باب تحية المسجد
1 - عن أبي قتادة قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين )
- رواه الجماعة والأثرم في سننه . ولفظه : ( أعطوا المساجد حقها قالوا : وما حقها قال : أن تصلوا ركعتين قبل أن تجلسوا )
- حديث أبي قتادة أورده البخاري بلفظ النهي كما ذكره المصنف وبلفظ الأمر فروي من طريق عمرو بن سليم الزرقي عن أبي قتادة : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين قبل أن يجلس )
وأخرج البخاري ومسلم عن جابر بن عبد الله : ( أن النبي صلى الله عليه و سلم أمر سليكا الغطفاني لما أتى يوم الجمعة والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يخطب فقعد قبل أن يصلي الركعتين أن يصليهما )
وأخرج مسلم عن جابر أيضا : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما أتى المسجد لثمن جمله الذي اشتراه منه صلى الله عليه وآله وسلم أن يصلي الركعتين ) والأمر يفيد بحقيقته وجوب فعل التحية والنهي يفيد بحقيقته أيضا تحريم تركها وقد ذهب إلى القول بالوجوب الظاهرية كما حكى ذلك عنهم ابن بطال . قال الحافظ في الفتح : والذي صرح به ابن حزم عدمه
وذهب الجمهور إلى أنها سنة وقال النووي : إنه إجماع المسلمين قال : وحكى القاضي عياض عن داود وأصحابه وجوبها . قال الحافظ في الفتح : واتفق أئمة الفتوى على أن الأمر في ذلك للندب قال : ومن أدلة عدم الوجوب قوله صلى الله عليه وآله وسلم للذي رآه يتخطى : ( اجلس فقد آذيت ) ولم يأمره بصلاة كذا استدل به الطحاوي وغيره وفيه نظر انتهى
( ومن جملة ) أدلة الجمهور على عدم الوجوب ما أخرجه ابن أبي شيبة عن زيد بن أسلم قال : كان أصحاب رسول الله صلى [ ص 83 ] الله عليه وآله وسلم يدخلون المسجد ثم يخرجون ولا يصلون
( ومن أدلتهم ) أيضا حديث ضمام بن ثعلبة عند البخاري ومسلم والموطأ وأبي داود والنسائي لما سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عما فرض الله عليه من الصلاة فقال : ( الصلوات الخمس فقال : هل علي غيرها قال : لا إلا أن تطوع ) وفي رواية للبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وأبي داود قال : ( الصلوات الخمس إلا أن تطوع )
ويجاب على عدم أمره صلى الله عليه وآله وسلم للذي رآه يتخطى بالتحية بأنه لا مانع له أن يكون قد فعلها في جانب من المسجد قبل وقوع التخطي منه أو أنه كان ذلك قبل الأمر بها والنهي عن تركها ولعل هذا وجه النظر الذي ذكره الحافظ ويجاب عن الاستدلال بأن الصحابة كانوا يدخلون ويخرجون ولا يصلون بأن التحية إنما تشرع لمن أراد الجلوس لما تقدم وليس في الرواية أن الصحابة كانوا يدخلون ويجلسون ويخرجون بغير صلاة تحية وليس فيها إلا مجرد الدخول والخروج فلا يتم الاستدلال إلا بعد تبيين أنهم كانوا يجلسون على أنه لا حجة في أفعالهم أما عند من لا يقول بحجية الإجماع فظاهر
وأما عند القائل بذلك فلا يكون حجة إلا فعل جميعهم بعد عصره صلى الله عليه و سلم لا في حياته كما تقرر في الأصول وتلك الرواية محتملة وأيضا يمكن أن يكون صدور ذلك منهم قبل شرعيتها ويجاب عن حديث ضمام بن ثعلبة أولا بأن التعاليم الواقعة في مبادئ الشريعة لا تصلح لصرف وجوب ما تجدد من الأوامر وإلا لزم قصر واجبات الشريعة على الصلاة والصوم والحج والزكاة والشهادتين واللازم باطل فكذا الملزوم
