[تنبيه التفريغ في المرفقات]
الحمد لله وبعد:
فهذا تفريغ المجلس الأول من مجالس التعليق على كتاب المذكرة في أصول الفقه للعلامة الإمام المتفنن السلفي محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله وأسكنه الفردوس الأعلى، وقد عقد هذه المجالس الشيخ الفاضل أبو العباس الشحري حفظه الله ورعاه.
وسأحاول جاهدا رفع هذه المجالس تباعا، بعد تفريغها وتنسيقها، فأسأل الله الكريم ان يعين على هذا العمل ويبارك فيه، ويجعله لي ذخرا يوم لقاه، وأن يجعله خالصا لوجهه الكريم، ولا يجعل فيه لأحد حظا ولا نصيبا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
ومن رأى من نفسه همة للمساعدة في التفريغ من إخواني الفضلاء، فليراسلني على الخاس حتى تتظافر الجهود ولا تضيع سدى، يقول جل شأنه [وتعاونوا على البر والتقوى] والله الموفق والهادي وهو ولينا ونعم النصير.
وكتبه محبكم حاتم بن محمد
غفر الله له ولوالديه.
********
المجلس الأول:
********
أما بعد:
فهذا أول المجالس في قراءة كتاب مذكرة أصول الفقه للإمام العلامة محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله وغفر له، وهذا الكتاب من الكتب العظيمة في الباب، وقد وضع الله سبحانه وتعالى له البركة والقبول في هذه الأزمان، فهذا الكتاب من الكتب التي تعتبر نافعة لكل طالب علم، فيحتاجها ويحتاج إلى تأمل معانيها وتدبرها.
لهذا الكتاب عدة ميزات:
- من أهم ميزاته أنه جامع لأصول فقه المذاهب الأربعة، هذه من أهم ميزات هذا الكتاب، فإن أصله كتاب روضة الناظر وجنة المناظر لموفق الدين بن قدامة رحمه الله وغفر له وهو حنبلي المذهب، وأصل كتاب الروضة كتاب المستصفى لأبي حامد الغزالي وهو شافعي المذهب، والإمام الشنقيطي رحمه الله من مجتهدي مذهب مالك، وهو يغرف من مراقي السعود ومن شرحها نشر البنود، وهما من كتب المالكية المعتمدة عندهم، ويذكر رحمه الله المسائل الخلافية من كتب أئمة الحنفية أيضا في الباب، فهذا كتاب جامع.
- ومن فوائده أيضا تحرير المسائل؛ فإنك قد لا تجد تحريرا لكثير من مسائل هذا الفن بمثل ما تجده في هذا الكتاب، قد لا يجد الناظر في هذا الفن تحريرا للمسائل كما يجده في هذا الكتاب، هو يبين موضع النزاع من محل الإجماع، ثم يبين الصواب بالدليل، وهذا قد لا يجده الناظر في جميع كتب أصول الفقه الموجودة: جمع مسائل الخلاف، وتمييز النزاع من الإجماع.
- وللكتاب فوائد عدة وهو من الكتب التي بارك الله فيها، فيها مسائل عقدية لا توجد إلا في الكتب المطولات، مسائل عقدية كبيرة كالعدم، وكمسائل التحسين والتقبيح، والحكمة والتعليل، ومسائل الحكم وغيرها من المسائل التي ستمر أثناء القراءة إن شاء الله تعالى.
- وكذلك توجد فيه كثير من مسائل الفقه وبيان الوجه فيها، الشاهد يعتبر من الكتب النافعة.
أما تسمية الكتاب فهي من اللطافة بمكان، تسمية هذا الكتاب تعتبر من اللطافة بمكان "مذكرة أصول الفقه"، المذكرة من مادة الذكر، أخذ المصنف العنوان من مادة الذكر، والذكر بالكسر الحفظ للشيء، هذا معنى كلمة الذكر، قالت العرب: اجعله منك على ذُكرٍ أو على ذِكر، فالذكر هو الحفظ للشيء، وقد يكون عن نسيان وقد يكون عن غير نسيان، قد يؤمر بالذكر للناسي، وقد يؤمر بالذكر لغير الناسي، ولغير الناسي المراد به إدامة الحفظ، إذا أطلق الذكر لغير الناسي فإن المراد به الإدامة للحفظ، هذا المراد بالذكر لغير الناسي، قال تعالى: -(لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ)- [الأنبياء/10]، وقال سبحانه: -(وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ)- [الأنبياء/50]، وقال تعالى: -(فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آَبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا)- [البقرة/200]، ولا أحد ينسى أباه كما هو معلوم، فالشاهد هذه المادة مادة تدل على معنى الحفظ للشيء والاهتمام به.
