بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أمَّا بعد:
قال أبو العلى محمَّد المباركفوري (ت: 1353) في التحفة:
َ
قال الترمذي: (وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي قِيَامِ رَمَضَانَ) .
أَيْ: فِي عَدَدِ رَكَعَاتِ التَّرَاوِيحِ .
(فَرَأَى بَعْضُهُمْ أَنْ يُصَلِّيَ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ رَكْعَةً مَعَ الْوِتْرِ) .
وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَلَمْ أَرَ فِيهِ حَدِيثًا مَرْفُوعًا لَا صَحِيحًا وَلَا ضَعِيفًا .
وَرُوِيَ فِيهِ آثَارٌ:
1- فَأَخْرَجَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ فِي "قِيَامِ اللَّيْلِ" عَنْ مُحَمَّدِ اِبْنِ سِيرِينَ أَنَّ مُعَاذًا أَبَا حَلِيمَةَ الْقَارِي كَانَ يُصَلِّي بِالنَّاسِ فِي رَمَضَانَ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ رَكْعَةً .
2- وَعَنْ اِبْنِ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ صَالِحٍ مَوْلَى التَّوْأَمَةِ قَالَ: أَدْرَكْت النَّاسَ قَبْلَ الْحَرَّةِ يَقُومُونَ بِإِحْدَى وَأَرْبَعِينَ يُوتِرُونَ مِنْهَا بِخَمْسٍ اِنْتَهَى .
قَالَ الْعَيْنِيُّ: قَالَ شَيْخُنَا -يَعْنِي الْحَافِظَ الْعِرَاقِيَّ-: وَهُوَ أَكْثَرُ مَا قِيلَ فِيهِ .
قَالَ الْعَيْنِيُّ : وَذَكَرَ اِبْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي "الِاسْتِذْكَارِ" عَنْ الْأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ: كَانَ يُصَلِّي أَرْبَعِينَ رَكْعَةً وَيُوتِرُ بِسَبْعٍ هَكَذَا ذَكَرَهُ . وَلَمْ يَقُلْ إِنَّ الْوِتْرَ مِنْ الْأَرْبَعِينَ .
قال الترمذي: ( وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَهُمْ بِالْمَدِينَةِ ) .
قَوْلُ التِّرْمِذِيِّ هَذَا يُخَالِفُ مَا رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ عَنْ اِبْنِ أَيْمَنَ قَالَ مَالِكٌ: اُسْتُحِبَّ أَنْ يَقُومَ النَّاسُ فِي رَمَضَانَ بِثَمَانٍ وَثَلَاثِينَ رَكْعَةً، ثُمَّ يُسَلِّمَ الْإِمَامُ وَالنَّاسُ، ثُمَّ يُوتِرَ بِهِمْ بِوَاحِدَةٍ، وَهَذَا الْعَمَلُ بِالْمَدِينَةِ قَبْلَ الْحَرَّةِ مُنْذُ بِضْعٍ وَمِائَةِ سَنَةٍ إِلَى الْيَوْمِ اِنْتَهَى .
قَالَ الْعَيْنِيُّ بَعْدَ ذِكْرِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ: هَكَذَا رَوَى اِبْنُ أَيْمَنَ عَنْ مَالِكٍ وَكَأَنَّهُ جَمَعَ رَكْعَتَيْنِ مِنْ الْوِتْرِ مَعَ قِيَامِ رَمَضَانَ، وَإِلَّا فَالْمَشْهُورُ عَنْ مَالِكٍ سِتٌّ وَثَلَاثُونَ وَالْوِتْرُ بِثَلَاثٍ وَالْعَدَدُ وَاحِدٌ اِنْتَهَى كَلَامُ الْعَيْنِيِّ .
قُلْت تَأْوِيلُ الْعَيْنِيِّ رِوَايَةَ اِبْنِ أَيْمَنَ بِقَوْلِِ : وَكَأَنَّهُ جَمَعَ . . إِلَخْ، يَرُدُّهُ لَفْظُ رِوَايَةِ اِبْنِ أَيْمَنَ فَتَفَكَّرْ.
اِعْلَمْ أَنَّ التِّرْمِذِيَّ -رَحِمَهُ اللَّهُ- ذَكَرَ فِي قِيَامِ رَمَضَانَ قَوْلَيْنِ:
الْأَوَّلُ: إِحْدَى وَأَرْبَعُونَ رَكْعَةً مَعَ الْوَتْرِ .
وَالثَّانِي: عِشْرُونَ رَكْعَةً .
وَفِيهِ أَقْوَالٌ كَثِيرَةٌ لَمْ يَذْكُرْهَا التِّرْمِذِيُّ قُلْنَا أَنْ نَذْكُرَهَا.
قَالَ الْعَيْنِيُّ فِي عُمْدَةِ الْقَارِي بَعْدَ ذِكْرِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ:
1- وَرِوَايَةُ اِبْنِ أَيْمَنَ عَنْ مَالِكٍ الْمَذْكُورَةُ مَا لَفْظُهُ: وَقِيلَ: سِتٌّ وَثَلَاثُونَ، وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ عَمَلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ .
2- وَرَوَى اِبْنُ وَهْبٍ قَالَ: سَمِعْت عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ يُحَدِّثُ عَنْ نَافِعٍ قَالَ: لَمْ أُدْرِكْ النَّاسَ إِلَّا وَهُمْ يُصَلُّونَ تِسْعًا وَثَلَاثِينَ رَكْعَةً وَيُوتِرُونَ مِنْهَا بِثَلَاثٍ.
3- وَقِيلَ: أَرْبَعٌ وَثَلَاثُونَ عَلَى مَا حُكِيَ عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَوْفَى أَنَّهُ كَذَلِكَ كَانَ يُصَلِّي بِهِمْ فِي الْعَشْرِ الْأَخِيرِ.
4- وَقِيلَ: ثَمَانٍ وَعِشْرُونَ، وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَوْفَى فِي الْعِشْرِينَ الْأَوَّلِينَ مِنْ الشَّهْرِ، وَكَانَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ يَفْعَلُهُ فِي الْعَشْرِ الْأَخِيرِ.
5- وَقِيلَ: أَرْبَعٌ وَعِشْرُونَ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ.
6- وَقِيلَ عِشْرُونَ، وَحَكَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، فَإِنَّهُ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الصَّحَابَةِ وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا الْحَنَفِيَّةِ .
7- وَقِيلَ: إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، وَهُوَ اِخْتِيَارُ مَالِكٍ لِنَفْسِهِ وَاخْتَارَهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ اِنْتَهَى كَلَامُ الْعَيْنِيِّ .
وَقَالَ الْحَافِظُ جَلَالُ الدِّينِ السُّيُوطِيُّ فِي رِسَالَتِهِ "الْمَصَابِيحِ فِي صَلَاةِ التَّرَاوِيحِ": قَالَ الْجَوْزِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: الَّذِي جَمَعَ عَلَيْهِ النَّاسَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَحَبُّ إِلَيَّ وَهُوَ إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً وَهِيَ صَلَاةُ -رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، قِيلَ لَهُ إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً بِالْوِتِْر؟ قَالَ نَعَمْ وَثَلَاثَ عَشْرَةَ قَرِيبٌ، قَالَ وَلَا أَدْرِي مِنْ أَيْنَ أُحْدِثَ هَذَا الرُّكُوعُ الْكَثِيرُ اِنْتَهَى .
قُلْت -المباركفووري-: الْقَوْلُ الرَّاجِحُ الْمُخْتَارُ الْأَقْوَى مِنْ حَيْثُ الدَّلِيلُ هُوَ هَذَا الْقَوْلُ الْأَخِيرُ الَّذِي اِخْتَارَهُ مَالِكٌ لِنَفْسِهِ أَعْنِي إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، وَهُوَ الثَّابِتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالسَّنَدِ الصَّحِيحِ، بِهَا أَمَرَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ-، وَأَمَّا الْأَقْوَالُ الْبَاقِيَةُ فَلَمْ يَثْبُتْ وَاحِدٌ مِنْهَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِسَنَدٍ صَحِيحٍ وَلَا ثَبَتَ الْأَمْرُ بِهِ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ خَالٍ عَنْ الْكَلَامِ .
فَأَمَّا مَا قُلْنَا مِنْ أَنَّ إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً هِيَ الثَّابِتَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَلِمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ كَيْفَ كَانَتْ صَلَاةُ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي رَمَضَانَ ؟
فَقَالَتْ: مَا كَانَ يَزِيدُ فِي رَمَضَانَ وَلَا فِي غَيْرِهِ عَلَى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، يُصَلِّي أَرْبَعًا فَلَا تَسْأَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ، ثُمَّ يُصَلِّي أَرْبَعًا فَلَا تَسْأَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ، ثُمَّ يُصَلِّي ثَلَاثًا الْحَدِيثَ.
فَهَذَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ نَصٌّ صَرِيحٌ فِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَا كَانَ يَزِيدُ فِي رَمَضَانَ وَلَا فِي غَيْرِهِ عَلَى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً .
س1- مِنْهَا أَنَّهُ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ أَنَّهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ الْأُوَلُ يَجْتَهِدُ فِيهِ مَا لَا يَجْتَهِدُ فِي غَيْرِهِ، وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِهَا كَانَ إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ أَحْيَا اللَّيْلَ وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ وَجَدَّ وَشَدَّ مِئْزَرَهُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَزِيدُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ عَلَى عَادَتِهِ فَكَيْفَ يُجْمَعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَدِيثِ الْبَابِ؟
فَالْجَوَابُ: أَنَّ الزِّيَادَةَ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ يُحْمَلُ عَلَى التَّطْوِيلِ دُونَ الزِّيَادَةِ فِي الْعَدَدِ.
وَمِنْهَا أَنَّ الرِّوَايَاتِ اِخْتَلَفَتْ عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- فِي عَدَدِ رَكَعَاتِ صَلَاةِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِاللَّيْلِ، فَفِي حَدِيثِ الْبَابِ: إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، وَفِي رِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ: كَانَ يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً، وَفِي رِوَايَةِ مَسْرُوقٍ أَنَّهُ سَأَلَهَا عَنْ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَتْ: سَبْعٌ وَتِسْعٌ وَإِحْدَى عَشْرَةَ سِوَى رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ، وَفِي رِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ الْأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي اللَّيْلَ تِسْعَ رَكَعَاتٍ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ مَنْ عَدَّهَا ثَلَاثَ عَشْرَةَ أَرَادَ بِرَكْعَتَيْ الْفَجْرِ، وَصَرَّحَ بِذَلِكَ فِي رِوَايَةِ الْقَاسِمِ عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-: كَانَتْ صَلَاتُهُ بِاللَّيْلِ عَشْرَ رَكَعَاتٍ وَيُوتِرُ بِسَجْدَةٍ وَيَرْكَعُ بِرَكْعَتَيْ الْفَجْرِ فَتِلْكَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً، وَأَمَّا رِوَايَةُ سَبْعٍ وَتِسْعٍ فَهِيَ فِي حَالَةِ كِبَرِهِ وَكَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى اِنْتَهَى كَلَامُ الْعَيْنِيِّ.
قُلْت -المباركفوري-: الْأَمْرُ كَمَا قَالَ الْعَيْنِيُّ -رَحِمَهُ اللَّهُ- فِي الْجَوَابِ عَنْ السُّؤَالِ الثَّانِي.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ فَفِيهِ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ قَدْ يُصَلِّي ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً سِوَى الْفَجْرِ، فَرَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ أَنَّهُ قَالَ: لَأَرْمُقَنَّ صَلَاةَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اللَّيْلَةَ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ طَوِيلَتَيْنِ طَوِيلَتَيْنِ طَوِيلَتَيْنِ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَهُمَا دُونَ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُمَا، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَهُمَا دُونَ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُمَا، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَهُمَا دُونَ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُمَا، ثُمَّ أَوْتَرَ فَذَلِكَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً .
فَالْأَحْسَنُ فِي الْجَوَابِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يَفْتَحُ صَلَاتَهُ بِاللَّيْلِ بِرَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ كَمَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا قَامَ مِنْ اللَّيْلِ اِفْتَتَحَ صَلَاتَهُ بِرَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ.
وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: ((إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ مِنْ اللَّيْلِ فَلْيَفْتَحْ صَلَاتَهُ بِرَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ)).
فَقَدْ عُدَّتْ هَاتَانِ الرَّكْعَتَانِ الْخَفِيفَتَانِ، فَصَارَ قِيَامُ اللَّيْلِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً.
