القول الحسن
﴿وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ [الإسراء : 53]
اللسان أداة البيان ، وترجمان القلب والوجدان ، والكلام به يتعارف الناس ويتقاربون ، وبه يتحاجون ويتفاوضون ، ولولاه لما ظهرت ثمرات العقول والمدارك ، ولما تلاقحت الأفكار والمشاعر ، ولما تزايدت العلوم والمعارف ، ولما ترقى الإنسان في درجات أنواع الكمالات ، ولما امتاز على بقية الحيوانات.
فهو رابطة أفراد النوع الإنساني وعشائره وأممه ، وبريد عقله وواسطة تفاهمه . فإذا حسن قويت روابط الألفة ، وتمكّنت أسباب المحبة ، وامتد رواق السلام بين الأفراد والعشائر والأمم ، وتقاربت العقول والقلوب بالتفاهم ، وتشابكت الأيدي على التعاون والتوازر، و جنى العَالَمُ من وراء ذلك تقرر الأمن واطرد العمران . وإذا قبح كان الحال على ضدّ ذلك .
فالكلام السيئ قاطع لأواصر الأخوة ، باعث على البغضاء والنفرة، يبعد بين العقول فتحرم الاسترشاد والاستمداد و التعاون، وبين القلوب فتفقد عواطف المحبة وحنان الرحمة ، وهما أشرف ما تتحلى به القلوب، وإذا بطلت الرحمة والمحبة بطلت الألفة والتعاون ، وحلت القساوة والعداوة، وتبعهما التخاصم والتقاتل ، وفي ذلك كلّ الشرّ لأبناء البشر.
فالمحصل للناس سعادتهم وسلامتهم ، والمبعد لهم عن شقاوتهم وهلاكهم هو القول الحسن ، ولهذا أمر الله تعالى نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يرشد العباد إلى قول التي أحسن فقال تعالى : ﴿ وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾
والعباد المأمورون هنا هم المؤمنون ، لوجهين : الأول أنهم أضيفوا إليه ، وهذه إضافة شرف لا تكون إلا للمؤمنين به . الثاني : أن الذين يخاطبون بهذا الإرشاد ، ويكون منهم الامتثال إنما هم من حصلوا على أصل الإيمان.
والتي هي أحسن : هي الكلمة الطيبة ، والمقالة التي هي أحسن من غيرها ، فيعم ذلك ما يكون من الكلام في التخاطب العادي بين الناس حتى ينادي بعضهم بعضا بأحبّ الأسماء إليه ، وما يكون من البيان العلمي فيختار أسهل العبارات وأقربها للفهم ، حتى لا يحدث الناس بما لا يفهمون فيكون عليهم حديثه فتنة وبلاء ، وما يكون من الكلام في مقام التنازع والخصام فيقتصر على ما يوصله إلى حقه في حدود الموضع المتنازع فيه ، دون إذاية لخصمه ، ولا تعرض لشأن من شؤونه الخاصة به ، وما يكون من باب إقامة الحجة وعرض الأدلّة فيسوقها بأجلى عبارة وأوقعها في النفس ، خالية من السّبّ والقدح ، ومن الغمز والتعريض ، ومن أدنى تلميح إلى شيء قبيح.
وهذا يطالب به المؤمنون سواء كان ذلك فيما بينهم أو بينهم وبين غيرهم ، وقد جاء في الصحيح أنّ رهطا من اليهود دخلوا على النبي - صلى الله عليه وآله سلّم - فقالوا : السام عليكم ، ففهمتها عائشة -رضي الله عنها -، فقالت : وعليكم السام واللعنة . فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : مهلا يا عائشة ! إن الله يحب الرفق في الأمر كلّه . فقالت : ألم تسمع ما قالوا ؟ فقال: قد قلت : وعليكم . فكان الرد عليهم بمثل قولهم بأسلوب العطف على كلامهم ، وهو قوله : وعليكم أحسن من الرد عليهم باللعنة . فقال - صلى الله عليه وسلم - القولة التي هي أحسن ، وهذا هو أدب الإسلام للمسلمين مع جميع الناس.
