المسألة الأولى :
اختلف العلماء في مسألة ( جلوس أهل الميت للتعزية ) إلى عدة أقوال .
القول الأول : كراهية جلوس أهل الميت للتعزية .
قال به : الشافعية ، والرواية المنصوصة عن الإمام أحمد ، وقول في مذهب الإمام أبي حنيفة ، وقول كثير من أئمة المالكية .
قال الإمام الشافعي : ( وأكره المآتم وهي الجماعة - وإن لم يكن لهم بكاء - فإن ذلك يجدد الحزن ، ويُكلف المؤنة ، مع ما مضى فيه من الأثر ) . – يقصد حديث جرير بن عبدالله البجلي - رضي الله عنه ، وسيأتي قريبا إن شاء الله تعالى . ( 1 )
وقال الشيرازي في المهذب : ( ويكره الجلوس للتعزية ؛ لأن ذلك مُحدث والمحدث بدعة ) . ( 2 )
وقال النووي في شرح المهذب : ( وأما الجلوس للتعزية فنص الشافعي و المصنف وسائر الأصحاب على كراهته ، ونقله الشيخ أبو حامد في التعليق وآخرون عن نص الشافعي ، قالوا : يعني بالجلوس لها أن يجتمع أهل الميت في بيت فيقصدهم من أراد التعزية ، قالوا : بل ينبغي أن ينصرفوا في حوائجهم فمن صادفهم عزاهم ، و لا فرق بين الرجال و النساء في كراهة الجلوس لها صرح به المحاملي ونقله عن نص الشافعي رحمه الله ) . ( 3 )
وقال السيوطي في شرح التنبيه : ( ويكره الجلوس لها - أي للتعزية - بأن يجتمع أهل الميت في بيت ويقصدهم ؛ لأنه بدعة ) . ( 4 )
وقال ابن عابدين الحنفي : ( قال في الإمداد : وقال كثير من متأخري أئمتنا : يكره الاجتماع عند صاحب البيت ، ويكره الجلوس في بيته حتى يأتي إليه من يعزي ، بل إذا فرغ و رجع الناس من الدفن فليتفرقوا و يشتغل الناس بأمورهم ، وصاحب البيت بأمره ) . ( 5 )
و قال الإمام أبو داود : ( قلت لأحمد : أولياء الميت يقعدون في المسجد يُعزونَ ؟ قال : أما أنا فلا يُعجبني ) . ( 6 )
وقال مجد الدين ابن تيمية الحنبلي : ( وتُسن التعزية قبل الدفن وبعده ولا يجلس لها ) . ( 7 )
وقال المرداوي الحنبلي : ( ويكره الجلوس لها ، هذا المذهب وعليه أكثر الأصحاب ونص عليه ، قال في الفروع : اختاره الأكثر ، قال في مجمع البحرين : هذا اختيار أصحابنا ) . ( 8 )
وقال أبو الخطاب الكلوذاني الحنبلي : ( يُكره الجلوس للتعزية ، وقال ابن عقيل : يكره الاجتماع بعد خروج الروح لأن فيه تهييجا للحزن ) ( 9 )
وقال الإمام أبو بكر الطرطوشي المالكي : ( قال علماؤنا المالكيون : التصدي للعزاء بدعة مكروهة ، فأما إن قعد في بيته أو في المسجد محزونا من غير أن يتصدى للعزاء فلا بأس به ؛ فإنه لما جاء النبي صلى الله عليه وسلم نعي جعفر جلسَ في المسجد محزونا وعزاه الناس ) . ( 10 )
القول الثاني : جواز جلوس أهل الميت للتعزية .
وقال به : الإمام أحمد في رواية عنه ، و قول لبعض الحنفية ، وقول لبعض المالكية .
