الورقات في أصول الفقه
للإمام الجويني
بِسمِ اللَّه الرَّحمَنِ الرَّحِيم
أَما بَعْدُ فَهَذِهِ وَرَقَات تَشْتَمِلُ عَلَى مَعْرِفَةِ فُصُولٍ مَنْ أُصُولِ الْفِقْهِ ، وَذَلِكَ مُؤَلَّف مِنْ جُزْءَيْنِ مُفْرَدَيْنِ ، فالأَصْلُ : ما يُبْنَى عَلَيْهِ غَيْرُهُ ، وَالْفَرْعُ : مَا يُبْنَى عَلَى غَيْرِهِ ، وَالْفِقْهُ : مَعْرِفَةُ الأحكَامِ الشّرْعِيَّةِ الَّتِي طَرِيقُهَا الاجْتِهَادُ .
وَالأحْكَامُ سَبْعَة : الْوَاجِبُ ، وَالمَنْدُوبُ ، والْمُبَاحُ ، والْمَحْظُورُ ، وَالمَكْرُوهُ ، وَالصَّحِيحُ ، وَالْفَاسِدُ .
فَالْوَاجِبُ : مَا يُثَابُ عَلَى فِعْلِهِ ، وَيُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهِ .
وَالْمَنْدُوبُ : مَا يُثَاب عَلَى فِعْلِهِ ، وَلا يُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهِ .
وَالْمَحْظُورُ : مَا يُثَابُ عَلَى تَرْكِهِ وَيُعَاقَبُ عَلَى فِعْلِهِ .
وَالْمُباحُ : مَا لا يُثَابُ عَلَى فِعْلِهِ ، وَلا يُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهِ .
وَالْمَكْرُوهُ : مَا يُثَابُ عَلَى تَرْكِهِ ، وَلا يُعَاقَبُ عَلَى فِعْلِهِ .
وَالصَحِيحُ : مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ النُّفُوذُ وَيُعْتَدُّ بِهِ .
وَالْبَاطِلُ : مَا لا يَتَعَلَّقُ بِهِ النُّفُوذُ وَلا يُعْتَدُّ بِهِ .
وَالْفِقْهُ : أَخَصُّ مِنَ العِلْمِ ، وَالْعِلْمُ : مَعْرِفَةُ الْمَعْلُومِ عَلَى مَا هُوَ بِهِ في الْوَاقِعِ .
وَالْجَهْلُ : تَصَوُّرُ الشَّيْءِ عَلَى خِلافِ مَا هُوَ فِي الْوَاقِعِ .
وَالْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ : مَا لا يَقَعُ عَنْ نَظَرٍ وَاسْتِدْلال .
وَأَمَّا الْعِلْمُ الْمُكْتَسَبُ : فَهُو الْمَوْقُوفُ عَلَى النَّظَرِ وَالاسْتِدْلالِ .
وَالنَّظَرُ : هُوَ الْفِكْرُ فِي الْمَنْظُورِ فِيهِ .
وَالاسْتِدْلالُ : طَلَبُ الدَلِيلِ .
وَالدَّلِيلُ : هُوَ الْمُرْشِدُ إِلَى الْمَطْلُوبِ .
وَالظَّنُّ : تَجْوِيزُ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا أَظْهَرُ مِنَ الآخَرِ .
وَالشَّكُّ : تَجْوِيزُ أَمْرَيْنِ لا مَزِيَّةَ لأحًدِهِمَا عَلَى الآخَرِ .
وَأُصُولُ الْفِقْهِ : طُرُقُهُ عَلَى سَبِيلِ الإِجْمَالِ ، وَكَيْفِيَّةُ الاستِدْلالِ بِهَا .
وأَبْوَابُ أُصولِ الْفِقْهِ : أَقْسَامُ الْكَلامِ ، وَالأَمْرُ وَالنَّهْيُ ، وَالعَامُّ ، وَالخَاصُّ ، وَالمُجْمَلُ وَالْمُبَينُ ، وَالنَّصُّ وَالظَّاهرُ ، وَالأَفْعَالُ ، وَالنَّاسِخُ ، وَالْمَنْسوخُ ، وَالإجْمَاعُ ، وَالأَخْبَارُ ، وَالْقِياسُ ، وَالْحَظْرُ وَالإبَاحَةُ ، وَتَرْتِيبُ الأدَلَّةِ ، وَصِفَةُ الْمُفْتِي وَالْمُسْتَفْتِي ، وَأَحْكَامُ الْمُجْتَهِدينَ .
فَأَقَلُّ مَا يَتَرَكبُ مِنْهُ الْكَلامُ : اسْمَانِ ، أَوْ اسْمٌ وَفِعْل ، أَوْ فِعْلٌ وَحَرْف ، أَوْ اسْمٌ وَحَرْف .
وَالْكَلامُ يَنْقَسِمُ إِلى : أَمْرٍ ، وَنَهْيٍ ، وَخَبَرٍ ، وَاسْتِخْبَارٍ ، وَيَنْقَسِمُ أَيْضاً إِلَى تَمَنٍ ، وَعَرْضٍ ، وَقَسَمٍ .
وَمِنْ وَجْهٍ آخَرَ يَنْقَسِمُ إِلَى حَقِيقَةٍ وَمَجَازٍ .
فَالْحَقِيقَةُ : مَا بَقِيَ فِي الاسْتِعْمَالِ عَلَى مَوْضُوعِهِ . وَقِيلَ : مَا اسْتُعْمِلَ فِيمَا اصْطُلِحَ عَلَيْهِ مِنَ الْمُخَاطَبَةِ .
وَالْمَجَازُ : مَا تُجُوِّزَ بِهِ عَنْ مَوْضُوعِهِ .
وَالْحَقِيقَةُ : إِمَّا لُغَوِيَّةٌ ، وَإِمَّا شَرْعِيَّةٌ ، وَإمَّا عُرْفِيَّةٌ .
وَالْمَجَازُ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ بزِيَادَةٍ ، أَوْ نُقْصَانٍ ، أَوْ نَقْلٍ ، أَوْ اسْتِعَارَةٍ .
فَالْمَجَازُ بِالزِّيَادَةِ مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى : { لَيس كَمِثلهِ شَيءٌ } .
وَالْمَجَازُ بِالنُّقْصَانِ مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى : { وَسئَلِ اَلقَريَةَ } .
وَالْمَجَازُ بِالنقل كَالغَائِطِ فِيمَا يَخْرُجُ مِنَ الإِنْسَانِ .
وَالْمَجَازُ بِالاستِعَارَة كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { جِدَاراً يُرِيدُ أَن ينَقَضَّ } .
وَالأمرُ : اسْتِدْعَاءُ الْفِعْلِ بِالقَوْلِ مِمَّنْ هُوَ دُونَهُ عَلَى سبِيلِ الْوُجُوبِ ، وَالصِّفَةُ الدَّالّةُ عَلَيْهِ : افْعَلْ ، وَهِيَ عِنْدَ الإِطْلاقِ وَالتَّجَرُّدِ عَنِ الْقَرِينَةِ تُحْمَلُ عَلَيْهِ ، إِلا مَا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ المُرَادَ مِنْهُ النَّدْبُ أَوْ الإِبَاحَةُ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ . وَلا يَقْتَضي التَّكْرَارَ عَلَى الصَّحِيحِ إِلا إذا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى قَصْدِ التكْرَارِ ، وَلا يَقْتَضِي الْفَوْرَ ، وَالأمرُ بِإيجَادِ الْفِعْلِ أَمْرٌ بِهِ وَبِمَا لا يَتِمُّ الْفِعْلُ إِلا بِهِ ، كَالأَمْرِ بِالصلَوَاتِ أمْرٌ بِالطَّهَارَةِ الْمُؤَدِّيَةِ إِلْيَهَا وَإِذَا فُعِلَ يَخْرُجُ الْمَأْمُورُ عَنْ الْعُهْدَةِ .