وأفاد قوله تعالى : (أحسن) بصيغة اسم التفضيل أن علينا أن نتخير في العبارات الحسنة ، فننتقي أحسنها في جميع ما تقدم من أنواع مواقع الكلام. فحاصل هذا التأديب الرباني هو اجتناب الكلام السيئ جملة ، والاقتصار على الحسن ، وانتقاء واختيار الأحسن من بين ذلك الحسن.
وهذا يستلزم استعمال العقل والروية عند كلّ كلمة تقال ولو كلمة واحدة ، فربّ كلمة واحدة أوقدت حربا ، وأهلكت شعبا ، أو شعوبا ، و ربّ كلمة واحدة أنزلت أمنا ، وأنقذت أمة أو أمما.
وقد بين لنا النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - مكانة الكلمة الواحدة من الأثر في قوله : الكلمة الطيبة صدقة ، واتقوا النار ولو بكلمة طيّبة.
و هذا الأدب الإسلامي - وهو التروي عند القول ، واجتناب السيئ ، واختيار الأحسن- ضروري لسعادة العباد و هنائهم . وما كثرت الخلافات ، وتشعبت الخصومات ، وتنافرت المشارب ، وتباعدت المذاهب ، حتى صار المسلم عدوّ المسلم ، والنبي - صلى الله عليه وآله وسلم – يقول : المسلم أخو المسلم ، إلا بتركهم هذا الأدب ، وتركهم للتروّي عند القول ، والتعمّد للسيئ بل للأسوإ في بعض الأحيان .
التحذير من كيد العدو الفتان
﴿ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّاً مُّبِيناً ﴾
نزغ الشيطان : وسوسته ليهيج الشر والفساد . وعداوته باعتقاده البغض ، وسعيه في جلب الشر والضر . وإبانته لعداوته بإعلانه لها كما علمنا القرآن.
وهو يلقي للإنسان كلمة الشر والسوء ، ويهيج غضبه ليقوله ، ويهيج السامع ليقول مثلها ، وهكذا حتى يشتدّ المراء ، ويقع الشر والفساد . ولون آخر من نزغه ، وهو أنه يحسن للمرء قول الكلمة التي يكون فيها احتمال سوء ، ويلح عليه في قولها ، ويبالغ في تحسين الوجه السالم منه ، وفي تهوين أمر وجهها القبيح - حتى يقولها ، فإذا قالها أعاد لسامعه بالنزغ يطمس عنه الوجه السالم منها ، ويكبر له الوجه القبيح ، ولا يزال به يثير نخوته ، ويهيج غضبه ، حتى يثور ، فيقع الشر والفساد بينه وبين صاحبه.
فحذر الله تعالى عباده من كيده حتى يحترسوا منه إذا تكلموا وإذا سمعوا ، فيتباعدون عما فيه احتمال السوء فضلا عن صريحه ، ويحملون الكلام على وجهه الحسن عند احتماله له ، ويتجاوزون عن سيئه الصريح ما أمكن التجاوز .
المحاسنة على الحال والظاهر والتفويض إلى الله في العواقب والسرائر
رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً [الإسراء : 54]
أقوى الأحوال مظنة لكلمة السوء هي حال المناظرة والمجادلة ، وأقرب ما تكون إلى ذلك إذا كان الجدال في أمر الدين والعقيدة . فما أكثر ما يضلل بعضٌ بعضا أو يفسقه أو يكفره فيكون ذلك سببا لزيادة شقة الخلاف اتساعا ، وتمسك كلٍّ برأيه ونفوره من قول خصمه ، دع ما يكون عن ذلك من البغض و الشر . فذكّر الله تعالى عباده بأنه هو العالم ببواطن خلقه وسرائرهم وعواقب أمرهم ، فيرحم من يشاء بحكمته وعدله ، فلا يقطع لأحد أنه من أهل النار لجهل العاقبة ، سواء كان من أهل الكفر ، أو من أهل الفسق ، أو من أهل الابتداع ، كما لا يقطع لأحد بالجنة كذلك ، إلا من جاء نصّ بهم .
