توحيد العبادة من خلال مناسك الحج
خطبة لمعالي الشيخ الدكتور صالح بن فوزان الفوزان
خطبة لمعالي الشيخ الدكتور صالح بن فوزان الفوزان
الحمد لله رب العالمين، خلق الخلق لعبادته وأمرهم بتوحيده وطاعته، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ربوبيته وإلهيته، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله إلى جميع بريته، صلى عليه وعلى آله وأصحابه الذين ساروا على نهجه وتمسكوا بسنته، وسلم تسليماً كثيراً ... أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى، واعلموا أنه خلقكم لعبادته، قال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ ( [الذاريات: 56].
وبذلك أمر الله جميع الخلق، فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ *الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْـزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [البقرة: 21 – 22].
والعبادة لا تكون عبادةً إلا مع التوحيد، كما أن الصلاة لا تكون صلاة إلا مع الطهارة فكما أن المتطهر إذا أحدث بطلت طهارته، فكذلك العابد إذا أشرك بطلت عبادته، كما قال تعالى لأشرف الخلق (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ) [الزمر: 65].
فالشرك لا يصح معه عملٌ ولا تقبل معه عبادة، ولهذا كثيراً ما يأتي الأمر بالعبادة مقروناً بالنهي عن الشرك، كما في قوله تعالى: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا) [النساء: 36] وكل نبي يقول لقومه: (اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) [الأعراف: 59].
عباد الله:
إن الله شرع لنا حج بيته العتيق، فلنتدبر ما في هذا الحج من مظاهر التوحيد والابتعاد عن الشرك حتى يكون ذلك درساً عملياً نترسمه في كل عباداتنا.
ونحن إذا تدبرنا تأسيس هذا البيت وجدناه قد أسس على التوحيد، كما قال تعالى: (وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) [البقرة: 125].
فأمرهما الله بتطهير البيت من سائر النجاسات، وأعظمها الشرك، كما قال تعالى: (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا) [التوبة: 38]، وقال تعالى: (وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) [الحج: 26].
إذا فهذا البيت أسس على التوحيد، ويجب أن يبقى على التوحيد إلى أن تقوم الساعة، لا يجوز أن يسمح لمشرك بالوصول إليه ولا بمزاولته شركه حوله، ولهذا لما فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة المشرفة دخل المسجد الحرام وفوق الكعبة وحولها ثلاث مئة وستون صنماً، فجعل يطعنها بالقضيب، ويقول : (جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا) [الإسراء: 81].
فجعلت الأصنام تتهاوى على وجهها، ثم أمر بها صلى الله عليه وسلم فأخرجت من المسجد وأحرقت، ثم دخل صلى الله عليه وسلم الكعبة وأزال ما رسم على جدرانها من الصور، وكل ذلك عملاً بقول الله تعالى: (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) [الحج: 26].
لأن هذا البيت قبلة المسلمين، وإليه حجهم وعمرتهم، وهو ملتقى قلوبهم وأبدانهم، يأتون إليه من كل فج عميق، فيجب أن يكون مصدر التوحيد ومنبع العقيدة الصحيحة على مرِّ الزمان وتعاقب الأجيال، ويجب أن يبعد عنه كلُّ من أراد أن يبذر في أرضه بذور الشرك، أو يمارس حوله إقامة البدع والخرافات، حتى يظل مصدراً صافياً للإخلاص لله بالتوحيد، وإفراده بالعبادة، وإحياء سنة الرسول صلى الله عليه وسلم والدعوة إلى ذلك.
وقد أمر الله بأداء الحج والعمرة خالصين له، فقال سبحانه: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) [البقرة: 196].
مما يدل على أن كل حج وعمرة لا يتوفر فيهما توحيد العبادة، فليسا بمقبولين عند الله سبحانه وتعالى.
