{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [الحجرات:1]، أي: لما تقولون ولما تتقدمون به، عليم بما تفعلون وعليم بما تقدمتم به، والله تعالى أعلم.
تأتي الآية الكريمة بعدها بأدب آخر في حق النبي صلى الله عليه وسلم، وقد نبهنا سابقاً على أن السورة في مجملها سورة الآداب آداب مع الله آداب مع رسول الله آداب مع نبي الله آداب في حضرته آداب في غيبته آداب معه كربِّ أسرة في حجراته ثم بعد ذلك آداب مع الجماعة الإسلامية، وطوائف المسلمين، ثم آداب الأفراد في حد ذاتهم على ما سيأتي بيانه إن شاء الله؛ فالآية الأولى في بيان الآداب مع الله ورسوله من حيث التشريع والاتباع.
النداء الثاني في الآية الثانية { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ } [الحجرات:2].
في الآية الأولى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } [الحجرات:1]، فوصفه صلى الله عليه وسلم بالرسالة، وفي الآية الثانية وصفه بالنبوة: { لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ } [الحجرات:2].
والحكمة أنه في الموقف الأول عُطِف الرسول على الله سبحانه وتعالى في مجال التشريع وهو منهل واحد، لأنه لا ينطق عن الهوى وإنما يأخذ عن الله، وهذا بجانب الرسالة؛ لأنه يأتي برسالة للأمة، أما الموقف الثاني فهو النبوة، وهو تكريم لشخصه صلى الله عليه وسلم بصفته نبياً بأدبين كريمين: الأول: النهي عن رفع الصوت فوق صوت النبي حتى ولو كان بقراءة القرآن في مجلسه، أو بندائه ودعائه، بل يغض الصوت فلا يرفع صوته على صوت النبي، فلو كان يتحدث بينهم لا يكون صوت أحدهم أرفع من صوت رسول الله، وهذا غاية في الأدب؛ لأن من يرفع صوته عند غيره لا يكون مؤدياً كل واجبات الأدب بل يكون مخلاً بالأدب والاحترام، ونحن نعلم أو نرى المجالس ذات المستويات العالية فلا نجد إنساناً مهما كانت مكانته يرفع صوته على كبير المجلس، وهكذا يأمر الله سبحانه وتعالى الأمة أن تتأدب مع رسول الله في نوعية المحادثة وكيفيتها.
نوع الحديث الذي يطرق مع الرسول صلى الله عليه وسلم :
ثم يأتي الأدب الثاني: { وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ } [الحجرات:2]، يظن بعض الناس أنهما شيءٌ واحد، ولكن الحقيقة أنهما أمران مختلفان، فالأول: في رفع الصوت من حيث هو، ولو كان بتلاوة القرآن، والثاني: نوعية الحديث ما هي؟ حديث أدبي، ديني، اقتصادي، عائلي، ما هو الموضوع؟ { وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ } ، أي: لا تجعلوا أحاديثكم مع رسول الله في الأمور التي تجعلونها بين أنفسكم في خلواتكم؛ لأن الإنسان مع صديقه وزميله قد يتحدث في أمور يستحي أن يجهر بها ويعلنها عند من هم أكبر منه سناً، أو منزلة.
فمثلاً: الأولاد فيما بينهم يتحدثون في أمور بيتهم أو شخصياتهم، فإذا دخل أبوهم غيروا مجرى الحديث، لأنهم لا يريدون أن يسمع الأب ذلك الحديث.
لو كان إنسان في دور الخطوبة والزواج، وجلس مع زملائه الذين سبقوه بالزواج يتحدثون عن آداب الزواج وكيفية المعاشرة وشيء من ذلك، فإذا دخل عليهم رجل كبير ولو لم يكن أب واحد منهم غيروا مجرى الحديث؛ لأن هذا الحديث ينبغي أن يكون سراً وليس جهراً.
إذاً فالمعنى: اجعلوا حديثكم مع رسول الله على مستوى عال من مكارم أخلاق، والتعلم في الدين، والاسترشاد في أمور الدنيا، وليس مما تنزلون بمستواه إلى ما لا تحبون أن يسمعه من هو أعلى منكم سناً أو مرتبة.