فلا يقال للكافر عند دعوته أو مجادلته أنك من أهل النار ، ولكن تذكر الأدلة على بطلان الكفر وسوء عاقبته. ولا يقال للمبتدع : يا ضال ، وإنما تبين البدعة وقبحها . ولا يقال لمرتكب الكبيرة : يا فاسق ، ولكن يبين قبح تلك الكبيرة وضررها وعظم إثمها . فتقبح الرذائل في نفسها ، وتجتنب أشخاص مرتكبيها ، إذْ رُبَّ شخص هو اليوم من أهل الكفر والضلال تكون عاقبته إلى الخير والكمال ، وربّ شخص هو اليوم من أهل الإيمان ينقلب- والعياذ بالله- على عقبه في هاوية الوبال .
وخاطب الله تعالى نبيه - صلى الله عليه وسلم - أنه لم يرسله وكيلا على الخلق ، حفيظا عليهم ، كفيلا بأعمالهم . فما عليه إلا تبليغ الدعوة ونصرة الحق بالحق ، والهداية والدلالة إلى دين الله وصراطه المستقيم . خاطبه بهذا ليؤكد لخلقه ما أمرهم به من قول التي هي أحسن للموافق والمخالف فلا يحملنهم بغض الكفر والمعصية على السوء في القول لأهلهما ، فإنما عليهم تبليغ الحق كما بلغه نبيهم - صلى الله عليه وآله وسلم - ولن يكون أحد أحرص منه على تبليغه ، فحسبهم أن يكونوا على سنته وهديه . أحيانا الله عليهما ، وأماتنا عليهما ، وحشرنا في زمرة أهلهما ، آمين .
﴿وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ [الإسراء : 53]
اللسان أداة البيان ، وترجمان القلب والوجدان ، والكلام به يتعارف الناس ويتقاربون ، وبه يتحاجون ويتفاوضون ، ولولاه لما ظهرت ثمرات العقول والمدارك ، ولما تلاقحت الأفكار والمشاعر ، ولما تزايدت العلوم والمعارف ، ولما ترقى الإنسان في درجات أنواع الكمالات ، ولما امتاز على بقية الحيوانات.
فهو رابطة أفراد النوع الإنساني وعشائره وأممه ، وبريد عقله وواسطة تفاهمه . فإذا حسن قويت روابط الألفة ، وتمكّنت أسباب المحبة ، وامتد رواق السلام بين الأفراد والعشائر والأمم ، وتقاربت العقول والقلوب بالتفاهم ، وتشابكت الأيدي على التعاون والتوازر، و جنى العَالَمُ من وراء ذلك تقرر الأمن واطرد العمران . وإذا قبح كان الحال على ضدّ ذلك .
فالكلام السيئ قاطع لأواصر الأخوة ، باعث على البغضاء والنفرة، يبعد بين العقول فتحرم الاسترشاد والاستمداد و التعاون، وبين القلوب فتفقد عواطف المحبة وحنان الرحمة ، وهما أشرف ما تتحلى به القلوب، وإذا بطلت الرحمة والمحبة بطلت الألفة والتعاون ، وحلت القساوة والعداوة، وتبعهما التخاصم والتقاتل ، وفي ذلك كلّ الشرّ لأبناء البشر.
فالمحصل للناس سعادتهم وسلامتهم ، والمبعد لهم عن شقاوتهم وهلاكهم هو القول الحسن ، ولهذا أمر الله تعالى نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يرشد العباد إلى قول التي أحسن فقال تعالى : ﴿ وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾
والعباد المأمورون هنا هم المؤمنون ، لوجهين : الأول أنهم أضيفوا إليه ، وهذه إضافة شرف لا تكون إلا للمؤمنين به . الثاني : أن الذين يخاطبون بهذا الإرشاد ، ويكون منهم الامتثال إنما هم من حصلوا على أصل الإيمان.
