كيف يُتلى القرآن حقَّ تلاوتهِ
بسم الله الرحمن الرحيم
في خَيْر إذاعة للقرآن في خير دولة عرفها تاريخ المسلمين في القرون الثلاثة الأخيرة (بل القرون العشرة الأخيرة) برنامج بعنوان: (تعليم التّلاوة) يُفْتتح بقول الله تعالى:{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أُوْلَـئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ}[البقرة: 121]، ظنًّا من معلِّم هذا البرنامج أو القائم عليه ومعهما أكثر المشتركين فيه والمستمعين إليه ـ تبعًا ـ أن الالتزام بما سُمِّي (أحكام التجويد) تحقيق لشرع الله في هذه الآية الكريمة. وإنّما أُتِيَ الجميعُ من جهلهم بأقوال المفسرين القدوة واعتمادهم على أنفسهم وفكرهم وهواهم، واتّباع كل ناعق في القول على الله بغير علم، وعدم سؤالهم أهل الذّكر إذ لم يعلموا.
أما المفسرون القدوة في القرون المفضلة فمنهم من قال بأن المقصود بهم: من آمن مِنَ اليهود والنصارى (قتادة، واختاره ابن جرير رحمهما الله)، ومنهم من قال بأن المقصود بهم: مَنْ إذا مرَّ بذكر الجنة سأل الله الجنة وإذا مرَّ بذكر النّار تعوذ بالله من النار. (عمر رضي الله عنه)، ومنهم من قال بأن المقصود بهم: مَنْ يُحِلُّ حلاله ويُحرِّم حرامه ولا يُحَرِّف الكلِم عن مواضعه. (ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهما)، ومنهم من قال: يعملون بمحكمه ويؤمنون بمتشابهه. (الحسن البصري رحمه الله)، وليس منهم من قال بأنهم المتفيهقون بالتَّجويد، وإنّما أُتُوا من قبل تصديقهم ـ دون تثبُّت ـ قول النَّاظم: (والأخذ بالتجويد حتمٌ لازمٌ)، وقد سُئل الشيخ ابن باز رحمه الله (وهو من نوادر من اهتم بمعرفة التجويد من علمائنا الأوائل) عن دعوى مُدَرِّسٍ للتجويد: أن التجويد العمليَّ واجب على كلِّ مسلم ومسلمة مستدلاً بقول الله تعالى: {وَرَتِّلِ القُرْآنَ تَرْتِيلاً} [المزمل: 4]، فأجاب بتاريخ 1415/11/13هـ بقوله: (لا أعلم دليلاً شرعياً يدلُّ على وجوب الالتزام بأحكام التجويد، أمَّا قول الله تعالى: {وَرَتِّلِ القُرْآنَ تَرْتِيلاً} فهو يدل على شرعية التَّمهُّل بالقراءة وعدم العجلة) ويؤيده قول الله تعالى: {وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً} [الفرقان: 32].
وسُئل الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله عن رأيه في تعلُّم التَّجويد والالتزام به فأجاب بقوله في كتاب العلم (ص:171): (لا أرى وجوب الالتزام بأحكام التَّجويد التي فُصِّلت بكتب التجويد، وإنّما أرى أنها من باب تحسين القراءة، وباب التحسين غير باب الالزام…. ولْيُعْلَم أن القول بالوجوب يحتاج إلى دليل تَبْرَأُ به الذِّمَّة أمام الله عزَّ وجلَّ في إلزام عباده بما لا دليل على إلزامهم به من كتاب الله تعالى أو سنّة رسوله صلى الله عليه وسلم أو إجماع المسلمين، وقد ذكر شيخنا عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله في جواب له: أنَّ التجويد حسب القواعد المفصَّلة في كتب التجويد غير واجب. وقد اطّلعت على كلام لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حول حكم التجويد قال فيه (16/50) من مجموع ابن قاسم رحمه الله للفتاوى: (ولا يجعل همَّته فيما حُجب به أكثر النَّاس من العلوم عن حقائق القرآن: إمَّا بالوسوسة في خروج حروفه وترقيقها وتفخيمها وإمالتها والنُّطق بالمدِّ الطّويل والقصير والمتوسط، أو غير ذلك؛ فإن هذا حائل للقلوب قاطع لها عن فهم مراد الرَّبِّ من كلامه).
قلت: وقد كرَّر الشيخ ابن عثيمين رحمه الله هذه الفُتيا عدّة مرّات في (نور على الدّرب ـ إذاعة القرآن الكريم من الرياض)، فهو لا يرى وجوب الالتزام بغير الرسم العثماني والإعراب المألوف وكلاهما لازم لتدبُّر كلام الله تعالى. ولا أرى وجهًا لتحسين القراءة بالإشمام في (تأمنَّا) والإمالة في (مَجراها) والسَّكتة اللطيفة في (مَنْ راق) ونحوها، ولا في القلقلة الكبرى، ولا في التفريق بين المدِّ المتصل والمنفصل (وجوبًا أو جوازًا)، بل كل ذلك ونحوه – كما نُقلَ عن ابن تيمية رحمه الله –: (حائل للقلوب قاطع لها عن فهم مراد الرَّب من كلامه)، بل هو – في رأيي – تَعْسير لما يسَّره الله من كلماته لذكره.
وقال بمثل قول ابن تيمية سَلَفُه ابن الجوزي في (تلبيس إبليس) وخَلَفُه ابن القيم في (إغاثة اللهفان) رحمهم الله جميعًا. ونُقِلَ عن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله كراهته للإدغام والسَّكتات عند حمزة رحمه الله، وعن غيره كراهة الترقيق.
