، نظر إلى النفي مقررا، فقال: لفظ الأسد في قولنا: رأيت أسدا يأكل فريسته، استعمل في حقيقته، وهو الحيوان المفترس، ومن قال: رأيت أسدا يخطب، استعمله في غير حقيقته، وهو الرجل الشجاع، فيكون مجازا.
شيخ الإسلام ابن تيمية ومن نحا نحوه من نفي وجود المجاز في اللغة وقارنه بكلام جمهور الأصوليين والبلاغيين في إثبات المجاز في لغة العرب نجد أن من أثبتت المجاز نظر إلى اللفظ مفردا فقال: لفظ الأسد في قولنا: رأيت أسدا يأكل فريسته استعمل في حقيقته، وهو الحيوان المفترس، ومن قال رأيت أسدا يخطب استعمله في غير حقيقته، وهو الرجل الشجاع فيكون مجازا، فهم نظروا إلى اللفظ مجردا.
وأما شيخ الإسلام ابن تيمية ومن وافقه فإنهم يقولون: لا يصح لنا أن ننظر إلى الألفاظ مجردة وإنما ننظر إلى الجملة كاملة بدلالة أن العرب تأتي باللفظ المفرد فتضع معه حروف جر أو تضع في سياقه من الأدوات ما يقلب معناه، فأنت تقول ذهبت معه بمعنى رافقته، وذهبت إليه بمعنى أنك وصلت إليه، وذهبت به بمعنى أنك أخذته معك، وذهبت من السوق بمعنى أن السوق كان ابتداء انتقالك وتحركك من مكان إلى مكان، فاختلف باختلاف المتعلق الذي يكون معه.
وكذلك أوضح من هذا نجد أن العرب تستعمل اللفظ الواحد في معان مختلفة لا يدل عليها إلا السياق فتقول: (قال) ما معنى لفظة قال؟ قال بمعنى تكلم، وكذلك قال بمعنى نام القيلولة، من أين نفرق بين اللفظين في المدلول؟ من جهة السياق، فحينئذ قالوا: إن العرب لا تلتفت إلى الكلمة مجردة، وإنما تلتفت إلى السياق كاملا، وحينئذ إذا التفتنا إلى السياق كاملا "أسدا يخطب" لا يمكن أن يُراد به الحيوان المفترس، فيكون هذا من باب الاستعمال الحقيقي، لأن العرب لا يمكن أن تضع أو أن تستند بمثل هذا الإسناد، وتريد به الحيوان المفترس.
وهذا المنهج أصوب من المنهج الأول بالالتفات إلى جميع السياق وجميع الجملة، لأننا إذا وضعنا اللفظ مفردا لم نأخذ منه معنى وحده، ولأن العرب لا يتكلمون باللفظ المفرد الذي ليس معه ألفاظ أخر، سواء كانت هذه الألفاظ مظهرات أو مضمرات، فلا يقولون أسد ويسكتون إلا بتقدير كأن يقولوا: هذا أسد أو نحوه، فحينئذ الصواب أننا ينبغي أن ننظر إلى جميع السياق ولا ننظر إلى اللفظ المفرد، ويدل على ذلك أن السياق يختلف به المعنى، والسياق يترتب عليه العديد من الأحكام.
ويمثلون لتأثير السياق على أخذ الحكم من الألفاظ بما ورد عن الإمام الشافعي والإمام أحمد رحمهما الله أن الإمام أحمد قال: لا يجوز للإنسان أن يبتلع القيء الخارج منه، واستدل على ذلك أن الإمام أحمد رأى أنه لا يجوز للإنسان أن يرجع في هبته، واستدل عليه بقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه ) فقال الإمام الشافعي الكلب لا يحرم عليه العود في قيئه فكذلك العائد في هبته، فقال له الإمام أحمد في بقية الحديث: ( ليس لنا مثل السوء ) فدل ذلك على أننا لا نماثل مثل هذه المخلوقات في هذا الفعل، فكذلك لا نفعل الفعل المشبه به، فهنا التفت الإمام إلى دلالة السياق (ليس لنا مثل السوء )
قال المؤلف: هنا (نفي المجاز) تقدم معنى أن المجاز هو استعمال اللفظ في غير ما وُضِعَ له أولا، ونفيه - يعني نفي القول بإثبات المجاز- فلا يوجد في لغة العرب مجاز، وقد يراد به نفي وجود المجاز في القرآن، قال المؤلف (صرح) المراد بكلمة صرح يعني تكلموا بذلك بلا احتمال، فالصريح من الألفاظ هو الذي لا يوجد معه احتمال يدل على خلاف ذلك التصريح، (صرح بنفيه) يعني ينفي وجود المجاز في لغة العرب (المحققون) وتقدم أن ممن صرح بذلك أبو علي الفارسي وأبو إسحاق الإسفراييني، وشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم.
