قال فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله فى قوله تعالى :{والطور وكتاب مسطور في رق منشور والبيت المعمور والسقف المرفوع والبحر المسجور} هذه أشياء أقسم الله بها.
الأول: الطور وهوالجبل الذي كلم الله عليه موسى بن عمران عليه الصلاة والسلام، فإن الله تعالى كلمه أول ما كلمه على جبل الطور، فكان لهذا الجبل من الشرف والفضل ما سبق به غيره من الجبال.ولهذا أطلق كثير من العلماء أن جبل الطور أفضل الجبال وأشرفها، وعلى هذا يكون أشرف وأفضل من جبل حراء الذي ابتدأ فيه الوحي لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، هذا ظاهر إطلاق كثير من العلماء، ولكن في هذا الظاهر نظراً، لأن جبل حراء كُلِّم منه الرسول عليه الصلاة والسلام لكن كلمه جبريل عليه السلام مرسلاً من عند الله، فمنه ابتدأت أفضل الرسالات على أفضل الرسل، وأيضاً حراء داخل الحرم المكي، لأنه من الحرم الذي لا يحل صيده ولا قطع شجره، وبقعة الحرم أفضل البقاع، ويمكن أن يحمل إطلاق كثير من العلماء على هذا، فيقـال: إلا جبل حراء
{وكتاب مسطور في رق منشور} الكتاب المسطور في الرق، اختلف فيه العلماء، وهذا الخلاف ينبني على كلمة (رق) هل الرق كل ما يكتب فيه من جلد وورق وعظم وحجر وغير ذلك؟ أو هو خاص بما يكتب فيه من جلود ونحوها؟ إن قلنا بالأول صار المراد بالكتاب عدة أشياء، منها اللوح المحفوظ، ومنها الكتب التي بأيدي الملائكة، ومنها القرآن الكريم، ومنها التوراة، فيشمل عدة كتب.
وإذا قلنا إن الرق هوالورق وشبهه مما يكتب فيه عادة، فاللوح المحفوظ لا يدخل في هذا، وإنما المراد به إما التوراة، وإما القرآن.
فالذين قالوا: إنه التوراة رجحوا قولهم بأنه قرن بالطور، والطور هو الذي كلَّم منه موسى عليه الصلاة والسلام، فكان الكتاب المسطور هو التوراة التي جاء بها موسى.
ومن قال: إن المراد به القرآن الكريم رجح ذلك بأن الله ذكر الطور الذي أوحي منه إلى موسى، وذكر الكتاب الذي هو القرآن أوحي إلى محمد صلى الله عليه وسلم ، فيكون الله تبارك وتعالى ذكر أشرف الرسالات في بني إسرائيل إيماء بذكر الطور، وذكر أشرف الرسالات التي بعث بها من بني إسماعيل محمد صلى الله عليه وسلم ، وعلى هذا فيتعين أن يكون المراد بالكتاب المسطور القرآن الكريم .
{منشور } صفة لكتاب، ويحتمل أن تكون صفة لرق، والمعنى واحد، والمراد بالمنشور يعني المفرق الذي يكون بأيدي كل قارىء، وهذا يصدق تماماً على القرآن الكريم، فإنه - ولله الحمد - بين يدي كل قارىء حتى الصغار من المسلمين يقرؤونه،
{والبيت المعمور } هذا هو الثالث مما أقسم الله به في هذه الآيات، وهو بيت في السماء السابعة يقال له: الضراح، هذا البيت يدخله كل يوم سبعون ألف ملك يتعبدون فيه ثم لا يعودون إليه () ،
فبناءً على هذا كم عدد الملائكة؟ لا يحصيهم إلا الله، من يحصي الأيام؟ ثم من يحصي سبعين ألفاً كل يوم يدخلون هذا البيت المعمور ولا يعودون إليه.