وقال بعض طلبة العلم المتأخرين من المأخوذين باصطلاح الوسطيَّة الجديد بأنَّ الالتزام بأحكام التجويد المحدَثَة غير واجب بل هو نافلة، ولم يَأتُوا بدليل شرعي واحد على مشروعية هذه الأحكام فَرْضاً ولا نفلاً، ولا يجوز أن يُحكم بالوجوب ولا بالنَّفل ولا بالجواز ولا بالإباحة في شيء ممَّا يُتَعَبَّد لله به بغير دليل صريح صحيح، قال الله تعالى: {أَمْ لَـهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَـهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللهُ} [الشورى: 21]؟
وقد يُقبل من أحكام التجويد المحدثة ما يؤيِّده شرع الله في عمومه مثل: الإظهار لأن حرفًا أصليًّا أنزله الله تعالى في كتابه لا بدَّ من التلفُّظ به بقدر استطاعة المسلم وموافقته للغة قومه العربية الفصيحة، وقد تُقبل القلقلة الصغرى لإظهار الحرف الساكن الذي لا يظهر إلا بها بشرط ألا يُبدل السكون بحركة أخرى مثل الكسرة كما يفعل كثير من القراء عند لفظ (قَدْ) و (أبْواب) و (إبْراهيم) فهذا تنطُّع ولَحْنٌ منكر قد يصل إلى التحريف والتبديل عياذًا بالله.
وإن من مكايد الشيطان ومصايده صَدُّ المسلم عن تدبر آيات القرآن الكريم (وهو فرض من فرائض الله) بما دون ذلك من النوافل فضلاً عن شقشقة معلِّم هذا البرنامج (وما يماثله من البرامج في هذه الإذاعة وما دونها من الإذاعات) وتشدُّقه وتفيهقه وتنطعه بالمصطلحات المحدثة مثل: الاستعلاء والاستفال والانطباق والانفتاح والرَّوم والإشمام ونحوها. وإذا جاز تكلف القلقلة لإظهار حرفٍ أنزله الله تعالى بلسان العربِ فكيف يجوز تكلف إخفاء حرف أنزله الله بلسان العرب قوم رسوله؟ لا عجب، فالتكلف والتقليد (بلا دليل) يُبعدان العبد عن الشرع والعقل فيُلزِم نفسه وغيره بعبادة الله بما لم يشرعه الله تقرّباً إليه بالغلو والابتداع والإسراف والانشغال بذلك عن هدى الله تعالى وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم؛ وقال الله تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [ص: 29]، وورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر من علامات الساعة (كثرة القرّاء وقلّة الفقهاء)؛ ونرى اليوم كثرة الحرص على تحفيظ القرآن وتجويده وندرة العمل على تدبره، وحتى يضمن الشيطان صرف طلاب العلم عن التّدبّر إلى الحفظ والتّجويد سوّل لبعض الدّعاة إلى الله صرف اهتمامهم إلى سرعة الحفظ (بين سبعة وعشرين يومًا وستّين يومًا)، وصرف أموال الناس عليه بالباطل.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم ينهَى أصحابه رضي الله عنهم عن قراءة القرآن (فضلاً عن حفظه) في أقل من سبع (عند البخاريِّ) وثلاث (عند غيره) خشية من عدم تدبّره حقّ تدبره فكيف بالتّنافس على سرعة حفظه؟ وحذّر النبي صلى الله عليه وسلم من شباب يحقر الناس قراءتهم عند قراءتهم ولكنّ (قراءتهم للقرآن لا تتجاوز تراقيهم) لأنهم لا يفقهون ما يقرؤون وبالتالي لا يعملون به بل بأهوائهم فيميلون عن السنة ويخرجون على الجماعة والإمامة كما حدث في الماضي والحاضر.
وذكر ابن تيمية رحمه الله من أصناف من يُسيء سماع القرآن [ومثلهم من يسيء تلاوته] قوم يسمعونه ولا يفقهونه [وأنَّى لهم العمل به بل تبليغه] مستدلاًّ بقول الله تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء} [البقرة: 171]. مجموع الفتاوى (16/8 – 12).
وتلاوة القرآن حق تلاوته لا يمكن أن تتحقق إلا بالتأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم وقد تميزت تلاوته كتاب الله الذي أنزله الله على قلبه بأربعٍ ليست أكبرَ هَمِّ المجوِّدين ولا تبرز بين قواعد التجويد المحدَثة:
1 – كانت قراءته مدًّا؛ يمدُّ (بسم الله) ويمدُّ (الرحمن) ويمدُّ (الرحيم).
2 – وكان يترسَّل في قراءته فلو شئت لعددت حروفها حرفًا حرفًا.
3 – وكان يقف على رؤوس الآي كما شرع الله لعباده ولآيات كتابه، ولو تعّلقت الآية بالآية بعدها، ولم يُعرف عنه أنه جمع بين آيتين أو أكثر ولا استعجل الختمة، ولا وقَّتها بليلة (27) مثلاً، لا هو ولا الخلفاء ولا الصحابة.
4 – وكان إذا مرَّ بآية رحمةٍ سأل الله الرحمةَ، وإذا مرَّ بآية عذابٍ استعاذ بالله من العذاب، وإذا مرَّ بآية تسبيح وحمد سبح الله وحمده.
وكان إذا قرأ آية: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى: 1]، قال: «سبحان ربي الأعلى» وإذا قرأ آية: {أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الحَاكِمِينَ} [التين: 8] قال «اللهم فبلى»، ونحو ذلك لا في صلاة الليل وحدها بل مطلقاً بدليل قوله: «آمين» بعد: {وَلَا الضَّالِّينَ} وحثه على قولها في الفريضة.
وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه ومتَّبعي سنَّته. (1428هـ).
المصدر