أما الملازمة فلأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم اقتصر في تعليم ضمام بن ثعلبة في هذا الحديث السابق نفسه على الخمس المذكورة كما في الأمهات وفي بعضها على أربع ثم لما سمعه يقول بعد أن ذكر به ذلك : ( والله لا أزيد على هذا ولا أنقص منه قال : أفلح إن صدق أو دخل الجنة إن صدق ) وتعليق الفلاح ودخول الجنة بصدقه في ذلك القسم الذي صرح فيه بترك الزيادة على الأمور المذكورة مشعر بأن لا واجب عليه سواها إذ لو فرض بأن عليه شيئا من الواجبات غيرها لما قرره الرسول صلى الله عليه وآله وسلم على ذلك ومدحه به وأثبت له الفلاح ودخول الجنة فلو صلح قوله ( لا إلا أن تطوع ) لصرف الأوامر الواردة بغير الخمس الصلوات لصلح قوله ( أفلح إن صدق ) و ( دخل الجنة إن صدق ) لصرف الأدلة القاضية بوجوب ما عدا الأمور المذكورة
( وأما بطلان اللازم ) فقد ثبت بالأدلة المتواترة وإجماع الأمة أن واجبات [ ص 84 ] الشريعة قد بلغت أضعاف أضعاف تلك الأمور فكان اللازم باطلا بالضرورة الدينية وإجماع الأمة ويجاب ثانيا بأن قوله إلا أن تطوع ينفي وجوب الواجبات ابتداء لا الواجبات بأسباب يختار المكلف فعلها كدخول المسجد مثلا لأن الداخل ألزم نفسه الصلاة بالدخول فكأنه أوجبها على نفسه فلا يصح شمول ذلك الصارف لمثلها
ويجاب ثالثا بأن جماعة من المتمسكين بحديث ضمام بن ثعلبة في صرف الأمر بتحية المسجد إلى الندب قد قالوا بوجوب صلوات خارجة عن الخمس كالجنازة وركعتي الطواف والعيدين والجمعة فما هو جوابهم في إيجاب هذه الصلوات فهو جواب الموجبين لتحية المسجد
( لا يقال ) الجمعة داخلة في الخمس لأنها بدل عن الظهر لأنا نقول لو كانت كذلك لم يقع النزاع في وجوبها على الأعيان ولا احتيج إلى الاستدلال لذلك إذا عرفت هذا لاح لك أن الظاهر ما قاله أهل الظاهر من الوجوب
( والحديث ) يدل على مشروعية التحية في جميع الأوقات وإلى ذلك ذهب جماعة من العلماء منهم الشافعية وكرهها أبو حنيفة والأوزاعي والليث في وقت النهي وأجاب الأولون بأن النهي إنما هو عما لا سبب له واستدلوا بأنه صلى الله عليه و سلم صلى بعد العصر ركعتي الظهر وصلى ذات السبب ولم يترك التحية في حال من الأحوال بل أمر الذي دخل المسجد وهو يخطب فجلس قبل أن يركع أن يقوم فيركع ركعتين مع أن الصلاة في حال الخطبة ممنوع منها إلا التحية ولأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قطع خطبته وأمره أن يصلي التحية فلولا شدة الاهتمام بالتحية في جميع الأوقات لما اهتم هذا الاهتمام ذكر معنى ذلك النووي في شرح مسلم
والتحقيق أنه قد تعارض في المقام عمومات النهي عن الصلاة في أوقات مخصوصة من غير تفصيل والأمر للداخل بصلاة التحية من غير تفصيل فتخصيص أحد العمومين بالآخر تحكم وكذلك ترجيح أحدهما على الآخر مع كون كل واحد منهما في الصحيحين بطرق متعددة ومع اشتمال كل واحد منهما على النهي أو النفي الذي في معناه ولكنه إذا ورد ما يقضي بتخصيص أحد العمومين عمل عليه وصلاته صلى الله عليه وآله وسلم سنة الظهر بعد العصر مختص به لما ثبت عند أحمد وغيره ممن قدمنا ذكرهم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما قالت له أم سلمة : ( أفنقضيهما إذا فاتتا قال : لا ) ولو سلم عدم الاختصاص لما كان في ذلك إلا جواز قضاء سنة الظهر لا جواز جميع ذوات الأسباب نعم حديث يزيد بن الأسود الذي سيأتي : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال للرجلين : ما منعكما أن تصليا معنا فقالا : قد صلينا في رحالنا فقال : إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم فإنها لكما نافلة ) وكانت تلك الصلاة صلاة الصبح كما سيأتي يصلح لأن يكون من جملة المخصصات لعموم الأحاديث القاضية بالكراهة وكذلك ركعتا الطواف وسيأتي تحقيق هذا في باب الأوقات المنهي عن الصلاة فيها وباب الرخصة في إعادة الجماعة وركعتي الطواف
وبهذا التقرير يعلم أن فعل تحية المسجد في الأوقات المكروهة وتركها لا يخلو عند القائل بوجوبها من إشكال والمقام عندي من المضايق والأولى للمتورع ترك دخول المساجد في أوقات الكراهة
قوله في حديث الباب : ( فلا يجلس ) قال الحافظ : صرح جماعة بأنه إذا خالف وجلس لا يشرع له التدارك قال : وفيه نظر لما رواه ابن حبان في صحيحه من حديث أبي ذر أنه دخل المسجد فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ( أركعت ركعتين قال : لا قال : قم فاركعهما ) ومثله قصة سليك المتقدم ذكرها وسيأتي ذكرها في أبواب الجمعة
وقال الطبري : يحتمل أن يقال وقتهما قبل الجلوس وقت فضيلة وبعده وقت جواز أو يقال وقتهما قبله أداء وبعده قضاء
قال الحافظ : ويحتمل أن تحمل مشروعيتهما بعد الجلوس على ما إذا لم يطل الفصل وظاهر التعليق بالجلوس أنه ينتفي النهي بانتفائه فلا يلزم التحية من دخل المسجد ولم يجلس ذكر معنى ذلك ابن دقيق العيد وتعقب بأن الجلوس نفسه ليس هو المقصود بالتعليق عليه بل المقصود الحصول في بقعته واستدل على ذلك بما عند أبي داود بلفظ : ( ثم ليقعد بعد إن شاء أو ليذهب لحاجته إن شاء ) والظاهر ما ذكره ابن دقيق العيد
قوله : ( حتى يصلي ركعتين ) قال الحافظ في الفتح : هذا العدد لا مفهوم لأكثره باتفاق واختلف في أقله والصحيح اعتباره فلا تتأدى هذه السنة بأقل من ركعتين انتهى
وظاهر الحديث أن التحية مشروعة وإن تكرر الدخول إلى المسجد ولا وجه لما قاله البعض من عدم التكرر قياسا على المترددين إلى مكة في سقوط الإحرام عليهم
( فائدة ) ذكر ابن القيم أن تحية المسجد الحرام الطواف لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بدأ فيه بالطواف وتعقب بأنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يجلس إذ التحية إنما تشرع لمن جلس كما تقدم والداخل إلى المسجد الحرام يبدأ بالطواف ثم يصلي صلاة المقام فلا يجلس إلا وقد صلى فأما لو دخل المسجد الحرام وأراد القعود قبل الطواف فإنه يشرع له أن يصلي التحية
ومن جملة ما استثني من عموم التحية دخول المسجد لصلاة العيد لأنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يصل قبلها ولا بعدها وتعقب بأنه صلى الله عليه [ ص 86 ] وآله وسلم لم يجلس حتى يتحقق في حقه ترك التحية . وأيضا الجبانة ليست بمسجد فلا تحية لها فلا يلحق بذلك من دخل لصلاة العيد في مسجد وأراد الجلوس قبل الصلاة ولكنه سيأتي في أبواب صلاة العيد حديث مرفوع يدل على منع التحية قبل صلاة العيد وبعدها
ومن جملة ما استثني من عموم التحية من دخل المسجد وقد أقيمت الفريضة فإنها لا تشرع لحديث أبي هريرة عند مسلم وأصحاب السنن وابن خزيمة وابن حبان مرفوعا بلفظ : ( إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة )
المصدر (نيل الأوطار) للعلامة الشوكاني رحمه الله