وقيل: إن المراد بالبيت المعمور بيت الله في الأرض وهو الكعبة؛ لأنه معمور بالطائفين والعاكفين،والقائمين، والركع السجود، فهل يمكن أن تحمل الآية على المعنيين جميعاً؟ القاعدة في التفسير: أن الآية إذا احتملت معنيين على السواء، وليس بينهما منافاة وجب أن تحمل على كل منهما، لأن المتكلم بها وهو الله - جل وعلا - عالم بما تحتمله من المعاني، وإذا لم يبين أن المراد أحد المعاني فإنه يجب أن تحمل على كل ما تحتمله من المعاني الصحيحة لا المعاني الباطلة، وليس هناك منافاة بين أن يكون المقسم به الكعبة، أو البيت المعمور في السماء، لأن كلا البيتين معظم، ذاك معظم في أهل السماء، وهذا معظم في أهل الأرض، ولا مانع، فالصواب أن الآية شاملة لهذا وهذا، إلا إذا وُجد قرينة ترجح أن المراد به البيت المعمور في السماء {والسقف المرفوع }
ـ أقسم الله تعالى بالسقف المرفوع وهو السماء، قال الله تعالى: {الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها } وقال تعالى: {وجعلنا السماء سقفاً محفوظاً وهم عن ءاياتها معرضون}. فالسماء سقف، والسماء مرفوعة، إذن فالسقف المرفوع هو السماء، وسماه الله سقفاً لأنه قد غمر جميع الأرض من جميع الجوانب، كما يغمر السقف الحجرة من جميع الجوانب، وإنما أقسم الله تعالى بالسماء لما فيها من الآيات العظيمة من نجوم وشمس وقمر، وإحكام وإتقان، قال الله عز وجل: {الذي خلق سبع سماوات طباقًا ما ترى في خلق الرحمـن من تفـوت فارجع البصر هل ترى من فطور ثم ارجع البصر كرتين}. يعني مرة بعد مرة {ينقلب إليك البصر خاسئًا وهو حسير} وأخبر أنه ليست للسماء فروج، وليس فيها تشقق وليس فيها عيب، وليس فيها تصدُّع، ولا تبلى على طول المدة، فهي جديرة بأن يقسم الله بها
{والبحر المسجور } كلمة البحر قيل: إن المراد به البحر الذي عليه عرش الرحمن - عز وجل - كما قال تعالى، {وكان عرشه على الماء}، وقيل: المراد به البحر الذي في الأرض لأنه المشاهد المعلوم الذي فيه من آيات الله ما يبهر العقول.
والصحيح أن المراد به بحر الأرض، لأن (ال) في البحر للعهد الذهني، يعني البحر المعهود الذي تعرفونه، فأقسم الله به لما فيه من آيات الله العظيمة من أسماك وأمواج وغير هذا مما نعلمه وما لا نعلمه، ومن أعظم ما فيه من آيات الله ما أشار إليه تعالى في قوله: {المسجور } يعني الممنوع، ومنه سجرت الكلب يعني ربطته حتى لا يهرب، فالبحر ممنوع بقدرة الله عز وجل، إننا نعلم جميعاً أن الأرض كروية، وهذا البحر لو نظرنا إليه بمقتضى الطبيعة لكان يفيض على الأرض، لأنه لا جدران تمنع، والأرض كروية مثل الكرة فلو نظرنا إلى هذا البحر بمقتضى الطبيعة، لقلنا: لابد أن يفيض على الأرض فيغرقها، ولكن الله تبارك وتعالى أمسكه بقدرته سبحانه وتعالى.
فهو مسجور، أي: ممنوع من أن يفيض على الأرض فيغرق أهلها، وهذه آية من آيات الله، فلو صب فوق الكرة ماء، لذهب يغمرها يميناً وشمالاً، لكن هذا البحر لا يمكن أن يفيض على الأرض بقدرة الله سبحانه وتعالى، وانظر إلى الحكمة تأتي أيام المد والجزر، نفس البحر يمتد امتداداً عظيماً لعدة أمتار وربما أميال، ثم ينحسر، مَن الذي مده؟ ولو شاء لبقي ممتداً حتى يغرق الأرض،ومن الذي رده؟ هو الله.
ولهذا كان هذا البحر جديراً بأن يقسم الله به، وفي البحر آيات عظيمة، يقال: إنه ما من شيء على البر من حيوان وأشجار إلا وله نظير في البحر بل أزيد، لأن البحر بالنسبة لليابس يمثل أكثر من سبعين في المائة، وفيه أشياء لا نرى لها نظيراً في البر، وهذا من آيات الله عز وجل، وأعظم آية في البحر هو أنه مسجور، أي ممنوع من أن يفيض على الأرض فيغرق أهلها.