وقوله (المحققون) يريد به المؤلف مَن حقق المسائل، ورجَّح بين الأقوال باستيعاب أدلة هذه المسائل والنظر في المناقشات والأجوبة الواردة عليها، فعرف الراجح من خلال ذلك، قال: (ولم يُحفظ) يعني لم يُنقل (عن أحد من الأئمة) يعني في العصور الفاضلة مثل الأئمة الأربعة ومن وافقهم في زمانهم كالثوري وإسحاق أو من تقدمهم كالزهري والسفيانين وغيرهم من الأئمة (القول به) يعني إثبات وجود المجاز في لغة العرب أو في القرآن، فلم يُعهد عن أحد من هؤلاء الأئمة أنه قسم اللغة إلى حقيقة ومجاز وهذا كما هو منفي عن أئمة علماء الشرع كذلك هو منفي عن أئمة علماء اللغة، فلا نجد مثل ذلك في كلام الأصمعي ولا كلام الخليل بن أحمد ولا كلام سيبويه.
قال: (وإنما حدث تقسيم الكلام إلى حقيقة ومجاز) يعني إنما وجد هذا التقسيم بعد أن لم يكن موجودا (إلى حقيقة ومجاز بعد القرون المفضلة) يعني بعد العصور والقرون الثلاثة التي وردت النصوص بأنها خير الأمة وأنها أفضل هذه الأمة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( خيركم قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم )
قال: (فتذرع به المعتزلة والجهمية إلى الإلحاد في الصفات) تذرع به يعني جعله المعتزلة والجهمية وسيلة إلى مقصودهم في الإلحاد في الصفات، فذريعةُ الشيء وسيلتُهُ التي يُتوصل إليه من خلالها، والمعتزلة: تقدم أن المراد بهم من اعتزلوا في الأصل مجلس الحسن البصري، وهم يبنون مذهبهم على أصول خمسة: كالتوحيد ويراد به نفي الصفات. والعدل ويراد به نفي القدر. والقول بالمنزلة بين المنزلتين والمراد بذلك أن صاحب الكبيرة في الدنيا ليس مؤمنا ولا كافرا، وإنما هو في منزلة بين المنزلتين وهو في الآخرة مخلد في نار جهنم، وهكذا إلى بقية أصولهم.
والجهمية أتباع جهم بن صفوان، وليُعلَم بأن النسبة إلى أهل هذه البدع يكون باعتماد المنهج الذي يسيرون عليه، فمن كان محكما للنصوص الشرعية في أبواب العقائد والصفات فإنه يكون من أهل السنة والجماعة، فلو قدر أنه خفي عليه نص من نصوص الصفات فلم يثبت الصفة لكونه قد خفي عليه ذلك النص فإننا حينئذ لا نجعله ممن خرج على مذهب أهل السنة والجماعة، ومثال ذلك ابن خزيمة فإنه لما جاء في حديث الصورة نهج منهجا مخالفا لأهل السنة، لكن ابن خزيمة سائر على منهج علماء الإسلام من تحكيم نصوص الوحيين: الكتاب والسنة في مباحث العقائد والصفات.
فكونه لم يصل إليه ذلك اللفظ بطريق صحيح حسبما يراه، سواء كان من جهة الدلالة أو من جهة السند فلم يُثبت الصفة، لذلك فإننا لا ننفي نسبته لأهل السنة والجماعة، لأنه يوافقهم في الأصل، وأما أصحاب المناهج الأخرى والبدع المغايرة لأهل السنة والجماعة فإننا ننظر إلى المنهج الذي اعتمدوه، ولذلك تجد بعضهم يقول في باب الصفات (المرجع إلى العقل) فما أثبته العقل أثبتُّه وما نفاه العقل نفيته، وما سكت عنه اختلفوا فيه على ثلاثة أقوال، فهذا منهج بدعي، وحينئذ نصف صاحبه بانتسابه إلى تلك البدعة.
قال المؤلف: (تذرعوا به إلى الإلحاد في الصفات) الإلحاد كما تقدم الميل عن الحق، (في الصفات) يعني في مباحث صفات الله سبحانه وتعالى، فقالوا بأن هذه الصفات ونصوص الصفات من باب المجاز ولا يراد بها الحقيقة، فمن خلال إثبات وجود المجاز في لغة العرب وفي القرآن الكريم قالوا: إن نصوص الصفات من باب المجاز، وليست من باب الحقيقة، فلما قال تعالى: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ) قالوا: ليس المراد بالاستواء ظاهره، وإنما المراد به الاستيلاء، وهذا من مجاز اللغة، وهذا مجاز، فجاز لنا نفي صفة الاستواء بناء على ذلك.
وأنتم تعلمون أن مثل هذا يعتبر تأويلا باطلا، لعدم قيام الدليل عليه، فليس جحدا للنص الذي وردت الصفة فيه، وأنتم تفرقون بين جحد النص والتكذيب به ورده وبين تأويله، ومن أمثلته أيضا ما ورد في النصوص من أنه سبحانه يتكلم متى شاء، ومن أنه سبحانه وتعالى يسمع الأمور أو المسموعات بعد حصولها ووجودها، ونحو ذلك مما لا يوافق عليه أصحابُ تلك العقائد الفاسدة.