عباد الله:
ومن مظاهر توحيد العبادات في الحج:
رفع الأصوات بعد الإحرام بالتلبية لله ونفي الشريك عنه وإعلان انفراده بالحمد والنعمة والملك: " لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك "، يرددها الحجاج بين كل فترةٍ وأخرى حتى يشرعوا في التحلل من الإحرام.
ومن مظاهر توحيد العبادة في الحج:
أن أعظم الذكر الذي يقال في يوم عرفة: " لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيءٍ قديرٌ "، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : "خير الدعاء دعاء عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيءٍ قديرٌ".
فهذا إعلان في هذا المجمع العظيم وفي هذا اليوم المبارك لتوحيد العبادة بالنطق بهذا الكلمة وتكرارها لأجل أن يستشعر الحاج مدلولها ويعمل بمقتضاها، فيؤدي أعمال حجه خالصة لله عز وجل من جميع شوائب الشرك.
ومن مظاهر توحيد العبادة في الحج:
أن الله أمر بالطواف ببيته، فقال تعالى: (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) [الحج: 29].
مما يدل على أن الطواف خاصٌّ بهذا البيت، فلا يجوز الطواف ببيتٍ غيره على وجه الأرض، لا بالأضرحة، ولا بالأشجار والأحجار،
ومن هنا يعلم الحاج أن كل طوافٍ بغير البيت العتيق فهو باطلٌ وليس عبادةً لله عز وجل وإنما هو عبادةٌ لمن شرعه وأمر به من شياطين الإنس والجن.
ومن مظاهر توحيد العبادة في الطواف بالبيت العتيق:
أن الطائف حين يستلم الركن اليماني والحجر الأسود يكبر الله معتقداً برسوله صلى الله عليه وسلم ،
ولهذا قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه حينما استلم الحجر وقبله: والله إني لأعلم أنك حجرٌ لا تنفع ولا تضرُّ، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك.
ومن هنا يعلم المسلم أنه لا يجوز التمسح بشيءٍ من الأبنية والأحجار إلا بالركن اليماني والحجر الأسود، لأنهما من شعائر الله، فلا يتمسح بالأضرحة ولا بغيرها لأنه مخالفٌ لشرع الله، ولأنها ليست من شعائر الله.
ومن مظاهر توحيد العبادة في الحج
أن الحاج حينما يفرغ من الطواف ويصلي الركعتين فإنه يقرأ في الأولى بعد الفاتحة سورة (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ)، وفي الثانية يقرأ سورة الإخلاص،
ولما تشتمل عليه هاتان السورتان من توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية.
ففي السورة الأولى البراءة من دين المشركين وإفراد الله بالعبادة.
وفي السورة الثانية إفراد الله بصفات الكمال، وتنزيهه عن صفات النقص، وبذلك يعرف العبد ربه ويخلص له العبادة ويتبرأ من عبادة ما سواه من خلال هذا الدرس العلمي العظيم.
ومن مظاهر توحيد العبادة في السعي بين الصفا والمروة
أن العبد يسعى بينهما امتثالاً لقوله تعالى: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ) [البقرة: 158].
ومن ذلك يتعلم المسلم أنه لا يجوز السعي في أي مكان من الأرض إلا بين الصفا والمروة لأنهما من شعائر الله وأن السعي بينهما إنما هو بأمر الله، فكل سعيٍ في غيرهما فليس عبادة لله لأنه سعيٌ بغير أمر الله وبغير شعائره.
ومن مظاهر توحيد العبادة في الحج:
ما شرعه الله في يوم العيد وأيام التشريق من ذكره وحده. قال تعالى: (وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَات) [البقرة: 203].
وذكر الله في هذه الأيام يتجلى في الأعمال العظيمة التي تؤدي في أيام منى من رمي الجمار، وذبح الهدي، وأداء الصلوات الخمس في هذا المشعر المبارك والأيام المباركة، كل هذه الأعمال ذكرٌ لله عز وجل، فرمي الجمار ذكر لله،
ولهذا يقول المسلم عند رمي كل حصاةٍ: (الله أكبر)، وذبح الهدي ذكر لله عز وجل، كما قال تعالى: (لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَة) [الحج: 34].
