قال الشنقيطي في كتابه مذكرة أصول الفقه " التي هي تعليق وتنقيح وشرح لكتاب روضة الناظر وجنة المناظر لابن قدامة "
وفي كتاب الله محكم ومتشابه إلى آخره اعلم أن بعض الآيات دل على كون القرآن كله محكماً كقوله تعالى " كتاب أحكمت آياته " الآية وغيرها من الآيات وبعضها دل على كونه كله متشابهاً وهو قوله "كتاباً متشابهاً " الآية . ولا معارضة بين الآيات ، لأن معنى كونه كله محكماً هو اتصاف جميعه بالاحكام الذي هو الاتقان لأن جميعه في غاية الاتقان في ألفاظه ومعانيه ،أحكامه عدل وأخباره صدق ، وهو في غاية الفصاحة والاعجاز والسلامة من جميع العيوب ، ومعنى كونه كله متشابهاً ان آياته يشبه بعضها بعضاً في الاعجاز والصدق والعدل والسلامة من جميع العيوب ،ومعنى أن منه آيات محكمات وأخر متشابهات ، اختلف فيه اختلافاً مبنياً على الاختلاف في معنى الواو في قوله :" والراسخون في العلم " فمن قال ان الواو استئنافية والراسخون مبتدأ خبره جملة " يقولون آمنا به " والوقف تام على قوله الا الله ، فانه يفسر المتشابه بأنه ما استأثر الله بعلمه ، وعلى هذا القول أكثر أهل العلم وعليه درجة صاحب المراقي بقوله :
وما به استأثر علم الخالق فذا تشابه عليه أطلق
وهو على هذا القول واضح لأن الضمير في قوله "ومايعلم تأويله إلا الله" راجع إلى ما تشابه منه ، وهو بعينه المتشابه ومن قال بأن الواو عاطفة فانه فسر المتشابه بما يعلمه الراسخون في العلم دون غيرهم كالآيات التي ظاهرها التعارض وهي غير متعارضة في نفس الأمر كقوله :" ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون " وقوله " فيومئذ لا يسألا عن ذنبه انس ولا جان" مع قوله "فوربك لنسألنهن أجمعين " الآية . وقوله " فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين " ونحو ذلك من الآيات .
وقول من قال ان المتشابه القصص والأمثال ، فسر المتشابه بما يشبه بعضه بعضاً لأن قصص الامم الماضية يشبه بعضه بعضاً وكذلك الأمثال ورجح المؤلف رحمه الله ان المتشابه ما استأثر الله بعلمه ، وان الوقف تام على قول الا الله ، أي وما يعلم تأويله الا الله وحده ، بقرائن في الآية ، فمن القرائن المعنوية اللفظية أنه لو أراد عطف الراسخين لقال ويقولون بالواو ، ومن القرائن المعنوية أنه ذم مبتغى التأويل ولو كان ذلك معلوماً للراسخين لكان مبتغيه ممدوحاً لا مذموماً ولأن قولهم آمنا به يدل على نوع تفويض وتسليم لشيء لم يقفوا على معناه لا سيما اذا اتبعوه بقولهم كل من عند ربنا فذكرهم ربهم هنا يعطي الثقة به والتسليم لأمره وأنه من عنده كالمحكم ولأن لفظة (أما) في قوله " فأما الذين في قلوبهم زيغ" لتفصيل الجمل ، فذكره لها في الذين في قلوبهم زيغ مع وصفه اياهم باتباع المتشابه وابتغاء تأويله ، يدل على قسم آخر يخالفهم في هذه الصفة وهم الراسخون ، ولو كانوا يعلمون تأويله لم يخالفوا القسم الأول بابتغاء التأويل .
قال مقيده عفا الله عنه :
مراده أن قوله " فأما الذين في قلوبهم زيغ" الآية يفهم منه ما مضمونه وأما الراسخون في العلم فلا يتبعون ما تشابه منه ولا يبتغون تأويله .