قال المؤلف: (قال الشيخ: ولم يتكلم الرب به) لكن قبل هذا هل إثبات المجاز في اللغة أو في القرآن يلزم أن يكون عليه المثبت ممن ينفي الصفات؟
نقول: لا، لا يلزم فقد يُثبت الإنسان المجاز في اللغة أو في القرآن، ومع ذلك يقول بإثبات الصفات فلا يلزم من إثبات المجاز أن يكون المرء مبتدعا أو صاحب بدعة، لكنه قد يقال فيه إنه أخطأ أو لم يُوفق إلى الصواب في ذلك، فإذا كان خطؤه مع اجتهاده وتحريه للصواب فإنه حينئذ لا يأثم كما هو مقرر، (قال الشيخ) المراد بالشيخ شيخ الإسلام ابن تيمية (ولم يتكلم الرب به) المراد أن الله سبحانه وتعالى لم يتكلم بتقسيم الكلام إلى حقيقة ومجاز، ولم يتكلم الرب بإثبات لفظ المجاز، وكلام الرب صفة من صفاته كما تقدم، ( ولارسوله ولا أصحابه ولا التابعون لهم بإحسان ) يعني أن النبي صلى الله عليه وسلم وأتباعه من خير الأمة لم يثبتوا هذا التقسيم.
ومن تكلم به، يعني من تكلم بلفظ المجاز من أهل اللغة، ومن أمثلة ذلك ما ورد عن الإمام أحمد أنه لما احتج عليه بعض أهل البدع ببعض نصوص القرآن، قال هذا من مجاز اللغة، ومراده بهذا اللفظ (هذا من مجاز اللغة) يعني أن هذا اللفظ أو هذا الاستعمال مما يسوغ في لغة العرب، وهذا القائل: (هذا من مجاز اللغة) ليس مراده أبدا المجاز بحسب الاصطلاح المتأخر الذي يقسم الكلام إلى حقيقة ومجاز (لاسيما) يعني ويدلك على أن الأئمة إذا قالوا: هذا من مجاز اللغة فليس مرادهم اصطلاح المجاز المتأخر.
وقد قالوا: إن المجاز يصح نفيه، يعني من الأمور المتقررة أن من الفروق بين الحقيقة والمجاز أن الحقيقة لا يصح نفيها، أما المجاز فإنه يصح نفيه، فإذا قلت: رأيت أسدا يخطب، قال لك قائل: الأسود لا تخطب، فنفيتُ كلامك، قال فكيف يصح حمل الآيات القرآنية على مثل ذلك؟ يعني فكيف نجعل القرآن مجازا؟ ويترتب عليه أنه يجوز نفيه، والقرآن لا يجوز نفي شيء منه، وأنت تعلم أن هذا الاستدلال في أحد المسألتين، وهي مسألة إثبات المجاز في القرآن وهي أخص من مسألة إثبات المجاز في لغة العرب.
قال: (ولا يهولنك) يعني لا يفزعك ولا يخوفك (إطباق المتأخرين عليه) يعني كون المتأخرين يتوسعون في هذا الاستعمال وهذا التقسيم للغة وللكلام إلى حقيقة ومجاز (فإنهم) يعني فإن المتأخرين (قد أطبقوا على ما هو شر من المجاز)، فإن عقائد كثير من المتأخرين مخالفة لعقيدة أهل الإسلام سواء في توحيد الربوبية أو توحيد الأسماء والصفات أو توحيد الألوهية، بل إن كثيرا من المتأخرين لم يسلموا ولم يؤمنوا بتوحيد الألوهية مع كونه أصل دين الإسلام، ولذلك نجد بعض هؤلاء يتوسل إلى بعض المقبورين ويتقرب إليهم ويعبدهم من دون الله ويذبح لهم ويصلي لهم ويسجد لهم، وهذه كلها من الأمور المضادة لأصل توحيد الألوهية.
فإطباق المتأخرين عليه واتفاقهم عليه لا يدل علي صحته، وإنما المعول عليه في إثبات الأحكام وفي نفيها هو الأدلة الشرعية واستعمال أهل اللغة، ولا يوجد دليل شرعي يقسم الكلام إلى حقيقة ومجاز كما لا يوجد في كلام العرب الأوائل وأئمة النحاة الأوائل من يقسم الكلام إلى حقيقة ومجاز، وابن القيم رحمه الله تعالى -وابن القيم معلوم بأنه تلميذ شيخ الإسلام ابن تيمية - والقيم بمعنى المدير مدير المدرسة ونحوه، وذلك لأن والده كان قَيِّمًا على مدرسة الجوزية، ولذلك يقال: ابن قيم الجوزية، الجوزية المدرسة، والقيم بمعنى المدير، ولذلك فإن بعض المؤلفين يقول الأولى أن يقال ابن قيم الجوزية، لأن نظراء المدارس ومُدراءها وقيميها كُثُرٌ، قد عُرِف عن جماعة تسميتهم باسم ابن القيم، فيقال ابن قيم الجوزية تمييزا له وفصلا له عن غيره.
وابن القيم له مؤلفات عديدة ويمتاز بسلاسة أسلوبه، وقد نفع الله بكتبه، ومن مؤلفاته كتاب (الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة) وبيَّن أنهم بنوا طريقهم ومنهجهم على طواغيت أربعة ذكر منها قولهم في أخبار الآحاد، وذكر منها مذهبهم في التأويل، وذكر منها أيضا هذه المسألة وهي مسألة المجاز، وجعل المجاز طاغوتا، والمراد بالطاغوت ما تجاوز به العبد حده، وابن القيم أبطل القول في المجاز في هذا الكتاب من خمسين وجها.