وقال تعالى: (وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ*لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ) [الحج: 36- 37].
ومن هنا يتعلم المسلم أن الذبح عبادة لا يجوز صرفها لغير الله، فلا يجوز أن يذبح لقبرٍ ولا لولي ولا لجني أو أي مخلوق، لأن الذبح عبادةٌ، وصرف العبادة لغير الله شرك.
ومن مظاهر توحيد العبادة في الحج:
أن الله أمر بذكره أثناء أداء مناسكه وبعد الفراغ منه، ونهي عن ذكر غيره من الرؤساء والعظماء الأحياء والأموات، وعن المفاخرة في الأحساب والأنساب، فقال تعالى: (فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ*ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ *فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ *وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ *أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ *وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَات) [البقرة: 198 – 203].
إن الحج ليس مجرد رحلةٍ استطلاعية، أو متعةٍ ترفيهية، أو مجرد مظاهر وشعارات ولكنه دروسٌ وعبرٌ، وتعليمٌ عملي للعقيدة الصحيحة ونبذ للعقائد الجاهلية.
فاتقوا الله- عباد الله- في أداء حجكم وسائر عباداتكم بأن تكون خالصة لوجه الله، وصواباً على سنة رسول الله حتى يكون حجكم مبروراً، فإن الحج المبرور ليس له جزاءٌ إلا الجنة.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم
أيها الناس: اتقوا الله تعالى، واعلموا أنه خلقكم لعبادته، قال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ ( [الذاريات: 56].
وبذلك أمر الله جميع الخلق، فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ *الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْـزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [البقرة: 21 – 22].
والعبادة لا تكون عبادةً إلا مع التوحيد، كما أن الصلاة لا تكون صلاة إلا مع الطهارة فكما أن المتطهر إذا أحدث بطلت طهارته، فكذلك العابد إذا أشرك بطلت عبادته، كما قال تعالى لأشرف الخلق (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ) [الزمر: 65].
فالشرك لا يصح معه عملٌ ولا تقبل معه عبادة، ولهذا كثيراً ما يأتي الأمر بالعبادة مقروناً بالنهي عن الشرك، كما في قوله تعالى: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا) [النساء: 36] وكل نبي يقول لقومه: (اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) [الأعراف: 59].
عباد الله:
إن الله شرع لنا حج بيته العتيق، فلنتدبر ما في هذا الحج من مظاهر التوحيد والابتعاد عن الشرك حتى يكون ذلك درساً عملياً نترسمه في كل عباداتنا.
ونحن إذا تدبرنا تأسيس هذا البيت وجدناه قد أسس على التوحيد، كما قال تعالى: (وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) [البقرة: 125].
فأمرهما الله بتطهير البيت من سائر النجاسات، وأعظمها الشرك، كما قال تعالى: (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا) [التوبة: 38]، وقال تعالى: (وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) [الحج: 26].
إذا فهذا البيت أسس على التوحيد، ويجب أن يبقى على التوحيد إلى أن تقوم الساعة، لا يجوز أن يسمح لمشرك بالوصول إليه ولا بمزاولته شركه حوله، ولهذا لما فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة المشرفة دخل المسجد الحرام وفوق الكعبة وحولها ثلاث مئة وستون صنماً، فجعل يطعنها بالقضيب، ويقول : (جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا) [الإسراء: 81].
فجعلت الأصنام تتهاوى على وجهها، ثم أمر بها صلى الله عليه وسلم فأخرجت من المسجد وأحرقت، ثم دخل صلى الله عليه وسلم الكعبة وأزال ما رسم على جدرانها من الصور، وكل ذلك عملاً بقول الله تعالى: (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) [الحج: 26].