والتي هي أحسن : هي الكلمة الطيبة ، والمقالة التي هي أحسن من غيرها ، فيعم ذلك ما يكون من الكلام في التخاطب العادي بين الناس حتى ينادي بعضهم بعضا بأحبّ الأسماء إليه ، وما يكون من البيان العلمي فيختار أسهل العبارات وأقربها للفهم ، حتى لا يحدث الناس بما لا يفهمون فيكون عليهم حديثه فتنة وبلاء ، وما يكون من الكلام في مقام التنازع والخصام فيقتصر على ما يوصله إلى حقه في حدود الموضع المتنازع فيه ، دون إذاية لخصمه ، ولا تعرض لشأن من شؤونه الخاصة به ، وما يكون من باب إقامة الحجة وعرض الأدلّة فيسوقها بأجلى عبارة وأوقعها في النفس ، خالية من السّبّ والقدح ، ومن الغمز والتعريض ، ومن أدنى تلميح إلى شيء قبيح.
وهذا يطالب به المؤمنون سواء كان ذلك فيما بينهم أو بينهم وبين غيرهم ، وقد جاء في الصحيح أنّ رهطا من اليهود دخلوا على النبي - صلى الله عليه وآله سلّم - فقالوا : السام عليكم ، ففهمتها عائشة -رضي الله عنها -، فقالت : وعليكم السام واللعنة . فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : مهلا يا عائشة ! إن الله يحب الرفق في الأمر كلّه . فقالت : ألم تسمع ما قالوا ؟ فقال: قد قلت : وعليكم . فكان الرد عليهم بمثل قولهم بأسلوب العطف على كلامهم ، وهو قوله : وعليكم أحسن من الرد عليهم باللعنة . فقال - صلى الله عليه وسلم - القولة التي هي أحسن ، وهذا هو أدب الإسلام للمسلمين مع جميع الناس.
وأفاد قوله تعالى : (أحسن) بصيغة اسم التفضيل أن علينا أن نتخير في العبارات الحسنة ، فننتقي أحسنها في جميع ما تقدم من أنواع مواقع الكلام. فحاصل هذا التأديب الرباني هو اجتناب الكلام السيئ جملة ، والاقتصار على الحسن ، وانتقاء واختيار الأحسن من بين ذلك الحسن.
وهذا يستلزم استعمال العقل والروية عند كلّ كلمة تقال ولو كلمة واحدة ، فربّ كلمة واحدة أوقدت حربا ، وأهلكت شعبا ، أو شعوبا ، و ربّ كلمة واحدة أنزلت أمنا ، وأنقذت أمة أو أمما.
وقد بين لنا النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - مكانة الكلمة الواحدة من الأثر في قوله : الكلمة الطيبة صدقة ، واتقوا النار ولو بكلمة طيّبة.
و هذا الأدب الإسلامي - وهو التروي عند القول ، واجتناب السيئ ، واختيار الأحسن- ضروري لسعادة العباد و هنائهم . وما كثرت الخلافات ، وتشعبت الخصومات ، وتنافرت المشارب ، وتباعدت المذاهب ، حتى صار المسلم عدوّ المسلم ، والنبي - صلى الله عليه وآله وسلم – يقول : المسلم أخو المسلم ، إلا بتركهم هذا الأدب ، وتركهم للتروّي عند القول ، والتعمّد للسيئ بل للأسوإ في بعض الأحيان .
التحذير من كيد العدو الفتان
﴿ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّاً مُّبِيناً ﴾
نزغ الشيطان : وسوسته ليهيج الشر والفساد . وعداوته باعتقاده البغض ، وسعيه في جلب الشر والضر . وإبانته لعداوته بإعلانه لها كما علمنا القرآن.