وَلَمَّا لَمْ تُعَدَّ لِمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُخَفِّفُهُمَا، صَارَ إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ الْأَخِيرِ الَّذِي اِخْتَارَهُ مَالِكٌ لِنَفْسِهِ، أَعْنِي إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً حَدِيثُ جَابِرٍ -رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ- قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي شَهْرِ رَمَضَانَ ثَمَانِ رَكَعَاتٍ وَأَوْتَر؛َ فَلَمَّا كَانَتْ الْقَابِلَةُ اِجْتَمَعْنَا فِي الْمَسْجِدِ، وَرَجَوْنَا أَنْ يَخْرُجَ فَلَمْ نَزَلْ فِيهِ حَتَّى أَصْبَحْنَا ثُمَّ دَخَلْنَا فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ اِجْتَمَعْنَا الْبَارِحَةَ فِي الْمَسْجِدِ، وَرَجَوْنَا أَنْ تُصَلِّيَ بِنَا. فَقَالَ: ((إِنِّي خَشِيت أَنْ يُكْتَبَ عَلَيْكُمْ )) رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الصَّغِيرِ وَمُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيُّ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحَيْهِمَا .
قَالَ الْحَافِظُ الذَّهَبِيُّ فِي "مِيزَانِ الِاعْتِدَالِ" بَعْدَ ذِكْرِ هَذَا الْحَدِيثِ: إِسْنَادُهُ وَسَطٌ اِنْتَهَى.
وَهَذَا الْحَدِيثُ صَحِيحٌ عِنْدَ اِبْنِ خُزَيْمَةَ وَابْنِ حِبَّانَ، وَلِذَا أَخْرَجَاهُمَا فِي صَحِيحِهِمَا. وَقَدْ ذَكَرَ الْحَافِظُ اِبْنُ حَجَرٍ هَذَا الْحَدِيثِ فِي فَتْحِ الْبَارِي لِبَيَانِ عَدَدِ الرَّكَعَاتِ الَّتِي صَلَّاهَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالنَّاسِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، فَهُوَ صَحِيحٌ عِنْدَهُ أَوْ حَسَنٌ، فَإِنَّهُ قَدْ قَالَ فِي مُقَدِّمَةِ الْفَتْحِ: فَأَسُوقُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى الْبَابَ وَحَدِيثَهُ أَوَّلًا، ثُمَّ أَذْكُرُ وَجْهَ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَهُمَا إِنْ كَانَتْ خَفِيَّةً ثُمَّ أَسْتَخْرِجُ ثَانِيًا مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ غَرَضٌ صَحِيحٌ فِي ذَلِكَ الْحَدِيثِ ، مِنْ الْفَوَائِدِ الْمَتْنِيَّةِ وَالْإِسْنَادِيَّةِ ، مِنْ تَتِمَّاتٍ وَزِيَادَاتٍ وَكَشْفِ غَامِضٍ، وَتَصْرِيحِ مُدَلِّسٍ بِسَمَاعٍ، وَمُتَابَعَةِ سَامِعٍ مِنْ شَيْخٍ اِخْتَلَطَ قَبْلَ ذَلِكَ، كُلٌّ مِنْ أُمَّهَاتِ الْمَسَانِيدِ وَالْجَوَامِعِ وَالْمُسْتَخْرَجَاتِ وَالْأَجْزَاءِ وَالْفَوَائِدِ، بِشَرْطِ الصِّحَّةِ أَوْ الْحُسْنِ فِيمَا أُورِدُهُ مِنْ ذَلِكَ اِنْتَهَى .
فَإِنْ قُلْت: قَالَ النيموي فِي "آثَارِ السُّنَن"ِ بَعْدَ ذِكْرِ حَدِيثِ جَابِرٍ الْمَذْكُورِ: فِي إِسْنَادِهِ لِينٌ . وَقَالَ فِي تَعْلِيقِهِ: مَدَارُهُ عَلَى عِيسَى بْنِ جَارِيَةَ ثُمَّ ذَكَرَ جَرْحَ اِبْنِ مُعِينٍ وَالنَّسَائِيِّ وَأَبِي دَاوُدَ، وَتَوْثِيقَ أَبِي زُرْعَةَ وَابْنِ حِبَّانَ. ثُمَّ قَالَ: قَوْلُ الذَّهَبِيِّ إِسْنَادُهُ وَسَطٌ لَيْسَ بِصَوَابٍ بَلْ إِسْنَادُهُ دُونَ وَسَطٍ اِنْتَهَى .
قُلْت : قَالَ الْحَافِظُ اِبْنُ حَجَرٍ فِي شَرْحِ النُّخْبَِ : الذَّهَبِيُّ مِنْ أَهْلِ الِاسْتِقْرَاءِ التَّامِّ فِي نَقْدِ الرِّجَالِ اِنْتَهَى .
فَلَمَّا حَكَمَ الذَّهَبِيُّ بِأَنَّ إِسْنَادَهُ وَسَطٌ بَعْدَ ذِكْرِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ فِي عِيسَى بْنِ جَارِيَةَ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الِاسْتِقْرَاءِ التَّامِّ فِي نَقْدِ الرِّجَالِ، فَحُكْمُهُ بِأَنَّ إِسْنَادَهُ وَسَطٌ هُوَ الصَّوَابُ وَيُؤَيِّدُهُ إِخْرَاجُ اِبْنِ خُزَيْمَةَ وَابْنِ حِبَّانَ هَذَا الْحَدِيثَ فِي صَحِيحَيْهِمَا؛ وَلَا يُلْتَفَتُ إِلَى مَا قَالَ النَّيْمَوِيُّ، وَيَشْهَدُ لِحَدِيثِ جَابِرٍ هَذَا حَدِيثُ عَائِشَةَ الْمَذْكُورُ: ((مَا كَانَ يَزِيدُ فِي رَمَضَانَ وَلَا فِي غَيْرِهِ عَلَى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً)) .
وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ الْأَخِيرِ الَّذِي اِخْتَارَهُ مَالِكٌ -أَعْنِي إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً- مَا رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: جَاءَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ كَانَ مِنِّي اللَّيْلَةَ شَيْءٌ يَعْنِي فِي رَمَضَانَ، قَالَ: ((وَمَا ذَاكَ يَا أُبَيُّ ؟)) قَالَ نِسْوَةٌ فِي دَارِي قُلْنَ إِنَّا لَا نَقْرَأُ الْقُرْآنَ فَنُصَلِّي بِصَلَاتِك. قَالَ: فَصَلَّيْت بِهِنَّ ثَمَانِ رَكَعَاتٍ وَأَوْتَرْت. فَكَانَتْ سُنَّةَ الرِّضَا، وَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا.
قَالَ الْهَيْثَمِيُّ فِي مَجْمَعِ الزَّوَائِِ : إِسْنَادُهُ حَسَنٌ. وَأَمَّا مَا قُلْنَا مِنْ أَنَّ بِإِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً أَمَرَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ- فَلِأَنَّ الْإِمَامَ مَالِكًا -رَحِمَهُ اللَّهُ- رَوَى فِي مُوَطَّئِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ عَنْ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ أَنَّهُ قَالَ: أَمَرَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْه-ُ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وَتَمِيمًا الدَّارِيَّ أَنْ يَقُومَا لِلنَّاسِ بِإِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، وَكَانَ الْقَارِئُ يَقْرَأُ بِالْمِئِينَ حَتَّى كُنَّا نَعْتَمِدُ عَلَى الْعِصِيِّ مِنْ طُولِ الْقِيَامِ، وَمَا كُنَّا نَنْصَرِفُ إِلَّا فِي فُرُوعِ الْفَجْرِ.
وَرَوَاهُ أَيْضًا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ قَالَ النَّيْمَوِيُّ فِي "آثَارِ السُّنَنِ": إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ .
فَإِنْ قُلْت: قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ بَعْدَ ذِكْرِ أَثَرِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- هَذَا: وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ فَقَالَ: إِحْدَى وَعِشْرِينَ اِنْتَهَى .
وَقَالَ الزُّرْقَانِيُّ فِي شَرْحِ الْمُوَطَّأِ قَالَ اِبْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: رَوَى غَيْرُ مَالِكٍ فِي هَذَا إِحْدَى وَعِشْرِينَ، وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا قَالَ فِيهِ إِحْدَى عَشْرَةَ إِلَّا مَالِكًا. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ أَوَّلًا ثُمَّ خَفَّفَ عَنْهُمْ طُولَ الْقِيَامِ وَنَقَلَهُمْ إِلَى إِحْدَى وَعِشْرِينَ إِلَّا أَنَّ الْأَغْلَبَ عِنْدِي أَنَّ قَوْلَهُ إِحْدَى عَشْرَةَ وَهْمٌ اِنْتَهَى.
قُلْت : قَوْلُ اِبْنِ عَبْدِ الْبَرِّ إِنَّ الْأَغْلَبَ عِنْدِي أَنَّ قَوْلَهُ إِحْدَى عَشْرَةَ وَهْمٌ بَاطِلٌ جِدًّا .
قَالَ الزُّرْقَانِيُّ فِي شَرْحِ الْمُوَطَّأِ بَعْدَ ذِكْرِ قَوْلِ اِبْنِ عَبْدِ الْبَرِّ هَذَا مَا لَفْظُهُ: وَلَا وَهْمَ وَقَوْلُهُ : إِنَّ مَالِكًا اِنْفَرَدَ بِهِ لَيْسَ كَمَا قَالَ فَقَدْ رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ فَقَالَ: إِحْدَى عَشْرَةَ كَمَا قَالَ مَالِكٌ اِنْتَهَى كَلَامُ الزُّرْقَانِيِّ.
وَقَالَ النيموي فِي "آثَارِ السُّنَنِ": مَا قَالَهُ اِبْنُ عَبْدِ الْبَرِّ مِنْ وَهْمِ مَالِكٍ فَغَلَطٌ جِدًّا؛ لِأَنَّ مَالِكًا قَدْ تَابَعَهُ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ عِنْدَ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ فِي سُنَنِهِ ، وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ عِنْدَ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ ، كِلَاهُمَا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ وَقَالَا إِحْدَى عَشْرَةَ . كَمَا رَوَاهُ مَالِكٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ، وَأَخْرَجَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيُّ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ عَنْ جَدِّهِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ كُنَّا نُصَلِّي فِي زَمَنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- فِي رَمَضَانَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً. قَالَ النيموي: هَذَا قَرِيبٌ مِمَّا رَوَاهُ مَالِكٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ أَيْ مَعَ الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعِشَاءِ اِنْتَهَى كَلَامُ النيموي .
قُلْت: فَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّ الْإِمَامَ مَالِكًا لَمْ يَنْفَرِدْ بِقَوْلِهِ: إِحْدَى عَشْرَةَ بَلْ تَابَعَهُ عَلَيْهِ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ وَهُوَ ثِقَةٌ وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ إِمَامُ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ، قَالَ الْحَافِظُ فِي التَّقْرِيبِ: ثِقَةٌ مُتْقِنٌ حَافِظٌ إِمَامٌ؛ ظَهَرَ لَك حَقُّ الظُّهُورِ أَنَّ قَوْلَ اِبْنِ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّ الْأَغْلَبَ أَنَّ قَوْلَهُ إِحْدَى عَشْرَةَ، وَهْمٌ لَيْسَ بِصَحِيحٍ بَلْ لَوْ تَدَبَّرْت ظَهَرَ لَك أَنَّ الْأَمْرَ عَلَى خِلَافِ مَا قَالَ اِبْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، أَعْنِي أَنَّ الْأَغْلَبَ أَنَّ قَوْلَ غَيْرِ مَالِكٍ فِي هَذَا الْأَثَرِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ كَمَا فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ وَهْمٌ، فَإِنَّهُ قَدْ اِنْفَرَدَ هُوَ بِإِخْرَاجِ هَذَا الْأَثَرِ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَلَمْ يُخْرِجْهُ بِهِ أَحَدٌ غَيْرُهُ فِيمَا أَعْلَمُ.
وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ وَإِنْ كَانَ ثِقَةً حَافِظًا لَكِنَّهُ قَدْ عَمِيَ فِي آخِرِ عُمْرِهِ فَتَغَيَّرَ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْحَافِظُ فِي التَّقْرِيبِ .
وَأَمَّا الْإِمَامُ مَالِكٌ فَقَالَ الْحَافِظُ فِي التَّقْرِيبِ: إِمَامُ دَارِ الْهِجْرَةِ رَأْسُ الْمُتْقِنِينَ وَكَبِيرُ الْمُثْبِتِينَ، حَتَّى قَالَ الْبُخَارِيُّ: أَصَحُّ الْأَسَانِيدِ كُلُّهَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ اِبْنِ عُمَرَ اِنْتَهَى.