الَّذِي يَدْخُلُ فِي الأمرِ وَالنَّهْي ، وَمَا لا يَدْخُل
يَدْخُلُ فِي خِطَابِ اللَّه تَعَالَى الْمُؤمِنُونَ ؟ وَالسَّاهِي ، وَالصَّبِيُّ ، وَالْمَجْنُونُ غَيْرُ دَاخلِينَ في الْخِطَابِ . وَالكُفَّارُ مُخَاطبُونَ بِفرُوعِ الشَّرَائِعِ ، وَبِمَا لا تَصحُّ إلا بِهِ - وَهُوَ الإِسْلامُ - لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { مَا سَلَككم فِي سَقَرَ قَالوُا لم نَكُ مِن المُصَلِّين } . وَالأَمْرُ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ ، وَالنَّهْيُ عَنِ الشَّيْءٍ أَمْرٌ بِضِدِّهِ .
وَالنهْيُ : اسْتِدْعَاءُ التَّرْكِ بِالْقَوْلِ مِمَّنْ هُوَ دُونَهُ عَلَى سبِيلِ الْوُجُوبِ .
وَتَرِدُ صِيغَةُ الأَمْرِ وَالْمُرَادُ بِهِ الإِبَاحَةُ ، أَوْ التَهْدِيدُ ، أَوْ التَّسْوِيَةُ ، أَوْ التَّكْوِينُ .
الْعامُّ وَالخَاصُّ وَالمجملُ وَالمُبِين وَالنَّصُ وَالظاهر
وَأَمَّا الْعَامُّ : فَهُوَ مَا عَمَّ شيْئَيْنِ فَصَاعِداً مِنْ غَيْرِ حَصْرٍ ، وَأَلْفَاظَهُ أَرْبَعَة : الاسْمُ الْمُعَرّفُ بِالألَفِ وَاللامِ ، وَاسْمُ الْجَمْعِ الْمُعَرَّفُ بِاللامٍ ، وَالأَسْمَاء الْمُبْهَمَةُ كَمَنْ فِيمَنْ يَعْقِلُ ، وَمَا فِيمَا لا يَعْقِلُ ، وَأَيٍّ فِي الْجَمِيع ، وَأَيْنَ فِي الْمَكَانِ ، وَمَتَى فِي الزَّمَانِ ، وَمَا فِي الاسْتِفْهَامِ وَالْجَزَاءِ وَغَيْرِهِ ، وَلا في النَّكِرَاتِ .
وَالْعُمُومُ مِنْ صِفَاتِ النُّطْقِ ، وَلا يَجُوزُ دَعْوَى الْعُمُومِ فِي غَيْرِهِ مِنَ الْفِعْلِ وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ .
وَالْخَاصُّ يُقَابِلُ الْعَامَّ ، وَالتَّخْصِيصُ : تَمْيِيزُ بَعْضِ الْجُمْلَةِ ، وَهُوَ يَنْقَسِمُ إِلَى مُتَّصِلٍ وَمُنْفَصِلٍ ، فَالْمُتَّصِلُ : الاسْتثْنَاءُ ، وَالشَّرْطُ ، وَالتَقْيِيدُ بِالصِّفَةِ .
وَالاسْتِثْنَاءُ : إِخْرَاجُ مَا لَوْلاهُ لَدَخَلَ فِي الكَلامِ ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ الاسْتِثْنَاءُ بِشَرْطِ أَنْ يَبْقَى مِنَ الْمُسْتَثْنى مِنْهُ شَيْءٌ ، وَمِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلاً بِالْكَلامِ ، وَيَجُوزُ تَقْدِيمُ الْمُسْتَثْنى عَلَى الْمُسْتَثْنى مِنْهُ ، وَيَجُوزُ الاسْتِثْنَاءُ مِنَ الجِنْسِ وَمِنْ غَيْرِهِ .
وَالشَّرْطُ يَجُوزُ أَنْ يَتَقَدَّمَ عَلَى الْمَشْرُوطِ .
وَالْمُقَيَّدُ بِالصِّفَةِ يُحملُ عَلَيْهِ الْمُطْلَقُ كَالرَّقَبَةِ قُيِّدَتْ بِالإِيمَان فِي بَعضِ الْمَوَاضعِ فَيُحْمَلُ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ .
وَيَجُوزُ تَخْصِيصُ الْكِتَابِ بِالكَتَابِ ، وَتَخْصِيصُ الكِتَابِ بِالسُّنَّةِ ، وَتَخْصِيصُ السُّنَّةِ بِالكِتَابِ ، وَتَخْصِيصُ السُّنِّةِ بالسُّنَّة ، وَتَخْصِيصُ النُّطْقِ : بِالْقِيَاسِ ، وَنَعْنِي بِالنُّطْقِ : قَوْلَ اللّهِ تَعَالَى وَقَوْلَ الرَّسُولِ صَلَى اللَّهُ عَليهِ وَسلَّم .
وَالمُجْمَلُ : مَا يَفْتَقِرُ إلى الْبَيَانِ .
وَالْبَيَانُ : إخْرَاجُ الشَّيْءِ مِنْ حَيِّزِ الإِشْكَالِ إِلَى حَيِّزِ التَّجَلِّي .
وَالنصُّ : مَا لا يَحْتَمِلُ إِلا مَعْنًى وَاحِداً ، وَقِيلَ : مَا تَأْوِيلُهُ تَنْزِيلُهُ ، وَهُوَ مُشْتَقٌ مِنْ مِنَصَّةِ الْعَرُوسِ ، وَهُوَ الْكُرْسيّ .
وَالظَّاهِرُ : مَا احْتَمَلَ أَمْرَيْنِ : أحَدُهُمَا أَظْهَرُ مِنَ الآخَرِ ، وَيُؤَوَّلُ الظَّاهِرُ بِالدَّلِيلِ ، وَيُسَمَّى ظَاهِراً بِالدَّلِيلِ .
الأفعال
فِعْلُ صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ وَالطَّاعَةِ ، أَوْ لا يَكُونَ ، فَإِنْ دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى الاخْتِصَاصِ بِهِ حُمِلَ عَلَى الاخْتِصَاصِ ، وَإنْ لَمْ يَدُلَّ دَلِيل لا يُخَصُّ بِهِ ، لأنَّ اللّهَ تَعَالَى قَالَ : { لَّقَد كاَنَ لَكُم فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَة } ، فَيُحْمَلُ عَلَى الْوُجُوبِ عِنْدَ بَعْضِ أَصْحَابِنَا ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : يُتَوَقَّفُ فِيهِ ، فَإِنْ كَانَ عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الْقُرْبَةِ وَالطَّاعَةِ فَيُحْمَلُ عَلَى الإِبَاحَةِ .
وَإِقْرَارُ صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ عَلَى الْقَوْلِ هُوَ قَوْلُ صَاحِبِ الشرِيعَةِ ، وَإِقْرَارُهُ عَلَى الْفِعْلِ كَفِعْلِهِ ، وَمَا فُعِلَ فِي وَقْتِهِ فِي غَيْرِ مَجْلِسِهِ وَعَلِمَ بِهِ وَلَمْ يُنْكِرْهُ فحكْمُهُ حُكْمُ مَا فُعِلَ فِي مَجْلِسِهِ .