المذكرة اسم فاعل من ذكر الشيء يذكره، أو ذَكَّر بالشيء فهو مُذَكِّرٌ، هذا اسم فاعل من ذكَّر المضعف، فكأن المصنف رحمه الله يخاطب طالب العلم والعناوين للكتب أسرار، كأن المصنف يخاطب طالب العلم فيقول: اجعل هذا الكتاب نصب عينيك وأقبل عليه بكليتك فإنه مُذَكِّرٌ لك بعلم جليل يجب العناية به، فلا ينبغي أن نجعله في رف الإهمال، ولهذا من راجع وقرأ مادة الكتاب وأتقنها نفعه الله سبحانه وتعالى في علوم عدة.
أما المصنف رحمه الله فهو الشيخ العلامة الإمام الرباني محمد الأمين بن محمد المختار بن عبد القادر الجكني، فهو من الجكنيين قبيلة في موريتانيا، أصولهم إلى حمير فهم يمانيون.
الشنقيطي وشنقيط ليست بلدا، شنقيط ليست البلد إنما شنقيط محل الرحلة إلى الحج، يجتمع حجاج تلك البلدان في محل يسمى شنقيط، فإذا ما سافروا إلى الحجاز قالوا من أين جئت؟ أو لاقاهم بعض الناس، قالوا: هؤلاء جاؤوا من شنقيط، هؤلاء حجاج شنقيط، ثم صارت النسبة شنقيطي، وإلا ليست بلدهم كما أفادني بذلك تلميذ المصنف رحمه الله الشيخ حمد بن أحمد الأمين حفظه الله ونفع به.
فبلدهم موريتاني وإنما نزلوا في تلك المحلة للحج وكل من نزلها نسب إليها.
المصنف رحمه الله من أئمة السلف وعلى عقيدة أهل السنة والجماعة لا كما يشيعه بعض الناس، المصنف على عقيدة أهل السنة والجماعة سلفي العقيدة منذ أن خرج من بلده لا يعلم له زلل في الاعتقاد منذ أن خرج من بلده، وبعض الناس يقول: إنه إنما تعلم العقيدة في السعودية، وهذا غلط؛ فإنه كتب الرحلة لما رحل وهو في سن الشيخوخة للحج، وفي بلاد السودان كان يملي عقيدة أهل السنة والجماعة ويناظر عليها قبل أن يصل إلى السعودية بآلاف الكيلومترات، فالرجل سلفي العقيدة من بلده، أما أن يقال أنه تتلمذ على أهل نجد فلا، لا يعلم له شيخ في نجد، هكذا أفادني بعض طلابه، لا يعلم له شيخ في نجد، وإنما تتلمذ عليه الأكابر: الشيخ محمد بن ابراهيم، الشيخ عبد العزيز بن باز وجماعات من أهل العلم تتلمذوا عليه كما هو معلوم.
وأما صاحب الأصل فهو كتاب روض الناظر وجنة المناظر الموفق بن قدامة رحمه الله، سلفي العقيدة لا يعلم له زلل، ومن رماه بالتفويض لم يفهم كلامه، من رمى ابن قدامة بالتفويض لم يفهم كلامه، ولهذا أثنى عليه ابن رجب بأنه سلفي العقيدة كما في ترجمته في ذيل طبقات الحنابلة، وكذلك مدحه العلماء، أما قول من قال إن ابن قدامة مفوض فهذا قول غير صحيح، وإنما أراد ابن قدامة بعباراته في اللمعة وغير اللمعة المعنى الفاسد، وسيأتي بحث في هذا إن شاء الله تعالى عند الكلام على باب القرآن وكلام ابن قدامة على المحكم والمتشابه.
قال شيخ الإسلام بن تيمية: ما دخل الشام بعد الأوزاعي كالموفق بن قدامة، فهو كاسمه موفق رحمه الله وغفر له.