نقل المرداوي عن الإمام أحمد : ( الرخصة لأهل الميت فقط بالجلوس للتعزية ، نقله عنه حنبل و اختاره المجد ) . ( 8 )
وقال بدر الدين العيني الحنفي : ( وفي الميرغيناني : التعزية لصاحب المصيبة حَسنٌ ، فلا بأس بأن يجلسوا في البيت أو المسجد والناس يأتونهم و يعزونهم ) . ( 11 )
ونقل ابن عابدين الحنفي عن كتاب الظهيرية قوله : ( ولا بأس به – أي الجلوس للتعزية – لأهل الميت في البيت أو المسجد و الناس يأتونهم ويعزونهم ) . ( 5 )
وقال الحطاب المالكي : ( قال سند : ويجوز أن يجلس الرجل للتعزية ، وقالت عائشة رضي الله عنها : ( جلس النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد يُعرفُ في وجهه الحزن . ( 12 )
)استدل القائلون بجواز جلوس ( أهل الميت ) للتعزية بما يلي :
ما روته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت : ( لما جاء النبي صلى الله عليه وسلم قَتْلُ ابن حارثة و جعفر وابن رواحة جلسَ يُعرفُ فيهِ الحُزنُ وأنا أنظرُ من صائر الباب شق الباب ، فأتاه رجلٌ فقال : إن نساء جعفر – وذكر بكاءهن – فأمره أن ينهاهن فذهب ، ثم أتاه الثانية لم يطعنه ، فقال : إنهَهُن ، فأتاه الثالثة قال : والله غلبننا يا رسول الله ، فزعمَتْ أنه قال : فاحثُ في أفواههن التراب ، فقلتُ : أرغم الله أنفك ، لَمْ تفعلْ ما أمرك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم تتركْ رسول الله صلى الله عليه وسلم من العناء )
أخرجه البخاري : كتاب الجنائز : باب من جلس عند المصيبة يُعرف فيه الحُزن ( رقم 1299 )
ومسلم : كتاب الجنائز : باب التشديد في النياحة ( رقم 30 )
وأبو داود : كتاب الجنائز : باب الجلوس عند المصيبة ( رقم 3122 )
والنسائي : كتاب الجنائز : باب النهي عن البكاء على الميت ( رقم 1846 )
وأجاب المانعون من الجلوس من أن جلوسه صلى الله عليه وسلم لم يكن للتعزية
قال ابن عابدين الحنفي : ( ويجاب عنه بأن جلوسه صلى الله عليه وسلم لم يكن مقصودا للتعزية ) . ( 5 )
المسألة الثانية : اجتماع الناس للتعزية عند أهل الميت والجلوس عندهم)
اعلم أن من العلماء من يفرق بين هذه المسألة و التي قبلها ، ومنهم من يجعل الكلام فيهما واحدا ويكتفي بالكلام على مسألة – جلوس أهل الميت – وذلك واضح فيما سبق .
القول الأول :
ذهب الإمام الشافعي ، و الحنفية في قول ، و الإمام أحمد في رواية عنه ، و المالكية في قول لهم إلى أن الجلوس للتعزية ( مكروه و بدعة منهي عنها) .
وقد مرت أقوالهم فيما سبق ضمن المسألة الأولى ، و إذا كان جلوس ( أهل الميت للتعزية ) مكروها أو بدعة كما صرح به بعض الأئمة ، فمن باب أولي ( جلوس الناس للتعزية عند أهل الميت ، وهذا واضح بين
القول الثاني :
رواية عن الإمام أحمد ، وقول لبعض المالكية ، أن جلوس القادمين للتعزية ( جائز ) لا بأس فيه .
قال المرداوي الحنبلي : ( قال الخلال : سهَّل الإمام أحمد في الجلوس إليهم في غير موضع ) . ( 8 )
وقال ابن عبدالبر المالكي : ( وأرجو أن يكون المتجالسة في ذلك خفيفا ) . ( 13 )
و الراجح في هذه المسألة إن شاء الله تعالى القول الأول القائل ( بكراهة الجلوس إلى أهل الميت للتعزية وأنه بدعة )
والأدلة على صحة هذا القول ما يلي :
الدليل الأول :
ما رواه جرير بن عبدالله البجلي رضي الله عنه قال : ( كُنا نَعدُّ الاجتماع إلى أهل الميتِ ، وصنعة الطعام بعدَ دفنهِ من النِّياحة ) .
أخرجه الإمام أحمد : في مسنده ( 2 / 204 رقم 6902 ) .
وابن ماجه : كتاب الجنائز : باب ما جاء في النهي عن الاجتماع إلى أهل الميت وصنعة الطعام ( رقم 1612 ) بإسنادين .
وأسلم الواسطي : في تاريخ واسط ( ص 107 ) من قول عمر رضي الله عنه .