1 - عن أبي قتادة قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين )
- رواه الجماعة والأثرم في سننه . ولفظه : ( أعطوا المساجد حقها قالوا : وما حقها قال : أن تصلوا ركعتين قبل أن تجلسوا )
- حديث أبي قتادة أورده البخاري بلفظ النهي كما ذكره المصنف وبلفظ الأمر فروي من طريق عمرو بن سليم الزرقي عن أبي قتادة : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين قبل أن يجلس )
وأخرج البخاري ومسلم عن جابر بن عبد الله : ( أن النبي صلى الله عليه و سلم أمر سليكا الغطفاني لما أتى يوم الجمعة والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يخطب فقعد قبل أن يصلي الركعتين أن يصليهما )
وأخرج مسلم عن جابر أيضا : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما أتى المسجد لثمن جمله الذي اشتراه منه صلى الله عليه وآله وسلم أن يصلي الركعتين ) والأمر يفيد بحقيقته وجوب فعل التحية والنهي يفيد بحقيقته أيضا تحريم تركها وقد ذهب إلى القول بالوجوب الظاهرية كما حكى ذلك عنهم ابن بطال . قال الحافظ في الفتح : والذي صرح به ابن حزم عدمه
وذهب الجمهور إلى أنها سنة وقال النووي : إنه إجماع المسلمين قال : وحكى القاضي عياض عن داود وأصحابه وجوبها . قال الحافظ في الفتح : واتفق أئمة الفتوى على أن الأمر في ذلك للندب قال : ومن أدلة عدم الوجوب قوله صلى الله عليه وآله وسلم للذي رآه يتخطى : ( اجلس فقد آذيت ) ولم يأمره بصلاة كذا استدل به الطحاوي وغيره وفيه نظر انتهى
( ومن جملة ) أدلة الجمهور على عدم الوجوب ما أخرجه ابن أبي شيبة عن زيد بن أسلم قال : كان أصحاب رسول الله صلى [ ص 83 ] الله عليه وآله وسلم يدخلون المسجد ثم يخرجون ولا يصلون
( ومن أدلتهم ) أيضا حديث ضمام بن ثعلبة عند البخاري ومسلم والموطأ وأبي داود والنسائي لما سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عما فرض الله عليه من الصلاة فقال : ( الصلوات الخمس فقال : هل علي غيرها قال : لا إلا أن تطوع ) وفي رواية للبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وأبي داود قال : ( الصلوات الخمس إلا أن تطوع )
ويجاب على عدم أمره صلى الله عليه وآله وسلم للذي رآه يتخطى بالتحية بأنه لا مانع له أن يكون قد فعلها في جانب من المسجد قبل وقوع التخطي منه أو أنه كان ذلك قبل الأمر بها والنهي عن تركها ولعل هذا وجه النظر الذي ذكره الحافظ ويجاب عن الاستدلال بأن الصحابة كانوا يدخلون ويخرجون ولا يصلون بأن التحية إنما تشرع لمن أراد الجلوس لما تقدم وليس في الرواية أن الصحابة كانوا يدخلون ويجلسون ويخرجون بغير صلاة تحية وليس فيها إلا مجرد الدخول والخروج فلا يتم الاستدلال إلا بعد تبيين أنهم كانوا يجلسون على أنه لا حجة في أفعالهم أما عند من لا يقول بحجية الإجماع فظاهر
وأما عند القائل بذلك فلا يكون حجة إلا فعل جميعهم بعد عصره صلى الله عليه و سلم لا في حياته كما تقرر في الأصول وتلك الرواية محتملة وأيضا يمكن أن يكون صدور ذلك منهم قبل شرعيتها ويجاب عن حديث ضمام بن ثعلبة أولا بأن التعاليم الواقعة في مبادئ الشريعة لا تصلح لصرف وجوب ما تجدد من الأوامر وإلا لزم قصر واجبات الشريعة على الصلاة والصوم والحج والزكاة والشهادتين واللازم باطل فكذا الملزوم