النسخ
وَأَمَّا النَّسْخُ : فَمَعْنَاهُ الإِزَالَةُ ، يُقَالُ : « نَسَخَتِ الشَّمْسُ الظِّل » ، إِذَا أَزَالَتْهُ ، وَقِيلَ : مَعْنَاهُ النَّقْلُ مِنْ قَوْلِهِمْ : « نَسَخْتُ مَا فِي الْكِتَابِ » ، إِذَا نَقَلْتَهُ بِأَشْكَالِ كِتَابَتِهِ .
وَحَدُّهُ : الْخِطَابُ الدَّالُّ عَلَى رَفْعِ الْحُكْمِ الثَّابتِ بِالْخِطَابِ الْمُتَقَدِّمِ عَلَى وَجْهٍ لَوْلاهُ لَكَانَ ثَابِتاً ، مَعَ تَرَاخِيهِ عَنْهُ . وَيَجُوزُ نَسْخُ الرَّسْمِ وَبَقَاءُ الْحُكْمِ ، وَنَسْخُ الْحُكْمِ وَبَقَاءُ الرَّسْمِ ، وَنَسَخُ الأَمْرَيْنِ مَعاً .
وَيَنْقَسِمُ النَّسْخُ إِلَى : بَدَلٍ ، وَإِلَى غَيْرِ بَدَلٍ ، وَإِلَى مَا هُوَ أَغْلَظُ ، وَإِلَى مَا هُوَ أَخَفُّ .
وَيَجُوزُ نَسْخُ الْكِتَابِ بِالْكِتَابِ ، وَنَسْخُ السُّنَّةِ بِالْكِتَابِ ، وَيَجُوزْ نَسْخُ الْمُتَوَاتِرِ بِالْمُتَوَاتِرِ ، وَنَسْخُ الآَحَادِ بِالآحَادِ وَبِالْمُتَوَاتِرِ ، وَلا يَجُوزُ نَسْخُ الْمُتَوَاتِرِ بالآحادِ .
فصل
إِذَا تَعَارَضَ نُطْقَانِ فَلا يَخْلُو : إِمَّا أَنْ يَكُونَا عَامَّيْنِ ، أَوْ خَاصَّيْنِ ، أَوْ أَحَدُهُما عَامَّاً وَالآخَرُ خَاصَّاً ، أَوْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُما عَامَّا منْ وجْهٍ خَاصَّاً مِنْ وَجْهٍ آخَرَ .
فَإِنْ كَانَا عَامَّيْنِ فَإِنْ أَمْكَنَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا يُجْمَعْ ، فإنْ لَمْ يُمْكِنِ الْجَمْعُ يُتَوَقّفْ فِيهِمَا إِنْ لَم يُعْلَمِ التَارِيخُ ، فَإنْ عُلِمَ التَّارِيخُ نُسِخَ الْمُتَقَدِّمُ بِالْمُتأَخِّرِ ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَا خَاصَّيْنِ ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا عَامَّاً وَالآخَرُ خَاصَّا فَيُخَصُّ الْعَامُّ بِالْخَاصِّ ، وَإِنْ كَان كُلُّ مِنْهُمَا عَامَّاً مِنْ وَجْهِ وَخَاصَّاً مِنْ وَجْهٍ فَيُخَصُّ عُمُومُ كلّ مِنْهُمَا بِخُصُوص الآخَرِ .
الإجماع
وَأَمَّا الإجْمَاعُ فَهُوَ : اتِّفَاقُ عُلَمَاءِ أَهْلِ العَصْرِ عَلَى الْحَادِثَةِ ، وَنَعْنِي بِالْعُلَمَاءِ الْفُقَهَاءَ ، وَنَعْنِي بِالْحَادِثَةَ : الْحَادِثَةَ الشَّرْعِيَّةَ . وَإِجْمَاعُ هَذِهِ الأُمَّةِ حُجَّة دُونَ غَيْرِهَا ؟ لِقَوْلِهِ : « لا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى ضَلالَةٍ » .
وَالشَّرْعُ وَرَدَ بِعِصْمَةِ الأُمَّةِ ، وَالإجْمَاعُ حُجَّة عَلَى الْعَصْرِ الثَّانِي ، وَفِي أَيِّ عَصْرٍ كَانَ ، وَلا يُشْترَطُ فِي حُجِّيَّتِهِ انْقِرَاضُ الْعَصْرِ ، فَإِنْ قُلْنَا : « انْقِرَاضُ الْعَصْرِ شَرْط » ، يُعْتَبَرُ قَوْل مَنْ وُلدَ فِي حَيَاتِهِمْ ، وَتَفَقَّه وَصَارَ مِنْ أَهْلِ الاجْتهَادِ ، وَلَهُمْ - عَلَى هَذَا الْقَوْلِ - أَنْ يَرْجِعُوا عَنْ ذلِكَ الْحُكْمِ ، وَالإجْمَاعُ يَصِحُّ بقَوْلِهِمْ ، وَبِفِعْلِهِمْ ، وَبِقَوْلِ الْبَعْض وَبِفعْلِ الْبَعْضِ وَانتشَارِ ذَلِكَ القَوْلِ أَوِ الْفِعْلِ وَسُكُوتِ الْبَاقِينَ عَلَيْهِ . وَقَوْلُ الْوَاحِدِ مِنْ الصَّحَابَةِ لَيْسَ حُجَّةً عَلَى غَيْرِه ، عَلَى الْقَوْلِ الْجَدِيدِ .
الأخبار
وَأَمَّا الأخبَارُ فَالْخَبَرُ : ما يَدْخُلُهُ الصِّدْقُ وَالْكَذِبُ .
وَالْخَبَرُ يَنْقَسِمُ إِلَى : آحَادٍ ، ومُتَوَاتِرٍ .
فَالْمُتَوَاتِرُ مَا يُوجِبُ الْعِلْمَ ، وَهُوَ : أَنْ يَرْويَهُ جَمَاعَة لا يَقَعُ التَّوَاطُؤُ عَلَى الْكَذِبِ عَنْ مِثْلِهِمْ ، وَهَكَذَا إِلَى أنْ يَنْتَهِيَ إِلَى الْمُخْبَرِ عَنْهُ ، فَيَكُونُ فِي الأصلِ عَنْ مُشَاهَدَةٍ أَوْ سمَاعٍ ، لا عَنِ اجْتِهَادٍ .
وَالآحَادُ - وَهُوَ الَّذِي يُوجِبُ الْعَمَلَ ، وَلا يُوجِبُ الْعِلْمَ ، لاحْتِمَالِ الْخَطَإِ فِيهِ ، وَيَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ : مُرْسَلٍ ، وَمُسْنَدٍ ، فَالْمُسْنَدُ : مَا اتَّصَلَ إِسنَادُهُ ، وَالْمُرْسلُ : مَا لَمْ يَتَّصِلْ إِسْنَادُهُ ، فَإِنْ كَانَ مِنْ مَرَاسيلِ غَيْرِ الصَّحَابَةِ فَلَيْسَ بِحُجَّةٍ ، إِلا مَرَاسيلَ سَعِيدِ بْنِ المُسَيَّبِ فَإنَّها فُتِّشَتْ فَوُجِدَتْ مَسَانِيدَ .
وَالْعَنْعَنَةُ تَدْخُلُ عَلَى الإِسْنَادِ .