وقول المؤلف رحمه الله في هذا المبحث والصحيح أن المتشابه ما ورد في صفات الله سبحانه وتعالى مما يجب الايمان به ويحرم التعرض لتأويله كقوله تعالى " الرحمن على العرش استوى " إلى آخره لا يخلو من نظر ، لأن آيات الصفات لا يطلق عليها اسم المتشابه بهذا المعنى من غير تفصيل ، لأن معناها معلوم في اللغة العربية وليس متشابهاً ، ولكن كيفية اتصافه جل وعلا بها ليست معلومة للخلق ، وإذا فسرنا المتشابه بأنه هو ما استأثر الله بعلمه دون خلقه كانت كيفية لاتصاف داخلة فيه لا نفس الصفة ، وايضاحه أن الاستوى إذا عدى بعلى معناه في لغة العرب الارتفاع والاعتدال ولكن كيفية اتصافه جل وعلا بهذا المعنى المعروف عند العرب لا يعلمها إلا الله جل وعلا ، كما أوضح هذا التفصيل أمام دار الهجرة مالك ابن أنس تغمده الله برحمته ، بقوله الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول فقوله رحمه الله الاستواء غير مجهول يوضح أن أصل صفة الاستواء ليست من المتشابه وقوله والكيف غير معقول ، يبين أن كيفية الاتصاف تدخل في المتشابه بناء على تفسيره بما استأثر الله تعالى بعلمه كما تقدم ، وهذا التفصيل لابد منه خلافاً لظاهر كلام المؤلف رحمه الله ، وقد بسطنا الكلام بايضاح هذه المسألة في كتابنا أضواء البيان في أول سورة آل عمران والعلم عند الله تعالى ، فان قيل ان فسرنا المتشابه بأنه ما استأثر الله بعلمه فما الحكمة في خطاب الخلق بما لا يفهمونه ، فالجواب ان الله تعالى يمتحن خلقه بما شاء فلا مانع من أن يكلفهم الايمان بما لا يعلمون معناه امتحاناً وابتلاء لهم ، ويدل لهذا الوجه ما ذكره تعالى عن الراسخين في العلم من قولهم " آمنا به كل من عند ربنا " فانهم آمنوا به لأنهم علموا أنه من عند ربهم كالمحكم والله تعالى أعلم .
المحكم والمتشابه
قال المؤلف ـ رحمه الله :ـوفي كتاب الله محكم ومتشابه إلى آخره اعلم أن بعض الآيات دل على كون القرآن كله محكماً كقوله تعالى " كتاب أحكمت آياته " الآية وغيرها من الآيات وبعضها دل على كونه كله متشابهاً وهو قوله "كتاباً متشابهاً " الآية . ولا معارضة بين الآيات ، لأن معنى كونه كله محكماً هو اتصاف جميعه بالاحكام الذي هو الاتقان لأن جميعه في غاية الاتقان في ألفاظه ومعانيه ،أحكامه عدل وأخباره صدق ، وهو في غاية الفصاحة والاعجاز والسلامة من جميع العيوب ، ومعنى كونه كله متشابهاً ان آياته يشبه بعضها بعضاً في الاعجاز والصدق والعدل والسلامة من جميع العيوب ،ومعنى أن منه آيات محكمات وأخر متشابهات ، اختلف فيه اختلافاً مبنياً على الاختلاف في معنى الواو في قوله :" والراسخون في العلم " فمن قال ان الواو استئنافية والراسخون مبتدأ خبره جملة " يقولون آمنا به " والوقف تام على قوله الا الله ، فانه يفسر المتشابه بأنه ما استأثر الله بعلمه ، وعلى هذا القول أكثر أهل العلم وعليه درجة صاحب المراقي بقوله :
وما به استأثر علم الخالق فذا تشابه عليه أطلق
وهو على هذا القول واضح لأن الضمير في قوله "ومايعلم تأويله إلا الله" راجع إلى ما تشابه منه ، وهو بعينه المتشابه ومن قال بأن الواو عاطفة فانه فسر المتشابه بما يعلمه الراسخون في العلم دون غيرهم كالآيات التي ظاهرها التعارض وهي غير متعارضة في نفس الأمر كقوله :" ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون " وقوله " فيومئذ لا يسألا عن ذنبه انس ولا جان" مع قوله "فوربك لنسألنهن أجمعين " الآية . وقوله " فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين " ونحو ذلك من الآيات .