المراد بالوجه الدليل، لأن لفظ الوجه يطلق على ثلاثة معان عند علماء الشريعة: المعنى الأول الدليل كاستعمال المؤلف هنا، والاستعمال الثاني للفظ الوجه طريقة الاستدلال بالدليل، وهو ما نعبر عنه الآن كثيرا بقولنا وجه الدلالة ووجه الاستدلال، والاستعمال الثالث في كلمة وجه هو قول الأصحاب، فإذا وجدت مسألة واختلف فيها الأصحاب ولا يوجد فيها نصوص عن الإمام، فإن أقوال الأصحاب تعتبر وجوها في المذهب.
قال: (وذكر ابن القيم خمسين وجها في بطلان القول بالمجاز) يعني في بطلان تقسيم الكلام إلى حقيقة ومجاز، وكلام الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم في السنة النبوية منزه عن ذلك، وذلك لأن القرآن والسنة كلها حق يجب الإيمان بها، ولا يجوز نفي شيء منها، فدلنا ذلك على أنها ليست من المجاز في شيء.
------------------
منقول
شرح سعد بن ناصر الشثري
نَفْي الـمجـاز بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله، وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. قال المصنف - رحمه الله تعالى-:
نفي المجاز: صرح بنفيه المحققون، ولم يُحفظ عن أحد من الأئمة القول به، وإنما حدث تقسيم الكلام إلى: حقيقة، ومجاز، بعد القرون المفضلة، فتذرع به الجهمية، والمعتزلة إلى الإلحاد في الصفات.
قال الشيخ: ولم يتكلم الرب به، ولا رسوله، ولا أصحابه، ولا التابعون لهم بإحسان، ومن يتكلم به من أهل اللغة، يقول في بعض الآيات: هذا من مجاز اللغة، ومراده أن هذا مما يجوز في اللغة، لم يرد هذا التقسيم الحادث، لا سيما، وقد قالوا: إن المجاز يصح نفيه، فكيف يصح حمل الآيات القرآنية على مثل ذلك، ولا يهولنّك إطباق المتأخرين عليه، فإنهم قد أطبقوا على ما هو شر منه.
وذكر ابن القيم خمسين وجها في بطلان القول بالمجاز، وكلام الله، وكلام رسوله منزه عن ذلك.
-------------------------------------
نعم، ذكر المؤلف في هذا الفصل ما يتعلق بنفي المجاز، يقسم كثير من المؤلفين في أصول الفقه، وفي مقدمات التفسير، وفي البلاغة الكلام إلى حقيقة ومجاز، ولهم منهجان في حقيقة كل من هذين القسمين: فطائفة تقول: الحقيقة: هي اللفظ المستعمل فيما وضع له أولا، وأن ذات اللفظ يسمى حقيقة. والمجاز: هو اللفظ المستعمل في غير ما وضع له، علي وجه يصح.
وبعضهم يقول: الحقيقة: ليست هي اللفظ، وإنما الحقيقة: هي استعمال اللفظ فيما وضع له أولا. والمجاز: استعمال اللفظ في غير ما وضع له أولا، على وجه يصح. ويمثل لذلك بمثال: كلمة الأسد، في أصل اللغة، يراد بها الحيوان المفترس، المعروف، فإذا قال إنسان: رأيت أسدا يأكل شاة. فالمراد به الحيوان المفترس، وهنا استعمال للفظ الأسد فيما وضع له. وإذا قلت: رأيت أسدا يخطب. فحينئذ لا يمكن أن يراد بهذا اللفظ ما وضع له أولا، وهو الحيوان المفترس، ولكون المراد به: الرجل الشجاع، فهنا استعملنا لفظ الأسد في غير ما وضع له أولا.
ومن أمثلته: استعمال اللفظ وإرادة جزءه، ويمثلون له بقولك: جعلت إصبعي في أذني. فأنت لم تجعل جميع الإصبع، وإنما جعلت طرفه، فحينئذ استعملت لفظ الإصبع، ولم ترد به ما وضع له من الدلالة على جميع الإصبع، وإنما أردت جزءه.
ومن أمثلته: أن تقول: قابلت الغلام العليم. فحال كونه غلاما، لا يكون عليما، وإنما إذا صار كبيرا، أصبح عليما، فهنا استعملنا اللفظ في غير ما وضع له.
وفرقوا بين الحقيقة، والمجاز بعدد من الفروق، منها:
أن الحقيقة لا يجوز نفيها، فإذا قلت: رأيت أسدا يأكل فريسته. لا يصح أن يقال لك: هذا ليس بأسد. أما إذا قلت: رأيت أسدا على المنبر، يوم الجمعة، يخطب. قيل لك: هذا شيخ، عالم، وليس أسدا.
ومن الفروق بينهما، أن الحقيقة لا تحتاج إلى قرينة، لأنها قد استعملت فيما وضعت له، بينما المجاز يحتاج إلى قرينة توضع، لأن المراد به غير الحقيقة.