وَإِذَا قَرَأَ الشَّيْخُ يَجُوزُ لِلْرَّاوِي أَنْ يَقُولَ حَدَّثَنِي أَوْ أَخْبَرَنِي ، وَإنْ قَرَأَ هُوَ عَلَى الشَّيْخِ فَيَقُولُ : أَخْبَرَنِي . وَلا يَقُولُ حَدَّثَنِي ، وَإِنْ أَجَازَهُ الشَّيْخُ مِنْ غَيْرِ قِرَاءَةٍ فَيَقُولُ الرَّاوِي : أَجَازَنِي ، أوْ أَخْبَرَنِي إِجَازَةً .
القياس
وَأَمَّا الْقِيَاسُ فَهُوَ : رَدُّ الْفَرْعِ إِلَى الأَصْلِ بِعِلّةٍ تَجْمَعُهُمَا فِي الْحُكْمِ .
وَهُوَ يَنْقَسِمُ إِلَى ثَلاثَةِ أقْسَامٍ : إلَى قِيَاسِ عِلّةٍ ، وَقِيَاسِ دَلالَةٍ ، وَقِيَاسِ شَبَهٍ .
فَقِيَاسُ الْعِلَّةِ : مَا كانَتْ الْعِلّةُ فِيهِ مُوجِبَةً لِلْحُكْمِ .
وَقِيَاسُ الدَّلالَةِ : هُوَ الاسْتِدْلالُ بِأَحَدِ النَّظِيرَيْنِ عَلَى الآخَرِ ، وَهُوَ : أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ دَالَّةً عَلَى الْحُكْمِ ، وَلا تَكُونَ مُوجِبَةَ لِلْحُكمِ .
وَقِيَاسُ الشَبَهِ : هُوَ الْفَرْعُ الْمُرَدَّدُ بَيْنَ أَصْلَيْنِ فَيُلْحَقُ بِأَكْثَرِهِمَا شَبَهاً .
وِمِنْ شَرْطِ الْفَرْعِ أَنْ يَكُونَ مُنَاسباً للأصْلِ فِيمَا يُجْمَعُ بِهِ بَيْنَهُمَا لِلْحُكْمِ ، وَمِنْ شَرْطِ الأصلِ أَنْ يَكُونَ ثابِتاً بِدَلِيلٍ مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ ، وَمِنْ شَرْطِ العِلَّةِ أَنْ تطَّرِدَ فِي مَعْلُولاتِهَا فَلا تَنْتَقِضُ لَفْظاً وَلا مَعْنَى ، وَمِنْ شَرْطِ الْحُكْمِ ، أَنْ يَكُونَ مِثْلَ الْعِلَّةِ فِي النَّفْي ، وَالإِثْبَاتِ .
وِالْعِلّةُ : هِيَ الْجَالِبَةُ للحُكْمِ ، وَالحُكْمُ هُوَ الْمَجْلُوبُ لِلْعِلَّةِ .
الحظر والإباحة واستصحاب الحال
وَأَمَّا الْحَظْرُ وَالإِبَاحَةُ فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ : إِنَّ الأَشْيَاءَ عَلَى الحَظَرِ إلا مَا أَبَاحَتْهُ الشَّرِيعَةُ ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فِي الشَّرِيعَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى الإبَاحَةِ فَيُسْتَمْسَكُ بِالأَصْلِ وَهُوَ الحَظْرُ ، ومِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ بِضدِّهِ ، وَهُوَ أَنَّ الأَصْلَ فِي الأَشْيَاءِ الإبَاحَةُ إِلا مَا حَظَرَهُ الشَّرْعُ .
وَمَعْنَى اسْتِصحَابِ الْحَالِ : أَنْ يَسْتَصْحِبَ الأَصْلَ عِنْدَ عَدَمِ الدَلِيلِ الشَّرْعِي .
تعارض الأدلة
وأَمَّا الأَدِلَّةُ فَيُقَدَّمُ الْجَلِيُّ مِنْهَا عَلَى الْخَفِيِّ ، وَالْمُوجِبُ لِلْعِلْمِ عَلَى الْمُوجِبِ لِلْظَنِّ ، وَالنُّطْقُ عَلَى الْقِياسِ ، وَالْقِيَاسُ الْجَلِيُّ عَلَى الْخَفِيِّ ، فَإِنْ وُجِدَ فِي النُّطْقِ مَا يُغَيِّرُ الأصلَ ، وَإِلا فَيُسْتَصْحَبُ الْحَالُ .
المفتي والمستفتي
وَمِنْ شَرْطِ الْمُفْتِي : أَنْ يَكُونَ عَالِماً بِالْفِقْهِ أَصْلاَ وَفَرعاً ، خِلافاً وَمَذْهباً وَأنْ يَكُونَ كَاملَ الآلَةِ في الاجْتِهَادِ ، عَارِفاً بِمَا يَحْتَاجُ إِلَيهِ فِي استِنْبَاطِ الأحكَامِ مِنَ النحْوِ وَاللُّغَةِ ، وَمَعْرِفَةِ الرّجَالِ الرَّاوينَ ، وَتَفْسِيرِ الآيَاتِ الْوَارِدَة فِي الأحكَامِ وَالأَخْبَارِ الْوَارِدِةِ فِيهَا .
وَمِنْ شَرْطِ الْمُسْتَفْتِي أَنْ يَكُون أَهلاً للتقليد فيقلّدُ المفتِي فِي الْفتْيَا .
الاجتهاد والتقليد
وَلَيْسَ لِلْعَالِمِ أَنْ يُقَلِّدَ ، والتَّقْلِيدُ : قَبُولَ قَوْلِ القَائِلِ بِلا حُجَّةٍ ، فَعَلَى هَذَا قَبُولُ قَوْلِ النَّبِيِّ لاَ يُسَمَّى تَقْلِيداً ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : التَقْلِيدُ قَبُولُ قَوْلِ الْقَائِلِ وَأَنْتَ لا تَدْرِي مِنْ أَيْنَ قَالَهُ ، فَإِنْ قُلْنَا إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَليهِ وَسلَّم كَانَ يَقُولُ بِالْقَياسِ ، فَيَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى قَبُولُ قَوْلِهِ تَقْلِيداً .
وَأَمَّا الاجْتِهَادُ فَهُوَ : بَذْلُ الْوُسْعِ فِي بُلُوغِ الْغَرَضِ ، فَالْمُجْتَهِدُ إنْ كَانَ كَامِلَ الآلَةِ فِي الاجْتِهَادِ فَإنْ اجْتَهَدَ فِي الْفُرُوعِ فأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ ، وَإِن اجتَهَدَ فِيهَا وأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ ، وَمِنهُم مَنْ قَالَ : كُلُّ مُجْتَهِدٍ فِي الْفُرُوعِ مُصِيبٌ ، وَلا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : كُل مُجْتَهِدٍ فِي الأُصُولِ الْكَلامِيَّةِ مُصِيباً ، لأَنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى تَصْوِيبِ أَهْلِ الضَّلالَةِ مِنَ النَّصَارَى وَالْمَجُوسِ وَالْكُفارِ ، وَالْمُلْحِدِينَ ، وَدَلِيلُ مَنْ قَالَ : « لَيْسَ كُل مُجْتَهِدٍ فِي الفُرُوعِ مُصِيباً » ، قَوْلُهَُ صَلَّى اللَّهُ عَليهِ وَسلَّم : « مَنِ اجْتَهَدَ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ ، وَمَنِ اجتَهَدَ وَأَخْطَأَ فَلَهُ أجْرٌ وَاحِدٌ » ، وَجْهُ الدَّلِيلِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَليهِ وَسلَّم خَطَّأَ الْمُجْتَهِدَ تَارَةً وَصَوَّبَهُ أُخْرَى .
واللَّه سُبْحَانَه وتَعَالى أعْلَى وَأَعْلَم .