قال البوصيري في كتابه ( مصباح الزجاجة ) لزوائد ابن ماجه : ( هذا إسناد صحيح الأول على شرط البخاري ، والثاني على شرط مسلم ) ( ص 236 ) تحقيق / محمد بن مختار بن حسين .
قال الإمام الشوكاني : ( يعني أنهم كانوا يعدون الاجتماع عند أهل الميت بعد دفنه وأكل الطعام عندهم نوعا من النياحة ؛ لما في ذلك من التثقيل عليهم وشغلهم مع ما هم فيه من شغلة الخاطر بموت الميت ، وما فيه من مخالفة السنة ؛ لأنهم مأمورون بأن يصنعوا لأهل الميت طعاما فخالفوا ذلك وكلفوهم صنعة الطعام لغيهم ) . ( 14 )
وقال الشيخ أحمد بن عبدالرحمن البنا : ( ويُستفاد من حديث جرير عدم جواز الاجتماع إلى أهل الميت كما يُفعل الآن لأجل التعزية ) . ( 15 )
وقال الإمام الصنعاني : ( فيحمل حديث جرير على أن المراد صنعة أهل الميت الطعام لمن يدفن منهم ويحضر لديهم ، كما هو عُرفُ بعض أهل الجهالات ) . ( 16 )
الدليل الثاني :
حينما وفد جرير بن عبدالله البجلي رضي الله عنه على عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال له : ( هل يُناحُ على ميتكم ؟ قال : لا ، قال : فهل تجتمعون عند أهل الميت وتجعلون الطعام ؟ قال : نعم ، قال : ذلك النوح ) .
أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف : كتاب الجنائز : باب ما قالوا الإطعام عليه و النياحة ( 3 / 175 ) .
أخرجه سعيد بن منصور في سننه ، واللفظ له . كما في الفتح الرباني للشيخ أحمد البنا ( 8 / 95 )
الدليل الثالث :
ما رواه عبدالرحمن بن مهران : أن أبا هريرة رضي الله عنه قال حين حضرهُ الموتُ : ( لا تضربوا على فُسطاطاً ، و لا تتبعوني بمجمر ، وأسرعوا بي ؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( إذا وضع الرجلُ الصالح على سريره قال : قدموني قدموني ، و إذا وضعَ الرجل السوء على سريره قال : يا ويله أين تذهبون بي ؟ ) .
أخرجه الإمام أحمد : في مسنده ( 2 / 292 رقم 7896 ) .
قال الشيخ أحمد بن عبدالرحمن البنا معلقا على هذا الحديث الصحيح : ( وفيه أنه لا يجوز نصبَ فسطاط كالسرادق و الخيمة ونحو ذلك لأجل اجتماع الناس فيه للتعزية ، و لا اتباع الجنازة بنار فإن ذلك من عوائد الجهال و من لا دين لهم ومما نهى الشرع عنه وذم فاعله ، ومع ذلك فلا تزال هذه العادة باقية عند الناس إلى الآن فلا حول ولا قوة إلا بالله ) . ( 17 )
وهنا ينبغي للمسلم أن يأخذ بالدليل ، ويتق الله تعالى في ذلك ، ويلتزم بهدي النبي صلى الله عليه وسلم .
قال الإمام العلامة ابن القيم : ( وكان من هديه صلى الله عليه وسلم تعزية أهل الميت ، ولم يكن من هديه أن يجتمع للعزاء ويقرأ له القرآن لا عند قبره ولا غيره ، وكل هذا بدعة حادثة مكروهة ) . ( 18 )
وقد مرَّ معنا قول الإمام أبو بكر الطرطوشي المالكي : ( قال علماؤنا المالكيون : التصدي للعزاء بدعة مكروهة ، فأما إن قعد في بيته أو في المسجد محزونا من غير أن يتصدى للعزاء فلا بأس به ؛ فإنه لما جاء النبي صلى الله عليه وسلم نعي جعفر جلسَ في المسجد محزونا وعزاه الناس ) .
و مرَّ أيضا قول الإمام السيوطي في شرح التنبيه : ( ويكره الجلوس لها - أي للتعزية - بأن يجتمع أهل الميت في بيت ويقصدهم لأنه بدعة ) .
و أما قول القائل : ( أما ما نراه من جلوس المعزين لقراءة القرآن أو الاستماع إليه ، فلم نر من نص على كراهته ، بل الدليل يشير إلى ندبه ) .