ويذكر علماء التفسير أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه كان قادماً إلى بيت رسول الله، فسمع وهو على الباب قبل أن يستأذن امرأة تشتكي من زوجها فيما يكون من شأن الفراش بين الزوجين، فنادى خالد بن سعيد أبا بكر من عند الباب: يا أبا بكر ! ألا تنهى هذه عما تجهر به عند رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لأن الجهر بمثل ذلك لا يليق بالمستوى، مع أنه صلى الله عليه وسلم هو المشرع وهو المرجع في كل صغيرة وكبيرة، ولكن لكل مقام مقال.
أيضاً: المرأة التي سألت رسول الله: يا رسول الله! هل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت؟ فغطت أم سلمة وجهها وقالت: فضحت النساء عند رسول الله؛ سلي بعض زوجاته تسأل لك رسول الله، أي: كيف تجاهرين بهذا مباشرة مع رسول الله؛ لأن الحديث سيأتي بصورة ذهنية عما ذكرته المرأة، فيتصور الإنسان بمخيلته امرأة في فراشها ترى ما يرى الرجل، وهذه الصورة يتأبّى عنها كل أديب وكل ذي خلق كريم، لكنها أدخلتها على ذهنه إجباراً عليه، ومن هنا قالت أم سلمة : فضحت النساء.
هل نهرها صلى الله عليه وسلم؟ لا، لأن عليه البيان، فقال: ( نعم، إن هي رأت الماء ).
هذا أمر تشريعي، أم سلمة استحت منه، ولكن لضرورة التشريع لابد منه، لكن إذا لم يكن الأمر مما يستدعي ذلك، وأرادوا الحديث فلا ينبغي هذا.
ومما جاء أيضاً: أن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان صلى الله عليه وسلم في حجرتي، وكان مضطجعاً وفخذه باد، فاستأذن أبو بكر فأذن له وهو على حالته، ثم استأذن عمر فأذن له وهو على حالته، ثم استأذن عثمان فاعتدل وغطى فخذه وأذن له.
تقول عائشة رضي الله تعالى عنه: فلما خرجوا قلت: يا رسول الله استأذن عليك أبي فأذنت له وأنت على حالك، واستأذنك عمر فأذنت له وأنت على حالك، واستأذنك عثمان فنهضت وسترت فخذك، فلماذا؟ فقال: ( ألا أستحي ممن تستحي منه الملائكة )، هذه ناحية، الجواب الثاني وهو عملي، قال: ( إن عثمان رجل حيي وإني خشيت أن أذنت له على تلك الحال أن لا يبلغ إلي في حاجته ).
انظروا إلى هذا الحال.
الرسول مع أبي بكر و عمر لكن لما علم من عثمان شدة حيائه خشي أن يرى عثمان ذلك فلا يطلب ولا يسأل حاجته، وربما ينصرف، فقابله بما يمكن أن يكون وسيلة أو طريقة لما يصل بها عثمان إلى حاجته.
إذاً: الأقوال أو المجالس أو الأحاديث تتفاوت، ولكل مقام مقال.
لا يجوز التقدم على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم :
فالآية الثانية أدب الأمة مع رسول الله كنبي صلوات الله وسلامه عليه في شخصيته وذاته بعدم رفع الصوت، وبعدم الجهر له بالقول، وإذا كان الأمر كذلك في حياته صلوات الله وسلامه عليه؛ فإننا نأتي إلى التطبيق العملي، من إجماع المسلمين من أن الآيتين يجب تطبيقهما بعد مماته كما طبقتا في حياته صلى الله عليه وسلم.
فالآية الأولى: { لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ } [الحجرات:1]، فلا يجوز التقدم عليه بشيء، والرسول صلى الله عليه وسلم قد قال: ( تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما )، كذلك لا ينبغي لأحد أن يتقدم على سنة رسول الله التي هي مسطَّرة بأيدي العلماء، وموجودة في سجل السنة المشهورة عند الجميع، فلكأنه صلى الله عليه وسلم حيٌ بين أظهرنا بوجود الكتاب والسنة.