أما الملازمة فلأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم اقتصر في تعليم ضمام بن ثعلبة في هذا الحديث السابق نفسه على الخمس المذكورة كما في الأمهات وفي بعضها على أربع ثم لما سمعه يقول بعد أن ذكر به ذلك : ( والله لا أزيد على هذا ولا أنقص منه قال : أفلح إن صدق أو دخل الجنة إن صدق ) وتعليق الفلاح ودخول الجنة بصدقه في ذلك القسم الذي صرح فيه بترك الزيادة على الأمور المذكورة مشعر بأن لا واجب عليه سواها إذ لو فرض بأن عليه شيئا من الواجبات غيرها لما قرره الرسول صلى الله عليه وآله وسلم على ذلك ومدحه به وأثبت له الفلاح ودخول الجنة فلو صلح قوله ( لا إلا أن تطوع ) لصرف الأوامر الواردة بغير الخمس الصلوات لصلح قوله ( أفلح إن صدق ) و ( دخل الجنة إن صدق ) لصرف الأدلة القاضية بوجوب ما عدا الأمور المذكورة
( وأما بطلان اللازم ) فقد ثبت بالأدلة المتواترة وإجماع الأمة أن واجبات [ ص 84 ] الشريعة قد بلغت أضعاف أضعاف تلك الأمور فكان اللازم باطلا بالضرورة الدينية وإجماع الأمة ويجاب ثانيا بأن قوله إلا أن تطوع ينفي وجوب الواجبات ابتداء لا الواجبات بأسباب يختار المكلف فعلها كدخول المسجد مثلا لأن الداخل ألزم نفسه الصلاة بالدخول فكأنه أوجبها على نفسه فلا يصح شمول ذلك الصارف لمثلها
ويجاب ثالثا بأن جماعة من المتمسكين بحديث ضمام بن ثعلبة في صرف الأمر بتحية المسجد إلى الندب قد قالوا بوجوب صلوات خارجة عن الخمس كالجنازة وركعتي الطواف والعيدين والجمعة فما هو جوابهم في إيجاب هذه الصلوات فهو جواب الموجبين لتحية المسجد
( لا يقال ) الجمعة داخلة في الخمس لأنها بدل عن الظهر لأنا نقول لو كانت كذلك لم يقع النزاع في وجوبها على الأعيان ولا احتيج إلى الاستدلال لذلك إذا عرفت هذا لاح لك أن الظاهر ما قاله أهل الظاهر من الوجوب
( والحديث ) يدل على مشروعية التحية في جميع الأوقات وإلى ذلك ذهب جماعة من العلماء منهم الشافعية وكرهها أبو حنيفة والأوزاعي والليث في وقت النهي وأجاب الأولون بأن النهي إنما هو عما لا سبب له واستدلوا بأنه صلى الله عليه و سلم صلى بعد العصر ركعتي الظهر وصلى ذات السبب ولم يترك التحية في حال من الأحوال بل أمر الذي دخل المسجد وهو يخطب فجلس قبل أن يركع أن يقوم فيركع ركعتين مع أن الصلاة في حال الخطبة ممنوع منها إلا التحية ولأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قطع خطبته وأمره أن يصلي التحية فلولا شدة الاهتمام بالتحية في جميع الأوقات لما اهتم هذا الاهتمام ذكر معنى ذلك النووي في شرح مسلم
والتحقيق أنه قد تعارض في المقام عمومات النهي عن الصلاة في أوقات مخصوصة من غير تفصيل والأمر للداخل بصلاة التحية من غير تفصيل فتخصيص أحد العمومين بالآخر تحكم وكذلك ترجيح أحدهما على الآخر مع كون كل واحد منهما في الصحيحين بطرق متعددة ومع اشتمال كل واحد منهما على النهي أو النفي الذي في معناه ولكنه إذا ورد ما يقضي بتخصيص أحد العمومين عمل عليه وصلاته صلى الله عليه وآله وسلم سنة الظهر بعد العصر مختص به لما ثبت عند أحمد وغيره ممن قدمنا ذكرهم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما قالت له أم سلمة : ( أفنقضيهما إذا فاتتا قال : لا ) ولو سلم عدم الاختصاص لما كان في ذلك إلا جواز قضاء سنة الظهر لا جواز جميع ذوات الأسباب نعم حديث يزيد بن الأسود الذي سيأتي : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال للرجلين : ما منعكما أن تصليا معنا فقالا : قد صلينا في رحالنا فقال : إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم فإنها لكما نافلة ) وكانت تلك الصلاة صلاة الصبح كما سيأتي يصلح لأن يكون من جملة المخصصات لعموم الأحاديث القاضية بالكراهة وكذلك ركعتا الطواف وسيأتي تحقيق هذا في باب الأوقات المنهي عن الصلاة فيها وباب الرخصة في إعادة الجماعة وركعتي الطواف