وَمَعَ هَذَا لَمْ يَنْفَرِدْ هُوَ بِإِخْرَاجِ هَذَا الْأَثَرِ بِلَفْظِ: إِحْدَى عَشْرَةَ بَلْ أَخْرَجَهُ أَيْضًا بِهَذَا اللَّفْظِ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ كَمَا عَرَفْت.
فَالْحَاصِلُ أَنَّ لَفْظَ: إِحْدَى عَشْرَةَ فِي أَثَرِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ الْمَذْكُورِ صَحِيحٌ ثَابِتٌ مَحْفُوظٌ، وَلَفْظُ إِحْدَى وَعِشْرِينَ فِي هَذَا الْأَثَرِ غَيْرُ مَحْفُوظٍ وَالْأَغْلَبُ أَنَّهُ وَهْمٌ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
قَوْلُهُ: (وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَعُمَرَ وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِشْرِينَ رَكْعَةً) .
أَمَّا أَثَرُ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- فَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ أَبِي الْحَسْنَاءِ: أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَمَرَ رَجُلًا أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ خَمْسَ تَرْوِيحَاتٍ عِشْرِينَ رَكْعَةً .
قَالَ النيموي فِي تَعْلِيقِ "آثَارِ السُّنَنِ": مَدَارُ هَذَا الْأَثَرِ عَلَى أَبِي الْحَسْنَاءِ وَهُوَ لَا يُعْرَفُ اِنْتَهَى .
قُلْت الْأَمْرُ كَمَا قَالَ النيموي قَالَ الْحَافِظُ فِي التَّقْرِيبِ فِي تَرْجَمَةِ أَبِي الْحَسْنَاءِ: إنَّهُ مَجْهُولٌ وَقَالَ الذَّهَبِيُّ فِي مِيزَانِهِ: لَا يُعْرَفُ اِنْتَهَى .
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَثَرٌ آخَرُ؛ فَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ عَنْ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ-هُ وَدَعَا الْقُرَّاءَ فِي رَمَضَانَ فَأَمَرَ مِنْهُمْ رَجُلًا يُصَلِّي بِالنَّاسِ عِشْرِينَ رَكْعَةً، قَالَ وَكَانَ عَلِيٌّ -رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ- يُوتِرُ بِهِمْ .
وَرُوِيَ ذَلِكَ مِنْ وَجْهٌ آخَرُ عَنْ عَلِيٍّ . قَالَ النيموي بَعْدَ ذِكْرِ هَذَا الْأَثَر : حَمَّادُ بْنُ شُعَيْبٍ ضَعِيفٌ.
قَالَ الذَّهَبِيُّ فِي الْمِيزَانِ: ضَعَّفَهُ اِبْنُ مَعِينٍ وَغَيْرُهُ . وَقَالَ يَحْيَى مَرَّةً : لَا يُكْتَبُ حَدِيثُهُ . وَقَالَ الْبُخَارِيُّ : فِيهِ نَظَرٌ. وَقَالَ النَّسَائِيُّ : ضَعِيفٌ. وَقَالَ اِبْنُ عَدِيٍّ، أَكْثَرُ حَدِيثِهِ مِمَّا لَا يُتَابَعُ عَلَيْهِ اِنْتَهَى كَلَامُ النيموي قُلْت: الْأَمْرُ كَمَا قَالَ النيموي .
فَائِدَةٌ:
قَالَ الشَّيْخُ اِبْنُ الْهُمَامِ فِي التَّحْرِيرِ: " إِذَا قَالَ الْبُخَارِيُّ لِلرَّجُلِ فِيهِ نَظَرٌ فَحَدِيثُهُ لَا يُحْتَجُّ بِهِ، وَلَا يُسْتَشْهَدُ بِهِ وَلَا يَصْلُحُ لِلِاعْتِبَارِ" اِنْتَهَى كَلَامُ اِبْنِ الْهُمَامِ.
قُلْت: فَأَثَرُ عَلِيٍّ هَذَا لَا يُحْتَجُّ بِهِ وَلَا يُسْتَشْهَدُ بِهِ وَلَا يَصْلُحُ لِلِاعْتِبَارِ فَإِنَّ فِي سَنَدِهِ حَمَّادَ بْنَ شُعَيْبٍ وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِيهِ نَظَرٌ .
وَعَلَى أَنَّهُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- صَلَّى التَّرَاوِيحَ عِشْرِينَ رَكْعَةً؛ وَقَدْ عَرَفْت أَنَّ هَذَيْنِ الْأَثَرَيْنِ ضَعِيفَانِ لَا يَصْلُحَانِ لِلِاسْتِدْلَالِ . وَمَعَ هَذَا فَهُمَا مُخَالِفَانِ لِمَا ثَبَتَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ .
وَأَمَّا أَثَرُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ- فَأَخْرَجَهُ أَبُو بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ-هُ أَمَرَ رَجُلًا يُصَلِّي بِهِمْ عِشْرِينَ رَكْعَةً . قَالَ النيموي فِي آثَارِ السُّنَنِ: رِجَالُهُ ثِقَاتٌ ، لَكِنْ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ لَمْ يُدْرِكْ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ- اِنْتَهَى .
قُلْت: الْأَمْرُ كَمَا قَالَ النيموي فَهَذَا الْأَثَرُ مُنْقَطِعٌ لَا يَصْلُحُ لِلِاحْتِجَاجِ وَمَعَ هَذَا فَهُوَ مُخَالِفٌ لِمَا ثَبَتَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ- أَنَّهُ أَمَرَ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ وَتَمِيمًا الدَّارِيَّ أَنْ يَقُومَا لِلنَّاسِ بِإِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً . أَخْرَجَهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ، وَأَيْضًا هُوَ مُخَالِفٌ لِمَا ثَبَتَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ.
وَأَمَّا أَثَرُ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ- الَّذِي أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فَقَدْ عَرَفْت حَالَهُ، وَأَخْرَجَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ قَالَ: كَانَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ -رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ- يُصَلِّي بِالنَّاسِ فِي رَمَضَانَ بِالْمَدِينَةِ عِشْرِينَ رَكْعَةً وَيُوتِرُ بِثَلَاثٍ .
قَالَ النيموي: عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ رُفَيْعٍ لَمْ يُدْرِكْ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ اِنْتَهَى .
قُلْت الْأَمْرُ كَمَا قَالَ النيموي ، فَأَثَرُ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ هَذَا مُنْقَطِعٌ . وَمَعَ هَذَا فَهُوَ مُخَالِفٌ لِمَا ثَبَتَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ أَمَرَ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ وَتَمِيمًا الدَّارِيَّ أَنْ يَقُومَا لِلنَّاسِ بِإِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً ، وَأَيْضًا هُوَ مُخَالِفٌ لِمَا ثَبَتَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّهُ صَلَّى فِي رَمَضَانَ بِنِسْوَةِ دَارِهِ ثَمَانِ رَكَعَاتٍ وَأَوْتَرَ . وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ بِتَمَامِهِ . وَفِي قِيَامِ اللَّيْلِ قَالَ الْأَعْمَشُ : كَانَ أَيْ اِبْنُ مَسْعُودٍ يُصَلِّي عِشْرِينَ رَكْعَةً وَيُوتِرُ بِثَلَاثٍ وَهَذَا أَيْضًا مُنْقَطِعٌ . إِنَّ الْأَعْمَشَ لَمْ يُدْرِكْ اِبْنَ مَسْعُودٍ .
( وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَابْنِ الْمُبَارَكِ وَالشَّافِعِيِّ )
وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ، وَاسْتُدِلَّ لَهُمْ بِمَا رَوَى اِبْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ وَالطَّبَرَانِيُّ وَعَنْهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُثْمَانَ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ الْحَكَمِ عَنْ مُقْسِمٍ عَنْ اِبْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يُصَلِّي فِي رَمَضَانَ عِشْرِينَ رَكْعَةً سِوَى الْوِتْرِ اِنْتَهَى.
وَهَذَا الْحَدِيثُ ضَعِيفٌ جِدًّا لَا يَصْلُحُ لِلِاسْتِدْلَالِ ، فَاسْتِدْلَالُهُمْ بِهَذَا الْحَدِيثِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ. قَالَ الْحَافِظُ الزَّيْلَعِيُّ فِي نَصْبِ الرَّايَةِ: وَهُوَ مَعْلُولٌ بِابْنِ أَبِي شَيْبَةَ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُثْمَانَ جَدِّ الْإِمَامِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَى ضَعْفِهِ، وَلَيَّنَهُ اِبْنُ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ، ثُمَّ إِنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا كَيْفَ كَانَتْ صَلَاةُ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي رَمَضَانَ؟ قَالَتْ مَا كَانَ يَزِيدُ فِي رَمَضَانَ وَلَا فِي غَيْرِهِ عَلَى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً. الْحَدِيثَ اِنْتَهَى كَلَامُ الزَّيْلَعِيِّ.
وَقَالَ النيموي فِي تَعْلِيقِ آثَارِ السُّنَنِ: وَقَدْ أَخْرَجَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ الْكُشِّيِّ فِي مُسْنَدِهِ وَالْبَغَوِيُّ فِي مُعْجَمِهِ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ الْكَبِيرِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، كُلُّهُمْ مِنْ طَرِيقِ أَبِي شَيْبَةَ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُثْمَانَ جَدِّ الْإِمَامِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ وَهُوَ ضَعِيفٌ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ بَعْدَهُ مَا أَخْرَجَهُ: اِنْفَرَدَ بِهِ أَبُو شَيْبَةَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ عُثْمَانَ الْعَبْسِيُّ الْكُوفِيُّ وَهُوَ ضَعِيفٌ اِنْتَهَى.
وَقَالَ الْمِزِّيُّ فِي تَهْذِيبِ الْكَمَالِ: قَالَ أَحْمَدُ وَيَحْيَى وَأَبُو دَاوُدَ: ضَعِيفٌ، وَقَالَ يَحْيَى أَيْضًا لَيْسَ بِثِقَةٍ، وَقَالَ النَّسَائِيُّ وَالدُّولَابِيُّ: مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: ضَعِيفُ الْحَدِيثِ سَكَتُوا عَنْهُ، وَقَالَ صَالِحٌ: ضَعِيفٌ لَا يُكْتَبُ حَدِيثُهُ. ثُمَّ قَالَ الْمِزِّيُّ وَمِنْ مَنَاكِيرِهِ حَدِيثُ: أَنَّهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يُصَلِّي فِي رَمَضَانَ عِشْرِينَ رَكْعَةً اِنْتَهَى .
وَهَكَذَا فِي الْمِيزَانِ، وَقَالَ الْحَافِظُ فِي التَّقْرِيبِ: مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ اِنْتَهَى كَلَامُ النيموي، وَقَالَ الشَّيْخُ اِبْنُ الْهُمَامِ فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ بَعْدَ ذِكْرِ هَذَا الْحَدِيثِ: ضَعِيفٌ بِأَبِي شَيْبَةَ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُثْمَانَ جَدِّ الْإِمَامِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، مُتَّفَقٌ عَلَى ضَعْفِهِ مَعَ مُخَالَفَتِهِ لِلصَّحِيحِ اِنْتَهَى، وَقَالَ الْعَيْنِيُّ فِي عُمْدَةِ الْقَارِي بَعْدَ ذِكْرِ هَذَا الْحَدِيثِ: وَأَبُو شَيْبَةَ هُوَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ عُثْمَانَ الْعَبْسِيُّ الْكُوفِيُّ قَاضِي وَاسِطٍ جَدُّ أَبِي بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ كَذَّبَهُ شُعْبَةُ وَضَعَّفَهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَعِينٍ وَالْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمْ .
وَأَوْرَدَ لَهُ اِبْنُ عَدِيٍّ هَذَا الْحَدِيثَ فِي الْكَامِلِ فِي مَنَاكِيرِهِ اِنْتَهَى .
وَاسْتُدِلَّ لَهُمْ أَيْضًا بِمَا رَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: كُنَّا نَقُومُ فِي زَمَانِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ بِعِشْرِينَ رَكْعَةً وَالْوِتْرِ وَصَحَّحَ إِسْنَادَهُ السُّبْكِيُّ فِي شَرْحِ الْمِنْهَاجِ وَعَلِيٌّ الْقَارِي فِي شَرْحِ الْمُوَطَّأِ .
قُلْت: فِي سَنَدِهِ أَبُو عُثْمَانُ الْبَصْرِيُّ وَاسْمُهُ عَمْرُو بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ النيموي فِي تَعْلِيقِ آثَارِ السُّنَنِ: لَمْ أَقِفْ عَلَى مَنْ تَرْجَمَ لَهُ اِنْتَهَى .