فأقول قد مر معنا كلام الإمام ابن القيم ، وإليك نصا آخر كي تتأنى في كلامك قبل أن تتسرع في إصدار أحكامك .
قال الإمام محمد أمين بن عابدين : ( قلتُ : وهل تنفي الكراهة بالجلوس في المسجد و قراءة القرآن حتى إذا فرغوا قام ولي الميت وعزاهُ الناس كما يفعل في زماننا هذا ؟ الظاهر لا ؛ لكون الجلوس مقصودا للتعزية لا للقراءة ، ولا سيما إذا كان هذا الاجتماع و الجلوس في المقبرة فوق القبور المدثورة ) . ( 3 )
وقال الشيخ أحمد بن عبدالرحمن البنا : ( فما يفعله الناس الآن من الاجتماع للتعزية ، وذبح الذبائح ، وتهيئة الطعام ، ونصب الخيام ، والقماش المزخرف بالألوان ، وفرش البسط وغيرها ، وصرف الأموال الطا ئلة في هذه الأمور المبتدعة التي لايقصدون بها إلا التفاخر و الرياء ليقول الناس فلان فعل كذا و كذا ، و أنفق كذا وكذا في مأتم أبيه مالا ، كله حرام مخالف لهدي النبي صلى الله عليه وسلم وهدي السلف الصالح من الصحابة و التابعين ، ولم يقل به أحد من أئمة الدين ، نسأل الله السلامة ) .] ( 15 )
هذا ما تيسر لي جمعه مما توفر عندي من كُتب أهل العلم من مكتبتي ، ولله الحمد و الفضل والمنة .
وأسأل الله أن يهدينا إلى الصراط المستقيم و أن يهدي ضال المسلمين ، وأن يرزقنا كلمة الحق في الغضب و الرضى .
================ الحاشية ==================
( 1 ) الأم للإمام المجدد محمد بن إدريس الشافعي ( 1 / 248 )
( 2 ) المهذب للإمام أبي إسحاق الشيرازي ضمن المجموع للنووي ( 5 / 268 ) تحقيق الدكتور / محمود مطرجي .
( 3 ) المجموع شرح المهذب للإمام النووي ( 5 / 270 - 271 ) تحقيق الدكتور / محمود مطرجي .
وانظر كتاب الأذكار للإمام النووي (ص 151 - 152 ) .
( 4 ) شرح التنبيه للإمام السيوطي ( 1 / 219 ) إشراف مكتب البحوث والدراسات بدار الفكر .
( 5 ) رد المحتار على الدر المختار لابن عابدين ( 2 / 149 ) تحقيق عادل بن عبدالموجود و علي بن محمد معوض ، و قدم له و قرظه د / محمد بن بكر بن إسماعيل .
( 6 ) مسائل الإمام أحمد رواية الإمام أبي داود السجستاني صاحب السنن ( ص 189 رقم المسألة 922 ) تحقيق / أبي معاذ طارق بن عوض الله بن محمد .
( 7 ) المحرر في الفقه للإمام أبي البركات مجد الدين عبدالسلام بن تيمية الحراني ( 1 / 207 ) تحقيق العالم السلفي محمد بن حامد الفقي رحمه الله .
( 8 ) الإنصاف للمرداوي ( 2 / 565 ) تصحيح وتحقيق العالم السلفي محمد بن حامد الفقي رحمه الله .
( 9 ) المغني للإمام أبي محمد ابن قدامه ( 3 / 487 ) تحقيق د / عبدالله التركي و د / عبدالفتاح الحلو .
( 10 ) كتاب الحوادث و البدع للإمام العلامة أبي بكر محمد بن الوليد الطرطوشي ( ص 170 ) تحقيق / على بن حسن الحلبي .
( 11 ) البناية شرح الهداية للإمام بدر الدين محمد العيني ( 3 / 303 ) دار الفكر
( 12 ) مواهب الجليل لشرح مختصر خليل للإمام أبي عبدالله الحطاب المغربي ( 2 / 230 ) وبهامشه التاج و الإكليل لأبي القاسم العبدري الشهير بالمواق .
(
13 ) الكافي في فقه أهل المدينة المالكي للإمام ابن عبدالبر القرطبي ( 1 / 283 ) تحقيق / محمد بن محمد الموريتاني .
( 14 ) نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار للشوكاني ( 4 / 97 ) دار الكتب العلمية .