والمصنف لم يذكر مقدمة لهذا الكتاب لأنه جمعه تلميذه الشيخ عطية بن محمد بن سالم رحمه الله وغفر له، جمع الكتاب تلميذه، كان يميله على طلبة الجامعة ثم جمع فعُرِض عليه فطُبِع ولم يقدم له لأجل هذا السبب.
قال المصنف رحمه الله: (حقيقة الحكم وأقسامه).
قال: (اعلم أنه رحمه الله) المراد بقوله: (اعلم أنه رحمه الله) المراد به ابن قدامة رحمه الله، اعلم أنه يعني ابن قدامة.
(اعلم أنه رحمه الله ترجم هذه الترجمة التي لفظها (حقيقة الحكم وأقسامه) ولم يبين حقيقة الحكم ولا أقسامه، وإنما ذكر منها الأقسام الشرعية فقط): يعني بين الحكم الشرعي لا غير، وأقسام الحكم الشرعي لا غير، وعذره في ذلك أن هذا هو المطلوب للناس في هذا المقام، عذر ابن قدامة في عدم بيانه أقسام الحكم عند الناس وإنما بينها عند الفقهاء أن هذا الذي يحتاجه الناس وأما غيره فلا يحتاجونه، فليس في هذا بمُلام، هو لا يقال أخطأ، إنما ذكر المهم وترك غيره.
قال المصنف رحمه الله تعالى: (ونحن نبين كل ذلك إن شاء الله تعالى.
اعلم أن الحكم في اللغة هو المنع ومنه قيل للقضاء حكم لأنه يمنع من غير المقضي): معناه أن الناس يكونون في فوضى فإذا حلت الأحكام لزم كلٌ حده. (تقول حكمه كنصره وأحكمه كأكرمه وحكمه بالتضعيف بمعنى منعه.
ومنه قول جرير :
أبنى حنيفة أحكموا سفهاءكم****إنى أخاف عليكمو أن أغضبا)
والمعنى لكلمة الحكم هو المنع لإصلاح، الحكم ليس مطلق المنع، فالحكم في لغة العرب ليس مطلق المنع، إنما الحكم هو المنع لإصلاح. أفاده الراغب في مفرداته وهو من مفرداته. الحكم في اللغة المنع لإصلاح:
(أبنى حنيفة أحكموا سفهاءكم****.........................)
يعني امنعوهم من السفه، أصلحوهم هذا معناه.
قال: (وقول حسان بن ثابت رضى الله عنه:
لنا -يعني الأنصار- في كل يوم من معد -يعني قريشا لأنهم عدنانيون:
(لنا في كل يوم من معد****سباب أو قتال أو هجاء
فنحكم بالقوافى من هجانا****.......................)
يعني نمنعهم عن السباب ونحوه خوفا منا، قال:
(...................... ونضرب حين تختلط الدماء)
قال: (ومن الحكم بمعنى المنع حكمة اللجام) -بالفتح-.
قال: (وهى ما أحاط بحنكي الدابة سميت بذلك لأنها تمنعها من الجرى الشديد): فيسحبها الفارس فتحجم عن الجري.
قال: (والحَكَمَةُ أيضا حديدة فى اللجام تكون على أنف الفرس وحنكه تمنعه من مخالفة راكبه): ومنه قول الشيخ رحمه الله تعالى: أصحاب جمعية الحكمة يعني أن من دخل معهم منعهوه من أمور وألزموه بأمور فكأنهم يقودونهم قودا، هذا معنى كلامه رحمه الله.
قال: (وكانت العرب تتخذها من القد وهو الأبق وهو القنب ومنه قول زهير):
(القائد الخيلَ) -بالنصب- (منكوباً دوابرها) -يعني حوافرها، يعني أن من شدة قيده للخيل تتأثر حوافر الخيل تتآكل أو تأكلها الأرض وتؤثر فيها.
(القائد الخيل منكوباً دوابرها****قد أحكمت حكمات القد والأبقا)
القد قطع من الجلد، والأبق شبيه بالكِتَّان يعني القطن.
طيب إن شاء الله تعالى نقف هنا ونكمل غدا الكلام على ما بقي من كلام المصنف رحمه الله.