وقول من قال ان المتشابه القصص والأمثال ، فسر المتشابه بما يشبه بعضه بعضاً لأن قصص الامم الماضية يشبه بعضه بعضاً وكذلك الأمثال ورجح المؤلف رحمه الله ان المتشابه ما استأثر الله بعلمه ، وان الوقف تام على قول الا الله ، أي وما يعلم تأويله الا الله وحده ، بقرائن في الآية ، فمن القرائن المعنوية اللفظية أنه لو أراد عطف الراسخين لقال ويقولون بالواو ، ومن القرائن المعنوية أنه ذم مبتغى التأويل ولو كان ذلك معلوماً للراسخين لكان مبتغيه ممدوحاً لا مذموماً ولأن قولهم آمنا به يدل على نوع تفويض وتسليم لشيء لم يقفوا على معناه لا سيما اذا اتبعوه بقولهم كل من عند ربنا فذكرهم ربهم هنا يعطي الثقة به والتسليم لأمره وأنه من عنده كالمحكم ولأن لفظة (أما) في قوله " فأما الذين في قلوبهم زيغ" لتفصيل الجمل ، فذكره لها في الذين في قلوبهم زيغ مع وصفه اياهم باتباع المتشابه وابتغاء تأويله ، يدل على قسم آخر يخالفهم في هذه الصفة وهم الراسخون ، ولو كانوا يعلمون تأويله لم يخالفوا القسم الأول بابتغاء التأويل .
قال مقيده عفا الله عنه :
مراده أن قوله " فأما الذين في قلوبهم زيغ" الآية يفهم منه ما مضمونه وأما الراسخون في العلم فلا يتبعون ما تشابه منه ولا يبتغون تأويله .
وقول المؤلف رحمه الله في هذا المبحث والصحيح أن المتشابه ما ورد في صفات الله سبحانه وتعالى مما يجب الايمان به ويحرم التعرض لتأويله كقوله تعالى " الرحمن على العرش استوى " إلى آخره لا يخلو من نظر ، لأن آيات الصفات لا يطلق عليها اسم المتشابه بهذا المعنى من غير تفصيل ، لأن معناها معلوم في اللغة العربية وليس متشابهاً ، ولكن كيفية اتصافه جل وعلا بها ليست معلومة للخلق ، وإذا فسرنا المتشابه بأنه هو ما استأثر الله بعلمه دون خلقه كانت كيفية لاتصاف داخلة فيه لا نفس الصفة ، وايضاحه أن الاستوى إذا عدى بعلى معناه في لغة العرب الارتفاع والاعتدال ولكن كيفية اتصافه جل وعلا بهذا المعنى المعروف عند العرب لا يعلمها إلا الله جل وعلا ، كما أوضح هذا التفصيل أمام دار الهجرة مالك ابن أنس تغمده الله برحمته ، بقوله الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول فقوله رحمه الله الاستواء غير مجهول يوضح أن أصل صفة الاستواء ليست من المتشابه وقوله والكيف غير معقول ، يبين أن كيفية الاتصاف تدخل في المتشابه بناء على تفسيره بما استأثر الله تعالى بعلمه كما تقدم ، وهذا التفصيل لابد منه خلافاً لظاهر كلام المؤلف رحمه الله ، وقد بسطنا الكلام بايضاح هذه المسألة في كتابنا أضواء البيان في أول سورة آل عمران والعلم عند الله تعالى ، فان قيل ان فسرنا المتشابه بأنه ما استأثر الله بعلمه فما الحكمة في خطاب الخلق بما لا يفهمونه ، فالجواب ان الله تعالى يمتحن خلقه بما شاء فلا مانع من أن يكلفهم الايمان بما لا يعلمون معناه امتحاناً وابتلاء لهم ، ويدل لهذا الوجه ما ذكره تعالى عن الراسخين في العلم من قولهم " آمنا به كل من عند ربنا " فانهم آمنوا به لأنهم علموا أنه من عند ربهم كالمحكم والله تعالى أعلم .