( 15 ) الفتح الرباني في ترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني للشيخ أحمد البنا ( 8 / 96 ) دار الشهاب القاهرة .
( 16 ) سبل السلام شرح بلوغ المرام للصنعاني ( 2 / 226 ) تحقيق د / خليل بن إبراهيم بن ملا خاطر .
( 17 ) الفتح الرباني في ترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني للشيخ أحمد البنا ( 8 / 6 - 7 ) دار الشهاب القاهرة .
( 18 ) زاد المعاد في هدي خير العباد لابن القيم ( 1 / 527 ) تحقيق / شعيب الأرناؤط و عبدالقادر الأرنؤط .
تنبيهات مهمة تتعلق بالبحث .
وهذه بعض التنبيهات :
=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=
الأول :
ذكر الأخ في أول كلامه مسألة ( جلوس أهل الميت للتعزية ) وذكر رواية عن الإمام أحمد : ( وهي رواية الخلال عن الإمام أحمد حيث قال : سهل الإمام أحمد في الجلوس إليهم في غير موضع ) وهذه الرواية تتكلم عن ( جلوس المعزين عند أهل الميت لتعزيتهم ) وهذا لا يتُناسب مع ما ذكره في أول كلامه عن أن المسألة هي جلوس ( أهل الميت ) للتعزية .
الثاني :
قول الأخ أيضا : ( أما القول بأن الجلوس بدعة فلا أعلم أحدا نص عليه من أهل العلم ) !!!
فأقول قد نص على أنه بدعة كل من ( الإمام أبو إسحاق الشيرازي الشافعي ، والإمام السيوطي ، والإمام أبو بكر الطرطوشي المالكي ) كما مر معنا .
الثالث :
قول الأخ في حاشية كلامه : ( أما ما نراه من جلوس المعزين لقراءة القرآن أو الاستماع إليه ، فلم نر من نص على كراهته ، بل الدليل يشير إلى ندبه ) .
فأقول : أنه في كلامه هذا تكلم عن ( جلوس الناس للتعزية عند أهل الميت ) مع أنه إنما تكلم عن في بداية كلامه عن مسألة ( جلوس أهل الميت للتعزية ) .
وأقول أيضا قد نص على أن ذلك - وهو اجتماع المعزين و قراءة القرآن عند اجتماعهم - العمل بدعة ( الإمام العلامة السلفي أبو بكر بن القيم ) رحمه الله ، وقد مر معنا قوله .
ونص على كراهته أيضا ( الإمام محمد أمين بن عابدين الحنفي ) وقد مر أيضا كلامه .
وأيضا لم يذكر الديل الذي يشير إلى ندبية ذلك ؟ !!
الرابع :
الشافعية رحمهم الله تعالى اكتفوا ببيان حكم جلوس ( أهل الميت ) للتعزية ، كما ترى ذلك حينما تقرأ كلامهم في البحث .
وذلك لأنه إذا كان مكروها عندهم أو بدعه - كما صرح به بعض أئمتهم - فمن باب أولى جلوس ( الناس عندهم للتعزية . وهذا واضح لمن تدبره .
الخامس :
الحنفية رحمهم الله تعالى منهم من يبيح جلوس ( أهل الميت ) للتعزية ، ومنهم من ( يكرهه ) .
وأما جلوس ( الناس للتعزية ) عند أهل الميت ، فقد قال الإمام ابن عابدين : ( قال في الإمداد : وقال كثير من متأخري أئمتنا : يكره الاجتماع عند صاحب البيت ) كما هو واضح فيما سبق .
السادس :
كثير من الناس قد يتعصب ( للأشخاص ) دون ( الدليل ) . وهذا هو الموقع في الفرقة والاختلاف المحرم .
بل حتى الأئمة الأربعة - رضي الله عنهم – نهوا عن اتباع أقوالهم إذا خالفت سنة النبي صلى الله عليه وسلم .
وإليكم شيئا من حالهم و أقوالهم :
أبو حنيفة رضي الله عنه خالفه صحباه (( أبو يوسف و محمد بن الحسن الشيباني )) في كثير من المسائل .