وبهذا التقرير يعلم أن فعل تحية المسجد في الأوقات المكروهة وتركها لا يخلو عند القائل بوجوبها من إشكال والمقام عندي من المضايق والأولى للمتورع ترك دخول المساجد في أوقات الكراهة
قوله في حديث الباب : ( فلا يجلس ) قال الحافظ : صرح جماعة بأنه إذا خالف وجلس لا يشرع له التدارك قال : وفيه نظر لما رواه ابن حبان في صحيحه من حديث أبي ذر أنه دخل المسجد فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ( أركعت ركعتين قال : لا قال : قم فاركعهما ) ومثله قصة سليك المتقدم ذكرها وسيأتي ذكرها في أبواب الجمعة
وقال الطبري : يحتمل أن يقال وقتهما قبل الجلوس وقت فضيلة وبعده وقت جواز أو يقال وقتهما قبله أداء وبعده قضاء
قال الحافظ : ويحتمل أن تحمل مشروعيتهما بعد الجلوس على ما إذا لم يطل الفصل وظاهر التعليق بالجلوس أنه ينتفي النهي بانتفائه فلا يلزم التحية من دخل المسجد ولم يجلس ذكر معنى ذلك ابن دقيق العيد وتعقب بأن الجلوس نفسه ليس هو المقصود بالتعليق عليه بل المقصود الحصول في بقعته واستدل على ذلك بما عند أبي داود بلفظ : ( ثم ليقعد بعد إن شاء أو ليذهب لحاجته إن شاء ) والظاهر ما ذكره ابن دقيق العيد
قوله : ( حتى يصلي ركعتين ) قال الحافظ في الفتح : هذا العدد لا مفهوم لأكثره باتفاق واختلف في أقله والصحيح اعتباره فلا تتأدى هذه السنة بأقل من ركعتين انتهى
وظاهر الحديث أن التحية مشروعة وإن تكرر الدخول إلى المسجد ولا وجه لما قاله البعض من عدم التكرر قياسا على المترددين إلى مكة في سقوط الإحرام عليهم
( فائدة ) ذكر ابن القيم أن تحية المسجد الحرام الطواف لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بدأ فيه بالطواف وتعقب بأنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يجلس إذ التحية إنما تشرع لمن جلس كما تقدم والداخل إلى المسجد الحرام يبدأ بالطواف ثم يصلي صلاة المقام فلا يجلس إلا وقد صلى فأما لو دخل المسجد الحرام وأراد القعود قبل الطواف فإنه يشرع له أن يصلي التحية
ومن جملة ما استثني من عموم التحية دخول المسجد لصلاة العيد لأنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يصل قبلها ولا بعدها وتعقب بأنه صلى الله عليه [ ص 86 ] وآله وسلم لم يجلس حتى يتحقق في حقه ترك التحية . وأيضا الجبانة ليست بمسجد فلا تحية لها فلا يلحق بذلك من دخل لصلاة العيد في مسجد وأراد الجلوس قبل الصلاة ولكنه سيأتي في أبواب صلاة العيد حديث مرفوع يدل على منع التحية قبل صلاة العيد وبعدها
ومن جملة ما استثني من عموم التحية من دخل المسجد وقد أقيمت الفريضة فإنها لا تشرع لحديث أبي هريرة عند مسلم وأصحاب السنن وابن خزيمة وابن حبان مرفوعا بلفظ : ( إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة )
المصدر (نيل الأوطار) للعلامة الشوكاني رحمه الله