وهنا أيضاً: { لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ } [الحجرات:2]، نهى عمر رضي الله تعالى عنه عن رفع الصوت في مسجد رسول الله حتى لا يقع من يرفع صوته في نطاق الآية الكريمة، وسَمِع رجلين يتحدثان في المسجد النبوي بصوت مرتفع، فقال: عليّ بهذين، فأُتي بهما ترعد فرائصهما، فنظر إليهما فقال: أغريبان أنتما، قالا: بلى، من أهل الطائف.
قال: لو كنتما من أهل هذه البلدة لأوجعتكما ضرباً، أترفعان أصواتكما عند رسول الله؟ وهذا بعد موته صلى الله عليه وسلم.
وكان التحديث سابقاً إذا كثر الطلاب وكان الصوت محدوداً أن يُوقف رجال على منتهى الصوت فيسمعون من المحدث ما يقول ويجهرون به ويسمعون من خلفهم، وهكذا ويتم نقل الحديث عن طريق المبلغين كما كان الحال في المبلِّغة المؤذن يرفع صوته بتكبيرات الإمام لكي يُسمع من في مؤخرة المسجد، فقيل لـ مالك : اتخذ مبلغين فإن الحلقة قد زادت، ومن في آخر الحلقة لا يسمع منك؟ فقال: أخشى أن أدخل في قوله سبحانه: { لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ } [الحجرات:2]، مع أن ابن عبد البر بوب في كتابه جامع بيان العلم وفضله: جواز رفع الصوت بالعلم، وذكر قضية إسباغ الوضوء، ونداؤه صلى الله عليه وسلم بأعلى صوته، وبعض الأدلة الأخرى.
الذي يهمنا أن هاتين الآيتين محكمتين إلى اليوم، ويجب تطبيقهما عملياً، سواء من جانب الرسالة أو من جانب النبوة.
ولهذا اتفق العلماء على أن من أراد أن يسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتي إلى الحجرة الشريفة ويستقبل الوجه الكريم، وأن يسلم بصوت ليس فيه ارتفاع وليس همساً بحيث يسمع نفسه، أو يسمع من بجواره، ولا يرفع صوته على صوت رسول الله، ويقول مالك رحمه الله: من ظن أن وفاة رسول الله تنقص منه قدر شعرة فقد كفر بما أنزل على محمد لأن الله سبحانه يخبر عن الشهداء بأنهم أحياء عند ربهم يرزقون، وما الشهداء جميعاً في مشارق الأرض ومغاربها إلا حسنة من حسنات رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأخبر صلى الله عليه وسلم أن الأرض لا تأكل أجساد الأنبياء، وأن الأنبياء أحياء في قبورهم، ولكنهم في حياة برزخية لا يرتقي العقل إلى كيفيتها، ولا إلى إدراك كنهها، كما قال تعالى: { عِنْدَ رَبِّهِمْ } [آل عمران:169]، والذي عند ربنا ليس عندنا، ولا نستطيع أن نتصور أي شيء من ذلك.
وعليه فالآيتان محكمتان مطبقتان، ويجب الالتزام بهما إلى اليوم وإلى ما شاء الله، وبالله تعالى التوفيق.
حبوط الأعمال برفع الصوت عند النبي صلى الله عليه وسلم :
قال الله تعالى: { أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ } [الحجرات:2]، العمل لا يحبطه إلا الردة عياذاً بالله، فمن ارتد عن الإسلام حبط عمله، كما قال الله: { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } [الزمر:65]، وحاشاه أن يشرك، ولكن هذا خطاب للأمة في شخصيته.