قال الإمام علي بن أبي العز الحنفي : (( بل أبو يوسف ومحمد وغيرهما من أصحاب أبي حنيفة خالفوا أبا حنيفة فيما ظهر لهم فيه الدليل على خلاف قوله ))
[ انظر كتاب الاتباع للإمام العلامة القاضي علي بن أبي العز الحنفي ص 24 ]
وقال أيضا : (( وكم قد خالف أبا حنيفة أبو يوسف ومحمد وزفر وغيرهم من أصحابه في مسائل لا تكاد تحصى ، وكم قد رجعوا عن مسألة لما ظهر لهم فيها الدليل على خلاف ما كانوا وافقوه فيه )) [ الاتباع ص 40 ]
وأما الإمام مالك رضي الله عنه فقال : (( كل يؤخذ من قوله ويترك إلا صاحب هذا القبر محمد صلى الله عليه وسلم )) ولله دره .
ولما أراد أبو جعفر المنصور أن يحمل الناس على موطأه امتنع من ذلك وقال : (( إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تفرقوا في الأمصار وإنما جمعت علم أهل بلدي ))
[ الاتباع ص 35 ]
وأما الإمام الشافعي رضي الله عنه فقال : (( إذا رأيتم كلامي يخالف كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم فاضربوا بكلامي عرض الحائط )) ولله دره .
وقال رضي الله عنه : ( إذا صح الحديث فهو مذهبي ) .
ولما تناظر هو والإمام ( إسحاق بن راهويه ) في مسألة ( بيع دور مكة أو تأجيرها ) واستدل ( إسحاق ) بقول ( إبراهيم والحسن ) قال له الشافعي رضي الله عنه : (( ما أحوجني أن يكون غيرك مكانك فكنت آمرا بفرك أذنيه ، أقول لك : قال رسول الله ، وتقول لي : قال إبراهيم والحسن ، وهل لأحد مع رسول الله حجة )) فسكت إسحاق فسكت عنه الشافعي .
[ ذكر المناظرة الإمام النووي في شرحه على الأذكار له ]
وأما الإمام أحمد رضي الله عنه فقال : (( عجبت لإناس عرفوا صحة الحديث ثم يذهبون إلى رأي سفيان )) .
وقال أيضا : (( لا تقلدني ولا تقلد الشافعي ومالكا وخذ من حيث أخذنا )) .
وكان ينهى رضي الله عنه عن أن يكتب كلامه .
هذا شيء من (( هديهم وإرشادهم )) رضي الله عنهم ، ولنا في ذلك أسوة .
وأقول لكل أخ مسلم : ( إذا رأيتم في كلامي شيئا يخالف كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم فاضربوا بكلامي عرض الحائط ) .
وهذه بعض فتاوى - بعض كبار أئمة أهل السنة - في هذا العصر رضي الله عنهم وأرضاهم .
=-=-=-=-=-=-=-=-=-=
الفتوى رقم (4504)
س: سؤالنا هو عن ما يجري في عزاء الميت اليوم، وذلك أنه في الآونة الأخيرة أخذت كل قرية من قرى الجنوب تجمع نقوداً وتأخذ بها صيوان خيام، وينصب إذا مات منهم واحد لمدة ثلاثة أيام، ثم يأخذ وفود المعزين يأتون إليهم جماعة بعد جماعة في ذلك الصيوان، ويجلسون مدة من الوقت، ثم يذهبون ويأتي آخرون، وهكذا حتى تنتهي هذه الثلاثة الأيام، وهؤلاء الوفود لا يأكلون عند أهل المصاب، لكن عند الجماعة وخاصة الذي يأتي من بلد بعيد، فالذي أشكل علينا هو نصب هذه الخيام والتجمع الذي بصفة دائمة في هذه الثلاثة الأيام، وإقراء جماعة أهل المصاب للذين يأتون من بعيد هل فيه شيء أم لا ؟ نرجو توضيح الجائز من غيره في كل ما ذكر.
ج: أولاً: من هديه صلى الله عليه وسلم تعزية أهل الميت. بهذا جاءت السنة من فعله صلى الله عليه وسلم وقوله.
ثانياً: من السنة صنع الطعام لأهل الميت، فعن عبدالله بن جعفر قال: لما جاء نعي جعفر رضي الله عنه حين قتل قال النبي صلى الله عليه وسلم : « اصنعوا لآل جعفر طعاماً فقد أتاهم ما يشغلهم » رواه الخمسة إلا النسائي.