للإمام الجويني
بِسمِ اللَّه الرَّحمَنِ الرَّحِيم
أَما بَعْدُ فَهَذِهِ وَرَقَات تَشْتَمِلُ عَلَى مَعْرِفَةِ فُصُولٍ مَنْ أُصُولِ الْفِقْهِ ، وَذَلِكَ مُؤَلَّف مِنْ جُزْءَيْنِ مُفْرَدَيْنِ ، فالأَصْلُ : ما يُبْنَى عَلَيْهِ غَيْرُهُ ، وَالْفَرْعُ : مَا يُبْنَى عَلَى غَيْرِهِ ، وَالْفِقْهُ : مَعْرِفَةُ الأحكَامِ الشّرْعِيَّةِ الَّتِي طَرِيقُهَا الاجْتِهَادُ .
وَالأحْكَامُ سَبْعَة : الْوَاجِبُ ، وَالمَنْدُوبُ ، والْمُبَاحُ ، والْمَحْظُورُ ، وَالمَكْرُوهُ ، وَالصَّحِيحُ ، وَالْفَاسِدُ .
فَالْوَاجِبُ : مَا يُثَابُ عَلَى فِعْلِهِ ، وَيُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهِ .
وَالْمَنْدُوبُ : مَا يُثَاب عَلَى فِعْلِهِ ، وَلا يُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهِ .
وَالْمَحْظُورُ : مَا يُثَابُ عَلَى تَرْكِهِ وَيُعَاقَبُ عَلَى فِعْلِهِ .
وَالْمُباحُ : مَا لا يُثَابُ عَلَى فِعْلِهِ ، وَلا يُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهِ .
وَالْمَكْرُوهُ : مَا يُثَابُ عَلَى تَرْكِهِ ، وَلا يُعَاقَبُ عَلَى فِعْلِهِ .
وَالصَحِيحُ : مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ النُّفُوذُ وَيُعْتَدُّ بِهِ .
وَالْبَاطِلُ : مَا لا يَتَعَلَّقُ بِهِ النُّفُوذُ وَلا يُعْتَدُّ بِهِ .
وَالْفِقْهُ : أَخَصُّ مِنَ العِلْمِ ، وَالْعِلْمُ : مَعْرِفَةُ الْمَعْلُومِ عَلَى مَا هُوَ بِهِ في الْوَاقِعِ .
وَالْجَهْلُ : تَصَوُّرُ الشَّيْءِ عَلَى خِلافِ مَا هُوَ فِي الْوَاقِعِ .
وَالْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ : مَا لا يَقَعُ عَنْ نَظَرٍ وَاسْتِدْلال .
وَأَمَّا الْعِلْمُ الْمُكْتَسَبُ : فَهُو الْمَوْقُوفُ عَلَى النَّظَرِ وَالاسْتِدْلالِ .
وَالنَّظَرُ : هُوَ الْفِكْرُ فِي الْمَنْظُورِ فِيهِ .
وَالاسْتِدْلالُ : طَلَبُ الدَلِيلِ .
وَالدَّلِيلُ : هُوَ الْمُرْشِدُ إِلَى الْمَطْلُوبِ .
وَالظَّنُّ : تَجْوِيزُ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا أَظْهَرُ مِنَ الآخَرِ .
وَالشَّكُّ : تَجْوِيزُ أَمْرَيْنِ لا مَزِيَّةَ لأحًدِهِمَا عَلَى الآخَرِ .
وَأُصُولُ الْفِقْهِ : طُرُقُهُ عَلَى سَبِيلِ الإِجْمَالِ ، وَكَيْفِيَّةُ الاستِدْلالِ بِهَا .
وأَبْوَابُ أُصولِ الْفِقْهِ : أَقْسَامُ الْكَلامِ ، وَالأَمْرُ وَالنَّهْيُ ، وَالعَامُّ ، وَالخَاصُّ ، وَالمُجْمَلُ وَالْمُبَينُ ، وَالنَّصُّ وَالظَّاهرُ ، وَالأَفْعَالُ ، وَالنَّاسِخُ ، وَالْمَنْسوخُ ، وَالإجْمَاعُ ، وَالأَخْبَارُ ، وَالْقِياسُ ، وَالْحَظْرُ وَالإبَاحَةُ ، وَتَرْتِيبُ الأدَلَّةِ ، وَصِفَةُ الْمُفْتِي وَالْمُسْتَفْتِي ، وَأَحْكَامُ الْمُجْتَهِدينَ .
فَأَقَلُّ مَا يَتَرَكبُ مِنْهُ الْكَلامُ : اسْمَانِ ، أَوْ اسْمٌ وَفِعْل ، أَوْ فِعْلٌ وَحَرْف ، أَوْ اسْمٌ وَحَرْف .
وَالْكَلامُ يَنْقَسِمُ إِلى : أَمْرٍ ، وَنَهْيٍ ، وَخَبَرٍ ، وَاسْتِخْبَارٍ ، وَيَنْقَسِمُ أَيْضاً إِلَى تَمَنٍ ، وَعَرْضٍ ، وَقَسَمٍ .
وَمِنْ وَجْهٍ آخَرَ يَنْقَسِمُ إِلَى حَقِيقَةٍ وَمَجَازٍ .
فَالْحَقِيقَةُ : مَا بَقِيَ فِي الاسْتِعْمَالِ عَلَى مَوْضُوعِهِ . وَقِيلَ : مَا اسْتُعْمِلَ فِيمَا اصْطُلِحَ عَلَيْهِ مِنَ الْمُخَاطَبَةِ .
وَالْمَجَازُ : مَا تُجُوِّزَ بِهِ عَنْ مَوْضُوعِهِ .
وَالْحَقِيقَةُ : إِمَّا لُغَوِيَّةٌ ، وَإِمَّا شَرْعِيَّةٌ ، وَإمَّا عُرْفِيَّةٌ .
وَالْمَجَازُ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ بزِيَادَةٍ ، أَوْ نُقْصَانٍ ، أَوْ نَقْلٍ ، أَوْ اسْتِعَارَةٍ .
فَالْمَجَازُ بِالزِّيَادَةِ مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى : { لَيس كَمِثلهِ شَيءٌ } .
وَالْمَجَازُ بِالنُّقْصَانِ مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى : { وَسئَلِ اَلقَريَةَ } .
وَالْمَجَازُ بِالنقل كَالغَائِطِ فِيمَا يَخْرُجُ مِنَ الإِنْسَانِ .
وَالْمَجَازُ بِالاستِعَارَة كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { جِدَاراً يُرِيدُ أَن ينَقَضَّ } .
وَالأمرُ : اسْتِدْعَاءُ الْفِعْلِ بِالقَوْلِ مِمَّنْ هُوَ دُونَهُ عَلَى سبِيلِ الْوُجُوبِ ، وَالصِّفَةُ الدَّالّةُ عَلَيْهِ : افْعَلْ ، وَهِيَ عِنْدَ الإِطْلاقِ وَالتَّجَرُّدِ عَنِ الْقَرِينَةِ تُحْمَلُ عَلَيْهِ ، إِلا مَا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ المُرَادَ مِنْهُ النَّدْبُ أَوْ الإِبَاحَةُ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ . وَلا يَقْتَضي التَّكْرَارَ عَلَى الصَّحِيحِ إِلا إذا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى قَصْدِ التكْرَارِ ، وَلا يَقْتَضِي الْفَوْرَ ، وَالأمرُ بِإيجَادِ الْفِعْلِ أَمْرٌ بِهِ وَبِمَا لا يَتِمُّ الْفِعْلُ إِلا بِهِ ، كَالأَمْرِ بِالصلَوَاتِ أمْرٌ بِالطَّهَارَةِ الْمُؤَدِّيَةِ إِلْيَهَا وَإِذَا فُعِلَ يَخْرُجُ الْمَأْمُورُ عَنْ الْعُهْدَةِ .
