حكم كساد العملة أو نقصها
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. أما بعد :
فقد كثر التساؤل عن مسألة مهمة تكلم عنها الفقهاء قديماً ولكنها في زمننا الحاضر أكثر وقوعاً وأحوج إلى تأصيلها وبيان حكمها وخاصة عندما استبدلت نقود الذهب والفضة بالأوراق النقدية واتخذت كل دولة لها عمله خاصة , وهذه المسألة هي كساد العملة أو نقص قيمتها ,فنقول وبالله التوفيق : اختلف العلماء فيما إذا حرم السلطان الفلوس و تركت المعاملة بها , وكذلك اختلفوا فيما إذا رخصت أوغلت أو كسدت .
فالمسألة الأولى فيما إذا حرمها السلطان وتركت المعاملة بها , فمذهب أحمد : أن للمقرض قيمتها , ولم يلزمه قبولها سواء كانت قائمة في يده أو استهلكها لأنها تعيبت في ملكه نص عليه أحمد في الدراهم المكسرة وقال : يقومها كم تساوي يوم أخذها ثم يعطيه وسواء نقصت قيمتها قليلا أو كثيرا قال القاضي : هذا إذا اتفق الناس على تركها فأما إن تعاملوا بها مع تحريم السلطان لها لزم أخذها قال في الإنصاف : الصحيح من المذهب أن له القيمة سواء اتفق الناس على تركها أو لا ا. هـ, وقال مالك والليث بن سعد والشافعي ليس له إلا مثل ما أقرضه لأن ذلك ليس بعيب حدث فيها فجرى مجرى نقص سعرها قال الموفق في المغني :ولنا أن التحريم السلطان لها منع انفاقها وأبطل ماليتها فأشبه كسرها أو تلف أجزائها وأما رخص السعر فلا يمنع ردها سواء كان كثيرا مثل أن كانت عشرة بدانق فصارت عشرين بدانق أو قليلا لأنه لم يحدث فيها شيء إنما تغير السعر فأشبه الحنطة إذا رخصت أو غلت ".ا.هـ
والمسألة الثانية فيما إذا رخصت أو غلت أو كسدت فمذهب أحمد: أن للمقترض رد الفلوس و ليس للمقرض مطالبته بالقيمة وقيل يلزمه رد القيمة إذا رخص السعر. انظر المغني ج6 / ص 441-442 طـ هجر, و الإنصاف ج12 /ص334-335 ط هجر. , وكشاف القناع ج 8 / ص 137 ط وزارة العدل .
وقال الشيخ عبدالله بن عبدالرحمن أبا بطين رحمه الله : " وأما رخص السعر، فكلام الشيخ صريح في أنه يوجب رد القيمة أيضا ; وهو أقوى، فإذا رفع إلينا مثل ذلك، وسطنا بالصلح بحسب الإمكان، هيبة الجزم بذلك" . ا. هـ الدرر السنية ج6/ص206 طـ/السابعة.
وقال أيضاً : " فالحاصل: أن الأصحاب إنما أوجبوا رد قيمة ما ذكرنا في القرض، والثمن المعين خاصة فيما إذا منع السلطان التعامل بها فقط، ولم يروا رد القيمة في غير القرض والثمن المعين، وكذا لم يوجبوا رد القيمة والحالة هذه فيما إذا كسدت بغير تحريم السلطان لها، ولا فيما إذا غلت أو رخصت ; وأما الشيخ تقي الدين فأوجب رد القيمة في القرض والثمن المعين، وكذلك سائر الديون فيما إذا كسدت مطلقا، وكذلك إذا نقصت القيمة فيما ذكروا في جميع المثليات، والله أعلم " . ا. هـ الدرر السنية ج6/ص208 طـ/السابعة.