ثالثاً: الاجتماع عند أهل الميت وصنعة الطعام منهم بعد دفنه لا يجوز، والأصل في ذلك ما رواه الإمام أحمد عن جرير بن عبدالله البجلي قال : « كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت وصنعة الطعام بعد دفنه من النياحة » .
رابعاً: يحرم ما يفعله أهل القرية من جمع نقود يأخذون بها صيواناً ينصب إذا مات منهم واحد لمدة ثلاثة أيام، يأتي إليهم جماعة بعد جماعة في ذلك الصيوان، ويجلسون مدة من الوقت، ثم يذهبون ويأتي آخرون، وهكذا حتى تنتهي هذه الثلاثة الأيام؛ لأن ذلك بدعة لا أساس لها في الشرع المطهر.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو/ عبدالله بن قعود عضو/ عبدالله بن غديان
الرئيس
عبدالعزيز بن عبدالله بن باز
================================================== ===========
السؤال الأول من الفتوى رقم (4233)
س1: إذا توفي شخص فإن أهل المتوفى يأخذون عزاء عند المقبرة، ثم ينصرفون إلى منزل أحد الجيران، يدعون من أحدهم، ثم يقوم جميع الجيران بالتناوب في عزيمة أهل المتوفى، ويتكلف بذبح شاة أو أكثر لإطعام أهل المتوفى، ومن أقاربهم، ويبقى العزاء ثلاثة أيام متتالية في دار المتوفى، يتخذ لها احتساء الشاهي والقهوة وقراءة القرآن المطبوع بشكل أجزاء، حيث يوضع القرآن التي يسمونها: ( الربعة ) في وسط المجلس، وكل من يأتيهم للعزاء ويريد أن يقرأ فعليه أن يتناول جزءً من هذه الأجزاء الثلاثين ويقرأه ، وعند انتهاء هذه الأيام الثلاثة يدعى الناس جميعاً لوليمة كبيرة يقيمها أهل المتوفى، وتعرف بـ: ( التختيمة )، حيث يختم القرآن أكثر من مرة في هذا اليوم، وبعد مضي أربعين يوماً من الوفاة بعض الناس يكرر نفس العملية ويستدلون على أن القراءة ليست بأجر. ويقولون: إنهم بهذه الطريقة يواسون أهل المتوفى. سماحة الشيخ نرجو من فضيلتكم إشعارنا هل هذه الطريقة المتبعة توافق الشرع أو تخالفه؟ وإذا كانت لا توافق الشرع المتبع في عهد الرسول r ولا في عهد الصحابة رضوان الله عليهم ولا في عهد التابعين، فنرجو من سماحتكم توضيح ذلك لأهالي هذه البلدة بالطريقة التي ترونها مناسبة، وما قصدي من هذا إلا أن يكون الناس على بصيرة .
ج1: تقبل العزاء من أهل الميت في المقبرة قبل الدفن أو بعده لا حرج فيه ، أما ما ذكرت في السؤال من عمل أهل البلد من قيام جيران أهل الميت بدعوتهم لتناول الطعام في بيوت الجيران بالتناوب مدة أيام ، وكذلك ما يفعله بعض الناس من نصب سرادقات ، وجلب قراء يتناوبون على القراءة بأجر أو بغير أجر ووضع حفل طعام بعد الأربعين . كل ذلك لا نعلم له أصلاً في الشرع المطهر ، بل هو من البدع المحدثة في الدين ؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم : « من أحدث في أمرنا هذا ماليس منه فهو رد » ؛ ولأن صنعة الطعام من أهل الميت للناس من عمل الجاهلية فلا يجوز فعله ، وإنما المشروع أن يصنع لأهل الميت طعام يبعث به إليهم ، لا أنهم يدعون إليه ؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم لما جاء نعي جعفر رضي الله عنه حين قتل يوم مؤتة ، قال لأهله : « اصنعوا لآل جعفر طعاماً فقد أتاهم ما يشغلهم » .
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو
عبدالله بن قعود عبدالله بن غديان (نائب رئيس اللجنة عبدالرزاق عفيفي) (الرئيس عبدالعزيز بن عبدالله بن باز)
========
الفتوى رقم (34)
س: اعتاد أهل بلادنا الجلوس للتعزية عند وفاة شخص منهم، أسبوعاً أو أكثر، وغلوا في ذلك، فأنفقوا كثيراً من الأموال في الذبائح وغيرها، وتكلف المعزون فجاؤا وافدين من مسافات بعيدة، ومن تخلف عن التعزية خاضوا فيه ونسبوه إلى البخل وإلى ترك ما يظنونه واجباً. فأفتونا في ذلك.