الَّذِي يَدْخُلُ فِي الأمرِ وَالنَّهْي ، وَمَا لا يَدْخُل
يَدْخُلُ فِي خِطَابِ اللَّه تَعَالَى الْمُؤمِنُونَ ؟ وَالسَّاهِي ، وَالصَّبِيُّ ، وَالْمَجْنُونُ غَيْرُ دَاخلِينَ في الْخِطَابِ . وَالكُفَّارُ مُخَاطبُونَ بِفرُوعِ الشَّرَائِعِ ، وَبِمَا لا تَصحُّ إلا بِهِ - وَهُوَ الإِسْلامُ - لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { مَا سَلَككم فِي سَقَرَ قَالوُا لم نَكُ مِن المُصَلِّين } . وَالأَمْرُ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ ، وَالنَّهْيُ عَنِ الشَّيْءٍ أَمْرٌ بِضِدِّهِ .
وَالنهْيُ : اسْتِدْعَاءُ التَّرْكِ بِالْقَوْلِ مِمَّنْ هُوَ دُونَهُ عَلَى سبِيلِ الْوُجُوبِ .
وَتَرِدُ صِيغَةُ الأَمْرِ وَالْمُرَادُ بِهِ الإِبَاحَةُ ، أَوْ التَهْدِيدُ ، أَوْ التَّسْوِيَةُ ، أَوْ التَّكْوِينُ .
الْعامُّ وَالخَاصُّ وَالمجملُ وَالمُبِين وَالنَّصُ وَالظاهر
وَأَمَّا الْعَامُّ : فَهُوَ مَا عَمَّ شيْئَيْنِ فَصَاعِداً مِنْ غَيْرِ حَصْرٍ ، وَأَلْفَاظَهُ أَرْبَعَة : الاسْمُ الْمُعَرّفُ بِالألَفِ وَاللامِ ، وَاسْمُ الْجَمْعِ الْمُعَرَّفُ بِاللامٍ ، وَالأَسْمَاء الْمُبْهَمَةُ كَمَنْ فِيمَنْ يَعْقِلُ ، وَمَا فِيمَا لا يَعْقِلُ ، وَأَيٍّ فِي الْجَمِيع ، وَأَيْنَ فِي الْمَكَانِ ، وَمَتَى فِي الزَّمَانِ ، وَمَا فِي الاسْتِفْهَامِ وَالْجَزَاءِ وَغَيْرِهِ ، وَلا في النَّكِرَاتِ .
وَالْعُمُومُ مِنْ صِفَاتِ النُّطْقِ ، وَلا يَجُوزُ دَعْوَى الْعُمُومِ فِي غَيْرِهِ مِنَ الْفِعْلِ وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ .
وَالْخَاصُّ يُقَابِلُ الْعَامَّ ، وَالتَّخْصِيصُ : تَمْيِيزُ بَعْضِ الْجُمْلَةِ ، وَهُوَ يَنْقَسِمُ إِلَى مُتَّصِلٍ وَمُنْفَصِلٍ ، فَالْمُتَّصِلُ : الاسْتثْنَاءُ ، وَالشَّرْطُ ، وَالتَقْيِيدُ بِالصِّفَةِ .
وَالاسْتِثْنَاءُ : إِخْرَاجُ مَا لَوْلاهُ لَدَخَلَ فِي الكَلامِ ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ الاسْتِثْنَاءُ بِشَرْطِ أَنْ يَبْقَى مِنَ الْمُسْتَثْنى مِنْهُ شَيْءٌ ، وَمِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلاً بِالْكَلامِ ، وَيَجُوزُ تَقْدِيمُ الْمُسْتَثْنى عَلَى الْمُسْتَثْنى مِنْهُ ، وَيَجُوزُ الاسْتِثْنَاءُ مِنَ الجِنْسِ وَمِنْ غَيْرِهِ .
وَالشَّرْطُ يَجُوزُ أَنْ يَتَقَدَّمَ عَلَى الْمَشْرُوطِ .
وَالْمُقَيَّدُ بِالصِّفَةِ يُحملُ عَلَيْهِ الْمُطْلَقُ كَالرَّقَبَةِ قُيِّدَتْ بِالإِيمَان فِي بَعضِ الْمَوَاضعِ فَيُحْمَلُ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ .
وَيَجُوزُ تَخْصِيصُ الْكِتَابِ بِالكَتَابِ ، وَتَخْصِيصُ الكِتَابِ بِالسُّنَّةِ ، وَتَخْصِيصُ السُّنَّةِ بِالكِتَابِ ، وَتَخْصِيصُ السُّنِّةِ بالسُّنَّة ، وَتَخْصِيصُ النُّطْقِ : بِالْقِيَاسِ ، وَنَعْنِي بِالنُّطْقِ : قَوْلَ اللّهِ تَعَالَى وَقَوْلَ الرَّسُولِ صَلَى اللَّهُ عَليهِ وَسلَّم .
وَالمُجْمَلُ : مَا يَفْتَقِرُ إلى الْبَيَانِ .
وَالْبَيَانُ : إخْرَاجُ الشَّيْءِ مِنْ حَيِّزِ الإِشْكَالِ إِلَى حَيِّزِ التَّجَلِّي .
وَالنصُّ : مَا لا يَحْتَمِلُ إِلا مَعْنًى وَاحِداً ، وَقِيلَ : مَا تَأْوِيلُهُ تَنْزِيلُهُ ، وَهُوَ مُشْتَقٌ مِنْ مِنَصَّةِ الْعَرُوسِ ، وَهُوَ الْكُرْسيّ .
وَالظَّاهِرُ : مَا احْتَمَلَ أَمْرَيْنِ : أحَدُهُمَا أَظْهَرُ مِنَ الآخَرِ ، وَيُؤَوَّلُ الظَّاهِرُ بِالدَّلِيلِ ، وَيُسَمَّى ظَاهِراً بِالدَّلِيلِ .
الأفعال
فِعْلُ صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ وَالطَّاعَةِ ، أَوْ لا يَكُونَ ، فَإِنْ دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى الاخْتِصَاصِ بِهِ حُمِلَ عَلَى الاخْتِصَاصِ ، وَإنْ لَمْ يَدُلَّ دَلِيل لا يُخَصُّ بِهِ ، لأنَّ اللّهَ تَعَالَى قَالَ : { لَّقَد كاَنَ لَكُم فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَة } ، فَيُحْمَلُ عَلَى الْوُجُوبِ عِنْدَ بَعْضِ أَصْحَابِنَا ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : يُتَوَقَّفُ فِيهِ ، فَإِنْ كَانَ عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الْقُرْبَةِ وَالطَّاعَةِ فَيُحْمَلُ عَلَى الإِبَاحَةِ .
وَإِقْرَارُ صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ عَلَى الْقَوْلِ هُوَ قَوْلُ صَاحِبِ الشرِيعَةِ ، وَإِقْرَارُهُ عَلَى الْفِعْلِ كَفِعْلِهِ ، وَمَا فُعِلَ فِي وَقْتِهِ فِي غَيْرِ مَجْلِسِهِ وَعَلِمَ بِهِ وَلَمْ يُنْكِرْهُ فحكْمُهُ حُكْمُ مَا فُعِلَ فِي مَجْلِسِهِ .