إذا تقرر لنا شيء من الفروق، بين الحقيقة والمجاز، نقرر: هل يوجد في القرآن مجاز، أو ليس في القرآن مجاز؟ ينسب إلى الأكثرين، ويراد به أكثر المتأخرين، أن القرآن فيه مجاز، ويستدلون على ذلك بما ورد في النصوص، من استعمال ألفاظ في غير ما وضعت له، مثل قوله تعالى: ( وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ ) يعني المراد به: محبة العجل. وقوله سبحانه: ( وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا ) ، يعني أهل القرية.
ويستدلون على ذلك ثانيا، بأن المجاز: استعمال لغوى، والقرآن قد جاء بلغة العرب، فيكون المجاز موجودا فيه. وهذا الاستدلال فيه ضعف بيّن، وذلك لأن القرآن لم يحتوِ على جميع أساليب العرب.
والقول الثاني بنفي المجاز في القرآن، وقد اختاره جماعات من العلماء، منهم: الظاهرية، وبعض المالكية، كابن خويزمنداد، ومحمد بن سعيد البويطي، وبعض الشافعية، واستدلوا على ذلك بأن القرآن يجب الإيمان به، والمجاز يجوز نفيه، والقرآن لا يصح نفي شيء منه، ودل ذلك على أن القرآن ليس فيه مجاز، إذا وجد فيه مجاز، لجاز نفيه، واستدلوا على ذلك أيضا بأن القرآن كله حق، وحينئذ لا يمكن أن يقال فيه ما ليس بحقيقة.
وقد ألف الشيخ محمد الأمين الشنقيطي، صاحب "أضواء البيان" رسالة في منع المجاز في المنزل للتعبد والإعجاز، وأجابوا عن الآيات التي استدل بها أصحاب القول الأول، بأن فيها مجازا بأن قالوا: ليس فيها مجاز، وأجابوا عنها بأجوبة تفصيلية، فقالوا: قوله تعالى: (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ ) ليس المراد مجرد البنيان، فإن لفظ القرية في لغة العرب، يطلق على البنيان وساكنيه، ولذلك إذا لم يوجد في البلد سكان، فإنه لا يقال له قرية، وإنما يقال: هذه أطلال ومساكن، ولا يقال لها قرية. وهكذا أجابوا بإجابات تفصيلية.
إذا تقرر هذا، فهل في لغة العرب مجاز، أو ليس في لغة العرب مجاز؟
أكثر الأصوليين، والبلاغيين على إثبات المجاز في لغة العرب، وقد أثبت المجاز في لغة العرب بعض من نفاه في القرآن، واستدلوا عليه بوجود ذلك في لغة العرب، وفي كلامهم، وحديثهم، وذهب جماعة إلى نفي وجود المجاز في لغة العرب، ومن أشهرهم أبو علي الفارسي، من كبار علماء اللغة، وأبو إسحاق الإسفراييني، من كبار الأصوليين، وقد اختاره شيخ الإسلام، ابن تيمية ، كما ذكر المؤلف، واختاره ابن القيم -رحمه الله-، وخصص له ربع كتاب "الصواعق المرسلة" وجعله من الطواغيت التي يستند إليها أهل العقائد الفاسدة.
واستدلوا على نفي المجاز في لغة العرب، بأن قالوا: إن كون اللفظ مجازا، معناه ترك للحقيقة، ومخالفة للصدق، والواقع، ولا يصح لأهل لغة أن يكون الكذب، وترك الصدق منهجا لهم في لغتهم.
واستدلوا عليه، بأن قالوا بأن تقسيم الألفاظ إلى: حقيقة، ومجاز، لم يوجد في العصور الأُوَل، ولو كان هذا التقسيم ثابتا، لتكلم به السلف، وتكلم به أهل اللغة، ولانتشر بينهم، ولعرفوه، ولكن هذا لم يوجد.
وإذا تأمل الإنسان في كلام شيخ الإسلام، ابن تيمية ، ومن نحا نحوه، من نفي وجود المجاز في اللغة، وقارنه بكلام جمهور الأصوليين، والبلاغيين في إثبات المجاز في لغة العرب، نجد أن من أثبت المجاز، نظر إلى النفي مقررا، فقال: لفظ الأسد في قولنا: رأيت أسدا يأكل فريسته، استعمل في حقيقته، وهو الحيوان المفترس، ومن قال: رأيت أسدا يخطب، استعمله في غير حقيقته، وهو الرجل الشجاع، فيكون مجازا.
شيخ الإسلام ابن تيمية ومن نحا نحوه من نفي وجود المجاز في اللغة وقارنه بكلام جمهور الأصوليين والبلاغيين في إثبات المجاز في لغة العرب نجد أن من أثبتت المجاز نظر إلى اللفظ مفردا فقال: لفظ الأسد في قولنا: رأيت أسدا يأكل فريسته استعمل في حقيقته، وهو الحيوان المفترس، ومن قال رأيت أسدا يخطب استعمله في غير حقيقته، وهو الرجل الشجاع فيكون مجازا، فهم نظروا إلى اللفظ مجردا.