فيقول العلماء: مجرد رفع الصوت عند رسول الله لا يحبط العمل، وقد كان ثابت بن قيس وهو خطيب رسول الله ثقيل السمع فكان يرفع صوته عند رسول الله، وله قصة وذلك أنه لما نزلت الآية دخل بيته وقال لزوجته: سمري علي الباب لقد كنت أرفع صوتي عند رسول الله، فقد حبط عملي وأنا من أهل النار، فافتقده رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد يومين، فسأل عنه، فقال جار له: أنا آتيك بخبره، فدخل عليه: يا ثابت أين أنت؟ قد افتقدك رسول الله، لماذا غبت عنه؟ قال: ألم تعلم ما أنزل الله في رفع الصوت عند رسول الله، وأنا رجل جهوري الصوت قد حبط عملي وأنا من أهل النار.
فعاد الرجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بالجواب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( بل هو من أهل الجنة ).
فلما أخبره قال: اكسر الباب، وخرج وأتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم واستشهد وكان من أهل الجنة.
فيقول العلماء: إحباط العمل بأن يرفع صوته وهو يرى أن لنفسه حقاً، أو يرى لنفسه ما يستوجب ذلك، ولربما خطر بباله شيءٌ في شخصية رسول الله بأن يرفع صوته عنده بلا مبالاة، فيكون عندها إحباط العمل.
(وأنتم لا تشعرون): بذلك لأنه أمرٌ خفي ودقيق جداً، ولهذا يقول سبحانه: { لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ } [الحجرات:2]، بما عساه أن يخطر ببال الواحد منكم في حق رسول الله.
وقد سأل رجلٌ مالكاً رحمه الله وقال: أريد أن أحرم من هذا المسجد -والرسول صلى الله عليه وسلم أحرم من ذي الحليفة- فقال له مالك : لا تفعل.
قال: لماذا؟ قال: أخشى عليك الفتنة.
قال: وأي فتنة، إنما هي خطوات أزيدها على ميقات رسول الله.
قال: أخشى أن يخطر في بالك أنك زدت خطوات لم يخطها رسول الله في إحرامه، فتظن أن إحرامك خير من إحرام رسول الله فتفتن في دينك.
وهكذا دقة الملاحظة أيها الإخوة، وبالله تعالى التوفيق.
الكتاب : تفسير سورة الحجرات
المؤلف : عطية بن محمد سالم (المتوفى : 1420
المصدر : المكتبة الشاملة
__________________
تأتي الآية الكريمة بعدها بأدب آخر في حق النبي صلى الله عليه وسلم، وقد نبهنا سابقاً على أن السورة في مجملها سورة الآداب آداب مع الله آداب مع رسول الله آداب مع نبي الله آداب في حضرته آداب في غيبته آداب معه كربِّ أسرة في حجراته ثم بعد ذلك آداب مع الجماعة الإسلامية، وطوائف المسلمين، ثم آداب الأفراد في حد ذاتهم على ما سيأتي بيانه إن شاء الله؛ فالآية الأولى في بيان الآداب مع الله ورسوله من حيث التشريع والاتباع.
النداء الثاني في الآية الثانية { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ } [الحجرات:2].
في الآية الأولى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } [الحجرات:1]، فوصفه صلى الله عليه وسلم بالرسالة، وفي الآية الثانية وصفه بالنبوة: { لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ } [الحجرات:2].
والحكمة أنه في الموقف الأول عُطِف الرسول على الله سبحانه وتعالى في مجال التشريع وهو منهل واحد، لأنه لا ينطق عن الهوى وإنما يأخذ عن الله، وهذا بجانب الرسالة؛ لأنه يأتي برسالة للأمة، أما الموقف الثاني فهو النبوة، وهو تكريم لشخصه صلى الله عليه وسلم بصفته نبياً بأدبين كريمين: الأول: النهي عن رفع الصوت فوق صوت النبي حتى ولو كان بقراءة القرآن في مجلسه، أو بندائه ودعائه، بل يغض الصوت فلا يرفع صوته على صوت النبي، فلو كان يتحدث بينهم لا يكون صوت أحدهم أرفع من صوت رسول الله، وهذا غاية في الأدب؛ لأن من يرفع صوته عند غيره لا يكون مؤدياً كل واجبات الأدب بل يكون مخلاً بالأدب والاحترام، ونحن نعلم أو نرى المجالس ذات المستويات العالية فلا نجد إنساناً مهما كانت مكانته يرفع صوته على كبير المجلس، وهكذا يأمر الله سبحانه وتعالى الأمة أن تتأدب مع رسول الله في نوعية المحادثة وكيفيتها.