لأن هذا البيت قبلة المسلمين، وإليه حجهم وعمرتهم، وهو ملتقى قلوبهم وأبدانهم، يأتون إليه من كل فج عميق، فيجب أن يكون مصدر التوحيد ومنبع العقيدة الصحيحة على مرِّ الزمان وتعاقب الأجيال، ويجب أن يبعد عنه كلُّ من أراد أن يبذر في أرضه بذور الشرك، أو يمارس حوله إقامة البدع والخرافات، حتى يظل مصدراً صافياً للإخلاص لله بالتوحيد، وإفراده بالعبادة، وإحياء سنة الرسول صلى الله عليه وسلم والدعوة إلى ذلك.
وقد أمر الله بأداء الحج والعمرة خالصين له، فقال سبحانه: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) [البقرة: 196].
مما يدل على أن كل حج وعمرة لا يتوفر فيهما توحيد العبادة، فليسا بمقبولين عند الله سبحانه وتعالى.
عباد الله:
ومن مظاهر توحيد العبادات في الحج:
رفع الأصوات بعد الإحرام بالتلبية لله ونفي الشريك عنه وإعلان انفراده بالحمد والنعمة والملك: " لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك "، يرددها الحجاج بين كل فترةٍ وأخرى حتى يشرعوا في التحلل من الإحرام.
ومن مظاهر توحيد العبادة في الحج:
أن أعظم الذكر الذي يقال في يوم عرفة: " لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيءٍ قديرٌ "، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : "خير الدعاء دعاء عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيءٍ قديرٌ".
فهذا إعلان في هذا المجمع العظيم وفي هذا اليوم المبارك لتوحيد العبادة بالنطق بهذا الكلمة وتكرارها لأجل أن يستشعر الحاج مدلولها ويعمل بمقتضاها، فيؤدي أعمال حجه خالصة لله عز وجل من جميع شوائب الشرك.
ومن مظاهر توحيد العبادة في الحج:
أن الله أمر بالطواف ببيته، فقال تعالى: (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) [الحج: 29].
مما يدل على أن الطواف خاصٌّ بهذا البيت، فلا يجوز الطواف ببيتٍ غيره على وجه الأرض، لا بالأضرحة، ولا بالأشجار والأحجار،
ومن هنا يعلم الحاج أن كل طوافٍ بغير البيت العتيق فهو باطلٌ وليس عبادةً لله عز وجل وإنما هو عبادةٌ لمن شرعه وأمر به من شياطين الإنس والجن.
ومن مظاهر توحيد العبادة في الطواف بالبيت العتيق:
أن الطائف حين يستلم الركن اليماني والحجر الأسود يكبر الله معتقداً برسوله صلى الله عليه وسلم ،
ولهذا قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه حينما استلم الحجر وقبله: والله إني لأعلم أنك حجرٌ لا تنفع ولا تضرُّ، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك.
ومن هنا يعلم المسلم أنه لا يجوز التمسح بشيءٍ من الأبنية والأحجار إلا بالركن اليماني والحجر الأسود، لأنهما من شعائر الله، فلا يتمسح بالأضرحة ولا بغيرها لأنه مخالفٌ لشرع الله، ولأنها ليست من شعائر الله.
ومن مظاهر توحيد العبادة في الحج
أن الحاج حينما يفرغ من الطواف ويصلي الركعتين فإنه يقرأ في الأولى بعد الفاتحة سورة (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ)، وفي الثانية يقرأ سورة الإخلاص،
ولما تشتمل عليه هاتان السورتان من توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية.
ففي السورة الأولى البراءة من دين المشركين وإفراد الله بالعبادة.
وفي السورة الثانية إفراد الله بصفات الكمال، وتنزيهه عن صفات النقص، وبذلك يعرف العبد ربه ويخلص له العبادة ويتبرأ من عبادة ما سواه من خلال هذا الدرس العلمي العظيم.
ومن مظاهر توحيد العبادة في السعي بين الصفا والمروة
أن العبد يسعى بينهما امتثالاً لقوله تعالى: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ) [البقرة: 158].