ج: التعزية مشروعة، وفيها تعاون على الصبر على المصيبة، ولكن الجلوس للتعزية على الصفة المذكورة واتخاذ ذلك عادة لم يكن من عمل النبي r، ولم يكن من عمل أصحابه. فما اعتاده الناس من الجلوس للتعزية حتى ظنوه ديناً وأنفقوا فيه الأموال الطائلة، وقد تكون التركة ليتامى، وعطلوا فيه مصالحهم، ولاموا فيه من لم يشاركهم، ويفد إليهم، كما يلومون من ترك شعيرة إسلامية - هذا من البدع المحدثة، التي ذمها رسول الله r في عموم قوله: «من أحدث في أمرنا هذا ماليس منه فهو رد»، وفي الحديث: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة»، فأمر باتباع سنته وسنة الخلفاء الراشدين من بعده، وهم لم يكونوا يفعلون ذلك، وحذر من الابتداع، والإحداث في الدين، وبين أنه ضلال. فعلى المسلمين أن يتعاونوا على إنكار هذه العادات السيئة، والقضاء عليها؛ اتباعاً للسنة، وحفظاً للأموال، والأوقات، وبعداً عن مثار الأحزان، وعن التباهي بكثرة الذبائح، ووفود المعزين، وطول الجلسات، وليسعهم ما وسع الصحابة والسلف الصالح من تعزية أهل الميت، وتسليته والصدقة عنه، والدعاء له بالمغفرة والرحمة.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو
عبدالله بن غديان- نائب رئيس اللجنة عبدالرزاق عفيفي- الرئيس إبراهيم بن عبدالله آل الشيخ
==========
السؤال الثالث من الفتوى رقم (261
س3: ما حكم الاجتماع عند أهل الميت صبيحة الغد من يوم الوفاة للدعاء وإيناسهم والحديث معهم، حتى ثلاثة أيام أو أكثر، فإن بعض العلماء عندنا أحله وبعضهم حرمه إلا للإمام وحده للتعزية ولكن لم يأت أحد بدليل؟
ج3: يسن تعزية أهل الميت كبارهم وصغارهم ، تسلية لهم عن مصابهم ، وإعانة لهم على الصبر وتحمل ما نزل بهم ؛ لعموم ما رواه الترمذي من قوله عليه الصلاة والسلام : « من عزى مصاباً فله مثل أجره »( 1 ) وقال: حديث غريب ، ولما رواه ابن ماجه عن النبي عليه الصلاة والسلام : « ما من مؤمن يعزي أخاه في مصيبة إلا كساه الله من حلل الكرامة يوم القيامة » ، وفي سنده قيس أبو عمارة الفارسي مولى الأنصار، وفيه لين ، لكن مجموع ما ورد من الأحاديث في التعزية يقوي بعضه بعضاً ، فتنهض للاحتجاج بها ، ويثبت بها مشروعية التعزية دون الجلوس والاجتماع لها ، ويكره الجلوس للتعزية والاجتماع من أجلها يوماً أو أياماً ؛ لأن ذلك لم يعرف عن النبي r ولا عن خلفائه الراشدين ؛ لأن في جلوس أهل الميت واجتماع المعزين بهم يوماً أو أياماً إثارة للحزن وتجديداً له ، وتعطيلاً لمصالحهم .
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو
عبدالله بن قعود
عضو
عبدالله بن غديان
نائب رئيس اللجنة
عبدالرزاق عفيفي - الرئيس عبدالعزيز بن عبدالله بن باز
====================
انظر كتاب فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء جمع وترتيب / أحمد بن عبدالرزاق الدويش / المجلد التاسع / « الجنائز - الزكاة »
( 1 ) ( ) أخرجه الترمذي ( 3 / 376 برقم 1073 ) ، وابن ماجه ( 1 / 511 برقم 1602 ) ، وأبو نعيم في الحلية ( 5 / 9 ) و ( 7 / 99 ، 164 ) ، والبيهقي ( 4 / 59 ) ، والبغوي ( 5 / 458 برقم 1551) .