نوع الحديث الذي يطرق مع الرسول صلى الله عليه وسلم :
ثم يأتي الأدب الثاني: { وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ } [الحجرات:2]، يظن بعض الناس أنهما شيءٌ واحد، ولكن الحقيقة أنهما أمران مختلفان، فالأول: في رفع الصوت من حيث هو، ولو كان بتلاوة القرآن، والثاني: نوعية الحديث ما هي؟ حديث أدبي، ديني، اقتصادي، عائلي، ما هو الموضوع؟ { وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ } ، أي: لا تجعلوا أحاديثكم مع رسول الله في الأمور التي تجعلونها بين أنفسكم في خلواتكم؛ لأن الإنسان مع صديقه وزميله قد يتحدث في أمور يستحي أن يجهر بها ويعلنها عند من هم أكبر منه سناً، أو منزلة.
فمثلاً: الأولاد فيما بينهم يتحدثون في أمور بيتهم أو شخصياتهم، فإذا دخل أبوهم غيروا مجرى الحديث، لأنهم لا يريدون أن يسمع الأب ذلك الحديث.
لو كان إنسان في دور الخطوبة والزواج، وجلس مع زملائه الذين سبقوه بالزواج يتحدثون عن آداب الزواج وكيفية المعاشرة وشيء من ذلك، فإذا دخل عليهم رجل كبير ولو لم يكن أب واحد منهم غيروا مجرى الحديث؛ لأن هذا الحديث ينبغي أن يكون سراً وليس جهراً.
إذاً فالمعنى: اجعلوا حديثكم مع رسول الله على مستوى عال من مكارم أخلاق، والتعلم في الدين، والاسترشاد في أمور الدنيا، وليس مما تنزلون بمستواه إلى ما لا تحبون أن يسمعه من هو أعلى منكم سناً أو مرتبة.
ويذكر علماء التفسير أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه كان قادماً إلى بيت رسول الله، فسمع وهو على الباب قبل أن يستأذن امرأة تشتكي من زوجها فيما يكون من شأن الفراش بين الزوجين، فنادى خالد بن سعيد أبا بكر من عند الباب: يا أبا بكر ! ألا تنهى هذه عما تجهر به عند رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لأن الجهر بمثل ذلك لا يليق بالمستوى، مع أنه صلى الله عليه وسلم هو المشرع وهو المرجع في كل صغيرة وكبيرة، ولكن لكل مقام مقال.
أيضاً: المرأة التي سألت رسول الله: يا رسول الله! هل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت؟ فغطت أم سلمة وجهها وقالت: فضحت النساء عند رسول الله؛ سلي بعض زوجاته تسأل لك رسول الله، أي: كيف تجاهرين بهذا مباشرة مع رسول الله؛ لأن الحديث سيأتي بصورة ذهنية عما ذكرته المرأة، فيتصور الإنسان بمخيلته امرأة في فراشها ترى ما يرى الرجل، وهذه الصورة يتأبّى عنها كل أديب وكل ذي خلق كريم، لكنها أدخلتها على ذهنه إجباراً عليه، ومن هنا قالت أم سلمة : فضحت النساء.
هل نهرها صلى الله عليه وسلم؟ لا، لأن عليه البيان، فقال: ( نعم، إن هي رأت الماء ).
هذا أمر تشريعي، أم سلمة استحت منه، ولكن لضرورة التشريع لابد منه، لكن إذا لم يكن الأمر مما يستدعي ذلك، وأرادوا الحديث فلا ينبغي هذا.
ومما جاء أيضاً: أن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان صلى الله عليه وسلم في حجرتي، وكان مضطجعاً وفخذه باد، فاستأذن أبو بكر فأذن له وهو على حالته، ثم استأذن عمر فأذن له وهو على حالته، ثم استأذن عثمان فاعتدل وغطى فخذه وأذن له.