وقال الشيح حسن بن حسين بن علي : " وقال الشيخ: تقي الدين في شرح المحرر: إذا أقرضه أو غصبه طعاما، فنقصت قيمته فهو نقص النوع، فلا يجبر على أخذه ناقصا فيرجع إلى القيمة، وهذا هو العدل، فإن المالين إنما يتماثلان إذا استوت قيمتهما، وأما مع اختلاف القيمة فلا تماثل، فعيب الدين إفلاس المدين، وعيب العين المعينة خروجها عن المعتاد، انتهى، وكلام الشيخ هذا، هو الذي ذكره الناظم عنه تخريجا له واختيارا، فقد عرفت أنه تحصل في المسألة من حيث هي ثلاثة أقوال، التفريق بين ما إذا حرمها السلطان، فبطلت المعاملة بها بالكلية، ومثله إن تكسرت أو كسدت، فلا يتعامل بها فالقيمة، وبين ما إذا كان غايته الغلاء والرخص، مع بقاء المعاملة بحالها، فالمثلي والمثل مطلقا كما هو المنقول عن مالك والشافعي والليث، وثالثها: اختيار أبي العباس، وهو المعتمد لدينا في الفتوى. " . ا. هـ الدرر السنية ج6/ص210 طـ/السابعة.
قلت : وبعد تأمل هذه المسألة وما حصل في هذا الزمن من النقص الكثير جداً في العملة العراقية بعد حرب الكويت , وكذلك العملة اللبنانية بعد الحرب الأهلية , وكذلك ما حصل من النقص الكبير في عملات بعض البلدان لضعف الاقتصاد , ظهر جلياً أن من العدل وجوب رد قيمة العملة الورقية وقت القرض سواء ألغت الدولة التعامل بها أو رخصت هذه العملة أو كسدت , كما هو القول الراجح من حيث تحقيق العدل التي جاءت الشريعة الإسلامية بتطبيقه وهو الذي اختاره بعض الفقهاء وشيخ الإسلام ابن تيمية والشيخ عبدالله أبا بطين والشيخ حسن بن حسين – رحمهم الله - ومن الظلم أن يقترض شخص من آخر ألف دينار عراقي قبل نقص العملة ثم يرده بعد نقصها كما هو ؛ وقد لا يساوي من القيمة سوى الجزء اليسير من قيمته قبل النقص بالنسبة للعملات الأخرى ومثل القرض ثمن المبيع ونحو ذلك , والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل , وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
أملاه الفقير إلي ربه المنان
عبدالمحسن بن ناصر العبيكان
المصدر
موقع معالي الشيخ عبدالمحسن بن ناصر العبيكان
www.al-obeikan.com
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. أما بعد :
فقد كثر التساؤل عن مسألة مهمة تكلم عنها الفقهاء قديماً ولكنها في زمننا الحاضر أكثر وقوعاً وأحوج إلى تأصيلها وبيان حكمها وخاصة عندما استبدلت نقود الذهب والفضة بالأوراق النقدية واتخذت كل دولة لها عمله خاصة , وهذه المسألة هي كساد العملة أو نقص قيمتها ,فنقول وبالله التوفيق : اختلف العلماء فيما إذا حرم السلطان الفلوس و تركت المعاملة بها , وكذلك اختلفوا فيما إذا رخصت أوغلت أو كسدت .
فالمسألة الأولى فيما إذا حرمها السلطان وتركت المعاملة بها , فمذهب أحمد : أن للمقرض قيمتها , ولم يلزمه قبولها سواء كانت قائمة في يده أو استهلكها لأنها تعيبت في ملكه نص عليه أحمد في الدراهم المكسرة وقال : يقومها كم تساوي يوم أخذها ثم يعطيه وسواء نقصت قيمتها قليلا أو كثيرا قال القاضي : هذا إذا اتفق الناس على تركها فأما إن تعاملوا بها مع تحريم السلطان لها لزم أخذها قال في الإنصاف : الصحيح من المذهب أن له القيمة سواء اتفق الناس على تركها أو لا ا. هـ, وقال مالك والليث بن سعد والشافعي ليس له إلا مثل ما أقرضه لأن ذلك ليس بعيب حدث فيها فجرى مجرى نقص سعرها قال الموفق في المغني :ولنا أن التحريم السلطان لها منع انفاقها وأبطل ماليتها فأشبه كسرها أو تلف أجزائها وأما رخص السعر فلا يمنع ردها سواء كان كثيرا مثل أن كانت عشرة بدانق فصارت عشرين بدانق أو قليلا لأنه لم يحدث فيها شيء إنما تغير السعر فأشبه الحنطة إذا رخصت أو غلت ".ا.هـ
والمسألة الثانية فيما إذا رخصت أو غلت أو كسدت فمذهب أحمد: أن للمقترض رد الفلوس و ليس للمقرض مطالبته بالقيمة وقيل يلزمه رد القيمة إذا رخص السعر. انظر المغني ج6 / ص 441-442 طـ هجر, و الإنصاف ج12 /ص334-335 ط هجر. , وكشاف القناع ج 8 / ص 137 ط وزارة العدل .