قُلْت لَمْ أَقِفْ أَنَا أَيْضًا عَلَى تَرْجَمَتِهِ مَعَ التَّفَحُّصِ الْكَثِيرِ وَأَيْضًا فِي سَنَدِهِ أَبُو طَاهِرٌ الْفَقِيهُ شَيْخُ الْبَيْهَقِيِّ وَلَمْ أَقِفْ عَلَى مَنْ وَثَّقَهُ . فَمَنْ اِدَّعَى صِحَّةَ هَذَا الْأَثَرِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُثْبِتَ كَوْنِ كُلٍّ مِنْهُمَا ثِقَةً قَابِلًا لِلِاحْتِجَاجِ . فَإِنْ قُلْت قَالَ التَّاجُ السُّبْكِيُّ فِي الطَّبَقَاتِ الْكُبْرَى فِي تَرْجَمَةِ أَبِي بَكْرٍ الْفَقِيهِ : كَانَ إِمَامَ الْمُحَدِّثِينَ وَالْفُقَهَاءِ فِي زَمَانِهِ وَكَانَ شَيْخًا أَدِيبًا عَارِفًا بِالْعَرَبِيَّةِ ، لَهُ يَدٌ طُولَى فِي مَعْرِفَةِ الشُّرُوطِ ، وَصَنَّفَ فِيهِ كِتَابًا اِنْتَهَى . فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ ثِقَةً قُلْت : لَا دَلَالَةَ فِي هَذَا عَلَى كَوْنِهِ ثِقَةً قَابِلًا لِلِاحْتِجَاجِ ، نَعَمْ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى كَوْنِهِ جَلِيلَ الْقَدْرِ فِي الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ وَالْعَرَبِيَّةِ وَمَعْرِفَةِ الشُّرُوطِ ، وَلَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْ هَذَا كَوْنُهُ ثِقَةً فَالْحَاصِلُ أَنَّ فِي صِحَّةِ هَذَا الْأَثَرِ نَظَرًا وَكَلَامًا ، وَمَعَ هَذَا فَهُوَ مُعَارَضٌ بِمَا رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي سُنَنِهِ قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ سَمِعْت السَّائِبَ بْنَ يَزِيدَ يَقُولُ : كُنَّا نَقُومُ فِي زَمَانِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِإِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً . قَالَ الْحَافِظُ جَلَالُ الدِّينِ السُّيُوطِيُّ فِي رِسَالَتِهِ الْمَصَابِيحِ فِي صَلَاةِ التَّرَاوِيحِ بَعْدَ ذِكْرِ هَذَا الْأَثَرِ : إِسْنَادُهُ فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ اِنْتَهَى ، وَأَيْضًا هُوَ مُعَارَضٌ بِمَا رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ عَنْ جَدِّهِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ : كُنَّا نُصَلِّي فِي زَمَنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي رَمَضَانَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً ، وَهُوَ أَيْضًا مُعَارَضٌ بِمَا رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ عَنْ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ أَنَّهُ قَالَ : أَمَرَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ وَتَمِيمًا الدَّارِيَّ أَنْ يَقُومَا لِلنَّاسِ بِإِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً ، فَأَثَرُ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ الَّذِي رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ لَا يَصْلُحُ لِلِاحْتِجَاجِ . فَإِنْ قُلْت رَوَى الْبَيْهَقِيُّ هَذَا الْأَثَرَ بِسَنَدٍ آخَرَ بِلَفْظِ قَالَ : كَانُوا يَقُومُونَ عَلَى عَهْدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ بِعِشْرِينَ رَكْعَةً وَصَحَّحَ إِسْنَادَهُ النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ قُلْت فِي إِسْنَادِهِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ فَنْجَوَيْهِ الدِّينَوَرِيُّ ، وَلَمْ أَقِفْ عَلَى تَرْجَمَتِهِ ، فَمَنْ يَدَّعِي صِحَّةَ هَذَا الْأَثَرِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُثْبِتَ كَوْنَهُ ثِقَةً قَابِلًا لِلِاحْتِجَاجِ . وَأَمَّا قَوْلُ النيموي : هُوَ مِنْ كِبَارِ الْمُحَدِّثِينَ فِي زَمَانِهِ ، لَا يُسْأَلُ عَنْ مِثْلِهِ ، فَمَا لَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ . فَإِنَّ مُجَرَّدَ كَوْنِهِ مِنْ كِبَارِ الْمُحَدِّثِينَ لَا يَسْتَلْزِمُ كَوْنَهُ ثِقَةً .
تَنْبِيهَاتٌ: الْأَوَّلُ قَالَ النيموي فِي تَعْلِيقِ آثَارِ السُّنَنِ: لَا يَخْفَى عَلَيْك أَنَّ مَا رَوَاهُ السَّائِبُ مِنْ حَدِيثِ عِشْرِينَ رَكْعَةً قَدْ ذَكَرَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِلَفْظِ: إِنَّهُمْ كَانُوا يَقُومُونَ عَلَى عَهْدِ عُمَرَ بِعِشْرِينَ رَكْعَةً، وَعَلَى عَهْدِ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ مِثْلَهُ. وَعَزَاهُ إِلَى الْبَيْهَقِيِّ ، فَقَوْلُهُ وَعَلَى عَهْدِ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ مِثْلَهُ قَوْلُ لَا يُوجَدُ فِي تَصَانِيفِ الْبَيْهَقِيِّ اِنْتَهَى كَلَامُ النيموي .
قُلْت: الْأَمْرُ كَمَا قَالَ النيموي . الثَّانِي قَدْ جَمَعَ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ بَيْنَ رِوَايَتَيْ السَّائِبِ الْمُخْتَلِفَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَقُومُونَ بِإِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، ثُمَّ كَانُوا يَقُومُونَ بِعِشْرِينَ وَيُوتِرُونَ بِثَلَاثٍ. قُلْت فِيهِ: إِنَّهُ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَقُومُونَ أَوَّلًا بِعِشْرِينَ رَكْعَةً، ثُمَّ كَانُوا يَقُومُونَ بِإِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً. وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ؛ لِأَنَّ هَذَا كَانَ مُوَافِقًا لِمَا هُوَ الثَّابِتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَذَاكَ كَانَ مُخَالِفًا لَهُ فَتَفَكَّرْ .
الثَّالِثُ: قَدْ اِدَّعَى بَعْضُ النَّاسِ أَنَّهُ قَدْ وَقَعَ الْإِجْمَاعُ عَلَى عِشْرِينَ رَكْعَةً فِي عَهْدِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وَاسْتَقَرَّ الْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ فِي الْأَمْصَارِ .
قُلْت : دَعْوَى الْإِجْمَاعِ عَلَى عِشْرِينَ رَكْعَةً وَاسْتِقْرَارُ الْأَمْرِ عَلَى ذَلِكَ فِي الْأَمْصَارِ بَاطِلَةٌ جِدًّا . كَيْفَ وَقَدْ عَرَفْت فِي كَلَامِ الْعَيْنِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ فِي هَذَا أَقْوَالًا كَثِيرَةً ، وَأَنَّ الْإِمَامَ مَالِكًا رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ : وَهَذَا الْعَمَلُ يَعْنِي الْقِيَامَ فِي رَمَضَانَ بِثَمَانٍ وَثَلَاثِينَ رَكْعَةً وَالْإِيتَارَ بِرَكْعَةٍ بِالْمَدِينَةِ قَبْلَ الْحَرَّةِ مُنْذُ بِضْعٍ وَمِائَةِ سَنَةٍ إِلَى الْيَوْمِ اِنْتَهَى . وَاخْتَارَ هَذَا الْإِمَامُ إِمَامُ دَارِ الْهِجْرَةِ لِنَفْسِهِ إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً وَكَانَ الْأَسْوَدُ بْنُ يَزِيدَ النَّخَعِيُّ الْفَقِيهُ يُصَلِّي أَرْبَعِينَ رَكْعَةً وَيُوتِرُ بِسَبْعٍ وَتَذَكَّرْ بَاقِيَ الْأَقْوَالِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْعَيْنِيُّ ، فَأَيْنَ الْإِجْمَاعُ عَلَى عِشْرِينَ رَكْعَةً ؟ وَأَيْنَ الِاسْتِقْرَارُ عَلَى ذَلِكَ فِي الْأَمْصَارِ ؟
( وَقَالَ أَحْمَدُ رُوِيَ فِي هَذَا أَلْوَانٌ )
أَيْ أَنْوَاعٌ مِنْ الرِّوَايَاتِ
( لَمْ يَقْضِ )
أَيْ لَمْ يَحْكُمْ أَحْمَدُ
( فِيهِ بِشَيْءٍ )
وَفِي كِتَابِ قِيَامِ اللَّيْلِ لِابْنِ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيِّ قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ قُلْت لِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ: كَمْ رَكْعَةً يُصَلِّي فِي قِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ؟ فَقَالَ قَدْ قِيلَ فِيهِ أَلْوَانٌ نَحْوًا مِنْ أَرْبَعِينَ إِنَّمَا هُوَ تَطَوُّعٌ، قَالَ إِسْحَاقُ: نَخْتَارُ أَرْبَعِينَ رَكْعَةً وَتَكُونُ الْقِرَاءَةُ أَخَفَّ اِنْتَهَى .
( وَقَالَ إِسْحَاقُ بَلْ نَخْتَارُ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ رَكْعَةً عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ )
لَمْ أَقِفْ عَلَى مَنْ رَوَاهُ وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَمَرَ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَتَمِيمًا الدَّارِيَّ أَنْ يَقُومَا لِلنَّاسِ بِإِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً وَقَدْ ثَبَتَ أَيْضًا أَنَّهُ صَلَّى بِالنِّسَاءِ فِي رَمَضَانَ بِثَمَانِ رَكَعَاتٍ وَأَوْتَرَ وَذَكَرَهُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا
( وَاخْتَارَ اِبْنُ الْمُبَارَكِ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ الصَّلَاةَ مَعَ الْإِمَامِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ )
وَفِي كِتَابِ قِيَامِ اللَّيْلِ : وَقِيلَ لِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ : يُعْجِبُك أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ مَعَ النَّاسِ فِي رَمَضَانَ أَوْ وَحْدَهُ ؟ قَالَ يُصَلِّي مَعَ النَّاسِ . قَالَ وَيُعْجِبُنِي أَنْ يُصَلِّيَ مَعَ الْإِمَامِ وَيُوتِرَ مَعَهُ . قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا قَامَ مَعَ الْإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ كُتِبَ لَهُ بَقِيَّةُ لَيْلَتِهِ " . قَالَ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ : يَقُومُ مَعَ النَّاسِ حَتَّى يُوتِرَ مَعَهُمْ وَلَا يَنْصَرِفُ حَتَّى يَنْصَرِفَ الْإِمَامُ قَالَ أَبُو دَاوُدَ : شَهِدْته يَعْنِي أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ شَهْرَ رَمَضَانَ يُوتِرُ مَعَ إِمَامِهِ إِلَّا لَيْلَةً لَمْ أَحْضُرْهَا . وَقَالَ إِسْحَاقُ رَحِمَهُ اللَّهُ قُلْت لِأَحْمَدَ : الصَّلَاةُ فِي الْجَمَاعَةِ أَحَبُّ إِلَيْك أَمْ يُصَلِّي وَحْدَهُ فِي قِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ ؟ قَالَ يُعْجِبُنِي أَنْ يُصَلِّيَ فِي الْجَمَاعَةِ يُحْيِي السُّنَّةَ وَقَالَ إِسْحَاقُ كَمَا قَالَ اِنْتَهَى .
( وَاخْتَارَ الشَّافِعِيُّ أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ وَحْدَهُ إِذَا كَانَ قَارِئًا )
أَيْ حَافِظًا لِلْقُرْآنِ كُلِّهِ أَوْ بَعْضِهِ . اهـ
وهذا ما أحببت نقله ببعض تصرف في علامات الترقيم وإضافة للترقيم، وبعض العناوين .
فالحمد لله، فأهل الحديث على قلب واحد في كل زمان ومكان .
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أمَّا بعد:
قال أبو العلى محمَّد المباركفوري (ت: 1353) في التحفة:
َ
قال الترمذي: (وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي قِيَامِ رَمَضَانَ) .
أَيْ: فِي عَدَدِ رَكَعَاتِ التَّرَاوِيحِ .
(فَرَأَى بَعْضُهُمْ أَنْ يُصَلِّيَ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ رَكْعَةً مَعَ الْوِتْرِ) .
وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَلَمْ أَرَ فِيهِ حَدِيثًا مَرْفُوعًا لَا صَحِيحًا وَلَا ضَعِيفًا .
وَرُوِيَ فِيهِ آثَارٌ:
1- فَأَخْرَجَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ فِي "قِيَامِ اللَّيْلِ" عَنْ مُحَمَّدِ اِبْنِ سِيرِينَ أَنَّ مُعَاذًا أَبَا حَلِيمَةَ الْقَارِي كَانَ يُصَلِّي بِالنَّاسِ فِي رَمَضَانَ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ رَكْعَةً .
2- وَعَنْ اِبْنِ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ صَالِحٍ مَوْلَى التَّوْأَمَةِ قَالَ: أَدْرَكْت النَّاسَ قَبْلَ الْحَرَّةِ يَقُومُونَ بِإِحْدَى وَأَرْبَعِينَ يُوتِرُونَ مِنْهَا بِخَمْسٍ اِنْتَهَى .
قَالَ الْعَيْنِيُّ: قَالَ شَيْخُنَا -يَعْنِي الْحَافِظَ الْعِرَاقِيَّ-: وَهُوَ أَكْثَرُ مَا قِيلَ فِيهِ .
قَالَ الْعَيْنِيُّ : وَذَكَرَ اِبْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي "الِاسْتِذْكَارِ" عَنْ الْأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ: كَانَ يُصَلِّي أَرْبَعِينَ رَكْعَةً وَيُوتِرُ بِسَبْعٍ هَكَذَا ذَكَرَهُ . وَلَمْ يَقُلْ إِنَّ الْوِتْرَ مِنْ الْأَرْبَعِينَ .
قال الترمذي: ( وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَهُمْ بِالْمَدِينَةِ ) .
قَوْلُ التِّرْمِذِيِّ هَذَا يُخَالِفُ مَا رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ عَنْ اِبْنِ أَيْمَنَ قَالَ مَالِكٌ: اُسْتُحِبَّ أَنْ يَقُومَ النَّاسُ فِي رَمَضَانَ بِثَمَانٍ وَثَلَاثِينَ رَكْعَةً، ثُمَّ يُسَلِّمَ الْإِمَامُ وَالنَّاسُ، ثُمَّ يُوتِرَ بِهِمْ بِوَاحِدَةٍ، وَهَذَا الْعَمَلُ بِالْمَدِينَةِ قَبْلَ الْحَرَّةِ مُنْذُ بِضْعٍ وَمِائَةِ سَنَةٍ إِلَى الْيَوْمِ اِنْتَهَى .
قَالَ الْعَيْنِيُّ بَعْدَ ذِكْرِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ: هَكَذَا رَوَى اِبْنُ أَيْمَنَ عَنْ مَالِكٍ وَكَأَنَّهُ جَمَعَ رَكْعَتَيْنِ مِنْ الْوِتْرِ مَعَ قِيَامِ رَمَضَانَ، وَإِلَّا فَالْمَشْهُورُ عَنْ مَالِكٍ سِتٌّ وَثَلَاثُونَ وَالْوِتْرُ بِثَلَاثٍ وَالْعَدَدُ وَاحِدٌ اِنْتَهَى كَلَامُ الْعَيْنِيِّ .
قُلْت تَأْوِيلُ الْعَيْنِيِّ رِوَايَةَ اِبْنِ أَيْمَنَ بِقَوْلِِ : وَكَأَنَّهُ جَمَعَ . . إِلَخْ، يَرُدُّهُ لَفْظُ رِوَايَةِ اِبْنِ أَيْمَنَ فَتَفَكَّرْ.
بسط الخلاف في عدد الركعات
اِعْلَمْ أَنَّ التِّرْمِذِيَّ -رَحِمَهُ اللَّهُ- ذَكَرَ فِي قِيَامِ رَمَضَانَ قَوْلَيْنِ:
الْأَوَّلُ: إِحْدَى وَأَرْبَعُونَ رَكْعَةً مَعَ الْوَتْرِ .
وَالثَّانِي: عِشْرُونَ رَكْعَةً .
وَفِيهِ أَقْوَالٌ كَثِيرَةٌ لَمْ يَذْكُرْهَا التِّرْمِذِيُّ قُلْنَا أَنْ نَذْكُرَهَا.
قَالَ الْعَيْنِيُّ فِي عُمْدَةِ الْقَارِي بَعْدَ ذِكْرِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ:
1- وَرِوَايَةُ اِبْنِ أَيْمَنَ عَنْ مَالِكٍ الْمَذْكُورَةُ مَا لَفْظُهُ: وَقِيلَ: سِتٌّ وَثَلَاثُونَ، وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ عَمَلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ .
2- وَرَوَى اِبْنُ وَهْبٍ قَالَ: سَمِعْت عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ يُحَدِّثُ عَنْ نَافِعٍ قَالَ: لَمْ أُدْرِكْ النَّاسَ إِلَّا وَهُمْ يُصَلُّونَ تِسْعًا وَثَلَاثِينَ رَكْعَةً وَيُوتِرُونَ مِنْهَا بِثَلَاثٍ.
3- وَقِيلَ: أَرْبَعٌ وَثَلَاثُونَ عَلَى مَا حُكِيَ عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَوْفَى أَنَّهُ كَذَلِكَ كَانَ يُصَلِّي بِهِمْ فِي الْعَشْرِ الْأَخِيرِ.
4- وَقِيلَ: ثَمَانٍ وَعِشْرُونَ، وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَوْفَى فِي الْعِشْرِينَ الْأَوَّلِينَ مِنْ الشَّهْرِ، وَكَانَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ يَفْعَلُهُ فِي الْعَشْرِ الْأَخِيرِ.
5- وَقِيلَ: أَرْبَعٌ وَعِشْرُونَ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ.
6- وَقِيلَ عِشْرُونَ، وَحَكَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، فَإِنَّهُ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الصَّحَابَةِ وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا الْحَنَفِيَّةِ .
7- وَقِيلَ: إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، وَهُوَ اِخْتِيَارُ مَالِكٍ لِنَفْسِهِ وَاخْتَارَهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ اِنْتَهَى كَلَامُ الْعَيْنِيِّ .
تنقيح الخلاف والترجيح
وَقَالَ الْحَافِظُ جَلَالُ الدِّينِ السُّيُوطِيُّ فِي رِسَالَتِهِ "الْمَصَابِيحِ فِي صَلَاةِ التَّرَاوِيحِ": قَالَ الْجَوْزِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: الَّذِي جَمَعَ عَلَيْهِ النَّاسَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَحَبُّ إِلَيَّ وَهُوَ إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً وَهِيَ صَلَاةُ -رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، قِيلَ لَهُ إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً بِالْوِتِْر؟ قَالَ نَعَمْ وَثَلَاثَ عَشْرَةَ قَرِيبٌ، قَالَ وَلَا أَدْرِي مِنْ أَيْنَ أُحْدِثَ هَذَا الرُّكُوعُ الْكَثِيرُ اِنْتَهَى .
قُلْت -المباركفووري-: الْقَوْلُ الرَّاجِحُ الْمُخْتَارُ الْأَقْوَى مِنْ حَيْثُ الدَّلِيلُ هُوَ هَذَا الْقَوْلُ الْأَخِيرُ الَّذِي اِخْتَارَهُ مَالِكٌ لِنَفْسِهِ أَعْنِي إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، وَهُوَ الثَّابِتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالسَّنَدِ الصَّحِيحِ، بِهَا أَمَرَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ-، وَأَمَّا الْأَقْوَالُ الْبَاقِيَةُ فَلَمْ يَثْبُتْ وَاحِدٌ مِنْهَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِسَنَدٍ صَحِيحٍ وَلَا ثَبَتَ الْأَمْرُ بِهِ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ خَالٍ عَنْ الْكَلَامِ .
الأدلة على القول الراجح
فَأَمَّا مَا قُلْنَا مِنْ أَنَّ إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً هِيَ الثَّابِتَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَلِمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ كَيْفَ كَانَتْ صَلَاةُ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي رَمَضَانَ ؟
فَقَالَتْ: مَا كَانَ يَزِيدُ فِي رَمَضَانَ وَلَا فِي غَيْرِهِ عَلَى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، يُصَلِّي أَرْبَعًا فَلَا تَسْأَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ، ثُمَّ يُصَلِّي أَرْبَعًا فَلَا تَسْأَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ، ثُمَّ يُصَلِّي ثَلَاثًا الْحَدِيثَ.
فَهَذَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ نَصٌّ صَرِيحٌ فِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَا كَانَ يَزِيدُ فِي رَمَضَانَ وَلَا فِي غَيْرِهِ عَلَى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً .
تَنْبِيهٌ
قَدْ ذَكَرَ الْعَيْنِيُّ -رَحِمَهُ اللَّهُ- فِي عُمْدَةِ الْقَارِي تَحْتَ هَذَا الْحَدِيثِ أَسْئِلَةً مَعَ أَجْوِبَتِهَا وَهِيَ مُفِيدَةٌ فَلَنَا أَنْ نَذْكُرَهَا؛ قَالَ: الْأَسْئِلَةُ وَالْأَجْوِبَةُ
س1- مِنْهَا أَنَّهُ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ أَنَّهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ الْأُوَلُ يَجْتَهِدُ فِيهِ مَا لَا يَجْتَهِدُ فِي غَيْرِهِ، وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِهَا كَانَ إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ أَحْيَا اللَّيْلَ وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ وَجَدَّ وَشَدَّ مِئْزَرَهُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَزِيدُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ عَلَى عَادَتِهِ فَكَيْفَ يُجْمَعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَدِيثِ الْبَابِ؟
فَالْجَوَابُ: أَنَّ الزِّيَادَةَ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ يُحْمَلُ عَلَى التَّطْوِيلِ دُونَ الزِّيَادَةِ فِي الْعَدَدِ.
وَمِنْهَا أَنَّ الرِّوَايَاتِ اِخْتَلَفَتْ عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- فِي عَدَدِ رَكَعَاتِ صَلَاةِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِاللَّيْلِ، فَفِي حَدِيثِ الْبَابِ: إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، وَفِي رِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ: كَانَ يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً، وَفِي رِوَايَةِ مَسْرُوقٍ أَنَّهُ سَأَلَهَا عَنْ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَتْ: سَبْعٌ وَتِسْعٌ وَإِحْدَى عَشْرَةَ سِوَى رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ، وَفِي رِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ الْأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي اللَّيْلَ تِسْعَ رَكَعَاتٍ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ مَنْ عَدَّهَا ثَلَاثَ عَشْرَةَ أَرَادَ بِرَكْعَتَيْ الْفَجْرِ، وَصَرَّحَ بِذَلِكَ فِي رِوَايَةِ الْقَاسِمِ عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-: كَانَتْ صَلَاتُهُ بِاللَّيْلِ عَشْرَ رَكَعَاتٍ وَيُوتِرُ بِسَجْدَةٍ وَيَرْكَعُ بِرَكْعَتَيْ الْفَجْرِ فَتِلْكَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً، وَأَمَّا رِوَايَةُ سَبْعٍ وَتِسْعٍ فَهِيَ فِي حَالَةِ كِبَرِهِ وَكَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى اِنْتَهَى كَلَامُ الْعَيْنِيِّ.
قُلْت -المباركفوري-: الْأَمْرُ كَمَا قَالَ الْعَيْنِيُّ -رَحِمَهُ اللَّهُ- فِي الْجَوَابِ عَنْ السُّؤَالِ الثَّانِي.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ فَفِيهِ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ قَدْ يُصَلِّي ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً سِوَى الْفَجْرِ، فَرَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ أَنَّهُ قَالَ: لَأَرْمُقَنَّ صَلَاةَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اللَّيْلَةَ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ طَوِيلَتَيْنِ طَوِيلَتَيْنِ طَوِيلَتَيْنِ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَهُمَا دُونَ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُمَا، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَهُمَا دُونَ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُمَا، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَهُمَا دُونَ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُمَا، ثُمَّ أَوْتَرَ فَذَلِكَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً .
فَالْأَحْسَنُ فِي الْجَوَابِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يَفْتَحُ صَلَاتَهُ بِاللَّيْلِ بِرَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ كَمَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا قَامَ مِنْ اللَّيْلِ اِفْتَتَحَ صَلَاتَهُ بِرَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ.
وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: ((إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ مِنْ اللَّيْلِ فَلْيَفْتَحْ صَلَاتَهُ بِرَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ)).
فَقَدْ عُدَّتْ هَاتَانِ الرَّكْعَتَانِ الْخَفِيفَتَانِ، فَصَارَ قِيَامُ اللَّيْلِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً.