وأما شيخ الإسلام ابن تيمية ومن وافقه فإنهم يقولون: لا يصح لنا أن ننظر إلى الألفاظ مجردة وإنما ننظر إلى الجملة كاملة بدلالة أن العرب تأتي باللفظ المفرد فتضع معه حروف جر أو تضع في سياقه من الأدوات ما يقلب معناه، فأنت تقول ذهبت معه بمعنى رافقته، وذهبت إليه بمعنى أنك وصلت إليه، وذهبت به بمعنى أنك أخذته معك، وذهبت من السوق بمعنى أن السوق كان ابتداء انتقالك وتحركك من مكان إلى مكان، فاختلف باختلاف المتعلق الذي يكون معه.
وكذلك أوضح من هذا نجد أن العرب تستعمل اللفظ الواحد في معان مختلفة لا يدل عليها إلا السياق فتقول: (قال) ما معنى لفظة قال؟ قال بمعنى تكلم، وكذلك قال بمعنى نام القيلولة، من أين نفرق بين اللفظين في المدلول؟ من جهة السياق، فحينئذ قالوا: إن العرب لا تلتفت إلى الكلمة مجردة، وإنما تلتفت إلى السياق كاملا، وحينئذ إذا التفتنا إلى السياق كاملا "أسدا يخطب" لا يمكن أن يُراد به الحيوان المفترس، فيكون هذا من باب الاستعمال الحقيقي، لأن العرب لا يمكن أن تضع أو أن تستند بمثل هذا الإسناد، وتريد به الحيوان المفترس.
وهذا المنهج أصوب من المنهج الأول بالالتفات إلى جميع السياق وجميع الجملة، لأننا إذا وضعنا اللفظ مفردا لم نأخذ منه معنى وحده، ولأن العرب لا يتكلمون باللفظ المفرد الذي ليس معه ألفاظ أخر، سواء كانت هذه الألفاظ مظهرات أو مضمرات، فلا يقولون أسد ويسكتون إلا بتقدير كأن يقولوا: هذا أسد أو نحوه، فحينئذ الصواب أننا ينبغي أن ننظر إلى جميع السياق ولا ننظر إلى اللفظ المفرد، ويدل على ذلك أن السياق يختلف به المعنى، والسياق يترتب عليه العديد من الأحكام.
ويمثلون لتأثير السياق على أخذ الحكم من الألفاظ بما ورد عن الإمام الشافعي والإمام أحمد رحمهما الله أن الإمام أحمد قال: لا يجوز للإنسان أن يبتلع القيء الخارج منه، واستدل على ذلك أن الإمام أحمد رأى أنه لا يجوز للإنسان أن يرجع في هبته، واستدل عليه بقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه ) فقال الإمام الشافعي الكلب لا يحرم عليه العود في قيئه فكذلك العائد في هبته، فقال له الإمام أحمد في بقية الحديث: ( ليس لنا مثل السوء ) فدل ذلك على أننا لا نماثل مثل هذه المخلوقات في هذا الفعل، فكذلك لا نفعل الفعل المشبه به، فهنا التفت الإمام إلى دلالة السياق (ليس لنا مثل السوء )
قال المؤلف: هنا (نفي المجاز) تقدم معنى أن المجاز هو استعمال اللفظ في غير ما وُضِعَ له أولا، ونفيه - يعني نفي القول بإثبات المجاز- فلا يوجد في لغة العرب مجاز، وقد يراد به نفي وجود المجاز في القرآن، قال المؤلف (صرح) المراد بكلمة صرح يعني تكلموا بذلك بلا احتمال، فالصريح من الألفاظ هو الذي لا يوجد معه احتمال يدل على خلاف ذلك التصريح، (صرح بنفيه) يعني ينفي وجود المجاز في لغة العرب (المحققون) وتقدم أن ممن صرح بذلك أبو علي الفارسي وأبو إسحاق الإسفراييني، وشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم.
وقوله (المحققون) يريد به المؤلف مَن حقق المسائل، ورجَّح بين الأقوال باستيعاب أدلة هذه المسائل والنظر في المناقشات والأجوبة الواردة عليها، فعرف الراجح من خلال ذلك، قال: (ولم يُحفظ) يعني لم يُنقل (عن أحد من الأئمة) يعني في العصور الفاضلة مثل الأئمة الأربعة ومن وافقهم في زمانهم كالثوري وإسحاق أو من تقدمهم كالزهري والسفيانين وغيرهم من الأئمة (القول به) يعني إثبات وجود المجاز في لغة العرب أو في القرآن، فلم يُعهد عن أحد من هؤلاء الأئمة أنه قسم اللغة إلى حقيقة ومجاز وهذا كما هو منفي عن أئمة علماء الشرع كذلك هو منفي عن أئمة علماء اللغة، فلا نجد مثل ذلك في كلام الأصمعي ولا كلام الخليل بن أحمد ولا كلام سيبويه.