النسخ
وَأَمَّا النَّسْخُ : فَمَعْنَاهُ الإِزَالَةُ ، يُقَالُ : « نَسَخَتِ الشَّمْسُ الظِّل » ، إِذَا أَزَالَتْهُ ، وَقِيلَ : مَعْنَاهُ النَّقْلُ مِنْ قَوْلِهِمْ : « نَسَخْتُ مَا فِي الْكِتَابِ » ، إِذَا نَقَلْتَهُ بِأَشْكَالِ كِتَابَتِهِ .
وَحَدُّهُ : الْخِطَابُ الدَّالُّ عَلَى رَفْعِ الْحُكْمِ الثَّابتِ بِالْخِطَابِ الْمُتَقَدِّمِ عَلَى وَجْهٍ لَوْلاهُ لَكَانَ ثَابِتاً ، مَعَ تَرَاخِيهِ عَنْهُ . وَيَجُوزُ نَسْخُ الرَّسْمِ وَبَقَاءُ الْحُكْمِ ، وَنَسْخُ الْحُكْمِ وَبَقَاءُ الرَّسْمِ ، وَنَسَخُ الأَمْرَيْنِ مَعاً .
وَيَنْقَسِمُ النَّسْخُ إِلَى : بَدَلٍ ، وَإِلَى غَيْرِ بَدَلٍ ، وَإِلَى مَا هُوَ أَغْلَظُ ، وَإِلَى مَا هُوَ أَخَفُّ .
وَيَجُوزُ نَسْخُ الْكِتَابِ بِالْكِتَابِ ، وَنَسْخُ السُّنَّةِ بِالْكِتَابِ ، وَيَجُوزْ نَسْخُ الْمُتَوَاتِرِ بِالْمُتَوَاتِرِ ، وَنَسْخُ الآَحَادِ بِالآحَادِ وَبِالْمُتَوَاتِرِ ، وَلا يَجُوزُ نَسْخُ الْمُتَوَاتِرِ بالآحادِ .
فصل
إِذَا تَعَارَضَ نُطْقَانِ فَلا يَخْلُو : إِمَّا أَنْ يَكُونَا عَامَّيْنِ ، أَوْ خَاصَّيْنِ ، أَوْ أَحَدُهُما عَامَّاً وَالآخَرُ خَاصَّاً ، أَوْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُما عَامَّا منْ وجْهٍ خَاصَّاً مِنْ وَجْهٍ آخَرَ .
فَإِنْ كَانَا عَامَّيْنِ فَإِنْ أَمْكَنَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا يُجْمَعْ ، فإنْ لَمْ يُمْكِنِ الْجَمْعُ يُتَوَقّفْ فِيهِمَا إِنْ لَم يُعْلَمِ التَارِيخُ ، فَإنْ عُلِمَ التَّارِيخُ نُسِخَ الْمُتَقَدِّمُ بِالْمُتأَخِّرِ ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَا خَاصَّيْنِ ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا عَامَّاً وَالآخَرُ خَاصَّا فَيُخَصُّ الْعَامُّ بِالْخَاصِّ ، وَإِنْ كَان كُلُّ مِنْهُمَا عَامَّاً مِنْ وَجْهِ وَخَاصَّاً مِنْ وَجْهٍ فَيُخَصُّ عُمُومُ كلّ مِنْهُمَا بِخُصُوص الآخَرِ .
الإجماع
وَأَمَّا الإجْمَاعُ فَهُوَ : اتِّفَاقُ عُلَمَاءِ أَهْلِ العَصْرِ عَلَى الْحَادِثَةِ ، وَنَعْنِي بِالْعُلَمَاءِ الْفُقَهَاءَ ، وَنَعْنِي بِالْحَادِثَةَ : الْحَادِثَةَ الشَّرْعِيَّةَ . وَإِجْمَاعُ هَذِهِ الأُمَّةِ حُجَّة دُونَ غَيْرِهَا ؟ لِقَوْلِهِ : « لا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى ضَلالَةٍ » .
وَالشَّرْعُ وَرَدَ بِعِصْمَةِ الأُمَّةِ ، وَالإجْمَاعُ حُجَّة عَلَى الْعَصْرِ الثَّانِي ، وَفِي أَيِّ عَصْرٍ كَانَ ، وَلا يُشْترَطُ فِي حُجِّيَّتِهِ انْقِرَاضُ الْعَصْرِ ، فَإِنْ قُلْنَا : « انْقِرَاضُ الْعَصْرِ شَرْط » ، يُعْتَبَرُ قَوْل مَنْ وُلدَ فِي حَيَاتِهِمْ ، وَتَفَقَّه وَصَارَ مِنْ أَهْلِ الاجْتهَادِ ، وَلَهُمْ - عَلَى هَذَا الْقَوْلِ - أَنْ يَرْجِعُوا عَنْ ذلِكَ الْحُكْمِ ، وَالإجْمَاعُ يَصِحُّ بقَوْلِهِمْ ، وَبِفِعْلِهِمْ ، وَبِقَوْلِ الْبَعْض وَبِفعْلِ الْبَعْضِ وَانتشَارِ ذَلِكَ القَوْلِ أَوِ الْفِعْلِ وَسُكُوتِ الْبَاقِينَ عَلَيْهِ . وَقَوْلُ الْوَاحِدِ مِنْ الصَّحَابَةِ لَيْسَ حُجَّةً عَلَى غَيْرِه ، عَلَى الْقَوْلِ الْجَدِيدِ .
الأخبار
وَأَمَّا الأخبَارُ فَالْخَبَرُ : ما يَدْخُلُهُ الصِّدْقُ وَالْكَذِبُ .
وَالْخَبَرُ يَنْقَسِمُ إِلَى : آحَادٍ ، ومُتَوَاتِرٍ .
فَالْمُتَوَاتِرُ مَا يُوجِبُ الْعِلْمَ ، وَهُوَ : أَنْ يَرْويَهُ جَمَاعَة لا يَقَعُ التَّوَاطُؤُ عَلَى الْكَذِبِ عَنْ مِثْلِهِمْ ، وَهَكَذَا إِلَى أنْ يَنْتَهِيَ إِلَى الْمُخْبَرِ عَنْهُ ، فَيَكُونُ فِي الأصلِ عَنْ مُشَاهَدَةٍ أَوْ سمَاعٍ ، لا عَنِ اجْتِهَادٍ .
وَالآحَادُ - وَهُوَ الَّذِي يُوجِبُ الْعَمَلَ ، وَلا يُوجِبُ الْعِلْمَ ، لاحْتِمَالِ الْخَطَإِ فِيهِ ، وَيَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ : مُرْسَلٍ ، وَمُسْنَدٍ ، فَالْمُسْنَدُ : مَا اتَّصَلَ إِسنَادُهُ ، وَالْمُرْسلُ : مَا لَمْ يَتَّصِلْ إِسْنَادُهُ ، فَإِنْ كَانَ مِنْ مَرَاسيلِ غَيْرِ الصَّحَابَةِ فَلَيْسَ بِحُجَّةٍ ، إِلا مَرَاسيلَ سَعِيدِ بْنِ المُسَيَّبِ فَإنَّها فُتِّشَتْ فَوُجِدَتْ مَسَانِيدَ .
وَالْعَنْعَنَةُ تَدْخُلُ عَلَى الإِسْنَادِ .