وَلَمَّا لَمْ تُعَدَّ لِمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُخَفِّفُهُمَا، صَارَ إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ الْأَخِيرِ الَّذِي اِخْتَارَهُ مَالِكٌ لِنَفْسِهِ، أَعْنِي إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً حَدِيثُ جَابِرٍ -رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ- قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي شَهْرِ رَمَضَانَ ثَمَانِ رَكَعَاتٍ وَأَوْتَر؛َ فَلَمَّا كَانَتْ الْقَابِلَةُ اِجْتَمَعْنَا فِي الْمَسْجِدِ، وَرَجَوْنَا أَنْ يَخْرُجَ فَلَمْ نَزَلْ فِيهِ حَتَّى أَصْبَحْنَا ثُمَّ دَخَلْنَا فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ اِجْتَمَعْنَا الْبَارِحَةَ فِي الْمَسْجِدِ، وَرَجَوْنَا أَنْ تُصَلِّيَ بِنَا. فَقَالَ: ((إِنِّي خَشِيت أَنْ يُكْتَبَ عَلَيْكُمْ )) رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الصَّغِيرِ وَمُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيُّ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحَيْهِمَا .
قَالَ الْحَافِظُ الذَّهَبِيُّ فِي "مِيزَانِ الِاعْتِدَالِ" بَعْدَ ذِكْرِ هَذَا الْحَدِيثِ: إِسْنَادُهُ وَسَطٌ اِنْتَهَى.
وَهَذَا الْحَدِيثُ صَحِيحٌ عِنْدَ اِبْنِ خُزَيْمَةَ وَابْنِ حِبَّانَ، وَلِذَا أَخْرَجَاهُمَا فِي صَحِيحِهِمَا. وَقَدْ ذَكَرَ الْحَافِظُ اِبْنُ حَجَرٍ هَذَا الْحَدِيثِ فِي فَتْحِ الْبَارِي لِبَيَانِ عَدَدِ الرَّكَعَاتِ الَّتِي صَلَّاهَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالنَّاسِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، فَهُوَ صَحِيحٌ عِنْدَهُ أَوْ حَسَنٌ، فَإِنَّهُ قَدْ قَالَ فِي مُقَدِّمَةِ الْفَتْحِ: فَأَسُوقُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى الْبَابَ وَحَدِيثَهُ أَوَّلًا، ثُمَّ أَذْكُرُ وَجْهَ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَهُمَا إِنْ كَانَتْ خَفِيَّةً ثُمَّ أَسْتَخْرِجُ ثَانِيًا مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ غَرَضٌ صَحِيحٌ فِي ذَلِكَ الْحَدِيثِ ، مِنْ الْفَوَائِدِ الْمَتْنِيَّةِ وَالْإِسْنَادِيَّةِ ، مِنْ تَتِمَّاتٍ وَزِيَادَاتٍ وَكَشْفِ غَامِضٍ، وَتَصْرِيحِ مُدَلِّسٍ بِسَمَاعٍ، وَمُتَابَعَةِ سَامِعٍ مِنْ شَيْخٍ اِخْتَلَطَ قَبْلَ ذَلِكَ، كُلٌّ مِنْ أُمَّهَاتِ الْمَسَانِيدِ وَالْجَوَامِعِ وَالْمُسْتَخْرَجَاتِ وَالْأَجْزَاءِ وَالْفَوَائِدِ، بِشَرْطِ الصِّحَّةِ أَوْ الْحُسْنِ فِيمَا أُورِدُهُ مِنْ ذَلِكَ اِنْتَهَى .
فَإِنْ قُلْت: قَالَ النيموي فِي "آثَارِ السُّنَن"ِ بَعْدَ ذِكْرِ حَدِيثِ جَابِرٍ الْمَذْكُورِ: فِي إِسْنَادِهِ لِينٌ . وَقَالَ فِي تَعْلِيقِهِ: مَدَارُهُ عَلَى عِيسَى بْنِ جَارِيَةَ ثُمَّ ذَكَرَ جَرْحَ اِبْنِ مُعِينٍ وَالنَّسَائِيِّ وَأَبِي دَاوُدَ، وَتَوْثِيقَ أَبِي زُرْعَةَ وَابْنِ حِبَّانَ. ثُمَّ قَالَ: قَوْلُ الذَّهَبِيِّ إِسْنَادُهُ وَسَطٌ لَيْسَ بِصَوَابٍ بَلْ إِسْنَادُهُ دُونَ وَسَطٍ اِنْتَهَى .
قُلْت : قَالَ الْحَافِظُ اِبْنُ حَجَرٍ فِي شَرْحِ النُّخْبَِ : الذَّهَبِيُّ مِنْ أَهْلِ الِاسْتِقْرَاءِ التَّامِّ فِي نَقْدِ الرِّجَالِ اِنْتَهَى .
فَلَمَّا حَكَمَ الذَّهَبِيُّ بِأَنَّ إِسْنَادَهُ وَسَطٌ بَعْدَ ذِكْرِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ فِي عِيسَى بْنِ جَارِيَةَ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الِاسْتِقْرَاءِ التَّامِّ فِي نَقْدِ الرِّجَالِ، فَحُكْمُهُ بِأَنَّ إِسْنَادَهُ وَسَطٌ هُوَ الصَّوَابُ وَيُؤَيِّدُهُ إِخْرَاجُ اِبْنِ خُزَيْمَةَ وَابْنِ حِبَّانَ هَذَا الْحَدِيثَ فِي صَحِيحَيْهِمَا؛ وَلَا يُلْتَفَتُ إِلَى مَا قَالَ النَّيْمَوِيُّ، وَيَشْهَدُ لِحَدِيثِ جَابِرٍ هَذَا حَدِيثُ عَائِشَةَ الْمَذْكُورُ: ((مَا كَانَ يَزِيدُ فِي رَمَضَانَ وَلَا فِي غَيْرِهِ عَلَى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً)) .
وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ الْأَخِيرِ الَّذِي اِخْتَارَهُ مَالِكٌ -أَعْنِي إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً- مَا رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: جَاءَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ كَانَ مِنِّي اللَّيْلَةَ شَيْءٌ يَعْنِي فِي رَمَضَانَ، قَالَ: ((وَمَا ذَاكَ يَا أُبَيُّ ؟)) قَالَ نِسْوَةٌ فِي دَارِي قُلْنَ إِنَّا لَا نَقْرَأُ الْقُرْآنَ فَنُصَلِّي بِصَلَاتِك. قَالَ: فَصَلَّيْت بِهِنَّ ثَمَانِ رَكَعَاتٍ وَأَوْتَرْت. فَكَانَتْ سُنَّةَ الرِّضَا، وَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا.
قَالَ الْهَيْثَمِيُّ فِي مَجْمَعِ الزَّوَائِِ : إِسْنَادُهُ حَسَنٌ. وَأَمَّا مَا قُلْنَا مِنْ أَنَّ بِإِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً أَمَرَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ- فَلِأَنَّ الْإِمَامَ مَالِكًا -رَحِمَهُ اللَّهُ- رَوَى فِي مُوَطَّئِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ عَنْ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ أَنَّهُ قَالَ: أَمَرَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْه-ُ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وَتَمِيمًا الدَّارِيَّ أَنْ يَقُومَا لِلنَّاسِ بِإِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، وَكَانَ الْقَارِئُ يَقْرَأُ بِالْمِئِينَ حَتَّى كُنَّا نَعْتَمِدُ عَلَى الْعِصِيِّ مِنْ طُولِ الْقِيَامِ، وَمَا كُنَّا نَنْصَرِفُ إِلَّا فِي فُرُوعِ الْفَجْرِ.
وَرَوَاهُ أَيْضًا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ قَالَ النَّيْمَوِيُّ فِي "آثَارِ السُّنَنِ": إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ .
فَإِنْ قُلْت: قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ بَعْدَ ذِكْرِ أَثَرِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- هَذَا: وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ فَقَالَ: إِحْدَى وَعِشْرِينَ اِنْتَهَى .
وَقَالَ الزُّرْقَانِيُّ فِي شَرْحِ الْمُوَطَّأِ قَالَ اِبْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: رَوَى غَيْرُ مَالِكٍ فِي هَذَا إِحْدَى وَعِشْرِينَ، وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا قَالَ فِيهِ إِحْدَى عَشْرَةَ إِلَّا مَالِكًا. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ أَوَّلًا ثُمَّ خَفَّفَ عَنْهُمْ طُولَ الْقِيَامِ وَنَقَلَهُمْ إِلَى إِحْدَى وَعِشْرِينَ إِلَّا أَنَّ الْأَغْلَبَ عِنْدِي أَنَّ قَوْلَهُ إِحْدَى عَشْرَةَ وَهْمٌ اِنْتَهَى.
قُلْت : قَوْلُ اِبْنِ عَبْدِ الْبَرِّ إِنَّ الْأَغْلَبَ عِنْدِي أَنَّ قَوْلَهُ إِحْدَى عَشْرَةَ وَهْمٌ بَاطِلٌ جِدًّا .
قَالَ الزُّرْقَانِيُّ فِي شَرْحِ الْمُوَطَّأِ بَعْدَ ذِكْرِ قَوْلِ اِبْنِ عَبْدِ الْبَرِّ هَذَا مَا لَفْظُهُ: وَلَا وَهْمَ وَقَوْلُهُ : إِنَّ مَالِكًا اِنْفَرَدَ بِهِ لَيْسَ كَمَا قَالَ فَقَدْ رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ فَقَالَ: إِحْدَى عَشْرَةَ كَمَا قَالَ مَالِكٌ اِنْتَهَى كَلَامُ الزُّرْقَانِيِّ.
وَقَالَ النيموي فِي "آثَارِ السُّنَنِ": مَا قَالَهُ اِبْنُ عَبْدِ الْبَرِّ مِنْ وَهْمِ مَالِكٍ فَغَلَطٌ جِدًّا؛ لِأَنَّ مَالِكًا قَدْ تَابَعَهُ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ عِنْدَ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ فِي سُنَنِهِ ، وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ عِنْدَ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ ، كِلَاهُمَا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ وَقَالَا إِحْدَى عَشْرَةَ . كَمَا رَوَاهُ مَالِكٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ، وَأَخْرَجَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيُّ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ عَنْ جَدِّهِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ كُنَّا نُصَلِّي فِي زَمَنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- فِي رَمَضَانَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً. قَالَ النيموي: هَذَا قَرِيبٌ مِمَّا رَوَاهُ مَالِكٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ أَيْ مَعَ الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعِشَاءِ اِنْتَهَى كَلَامُ النيموي .
قُلْت: فَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّ الْإِمَامَ مَالِكًا لَمْ يَنْفَرِدْ بِقَوْلِهِ: إِحْدَى عَشْرَةَ بَلْ تَابَعَهُ عَلَيْهِ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ وَهُوَ ثِقَةٌ وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ إِمَامُ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ، قَالَ الْحَافِظُ فِي التَّقْرِيبِ: ثِقَةٌ مُتْقِنٌ حَافِظٌ إِمَامٌ؛ ظَهَرَ لَك حَقُّ الظُّهُورِ أَنَّ قَوْلَ اِبْنِ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّ الْأَغْلَبَ أَنَّ قَوْلَهُ إِحْدَى عَشْرَةَ، وَهْمٌ لَيْسَ بِصَحِيحٍ بَلْ لَوْ تَدَبَّرْت ظَهَرَ لَك أَنَّ الْأَمْرَ عَلَى خِلَافِ مَا قَالَ اِبْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، أَعْنِي أَنَّ الْأَغْلَبَ أَنَّ قَوْلَ غَيْرِ مَالِكٍ فِي هَذَا الْأَثَرِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ كَمَا فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ وَهْمٌ، فَإِنَّهُ قَدْ اِنْفَرَدَ هُوَ بِإِخْرَاجِ هَذَا الْأَثَرِ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَلَمْ يُخْرِجْهُ بِهِ أَحَدٌ غَيْرُهُ فِيمَا أَعْلَمُ.
وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ وَإِنْ كَانَ ثِقَةً حَافِظًا لَكِنَّهُ قَدْ عَمِيَ فِي آخِرِ عُمْرِهِ فَتَغَيَّرَ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْحَافِظُ فِي التَّقْرِيبِ .
وَأَمَّا الْإِمَامُ مَالِكٌ فَقَالَ الْحَافِظُ فِي التَّقْرِيبِ: إِمَامُ دَارِ الْهِجْرَةِ رَأْسُ الْمُتْقِنِينَ وَكَبِيرُ الْمُثْبِتِينَ، حَتَّى قَالَ الْبُخَارِيُّ: أَصَحُّ الْأَسَانِيدِ كُلُّهَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ اِبْنِ عُمَرَ اِنْتَهَى.