قال: (وإنما حدث تقسيم الكلام إلى حقيقة ومجاز) يعني إنما وجد هذا التقسيم بعد أن لم يكن موجودا (إلى حقيقة ومجاز بعد القرون المفضلة) يعني بعد العصور والقرون الثلاثة التي وردت النصوص بأنها خير الأمة وأنها أفضل هذه الأمة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( خيركم قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم )
قال: (فتذرع به المعتزلة والجهمية إلى الإلحاد في الصفات) تذرع به يعني جعله المعتزلة والجهمية وسيلة إلى مقصودهم في الإلحاد في الصفات، فذريعةُ الشيء وسيلتُهُ التي يُتوصل إليه من خلالها، والمعتزلة: تقدم أن المراد بهم من اعتزلوا في الأصل مجلس الحسن البصري، وهم يبنون مذهبهم على أصول خمسة: كالتوحيد ويراد به نفي الصفات. والعدل ويراد به نفي القدر. والقول بالمنزلة بين المنزلتين والمراد بذلك أن صاحب الكبيرة في الدنيا ليس مؤمنا ولا كافرا، وإنما هو في منزلة بين المنزلتين وهو في الآخرة مخلد في نار جهنم، وهكذا إلى بقية أصولهم.
والجهمية أتباع جهم بن صفوان، وليُعلَم بأن النسبة إلى أهل هذه البدع يكون باعتماد المنهج الذي يسيرون عليه، فمن كان محكما للنصوص الشرعية في أبواب العقائد والصفات فإنه يكون من أهل السنة والجماعة، فلو قدر أنه خفي عليه نص من نصوص الصفات فلم يثبت الصفة لكونه قد خفي عليه ذلك النص فإننا حينئذ لا نجعله ممن خرج على مذهب أهل السنة والجماعة، ومثال ذلك ابن خزيمة فإنه لما جاء في حديث الصورة نهج منهجا مخالفا لأهل السنة، لكن ابن خزيمة سائر على منهج علماء الإسلام من تحكيم نصوص الوحيين: الكتاب والسنة في مباحث العقائد والصفات.
فكونه لم يصل إليه ذلك اللفظ بطريق صحيح حسبما يراه، سواء كان من جهة الدلالة أو من جهة السند فلم يُثبت الصفة، لذلك فإننا لا ننفي نسبته لأهل السنة والجماعة، لأنه يوافقهم في الأصل، وأما أصحاب المناهج الأخرى والبدع المغايرة لأهل السنة والجماعة فإننا ننظر إلى المنهج الذي اعتمدوه، ولذلك تجد بعضهم يقول في باب الصفات (المرجع إلى العقل) فما أثبته العقل أثبتُّه وما نفاه العقل نفيته، وما سكت عنه اختلفوا فيه على ثلاثة أقوال، فهذا منهج بدعي، وحينئذ نصف صاحبه بانتسابه إلى تلك البدعة.
قال المؤلف: (تذرعوا به إلى الإلحاد في الصفات) الإلحاد كما تقدم الميل عن الحق، (في الصفات) يعني في مباحث صفات الله سبحانه وتعالى، فقالوا بأن هذه الصفات ونصوص الصفات من باب المجاز ولا يراد بها الحقيقة، فمن خلال إثبات وجود المجاز في لغة العرب وفي القرآن الكريم قالوا: إن نصوص الصفات من باب المجاز، وليست من باب الحقيقة، فلما قال تعالى: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ) قالوا: ليس المراد بالاستواء ظاهره، وإنما المراد به الاستيلاء، وهذا من مجاز اللغة، وهذا مجاز، فجاز لنا نفي صفة الاستواء بناء على ذلك.
وأنتم تعلمون أن مثل هذا يعتبر تأويلا باطلا، لعدم قيام الدليل عليه، فليس جحدا للنص الذي وردت الصفة فيه، وأنتم تفرقون بين جحد النص والتكذيب به ورده وبين تأويله، ومن أمثلته أيضا ما ورد في النصوص من أنه سبحانه يتكلم متى شاء، ومن أنه سبحانه وتعالى يسمع الأمور أو المسموعات بعد حصولها ووجودها، ونحو ذلك مما لا يوافق عليه أصحابُ تلك العقائد الفاسدة.
قال المؤلف: (قال الشيخ: ولم يتكلم الرب به) لكن قبل هذا هل إثبات المجاز في اللغة أو في القرآن يلزم أن يكون عليه المثبت ممن ينفي الصفات؟
نقول: لا، لا يلزم فقد يُثبت الإنسان المجاز في اللغة أو في القرآن، ومع ذلك يقول بإثبات الصفات فلا يلزم من إثبات المجاز أن يكون المرء مبتدعا أو صاحب بدعة، لكنه قد يقال فيه إنه أخطأ أو لم يُوفق إلى الصواب في ذلك، فإذا كان خطؤه مع اجتهاده وتحريه للصواب فإنه حينئذ لا يأثم كما هو مقرر، (قال الشيخ) المراد بالشيخ شيخ الإسلام ابن تيمية (ولم يتكلم الرب به) المراد أن الله سبحانه وتعالى لم يتكلم بتقسيم الكلام إلى حقيقة ومجاز، ولم يتكلم الرب بإثبات لفظ المجاز، وكلام الرب صفة من صفاته كما تقدم، ( ولارسوله ولا أصحابه ولا التابعون لهم بإحسان ) يعني أن النبي صلى الله عليه وسلم وأتباعه من خير الأمة لم يثبتوا هذا التقسيم.