وهو يلقي للإنسان كلمة الشر والسوء ، ويهيج غضبه ليقوله ، ويهيج السامع ليقول مثلها ، وهكذا حتى يشتدّ المراء ، ويقع الشر والفساد . ولون آخر من نزغه ، وهو أنه يحسن للمرء قول الكلمة التي يكون فيها احتمال سوء ، ويلح عليه في قولها ، ويبالغ في تحسين الوجه السالم منه ، وفي تهوين أمر وجهها القبيح - حتى يقولها ، فإذا قالها أعاد لسامعه بالنزغ يطمس عنه الوجه السالم منها ، ويكبر له الوجه القبيح ، ولا يزال به يثير نخوته ، ويهيج غضبه ، حتى يثور ، فيقع الشر والفساد بينه وبين صاحبه.
فحذر الله تعالى عباده من كيده حتى يحترسوا منه إذا تكلموا وإذا سمعوا ، فيتباعدون عما فيه احتمال السوء فضلا عن صريحه ، ويحملون الكلام على وجهه الحسن عند احتماله له ، ويتجاوزون عن سيئه الصريح ما أمكن التجاوز .
المحاسنة على الحال والظاهر والتفويض إلى الله في العواقب والسرائر
رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً [الإسراء : 54]
أقوى الأحوال مظنة لكلمة السوء هي حال المناظرة والمجادلة ، وأقرب ما تكون إلى ذلك إذا كان الجدال في أمر الدين والعقيدة . فما أكثر ما يضلل بعضٌ بعضا أو يفسقه أو يكفره فيكون ذلك سببا لزيادة شقة الخلاف اتساعا ، وتمسك كلٍّ برأيه ونفوره من قول خصمه ، دع ما يكون عن ذلك من البغض و الشر . فذكّر الله تعالى عباده بأنه هو العالم ببواطن خلقه وسرائرهم وعواقب أمرهم ، فيرحم من يشاء بحكمته وعدله ، فلا يقطع لأحد أنه من أهل النار لجهل العاقبة ، سواء كان من أهل الكفر ، أو من أهل الفسق ، أو من أهل الابتداع ، كما لا يقطع لأحد بالجنة كذلك ، إلا من جاء نصّ بهم .
فلا يقال للكافر عند دعوته أو مجادلته أنك من أهل النار ، ولكن تذكر الأدلة على بطلان الكفر وسوء عاقبته. ولا يقال للمبتدع : يا ضال ، وإنما تبين البدعة وقبحها . ولا يقال لمرتكب الكبيرة : يا فاسق ، ولكن يبين قبح تلك الكبيرة وضررها وعظم إثمها . فتقبح الرذائل في نفسها ، وتجتنب أشخاص مرتكبيها ، إذْ رُبَّ شخص هو اليوم من أهل الكفر والضلال تكون عاقبته إلى الخير والكمال ، وربّ شخص هو اليوم من أهل الإيمان ينقلب- والعياذ بالله- على عقبه في هاوية الوبال .
وخاطب الله تعالى نبيه - صلى الله عليه وسلم - أنه لم يرسله وكيلا على الخلق ، حفيظا عليهم ، كفيلا بأعمالهم . فما عليه إلا تبليغ الدعوة ونصرة الحق بالحق ، والهداية والدلالة إلى دين الله وصراطه المستقيم . خاطبه بهذا ليؤكد لخلقه ما أمرهم به من قول التي هي أحسن للموافق والمخالف فلا يحملنهم بغض الكفر والمعصية على السوء في القول لأهلهما ، فإنما عليهم تبليغ الحق كما بلغه نبيهم - صلى الله عليه وآله وسلم - ولن يكون أحد أحرص منه على تبليغه ، فحسبهم أن يكونوا على سنته وهديه . أحيانا الله عليهما ، وأماتنا عليهما ، وحشرنا في زمرة أهلهما ، آمين .
مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير للشيخ عبد الحميد بن باديس ص/ 150-155 . ط1 . وزارة الشؤون الدينية بالجزائر . 1402هـ