وَإِذَا قَرَأَ الشَّيْخُ يَجُوزُ لِلْرَّاوِي أَنْ يَقُولَ حَدَّثَنِي أَوْ أَخْبَرَنِي ، وَإنْ قَرَأَ هُوَ عَلَى الشَّيْخِ فَيَقُولُ : أَخْبَرَنِي . وَلا يَقُولُ حَدَّثَنِي ، وَإِنْ أَجَازَهُ الشَّيْخُ مِنْ غَيْرِ قِرَاءَةٍ فَيَقُولُ الرَّاوِي : أَجَازَنِي ، أوْ أَخْبَرَنِي إِجَازَةً .
القياس
وَأَمَّا الْقِيَاسُ فَهُوَ : رَدُّ الْفَرْعِ إِلَى الأَصْلِ بِعِلّةٍ تَجْمَعُهُمَا فِي الْحُكْمِ .
وَهُوَ يَنْقَسِمُ إِلَى ثَلاثَةِ أقْسَامٍ : إلَى قِيَاسِ عِلّةٍ ، وَقِيَاسِ دَلالَةٍ ، وَقِيَاسِ شَبَهٍ .
فَقِيَاسُ الْعِلَّةِ : مَا كانَتْ الْعِلّةُ فِيهِ مُوجِبَةً لِلْحُكْمِ .
وَقِيَاسُ الدَّلالَةِ : هُوَ الاسْتِدْلالُ بِأَحَدِ النَّظِيرَيْنِ عَلَى الآخَرِ ، وَهُوَ : أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ دَالَّةً عَلَى الْحُكْمِ ، وَلا تَكُونَ مُوجِبَةَ لِلْحُكمِ .
وَقِيَاسُ الشَبَهِ : هُوَ الْفَرْعُ الْمُرَدَّدُ بَيْنَ أَصْلَيْنِ فَيُلْحَقُ بِأَكْثَرِهِمَا شَبَهاً .
وِمِنْ شَرْطِ الْفَرْعِ أَنْ يَكُونَ مُنَاسباً للأصْلِ فِيمَا يُجْمَعُ بِهِ بَيْنَهُمَا لِلْحُكْمِ ، وَمِنْ شَرْطِ الأصلِ أَنْ يَكُونَ ثابِتاً بِدَلِيلٍ مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ ، وَمِنْ شَرْطِ العِلَّةِ أَنْ تطَّرِدَ فِي مَعْلُولاتِهَا فَلا تَنْتَقِضُ لَفْظاً وَلا مَعْنَى ، وَمِنْ شَرْطِ الْحُكْمِ ، أَنْ يَكُونَ مِثْلَ الْعِلَّةِ فِي النَّفْي ، وَالإِثْبَاتِ .
وِالْعِلّةُ : هِيَ الْجَالِبَةُ للحُكْمِ ، وَالحُكْمُ هُوَ الْمَجْلُوبُ لِلْعِلَّةِ .
الحظر والإباحة واستصحاب الحال
وَأَمَّا الْحَظْرُ وَالإِبَاحَةُ فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ : إِنَّ الأَشْيَاءَ عَلَى الحَظَرِ إلا مَا أَبَاحَتْهُ الشَّرِيعَةُ ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فِي الشَّرِيعَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى الإبَاحَةِ فَيُسْتَمْسَكُ بِالأَصْلِ وَهُوَ الحَظْرُ ، ومِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ بِضدِّهِ ، وَهُوَ أَنَّ الأَصْلَ فِي الأَشْيَاءِ الإبَاحَةُ إِلا مَا حَظَرَهُ الشَّرْعُ .
وَمَعْنَى اسْتِصحَابِ الْحَالِ : أَنْ يَسْتَصْحِبَ الأَصْلَ عِنْدَ عَدَمِ الدَلِيلِ الشَّرْعِي .
تعارض الأدلة
وأَمَّا الأَدِلَّةُ فَيُقَدَّمُ الْجَلِيُّ مِنْهَا عَلَى الْخَفِيِّ ، وَالْمُوجِبُ لِلْعِلْمِ عَلَى الْمُوجِبِ لِلْظَنِّ ، وَالنُّطْقُ عَلَى الْقِياسِ ، وَالْقِيَاسُ الْجَلِيُّ عَلَى الْخَفِيِّ ، فَإِنْ وُجِدَ فِي النُّطْقِ مَا يُغَيِّرُ الأصلَ ، وَإِلا فَيُسْتَصْحَبُ الْحَالُ .
المفتي والمستفتي
وَمِنْ شَرْطِ الْمُفْتِي : أَنْ يَكُونَ عَالِماً بِالْفِقْهِ أَصْلاَ وَفَرعاً ، خِلافاً وَمَذْهباً وَأنْ يَكُونَ كَاملَ الآلَةِ في الاجْتِهَادِ ، عَارِفاً بِمَا يَحْتَاجُ إِلَيهِ فِي استِنْبَاطِ الأحكَامِ مِنَ النحْوِ وَاللُّغَةِ ، وَمَعْرِفَةِ الرّجَالِ الرَّاوينَ ، وَتَفْسِيرِ الآيَاتِ الْوَارِدَة فِي الأحكَامِ وَالأَخْبَارِ الْوَارِدِةِ فِيهَا .
وَمِنْ شَرْطِ الْمُسْتَفْتِي أَنْ يَكُون أَهلاً للتقليد فيقلّدُ المفتِي فِي الْفتْيَا .
الاجتهاد والتقليد
وَلَيْسَ لِلْعَالِمِ أَنْ يُقَلِّدَ ، والتَّقْلِيدُ : قَبُولَ قَوْلِ القَائِلِ بِلا حُجَّةٍ ، فَعَلَى هَذَا قَبُولُ قَوْلِ النَّبِيِّ لاَ يُسَمَّى تَقْلِيداً ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : التَقْلِيدُ قَبُولُ قَوْلِ الْقَائِلِ وَأَنْتَ لا تَدْرِي مِنْ أَيْنَ قَالَهُ ، فَإِنْ قُلْنَا إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَليهِ وَسلَّم كَانَ يَقُولُ بِالْقَياسِ ، فَيَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى قَبُولُ قَوْلِهِ تَقْلِيداً .
وَأَمَّا الاجْتِهَادُ فَهُوَ : بَذْلُ الْوُسْعِ فِي بُلُوغِ الْغَرَضِ ، فَالْمُجْتَهِدُ إنْ كَانَ كَامِلَ الآلَةِ فِي الاجْتِهَادِ فَإنْ اجْتَهَدَ فِي الْفُرُوعِ فأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ ، وَإِن اجتَهَدَ فِيهَا وأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ ، وَمِنهُم مَنْ قَالَ : كُلُّ مُجْتَهِدٍ فِي الْفُرُوعِ مُصِيبٌ ، وَلا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : كُل مُجْتَهِدٍ فِي الأُصُولِ الْكَلامِيَّةِ مُصِيباً ، لأَنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى تَصْوِيبِ أَهْلِ الضَّلالَةِ مِنَ النَّصَارَى وَالْمَجُوسِ وَالْكُفارِ ، وَالْمُلْحِدِينَ ، وَدَلِيلُ مَنْ قَالَ : « لَيْسَ كُل مُجْتَهِدٍ فِي الفُرُوعِ مُصِيباً » ، قَوْلُهَُ صَلَّى اللَّهُ عَليهِ وَسلَّم : « مَنِ اجْتَهَدَ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ ، وَمَنِ اجتَهَدَ وَأَخْطَأَ فَلَهُ أجْرٌ وَاحِدٌ » ، وَجْهُ الدَّلِيلِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَليهِ وَسلَّم خَطَّأَ الْمُجْتَهِدَ تَارَةً وَصَوَّبَهُ أُخْرَى .
واللَّه سُبْحَانَه وتَعَالى أعْلَى وَأَعْلَم .