ومن تكلم به، يعني من تكلم بلفظ المجاز من أهل اللغة، ومن أمثلة ذلك ما ورد عن الإمام أحمد أنه لما احتج عليه بعض أهل البدع ببعض نصوص القرآن، قال هذا من مجاز اللغة، ومراده بهذا اللفظ (هذا من مجاز اللغة) يعني أن هذا اللفظ أو هذا الاستعمال مما يسوغ في لغة العرب، وهذا القائل: (هذا من مجاز اللغة) ليس مراده أبدا المجاز بحسب الاصطلاح المتأخر الذي يقسم الكلام إلى حقيقة ومجاز (لاسيما) يعني ويدلك على أن الأئمة إذا قالوا: هذا من مجاز اللغة فليس مرادهم اصطلاح المجاز المتأخر.
وقد قالوا: إن المجاز يصح نفيه، يعني من الأمور المتقررة أن من الفروق بين الحقيقة والمجاز أن الحقيقة لا يصح نفيها، أما المجاز فإنه يصح نفيه، فإذا قلت: رأيت أسدا يخطب، قال لك قائل: الأسود لا تخطب، فنفيتُ كلامك، قال فكيف يصح حمل الآيات القرآنية على مثل ذلك؟ يعني فكيف نجعل القرآن مجازا؟ ويترتب عليه أنه يجوز نفيه، والقرآن لا يجوز نفي شيء منه، وأنت تعلم أن هذا الاستدلال في أحد المسألتين، وهي مسألة إثبات المجاز في القرآن وهي أخص من مسألة إثبات المجاز في لغة العرب.
قال: (ولا يهولنك) يعني لا يفزعك ولا يخوفك (إطباق المتأخرين عليه) يعني كون المتأخرين يتوسعون في هذا الاستعمال وهذا التقسيم للغة وللكلام إلى حقيقة ومجاز (فإنهم) يعني فإن المتأخرين (قد أطبقوا على ما هو شر من المجاز)، فإن عقائد كثير من المتأخرين مخالفة لعقيدة أهل الإسلام سواء في توحيد الربوبية أو توحيد الأسماء والصفات أو توحيد الألوهية، بل إن كثيرا من المتأخرين لم يسلموا ولم يؤمنوا بتوحيد الألوهية مع كونه أصل دين الإسلام، ولذلك نجد بعض هؤلاء يتوسل إلى بعض المقبورين ويتقرب إليهم ويعبدهم من دون الله ويذبح لهم ويصلي لهم ويسجد لهم، وهذه كلها من الأمور المضادة لأصل توحيد الألوهية.
فإطباق المتأخرين عليه واتفاقهم عليه لا يدل علي صحته، وإنما المعول عليه في إثبات الأحكام وفي نفيها هو الأدلة الشرعية واستعمال أهل اللغة، ولا يوجد دليل شرعي يقسم الكلام إلى حقيقة ومجاز كما لا يوجد في كلام العرب الأوائل وأئمة النحاة الأوائل من يقسم الكلام إلى حقيقة ومجاز، وابن القيم رحمه الله تعالى -وابن القيم معلوم بأنه تلميذ شيخ الإسلام ابن تيمية - والقيم بمعنى المدير مدير المدرسة ونحوه، وذلك لأن والده كان قَيِّمًا على مدرسة الجوزية، ولذلك يقال: ابن قيم الجوزية، الجوزية المدرسة، والقيم بمعنى المدير، ولذلك فإن بعض المؤلفين يقول الأولى أن يقال ابن قيم الجوزية، لأن نظراء المدارس ومُدراءها وقيميها كُثُرٌ، قد عُرِف عن جماعة تسميتهم باسم ابن القيم، فيقال ابن قيم الجوزية تمييزا له وفصلا له عن غيره.
وابن القيم له مؤلفات عديدة ويمتاز بسلاسة أسلوبه، وقد نفع الله بكتبه، ومن مؤلفاته كتاب (الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة) وبيَّن أنهم بنوا طريقهم ومنهجهم على طواغيت أربعة ذكر منها قولهم في أخبار الآحاد، وذكر منها مذهبهم في التأويل، وذكر منها أيضا هذه المسألة وهي مسألة المجاز، وجعل المجاز طاغوتا، والمراد بالطاغوت ما تجاوز به العبد حده، وابن القيم أبطل القول في المجاز في هذا الكتاب من خمسين وجها.
المراد بالوجه الدليل، لأن لفظ الوجه يطلق على ثلاثة معان عند علماء الشريعة: المعنى الأول الدليل كاستعمال المؤلف هنا، والاستعمال الثاني للفظ الوجه طريقة الاستدلال بالدليل، وهو ما نعبر عنه الآن كثيرا بقولنا وجه الدلالة ووجه الاستدلال، والاستعمال الثالث في كلمة وجه هو قول الأصحاب، فإذا وجدت مسألة واختلف فيها الأصحاب ولا يوجد فيها نصوص عن الإمام، فإن أقوال الأصحاب تعتبر وجوها في المذهب.
قال: (وذكر ابن القيم خمسين وجها في بطلان القول بالمجاز) يعني في بطلان تقسيم الكلام إلى حقيقة ومجاز، وكلام الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم في السنة النبوية منزه عن ذلك، وذلك لأن القرآن والسنة كلها حق يجب الإيمان بها، ولا يجوز نفي شيء منها، فدلنا ذلك على أنها ليست من المجاز في شيء.
------------------
منقول