وقيل: المراد بالمسجور الذي سيسجر، أي: يوقد كما قال الله تعالى: {وإذا البحار سجرت}. أي: أوقدت.
وهذا يكون يوم القيامة، هذا الماء الذي نشاهده الآن والذي لو سقطت فيه جمرة، أو مر على جمرة لأطفأها، يوم القيامة يكون ناراً يسجر، وهذا من آيات الله - عز وجل - والمراد به المعنيان جميعاً؛ لأنه لا منافاة بين هذا وهذا، فكلاهما من آيات الله - عز وجل - أي سواء قلنا المسجور الممنوع من أن يفيض على الأرض، أو المسجور الذي سيسجر أي يوقد، فكل ذلك من آيات الله.
{إن عذاب ربك لواقع } هذا هو جواب القسم، وهذه الجملة مؤكدة بثلاثة مؤكدات: القسم بخمسة أشياء، وإذا كان قسماً بخمسة أشياء صار كأنه أقسم عليها خمس مرات، والثاني: بأن،
والثالث: باللام،
{إن عذاب ربك لواقع } يعني لابد أن يقع عذاب الله الذي وعد به، هذه والله جملة عظيمة مؤثرة، لكنها لا تؤثر إلا على قلب لين كلين الزبد أو أشد، أما القلب القاسي فلا يهتم بها، تمر عليه وكأنه حجارة، وكان عمر - رضي الله عنه - إذا قرأ هذه الآية يمرض حتى يعُاد، يمرض من شدة ما يقع على قلبه من التأثر حتى يُعاد، فإذا كان واقعاً وليس له دافع أليس الجدير بنا أن نخاف؟ بلى والله، هذا هو الجدير، وقوله: {إن عذاب ربك لواقع } يعني لابد أن يقع، ولكن هل هذا التأكيد بالنسبة لعذاب المؤمنين أو لعذاب الكافرين؟ لننظر قال الله تعالى: {سأل سآئل بعذاب واقع للكـافرين ليس له دافع من الله ذي المعارج}. فضم هذه الآية إلى الآية التي في الطور تجد أن قوله: {إن عذاب ربك لواقع ما له من دافع}. على الكافرين، فعذاب الله على الكافرين ليس له دافع، لا أحد يدفعه، لا قبل وقوعه ولا بعد وقوعه، ولهذا لا تنفعهم الشفاعة فيرفع عنهم العذاب، أما عذاب الله للمؤمن المذنب فإن الأصل أنه واقع، كل ذنب توعد الله عليه بالعذاب فالأصل أنه واقع، لكنه مع ذلك قد يرفع بفضل من الله - عز وجل - وقد يرفع بالشفاعة، وقد يرفع بأعمال صالحة تغمر الأعمال السيئة،
أما ترى أن الله يقول: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء }. ألم تعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئاً إلا شفَّعهم الله فيه» () فيرتفع عنه العذاب.
وعلى هذا نقول: عذاب الله واقع على الكافرين لا محالة، ولا دافع له، أما على عصاة المؤمنين فإن الأصل الوقوع، وقد أنذر الله العباد وخوَّفهم، وبيَّن لهم، لكن مع ذلك قد يرتفع بأسباب متعددة .
{إن عذاب ربك لواقع ما له من دافع}، (ما) نافية، و(دافع) مبتدأ مؤخر، دخلت عليها (من) الزائدة للتوكيد، يعني ما من أحد ولو عظمت منزلته وقوته يدفع أو يرفع عذاب الله - عز وجل - لأن (دافع) هنا تشمل المنع قبل الوقوع، والرفع بعد الوقوع، لا أحد يدفع عذاب الله ولا يمنعه عن أن ينزل ولا يرفعه إذا نزل، وإنما ذلك إلى الله وحده، نسأل الله تعالى أن يعاملنا بعفوه، وأن يغفر لنا ما سلف من ذنوبنا وما حضر، إنه على كل شيء قدير.
"أرجو المعذرة على الإطالة , ولكن ليس هناك أفضل من فهم كلام الله ".