السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
هذه الشبهة كذلك كثيرا ما يهرف بها أهل الأهواء ممن حرموا الفهم , فاذا احتججت عليهم بنص ردوه زعما منهم بأن الامام مالك كان لا يقبل النص اذا خالف عمل أهل المدينة , وأنه يقدم عملهم على غيره من الأدلة.
وحقيقة الأمر بخلاف ذلك تماما , فان عمل أهل المدينة -والأصح اجماع أهل المدينة لأنه اللفظ الذي يستعمله أهل العلم- المعتبر في المذهب هو ما تناقلته الكافة عن الكافة وصولا الى النبي صلى الله عليه وسلم فيكون في حكم النقل , كما أنه لا يصار اليه مباشرة الا عند انعدام النص ولا يقدم عليه وان كان خبر آحاد كما سيأتي .
ولذلك نجد الامام مالك رحمه الله في الموطأ يذكر في الباب الحديث المرفوع ثم يتبعه بالآثار وأحيانا يذكر عمل أهل المدينة ، فكتابه كتاب فقه وحديث في وقت واحد ، وليس كتابَ جمع للروايات فقط ، لذلك تجد بعض الأبواب تخلو من المرويات ، وإنما يسوق فيها أقوال الفقهاء وعمل أهل المدينة واجتهاداته ، ومن ذلك : باب ما لا زكاة فيه من الثمار ، وباب صيام الذي يقتل خطأ ..وغيرها .
وهذا كلام أئمة المالكية المحققين في مسألة اجماع أهل المدينة ومنزلتها مقارنة بالنصوص :
قال ابن رشد في " مختصر المستصفى " أو ما عرف ب" المشهور الضروري في أصول الفقه" : " وإذا كان هذا هكذا وكان من شرط الإجماع اتفاق جميع المجتهدين الموجودين في ذلك العصر, فمن رأى إجماع أهل المدينة حجة لأنهم الأكثر في أول الإسلام فلا معنى له. لكن حذاق المالكيين إنما يرونه حجة من جهة النقل وهذا إذا بني فيه أن يجعل حجة فيما يظهر لي, فينبغي أن يصرح فيه بنقل العمل قرنا بعد قرن حتى يوصل بذلك إلى زمن رسول الله? , فيكون ذلك حجة بإقراره له ?".
وقال في الفصل الثاني من الباب الرابع من " بداية المجتهد " :
" وبالجملة العمل لا يشك انه قرينة اذا اقترنت بالشيء المنقول ان وافقته افادت به غلبة ظن وان خالفته افادت به ضعف ظن، فاما هل تبلغ هذه القرينة مبلغا ترد بها اخبار الاحاد الثابتة ففيه نظر، وعسى انها تبلغ في بعض ولا تبلغ في بعض لتفاضل الاشياء في شدة عموم البلوى بها "
قال القاضي عياض رحمه الله تعالى في" ترتيب المدراك" مبينا مذهب مالك وأصحابه رحمهم الله جميعا في عمل أهل المدينة :
" فاعلموا أن إجماع أهل المدينة على ضربين :
الأول : ضرب من طريق النقل والحكاية الذي تأثره الكافة عن الكافة وعملت به عملا لا يخفى ونقله الجمهور عن الجمهور عن زمن النبي صلى الله عليه وسلم وهذا الضرب منقسم على أربعة أنواع :
1- 2 - ما نقل شرع من جهة النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل كالصاع والمد ... وكالأذان والاقامة ... فنقلهم لهذه الامور من قوله وفعله كنقلهم موضع قبره ومسجده ومنبره ومدينته وغير ذلك مما علم من ضرورة أحواله وسيره ... وأشباه هذا
3- أو نقل إقراره عليه الصلاة والسلام لما شاهده منهم ولم ينقل عنه انكاره كنقل عهدة الرقيق– أي إرجاعه بالعيب - وشبه ذلك
4- أو نقل تركه لأمور وأحكام لم يلزمهم إياها مع شهرتها لديهم وظهورها فيهم كتركه أخذ الزكاة من الخضروات مع علمه عليه السلام بكونها عندهم كثيرة فهذا النوع من اجماعهم في هذه الوجوه حجة يلزم المصير إليها ويترك ما يخالفه من خبر واحد أو قياس فإن هذا النقل محقق معلومه للعلم القطعي فلا يترك لما توجبه غلبة الظنون
النوع – الضرب - الثاني : اجماعهم على عمل من طريق الاجتهاد والاستدلال فهذا النوع اختلف فيه اصحابنا
1- فذهب معظمهم إلى أنه ليس بحجة ولا فيه ترجيح وهو قول كبراء البغداديين ... قالوا لأنهم – أي أهل المدينة – بعض الأمة والحجة إنما هي بمجموعها وهو قول المخالفين ...وأنكر هؤلاء أن يكون مالك يقول هذا يقول هذا وان يكون مذهبه ولا أئمة أصحابه
2- وذهب بعضهم إلى أنه ليس بحجة ولكن يرجح به على اجتهاد غيرهم ... ولم يرتضه القاضي أبو بكر ولا محققوا أئمتنا وغيرهم
3- وذهب بعض المالكية إلى أن هذا النوع حجة كالنوع الأول وحكوه عن مالك ... ورأوه مقدما على خبر الواحد والقياس وأطبق المخالفون أنه مذهب مالك ولا يصح عنه كذا مطلقا ".
وقال القاضي أبو الفضل رحمه الله تعالى في "ترتيب المدراك" أيضا: لا يخلو عمل أهل المدينة مع اخبار الآحاد من ثلاثة أوجه :
( أ ) - إما أن يكون مطابقا لها فهذا
- آكد في صحتها إن كان من طريق النقل
أو
- ترجيحها إن كان من طريق الاجتهاد بلا خلاف في هذا
- وإن كان مطابقا لخبر يعارضه خبر آخر كان عملهم مرجحا لخبرهم
(ب) وإن كان مخالفا للاخبار جملة
- فإن كان اجماعهم من طريق النقل ترك له الخبر بغير خلاف عندنا في ذلك وعند المحققين من غيرنا كما تقدم
- وإن كان اجماعهم اجتهادا قدم الخبر عليه عند الجمهور ...
(ج) فأما إن لم يكن ثم عمل بخلاف ولا وفاق فقد سقطت المسألة ووجب الرجوع إلى قبول خبر الواحد ، كان من نقلهم أو نقل غيرهم إذا صح إذا صح ولم يعارض فإن عارض هذا الخبر الذي نقلوه خبر آخر نقله غيرهم من أهل الآفاق كان ما نقلوه مرجحا عند الاستاذ أبي اسحاق وغيره من المحققين لزيادة مزية مشاهدتهم قرائن الأحوال وتقعدهم لنقل آثار الرسول عليه السلام وأنهم الجم الغفير عن الجم الغفير عنه وكثر تحريف المخالف فيما نقل عن مالك من ذلك سوى ما قدمناه ".
تعليق