تقول عائشة رضي الله تعالى عنه: فلما خرجوا قلت: يا رسول الله استأذن عليك أبي فأذنت له وأنت على حالك، واستأذنك عمر فأذنت له وأنت على حالك، واستأذنك عثمان فنهضت وسترت فخذك، فلماذا؟ فقال: ( ألا أستحي ممن تستحي منه الملائكة )، هذه ناحية، الجواب الثاني وهو عملي، قال: ( إن عثمان رجل حيي وإني خشيت أن أذنت له على تلك الحال أن لا يبلغ إلي في حاجته ).
انظروا إلى هذا الحال.
الرسول مع أبي بكر و عمر لكن لما علم من عثمان شدة حيائه خشي أن يرى عثمان ذلك فلا يطلب ولا يسأل حاجته، وربما ينصرف، فقابله بما يمكن أن يكون وسيلة أو طريقة لما يصل بها عثمان إلى حاجته.
إذاً: الأقوال أو المجالس أو الأحاديث تتفاوت، ولكل مقام مقال.
لا يجوز التقدم على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم :
فالآية الثانية أدب الأمة مع رسول الله كنبي صلوات الله وسلامه عليه في شخصيته وذاته بعدم رفع الصوت، وبعدم الجهر له بالقول، وإذا كان الأمر كذلك في حياته صلوات الله وسلامه عليه؛ فإننا نأتي إلى التطبيق العملي، من إجماع المسلمين من أن الآيتين يجب تطبيقهما بعد مماته كما طبقتا في حياته صلى الله عليه وسلم.
فالآية الأولى: { لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ } [الحجرات:1]، فلا يجوز التقدم عليه بشيء، والرسول صلى الله عليه وسلم قد قال: ( تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما )، كذلك لا ينبغي لأحد أن يتقدم على سنة رسول الله التي هي مسطَّرة بأيدي العلماء، وموجودة في سجل السنة المشهورة عند الجميع، فلكأنه صلى الله عليه وسلم حيٌ بين أظهرنا بوجود الكتاب والسنة.
وهنا أيضاً: { لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ } [الحجرات:2]، نهى عمر رضي الله تعالى عنه عن رفع الصوت في مسجد رسول الله حتى لا يقع من يرفع صوته في نطاق الآية الكريمة، وسَمِع رجلين يتحدثان في المسجد النبوي بصوت مرتفع، فقال: عليّ بهذين، فأُتي بهما ترعد فرائصهما، فنظر إليهما فقال: أغريبان أنتما، قالا: بلى، من أهل الطائف.
قال: لو كنتما من أهل هذه البلدة لأوجعتكما ضرباً، أترفعان أصواتكما عند رسول الله؟ وهذا بعد موته صلى الله عليه وسلم.
وكان التحديث سابقاً إذا كثر الطلاب وكان الصوت محدوداً أن يُوقف رجال على منتهى الصوت فيسمعون من المحدث ما يقول ويجهرون به ويسمعون من خلفهم، وهكذا ويتم نقل الحديث عن طريق المبلغين كما كان الحال في المبلِّغة المؤذن يرفع صوته بتكبيرات الإمام لكي يُسمع من في مؤخرة المسجد، فقيل لـ مالك : اتخذ مبلغين فإن الحلقة قد زادت، ومن في آخر الحلقة لا يسمع منك؟ فقال: أخشى أن أدخل في قوله سبحانه: { لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ } [الحجرات:2]، مع أن ابن عبد البر بوب في كتابه جامع بيان العلم وفضله: جواز رفع الصوت بالعلم، وذكر قضية إسباغ الوضوء، ونداؤه صلى الله عليه وسلم بأعلى صوته، وبعض الأدلة الأخرى.
الذي يهمنا أن هاتين الآيتين محكمتين إلى اليوم، ويجب تطبيقهما عملياً، سواء من جانب الرسالة أو من جانب النبوة.