وقال الشيخ عبدالله بن عبدالرحمن أبا بطين رحمه الله : " وأما رخص السعر، فكلام الشيخ صريح في أنه يوجب رد القيمة أيضا ; وهو أقوى، فإذا رفع إلينا مثل ذلك، وسطنا بالصلح بحسب الإمكان، هيبة الجزم بذلك" . ا. هـ الدرر السنية ج6/ص206 طـ/السابعة.
وقال أيضاً : " فالحاصل: أن الأصحاب إنما أوجبوا رد قيمة ما ذكرنا في القرض، والثمن المعين خاصة فيما إذا منع السلطان التعامل بها فقط، ولم يروا رد القيمة في غير القرض والثمن المعين، وكذا لم يوجبوا رد القيمة والحالة هذه فيما إذا كسدت بغير تحريم السلطان لها، ولا فيما إذا غلت أو رخصت ; وأما الشيخ تقي الدين فأوجب رد القيمة في القرض والثمن المعين، وكذلك سائر الديون فيما إذا كسدت مطلقا، وكذلك إذا نقصت القيمة فيما ذكروا في جميع المثليات، والله أعلم " . ا. هـ الدرر السنية ج6/ص208 طـ/السابعة.
وقال الشيح حسن بن حسين بن علي : " وقال الشيخ: تقي الدين في شرح المحرر: إذا أقرضه أو غصبه طعاما، فنقصت قيمته فهو نقص النوع، فلا يجبر على أخذه ناقصا فيرجع إلى القيمة، وهذا هو العدل، فإن المالين إنما يتماثلان إذا استوت قيمتهما، وأما مع اختلاف القيمة فلا تماثل، فعيب الدين إفلاس المدين، وعيب العين المعينة خروجها عن المعتاد، انتهى، وكلام الشيخ هذا، هو الذي ذكره الناظم عنه تخريجا له واختيارا، فقد عرفت أنه تحصل في المسألة من حيث هي ثلاثة أقوال، التفريق بين ما إذا حرمها السلطان، فبطلت المعاملة بها بالكلية، ومثله إن تكسرت أو كسدت، فلا يتعامل بها فالقيمة، وبين ما إذا كان غايته الغلاء والرخص، مع بقاء المعاملة بحالها، فالمثلي والمثل مطلقا كما هو المنقول عن مالك والشافعي والليث، وثالثها: اختيار أبي العباس، وهو المعتمد لدينا في الفتوى. " . ا. هـ الدرر السنية ج6/ص210 طـ/السابعة.
قلت : وبعد تأمل هذه المسألة وما حصل في هذا الزمن من النقص الكثير جداً في العملة العراقية بعد حرب الكويت , وكذلك العملة اللبنانية بعد الحرب الأهلية , وكذلك ما حصل من النقص الكبير في عملات بعض البلدان لضعف الاقتصاد , ظهر جلياً أن من العدل وجوب رد قيمة العملة الورقية وقت القرض سواء ألغت الدولة التعامل بها أو رخصت هذه العملة أو كسدت , كما هو القول الراجح من حيث تحقيق العدل التي جاءت الشريعة الإسلامية بتطبيقه وهو الذي اختاره بعض الفقهاء وشيخ الإسلام ابن تيمية والشيخ عبدالله أبا بطين والشيخ حسن بن حسين – رحمهم الله - ومن الظلم أن يقترض شخص من آخر ألف دينار عراقي قبل نقص العملة ثم يرده بعد نقصها كما هو ؛ وقد لا يساوي من القيمة سوى الجزء اليسير من قيمته قبل النقص بالنسبة للعملات الأخرى ومثل القرض ثمن المبيع ونحو ذلك , والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل , وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
أملاه الفقير إلي ربه المنان
عبدالمحسن بن ناصر العبيكان
المصدر
موقع معالي الشيخ عبدالمحسن بن ناصر العبيكان
www.al-obeikan.com