وَمَعَ هَذَا لَمْ يَنْفَرِدْ هُوَ بِإِخْرَاجِ هَذَا الْأَثَرِ بِلَفْظِ: إِحْدَى عَشْرَةَ بَلْ أَخْرَجَهُ أَيْضًا بِهَذَا اللَّفْظِ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ كَمَا عَرَفْت.
فَالْحَاصِلُ أَنَّ لَفْظَ: إِحْدَى عَشْرَةَ فِي أَثَرِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ الْمَذْكُورِ صَحِيحٌ ثَابِتٌ مَحْفُوظٌ، وَلَفْظُ إِحْدَى وَعِشْرِينَ فِي هَذَا الْأَثَرِ غَيْرُ مَحْفُوظٍ وَالْأَغْلَبُ أَنَّهُ وَهْمٌ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
قَوْلُهُ: (وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَعُمَرَ وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِشْرِينَ رَكْعَةً) .
أَمَّا أَثَرُ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- فَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ أَبِي الْحَسْنَاءِ: أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَمَرَ رَجُلًا أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ خَمْسَ تَرْوِيحَاتٍ عِشْرِينَ رَكْعَةً .
قَالَ النيموي فِي تَعْلِيقِ "آثَارِ السُّنَنِ": مَدَارُ هَذَا الْأَثَرِ عَلَى أَبِي الْحَسْنَاءِ وَهُوَ لَا يُعْرَفُ اِنْتَهَى .
قُلْت الْأَمْرُ كَمَا قَالَ النيموي قَالَ الْحَافِظُ فِي التَّقْرِيبِ فِي تَرْجَمَةِ أَبِي الْحَسْنَاءِ: إنَّهُ مَجْهُولٌ وَقَالَ الذَّهَبِيُّ فِي مِيزَانِهِ: لَا يُعْرَفُ اِنْتَهَى .
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَثَرٌ آخَرُ؛ فَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ عَنْ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ-هُ وَدَعَا الْقُرَّاءَ فِي رَمَضَانَ فَأَمَرَ مِنْهُمْ رَجُلًا يُصَلِّي بِالنَّاسِ عِشْرِينَ رَكْعَةً، قَالَ وَكَانَ عَلِيٌّ -رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ- يُوتِرُ بِهِمْ .
وَرُوِيَ ذَلِكَ مِنْ وَجْهٌ آخَرُ عَنْ عَلِيٍّ . قَالَ النيموي بَعْدَ ذِكْرِ هَذَا الْأَثَر : حَمَّادُ بْنُ شُعَيْبٍ ضَعِيفٌ.
قَالَ الذَّهَبِيُّ فِي الْمِيزَانِ: ضَعَّفَهُ اِبْنُ مَعِينٍ وَغَيْرُهُ . وَقَالَ يَحْيَى مَرَّةً : لَا يُكْتَبُ حَدِيثُهُ . وَقَالَ الْبُخَارِيُّ : فِيهِ نَظَرٌ. وَقَالَ النَّسَائِيُّ : ضَعِيفٌ. وَقَالَ اِبْنُ عَدِيٍّ، أَكْثَرُ حَدِيثِهِ مِمَّا لَا يُتَابَعُ عَلَيْهِ اِنْتَهَى كَلَامُ النيموي قُلْت: الْأَمْرُ كَمَا قَالَ النيموي .
فَائِدَةٌ:
قَالَ الشَّيْخُ اِبْنُ الْهُمَامِ فِي التَّحْرِيرِ: " إِذَا قَالَ الْبُخَارِيُّ لِلرَّجُلِ فِيهِ نَظَرٌ فَحَدِيثُهُ لَا يُحْتَجُّ بِهِ، وَلَا يُسْتَشْهَدُ بِهِ وَلَا يَصْلُحُ لِلِاعْتِبَارِ" اِنْتَهَى كَلَامُ اِبْنِ الْهُمَامِ.
قُلْت: فَأَثَرُ عَلِيٍّ هَذَا لَا يُحْتَجُّ بِهِ وَلَا يُسْتَشْهَدُ بِهِ وَلَا يَصْلُحُ لِلِاعْتِبَارِ فَإِنَّ فِي سَنَدِهِ حَمَّادَ بْنَ شُعَيْبٍ وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِيهِ نَظَرٌ .
تَنْبِيهٌ
يُسْتَدَلُّ بِهَذَيْنِ الْأَثَرَيْنِ عَلَى أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ -رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ- أَمَرَ أَنْ يُصَلِّيَ التَّرَاوِيحَ عِشْرِينَ رَكْعَةً . وَعَلَى أَنَّهُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- صَلَّى التَّرَاوِيحَ عِشْرِينَ رَكْعَةً؛ وَقَدْ عَرَفْت أَنَّ هَذَيْنِ الْأَثَرَيْنِ ضَعِيفَانِ لَا يَصْلُحَانِ لِلِاسْتِدْلَالِ . وَمَعَ هَذَا فَهُمَا مُخَالِفَانِ لِمَا ثَبَتَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ .
وَأَمَّا أَثَرُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ- فَأَخْرَجَهُ أَبُو بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ-هُ أَمَرَ رَجُلًا يُصَلِّي بِهِمْ عِشْرِينَ رَكْعَةً . قَالَ النيموي فِي آثَارِ السُّنَنِ: رِجَالُهُ ثِقَاتٌ ، لَكِنْ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ لَمْ يُدْرِكْ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ- اِنْتَهَى .
قُلْت: الْأَمْرُ كَمَا قَالَ النيموي فَهَذَا الْأَثَرُ مُنْقَطِعٌ لَا يَصْلُحُ لِلِاحْتِجَاجِ وَمَعَ هَذَا فَهُوَ مُخَالِفٌ لِمَا ثَبَتَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ- أَنَّهُ أَمَرَ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ وَتَمِيمًا الدَّارِيَّ أَنْ يَقُومَا لِلنَّاسِ بِإِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً . أَخْرَجَهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ، وَأَيْضًا هُوَ مُخَالِفٌ لِمَا ثَبَتَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ.
وَأَمَّا أَثَرُ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ- الَّذِي أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فَقَدْ عَرَفْت حَالَهُ، وَأَخْرَجَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ قَالَ: كَانَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ -رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ- يُصَلِّي بِالنَّاسِ فِي رَمَضَانَ بِالْمَدِينَةِ عِشْرِينَ رَكْعَةً وَيُوتِرُ بِثَلَاثٍ .
قَالَ النيموي: عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ رُفَيْعٍ لَمْ يُدْرِكْ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ اِنْتَهَى .
قُلْت الْأَمْرُ كَمَا قَالَ النيموي ، فَأَثَرُ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ هَذَا مُنْقَطِعٌ . وَمَعَ هَذَا فَهُوَ مُخَالِفٌ لِمَا ثَبَتَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ أَمَرَ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ وَتَمِيمًا الدَّارِيَّ أَنْ يَقُومَا لِلنَّاسِ بِإِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً ، وَأَيْضًا هُوَ مُخَالِفٌ لِمَا ثَبَتَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّهُ صَلَّى فِي رَمَضَانَ بِنِسْوَةِ دَارِهِ ثَمَانِ رَكَعَاتٍ وَأَوْتَرَ . وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ بِتَمَامِهِ . وَفِي قِيَامِ اللَّيْلِ قَالَ الْأَعْمَشُ : كَانَ أَيْ اِبْنُ مَسْعُودٍ يُصَلِّي عِشْرِينَ رَكْعَةً وَيُوتِرُ بِثَلَاثٍ وَهَذَا أَيْضًا مُنْقَطِعٌ . إِنَّ الْأَعْمَشَ لَمْ يُدْرِكْ اِبْنَ مَسْعُودٍ .
( وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَابْنِ الْمُبَارَكِ وَالشَّافِعِيِّ )
وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ، وَاسْتُدِلَّ لَهُمْ بِمَا رَوَى اِبْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ وَالطَّبَرَانِيُّ وَعَنْهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُثْمَانَ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ الْحَكَمِ عَنْ مُقْسِمٍ عَنْ اِبْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يُصَلِّي فِي رَمَضَانَ عِشْرِينَ رَكْعَةً سِوَى الْوِتْرِ اِنْتَهَى.
وَهَذَا الْحَدِيثُ ضَعِيفٌ جِدًّا لَا يَصْلُحُ لِلِاسْتِدْلَالِ ، فَاسْتِدْلَالُهُمْ بِهَذَا الْحَدِيثِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ. قَالَ الْحَافِظُ الزَّيْلَعِيُّ فِي نَصْبِ الرَّايَةِ: وَهُوَ مَعْلُولٌ بِابْنِ أَبِي شَيْبَةَ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُثْمَانَ جَدِّ الْإِمَامِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَى ضَعْفِهِ، وَلَيَّنَهُ اِبْنُ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ، ثُمَّ إِنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا كَيْفَ كَانَتْ صَلَاةُ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي رَمَضَانَ؟ قَالَتْ مَا كَانَ يَزِيدُ فِي رَمَضَانَ وَلَا فِي غَيْرِهِ عَلَى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً. الْحَدِيثَ اِنْتَهَى كَلَامُ الزَّيْلَعِيِّ.
وَقَالَ النيموي فِي تَعْلِيقِ آثَارِ السُّنَنِ: وَقَدْ أَخْرَجَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ الْكُشِّيِّ فِي مُسْنَدِهِ وَالْبَغَوِيُّ فِي مُعْجَمِهِ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ الْكَبِيرِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، كُلُّهُمْ مِنْ طَرِيقِ أَبِي شَيْبَةَ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُثْمَانَ جَدِّ الْإِمَامِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ وَهُوَ ضَعِيفٌ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ بَعْدَهُ مَا أَخْرَجَهُ: اِنْفَرَدَ بِهِ أَبُو شَيْبَةَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ عُثْمَانَ الْعَبْسِيُّ الْكُوفِيُّ وَهُوَ ضَعِيفٌ اِنْتَهَى.
وَقَالَ الْمِزِّيُّ فِي تَهْذِيبِ الْكَمَالِ: قَالَ أَحْمَدُ وَيَحْيَى وَأَبُو دَاوُدَ: ضَعِيفٌ، وَقَالَ يَحْيَى أَيْضًا لَيْسَ بِثِقَةٍ، وَقَالَ النَّسَائِيُّ وَالدُّولَابِيُّ: مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: ضَعِيفُ الْحَدِيثِ سَكَتُوا عَنْهُ، وَقَالَ صَالِحٌ: ضَعِيفٌ لَا يُكْتَبُ حَدِيثُهُ. ثُمَّ قَالَ الْمِزِّيُّ وَمِنْ مَنَاكِيرِهِ حَدِيثُ: أَنَّهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يُصَلِّي فِي رَمَضَانَ عِشْرِينَ رَكْعَةً اِنْتَهَى .
وَهَكَذَا فِي الْمِيزَانِ، وَقَالَ الْحَافِظُ فِي التَّقْرِيبِ: مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ اِنْتَهَى كَلَامُ النيموي، وَقَالَ الشَّيْخُ اِبْنُ الْهُمَامِ فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ بَعْدَ ذِكْرِ هَذَا الْحَدِيثِ: ضَعِيفٌ بِأَبِي شَيْبَةَ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُثْمَانَ جَدِّ الْإِمَامِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، مُتَّفَقٌ عَلَى ضَعْفِهِ مَعَ مُخَالَفَتِهِ لِلصَّحِيحِ اِنْتَهَى، وَقَالَ الْعَيْنِيُّ فِي عُمْدَةِ الْقَارِي بَعْدَ ذِكْرِ هَذَا الْحَدِيثِ: وَأَبُو شَيْبَةَ هُوَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ عُثْمَانَ الْعَبْسِيُّ الْكُوفِيُّ قَاضِي وَاسِطٍ جَدُّ أَبِي بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ كَذَّبَهُ شُعْبَةُ وَضَعَّفَهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَعِينٍ وَالْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمْ .
وَأَوْرَدَ لَهُ اِبْنُ عَدِيٍّ هَذَا الْحَدِيثَ فِي الْكَامِلِ فِي مَنَاكِيرِهِ اِنْتَهَى .
وَاسْتُدِلَّ لَهُمْ أَيْضًا بِمَا رَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: كُنَّا نَقُومُ فِي زَمَانِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ بِعِشْرِينَ رَكْعَةً وَالْوِتْرِ وَصَحَّحَ إِسْنَادَهُ السُّبْكِيُّ فِي شَرْحِ الْمِنْهَاجِ وَعَلِيٌّ الْقَارِي فِي شَرْحِ الْمُوَطَّأِ .