ولهذا اتفق العلماء على أن من أراد أن يسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتي إلى الحجرة الشريفة ويستقبل الوجه الكريم، وأن يسلم بصوت ليس فيه ارتفاع وليس همساً بحيث يسمع نفسه، أو يسمع من بجواره، ولا يرفع صوته على صوت رسول الله، ويقول مالك رحمه الله: من ظن أن وفاة رسول الله تنقص منه قدر شعرة فقد كفر بما أنزل على محمد لأن الله سبحانه يخبر عن الشهداء بأنهم أحياء عند ربهم يرزقون، وما الشهداء جميعاً في مشارق الأرض ومغاربها إلا حسنة من حسنات رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأخبر صلى الله عليه وسلم أن الأرض لا تأكل أجساد الأنبياء، وأن الأنبياء أحياء في قبورهم، ولكنهم في حياة برزخية لا يرتقي العقل إلى كيفيتها، ولا إلى إدراك كنهها، كما قال تعالى: { عِنْدَ رَبِّهِمْ } [آل عمران:169]، والذي عند ربنا ليس عندنا، ولا نستطيع أن نتصور أي شيء من ذلك.
وعليه فالآيتان محكمتان مطبقتان، ويجب الالتزام بهما إلى اليوم وإلى ما شاء الله، وبالله تعالى التوفيق.
حبوط الأعمال برفع الصوت عند النبي صلى الله عليه وسلم :
قال الله تعالى: { أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ } [الحجرات:2]، العمل لا يحبطه إلا الردة عياذاً بالله، فمن ارتد عن الإسلام حبط عمله، كما قال الله: { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } [الزمر:65]، وحاشاه أن يشرك، ولكن هذا خطاب للأمة في شخصيته.
فيقول العلماء: مجرد رفع الصوت عند رسول الله لا يحبط العمل، وقد كان ثابت بن قيس وهو خطيب رسول الله ثقيل السمع فكان يرفع صوته عند رسول الله، وله قصة وذلك أنه لما نزلت الآية دخل بيته وقال لزوجته: سمري علي الباب لقد كنت أرفع صوتي عند رسول الله، فقد حبط عملي وأنا من أهل النار، فافتقده رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد يومين، فسأل عنه، فقال جار له: أنا آتيك بخبره، فدخل عليه: يا ثابت أين أنت؟ قد افتقدك رسول الله، لماذا غبت عنه؟ قال: ألم تعلم ما أنزل الله في رفع الصوت عند رسول الله، وأنا رجل جهوري الصوت قد حبط عملي وأنا من أهل النار.
فعاد الرجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بالجواب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( بل هو من أهل الجنة ).
فلما أخبره قال: اكسر الباب، وخرج وأتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم واستشهد وكان من أهل الجنة.
فيقول العلماء: إحباط العمل بأن يرفع صوته وهو يرى أن لنفسه حقاً، أو يرى لنفسه ما يستوجب ذلك، ولربما خطر بباله شيءٌ في شخصية رسول الله بأن يرفع صوته عنده بلا مبالاة، فيكون عندها إحباط العمل.
(وأنتم لا تشعرون): بذلك لأنه أمرٌ خفي ودقيق جداً، ولهذا يقول سبحانه: { لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ } [الحجرات:2]، بما عساه أن يخطر ببال الواحد منكم في حق رسول الله.
وقد سأل رجلٌ مالكاً رحمه الله وقال: أريد أن أحرم من هذا المسجد -والرسول صلى الله عليه وسلم أحرم من ذي الحليفة- فقال له مالك : لا تفعل.
قال: لماذا؟ قال: أخشى عليك الفتنة.
قال: وأي فتنة، إنما هي خطوات أزيدها على ميقات رسول الله.
قال: أخشى أن يخطر في بالك أنك زدت خطوات لم يخطها رسول الله في إحرامه، فتظن أن إحرامك خير من إحرام رسول الله فتفتن في دينك.
وهكذا دقة الملاحظة أيها الإخوة، وبالله تعالى التوفيق.
الكتاب : تفسير سورة الحجرات
المؤلف : عطية بن محمد سالم (المتوفى : 1420
المصدر : المكتبة الشاملة
__________________