'
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مُضل له ومن يُضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
يقول الله تبارك وتعالى: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ}[سورة الشورى/ 49-50]
يقول الإمام العلامة المحقق ابن قيم الجوزية -رحمه الله- في "تحفة المودود" (ص49-50) : (فقسم سبحانه حال الزوجين إلى أربعة أقسام اشتمل عليها الوجود وأخبر أن ما قدره بينهما من الولد فقد وهبهما إياه وكفى بالعبد تعرضاً لمقته أن يتسخط ما وهبه.
وبدأ سبحانه بذكر الإناث، فقيل جبراً لهن لأجل استثقال الوالدين لمكانهن.
وقيل -وهو أحسن- إنما قدمهن لأن سياق الكلام أنه فاعل ما يشاء لا ما يشاء الأبوان فإن الأبوين لا يريدان إلا الذكور غالباً، وهو سبحانه قد أخبر أنه يخلق ما يشاء، فبدأ بذكر الصنف الذي يشاءُ، ولا يريده الأبوان.
وعندي وجه آخر: وهو أنه سبحانه قدم ما كانت تؤخره الجاهلية من أمر البنات حتى كانوا يئدوهن أي هذا النوع المؤخر عندكم مقدم عندي في الذكر.
وتأمل كيف نكر سبحانه الإناث وعرّف الذكور فجبر نقص الأنوثة بالتقديم وجبر نقص التأخير بالتعريف فإن التعريف تنويه كأنه قال : ويهب لمن يشاء الفرسان الأعلام المذكورين الذين لا يخفون عليكم.
ثم لما ذكر الصنفين معاً قدم الذكور إعطاء لكل من الجنسين حقه من التقديم والتأخير والله أعلم بما أراد من ذلك.
والمقصود: أن التسخط بالإناث من أخلاق الجاهلية الذين ذمهم الله تعالى في قوله: {وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون}[النحل 58-59].
وقال: {وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا ظل وجهه مسودا وهو كظيم}[الزخرف 17]، ومن هاهنا عبر بعض المعبِّرين لرجل قال له رأيت كأن وجهي أسود فقال ألك امرأة حامل قال نعم قال تلد لك أنثى) انتهى.
وقال أيضاً-رحمه الله- في "مفتاح دار السعادة" ( 2 / 188 ) : (فذكر أصناف النساء الأربعة مع الرجال:
إحداها: من تلد الإناث فقط.
الثانية: من تلد الذكور فقط.
الثالثة: من تلد الزوجين الذكر والأنثى -وهو معنى التزويج هنا- أي: يجعل ما يهب له زوجين ذكراً أو أنثى.
الرابعة: العقيم التي لا تلد أصلاً) انتهى.
فهذه القسمة التي قدرها الله عزوجل لا يسع العبد المؤمن إلا أن يُسلِّم لها لأنه من الإيمان بالقدر الذي هو سر الله عزوجل يقول ابن القيم في "مفتاح دار السعادة" ( 2 / 263 ) : (أنه سبحانه يُعرِّفُ عِبادَهُ عزَّه في قضائه وقدره ونفوذ مشيئته، وجريان حِكمته، وأنه لا محيص للعبد عما قضاه عليه ولا مفر له منه، بل هو في قبضة مالكه وسيده، وأنه عبده وابن عبده وابن أمته، ناصيته بيده، وماضٍ فيه حكمه، عدلٌ فيه قضائه) انتهى.
فمن تمام عبودية العبد لربه التسليم لقدر الله فلا يخوض في ذلك بأن يقول العبد لِمَ رزق فلان وحرمني، لم أعطى فلان ومنعني وغير هذه الأسئلة، لا يجوز التفكير فيها فضلاً على التلفظ بها، ويعلم العبد علماً يقينياً أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطئه لم يكن ليصيبه، وما شاء الله كان وما لم يشاء الله لم يكن.
ويقول الإمام الحافظ ابن كثير-رحمه الله تعالى- في "تفسير القرآن العظيم" ( 7 / 216 ) : (يخبر تعالى أنه خالق السماوات والأرض ومالكهما والمتصرف فيهما، وأنه ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وأنه يعطي من يشاء، ويمنع من يشاء، ولا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع وأنه يخلق ما يشاء، {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا} أي: يرزقه البنات فقط -قال البغوي: ومنهم لوط عليه الصلاة والسلام-، {وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ} أي: يرزقه البنين فقط -قال البغوي: كإبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام- لم يولد له أنثى، {أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا} أي: ويعطي لمن يشاء من الناس الزوجين الذكر والأنثى، أي: من هذا وهذا، -قال البغوي: كمحمد صلى الله عليه وسلم-،{وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا} أي: لا يولد له -قال البغوي: كيحيى وعيسى عليهما الصلاة والسلام-، فجعل الناس أربعة أقسام:
منهم من يعطيه البنات، ومنهم من يعطيه البنين، ومنهم من يعطيه من النوعين ذكوراً وإناثاً، ومنهم من يمنعه هذا وهذا، فيجعله عقيماً لا نسل له ولا ولد له،{إِنَّهُ عَلِيمٌ} أي: بمن يستحق كل قسم من هذه الأقسام، {قَدِيرٌ} أي: على من يشاء من تفاوت الناس في ذلك.
وهذا المقام شبيه بقوله تبارك وتعالى عن عيسى [عليه الصلاة والسلام]: {ولنجعله آية للناس} أي: دلالة لهم على قدرته تعالى وتقدس، حيث خلق الخلق على أربعة أقسام:
فآدم عليه [الصلاة و]السلام، مخلوق من تراب، لا من ذكر ولا أنثى، وحواء عليها السلام مخلوقة من ذكر بلا أنثى، وسائر الخلق سوى عيسى عليه السلام، من ذكر وأنثى، وعيسى عليه السلام من أنثى بلا ذكر، فتمت الدلالة بخلق عيسى بن مريم عليهما [الصلاة و]السلام ولهذا قال [تعالى]: {ولنجعله آية للناس}، فهذا المقام في الآباء، والمقام الأول في الأبناء، وكل منهما أربعة أقسام فسبحان العليم القدير) انتهى.