قُلْت: فِي سَنَدِهِ أَبُو عُثْمَانُ الْبَصْرِيُّ وَاسْمُهُ عَمْرُو بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ النيموي فِي تَعْلِيقِ آثَارِ السُّنَنِ: لَمْ أَقِفْ عَلَى مَنْ تَرْجَمَ لَهُ اِنْتَهَى .
قُلْت لَمْ أَقِفْ أَنَا أَيْضًا عَلَى تَرْجَمَتِهِ مَعَ التَّفَحُّصِ الْكَثِيرِ وَأَيْضًا فِي سَنَدِهِ أَبُو طَاهِرٌ الْفَقِيهُ شَيْخُ الْبَيْهَقِيِّ وَلَمْ أَقِفْ عَلَى مَنْ وَثَّقَهُ . فَمَنْ اِدَّعَى صِحَّةَ هَذَا الْأَثَرِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُثْبِتَ كَوْنِ كُلٍّ مِنْهُمَا ثِقَةً قَابِلًا لِلِاحْتِجَاجِ . فَإِنْ قُلْت قَالَ التَّاجُ السُّبْكِيُّ فِي الطَّبَقَاتِ الْكُبْرَى فِي تَرْجَمَةِ أَبِي بَكْرٍ الْفَقِيهِ : كَانَ إِمَامَ الْمُحَدِّثِينَ وَالْفُقَهَاءِ فِي زَمَانِهِ وَكَانَ شَيْخًا أَدِيبًا عَارِفًا بِالْعَرَبِيَّةِ ، لَهُ يَدٌ طُولَى فِي مَعْرِفَةِ الشُّرُوطِ ، وَصَنَّفَ فِيهِ كِتَابًا اِنْتَهَى . فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ ثِقَةً قُلْت : لَا دَلَالَةَ فِي هَذَا عَلَى كَوْنِهِ ثِقَةً قَابِلًا لِلِاحْتِجَاجِ ، نَعَمْ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى كَوْنِهِ جَلِيلَ الْقَدْرِ فِي الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ وَالْعَرَبِيَّةِ وَمَعْرِفَةِ الشُّرُوطِ ، وَلَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْ هَذَا كَوْنُهُ ثِقَةً فَالْحَاصِلُ أَنَّ فِي صِحَّةِ هَذَا الْأَثَرِ نَظَرًا وَكَلَامًا ، وَمَعَ هَذَا فَهُوَ مُعَارَضٌ بِمَا رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي سُنَنِهِ قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ سَمِعْت السَّائِبَ بْنَ يَزِيدَ يَقُولُ : كُنَّا نَقُومُ فِي زَمَانِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِإِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً . قَالَ الْحَافِظُ جَلَالُ الدِّينِ السُّيُوطِيُّ فِي رِسَالَتِهِ الْمَصَابِيحِ فِي صَلَاةِ التَّرَاوِيحِ بَعْدَ ذِكْرِ هَذَا الْأَثَرِ : إِسْنَادُهُ فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ اِنْتَهَى ، وَأَيْضًا هُوَ مُعَارَضٌ بِمَا رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ عَنْ جَدِّهِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ : كُنَّا نُصَلِّي فِي زَمَنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي رَمَضَانَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً ، وَهُوَ أَيْضًا مُعَارَضٌ بِمَا رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ عَنْ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ أَنَّهُ قَالَ : أَمَرَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ وَتَمِيمًا الدَّارِيَّ أَنْ يَقُومَا لِلنَّاسِ بِإِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً ، فَأَثَرُ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ الَّذِي رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ لَا يَصْلُحُ لِلِاحْتِجَاجِ . فَإِنْ قُلْت رَوَى الْبَيْهَقِيُّ هَذَا الْأَثَرَ بِسَنَدٍ آخَرَ بِلَفْظِ قَالَ : كَانُوا يَقُومُونَ عَلَى عَهْدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ بِعِشْرِينَ رَكْعَةً وَصَحَّحَ إِسْنَادَهُ النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ قُلْت فِي إِسْنَادِهِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ فَنْجَوَيْهِ الدِّينَوَرِيُّ ، وَلَمْ أَقِفْ عَلَى تَرْجَمَتِهِ ، فَمَنْ يَدَّعِي صِحَّةَ هَذَا الْأَثَرِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُثْبِتَ كَوْنَهُ ثِقَةً قَابِلًا لِلِاحْتِجَاجِ . وَأَمَّا قَوْلُ النيموي : هُوَ مِنْ كِبَارِ الْمُحَدِّثِينَ فِي زَمَانِهِ ، لَا يُسْأَلُ عَنْ مِثْلِهِ ، فَمَا لَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ . فَإِنَّ مُجَرَّدَ كَوْنِهِ مِنْ كِبَارِ الْمُحَدِّثِينَ لَا يَسْتَلْزِمُ كَوْنَهُ ثِقَةً .
تَنْبِيهَاتٌ: الْأَوَّلُ قَالَ النيموي فِي تَعْلِيقِ آثَارِ السُّنَنِ: لَا يَخْفَى عَلَيْك أَنَّ مَا رَوَاهُ السَّائِبُ مِنْ حَدِيثِ عِشْرِينَ رَكْعَةً قَدْ ذَكَرَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِلَفْظِ: إِنَّهُمْ كَانُوا يَقُومُونَ عَلَى عَهْدِ عُمَرَ بِعِشْرِينَ رَكْعَةً، وَعَلَى عَهْدِ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ مِثْلَهُ. وَعَزَاهُ إِلَى الْبَيْهَقِيِّ ، فَقَوْلُهُ وَعَلَى عَهْدِ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ مِثْلَهُ قَوْلُ لَا يُوجَدُ فِي تَصَانِيفِ الْبَيْهَقِيِّ اِنْتَهَى كَلَامُ النيموي .
قُلْت: الْأَمْرُ كَمَا قَالَ النيموي . الثَّانِي قَدْ جَمَعَ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ بَيْنَ رِوَايَتَيْ السَّائِبِ الْمُخْتَلِفَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَقُومُونَ بِإِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، ثُمَّ كَانُوا يَقُومُونَ بِعِشْرِينَ وَيُوتِرُونَ بِثَلَاثٍ. قُلْت فِيهِ: إِنَّهُ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَقُومُونَ أَوَّلًا بِعِشْرِينَ رَكْعَةً، ثُمَّ كَانُوا يَقُومُونَ بِإِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً. وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ؛ لِأَنَّ هَذَا كَانَ مُوَافِقًا لِمَا هُوَ الثَّابِتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَذَاكَ كَانَ مُخَالِفًا لَهُ فَتَفَكَّرْ .
الثَّالِثُ: قَدْ اِدَّعَى بَعْضُ النَّاسِ أَنَّهُ قَدْ وَقَعَ الْإِجْمَاعُ عَلَى عِشْرِينَ رَكْعَةً فِي عَهْدِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وَاسْتَقَرَّ الْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ فِي الْأَمْصَارِ .
قُلْت : دَعْوَى الْإِجْمَاعِ عَلَى عِشْرِينَ رَكْعَةً وَاسْتِقْرَارُ الْأَمْرِ عَلَى ذَلِكَ فِي الْأَمْصَارِ بَاطِلَةٌ جِدًّا . كَيْفَ وَقَدْ عَرَفْت فِي كَلَامِ الْعَيْنِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ فِي هَذَا أَقْوَالًا كَثِيرَةً ، وَأَنَّ الْإِمَامَ مَالِكًا رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ : وَهَذَا الْعَمَلُ يَعْنِي الْقِيَامَ فِي رَمَضَانَ بِثَمَانٍ وَثَلَاثِينَ رَكْعَةً وَالْإِيتَارَ بِرَكْعَةٍ بِالْمَدِينَةِ قَبْلَ الْحَرَّةِ مُنْذُ بِضْعٍ وَمِائَةِ سَنَةٍ إِلَى الْيَوْمِ اِنْتَهَى . وَاخْتَارَ هَذَا الْإِمَامُ إِمَامُ دَارِ الْهِجْرَةِ لِنَفْسِهِ إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً وَكَانَ الْأَسْوَدُ بْنُ يَزِيدَ النَّخَعِيُّ الْفَقِيهُ يُصَلِّي أَرْبَعِينَ رَكْعَةً وَيُوتِرُ بِسَبْعٍ وَتَذَكَّرْ بَاقِيَ الْأَقْوَالِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْعَيْنِيُّ ، فَأَيْنَ الْإِجْمَاعُ عَلَى عِشْرِينَ رَكْعَةً ؟ وَأَيْنَ الِاسْتِقْرَارُ عَلَى ذَلِكَ فِي الْأَمْصَارِ ؟
( وَقَالَ أَحْمَدُ رُوِيَ فِي هَذَا أَلْوَانٌ )
أَيْ أَنْوَاعٌ مِنْ الرِّوَايَاتِ
( لَمْ يَقْضِ )
أَيْ لَمْ يَحْكُمْ أَحْمَدُ
( فِيهِ بِشَيْءٍ )
وَفِي كِتَابِ قِيَامِ اللَّيْلِ لِابْنِ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيِّ قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ قُلْت لِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ: كَمْ رَكْعَةً يُصَلِّي فِي قِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ؟ فَقَالَ قَدْ قِيلَ فِيهِ أَلْوَانٌ نَحْوًا مِنْ أَرْبَعِينَ إِنَّمَا هُوَ تَطَوُّعٌ، قَالَ إِسْحَاقُ: نَخْتَارُ أَرْبَعِينَ رَكْعَةً وَتَكُونُ الْقِرَاءَةُ أَخَفَّ اِنْتَهَى .
( وَقَالَ إِسْحَاقُ بَلْ نَخْتَارُ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ رَكْعَةً عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ )
لَمْ أَقِفْ عَلَى مَنْ رَوَاهُ وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَمَرَ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَتَمِيمًا الدَّارِيَّ أَنْ يَقُومَا لِلنَّاسِ بِإِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً وَقَدْ ثَبَتَ أَيْضًا أَنَّهُ صَلَّى بِالنِّسَاءِ فِي رَمَضَانَ بِثَمَانِ رَكَعَاتٍ وَأَوْتَرَ وَذَكَرَهُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا
( وَاخْتَارَ اِبْنُ الْمُبَارَكِ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ الصَّلَاةَ مَعَ الْإِمَامِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ )
وَفِي كِتَابِ قِيَامِ اللَّيْلِ : وَقِيلَ لِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ : يُعْجِبُك أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ مَعَ النَّاسِ فِي رَمَضَانَ أَوْ وَحْدَهُ ؟ قَالَ يُصَلِّي مَعَ النَّاسِ . قَالَ وَيُعْجِبُنِي أَنْ يُصَلِّيَ مَعَ الْإِمَامِ وَيُوتِرَ مَعَهُ . قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا قَامَ مَعَ الْإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ كُتِبَ لَهُ بَقِيَّةُ لَيْلَتِهِ " . قَالَ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ : يَقُومُ مَعَ النَّاسِ حَتَّى يُوتِرَ مَعَهُمْ وَلَا يَنْصَرِفُ حَتَّى يَنْصَرِفَ الْإِمَامُ قَالَ أَبُو دَاوُدَ : شَهِدْته يَعْنِي أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ شَهْرَ رَمَضَانَ يُوتِرُ مَعَ إِمَامِهِ إِلَّا لَيْلَةً لَمْ أَحْضُرْهَا . وَقَالَ إِسْحَاقُ رَحِمَهُ اللَّهُ قُلْت لِأَحْمَدَ : الصَّلَاةُ فِي الْجَمَاعَةِ أَحَبُّ إِلَيْك أَمْ يُصَلِّي وَحْدَهُ فِي قِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ ؟ قَالَ يُعْجِبُنِي أَنْ يُصَلِّيَ فِي الْجَمَاعَةِ يُحْيِي السُّنَّةَ وَقَالَ إِسْحَاقُ كَمَا قَالَ اِنْتَهَى .
( وَاخْتَارَ الشَّافِعِيُّ أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ وَحْدَهُ إِذَا كَانَ قَارِئًا )
أَيْ حَافِظًا لِلْقُرْآنِ كُلِّهِ أَوْ بَعْضِهِ . اهـ
وهذا ما أحببت نقله ببعض تصرف في علامات الترقيم وإضافة للترقيم، وبعض العناوين .
فالحمد لله، فأهل الحديث على قلب واحد في كل زمان ومكان .
تعليق