ومن ذلك يتعلم المسلم أنه لا يجوز السعي في أي مكان من الأرض إلا بين الصفا والمروة لأنهما من شعائر الله وأن السعي بينهما إنما هو بأمر الله، فكل سعيٍ في غيرهما فليس عبادة لله لأنه سعيٌ بغير أمر الله وبغير شعائره.
ومن مظاهر توحيد العبادة في الحج:
ما شرعه الله في يوم العيد وأيام التشريق من ذكره وحده. قال تعالى: (وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَات) [البقرة: 203].
وذكر الله في هذه الأيام يتجلى في الأعمال العظيمة التي تؤدي في أيام منى من رمي الجمار، وذبح الهدي، وأداء الصلوات الخمس في هذا المشعر المبارك والأيام المباركة، كل هذه الأعمال ذكرٌ لله عز وجل، فرمي الجمار ذكر لله،
ولهذا يقول المسلم عند رمي كل حصاةٍ: (الله أكبر)، وذبح الهدي ذكر لله عز وجل، كما قال تعالى: (لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَة) [الحج: 34].
وقال تعالى: (وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ*لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ) [الحج: 36- 37].
ومن هنا يتعلم المسلم أن الذبح عبادة لا يجوز صرفها لغير الله، فلا يجوز أن يذبح لقبرٍ ولا لولي ولا لجني أو أي مخلوق، لأن الذبح عبادةٌ، وصرف العبادة لغير الله شرك.
ومن مظاهر توحيد العبادة في الحج:
أن الله أمر بذكره أثناء أداء مناسكه وبعد الفراغ منه، ونهي عن ذكر غيره من الرؤساء والعظماء الأحياء والأموات، وعن المفاخرة في الأحساب والأنساب، فقال تعالى: (فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ*ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ *فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ *وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ *أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ *وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَات) [البقرة: 198 – 203].
إن الحج ليس مجرد رحلةٍ استطلاعية، أو متعةٍ ترفيهية، أو مجرد مظاهر وشعارات ولكنه دروسٌ وعبرٌ، وتعليمٌ عملي للعقيدة الصحيحة ونبذ للعقائد الجاهلية.
فاتقوا الله- عباد الله- في أداء حجكم وسائر عباداتكم بأن تكون خالصة لوجه الله، وصواباً على سنة رسول الله حتى يكون حجكم مبروراً، فإن الحج المبرور ليس له جزاءٌ إلا الجنة.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم
من الخطبة الثانية
في بيان توحيد العبادة من خلال الحج ومناسكه
الحمد لله رب العالمين، شرع لعباده ما يصلحهم ويصلح دينهم ودنياهم. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولي المؤمنين ومولاهم، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أخشى الخلق لله وأتقاهم، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وكل من أحبهم وتولاهم. وسلم تسليماً كثيراً ... أما بعد:
أيها الناس:
اتقوا الله تعالى يا مَنْ مَنَّ الله عليهم بحج بيته العتيق، وتعلمتم من مناسكه العقيدة الصحيحة، وأدركتم ما كنتم عليه أو ما كان عليه غيركم من أهل بلادكم من أخطاء تخالف هذه العقيدة.
عليكم أن تسعوا في تصحيح هذه الأخطاء، فإنكم مسئولون عن ذلك أمام الله تعالى، فإن الله حمل العالم مسؤولية تعليم الجاهل،
قال تعالى:(وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) [التوبة: 122].
فإياكم والمجاملة فيما يغضب الله، والمداهنة في دين الله.
(ولتكن وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [آل عمران: 104].
فالمؤمن يسعى في إصلاح نفسه، ثم في إصلاح غيره، قال صلى الله عليه وسلم : "لا يؤمن أحدكم حتى يحبَّ لأخيه ما يحبُّ لنفسه".
فاتقوا الله- عباد الله- واهتموا بدينكم عموماً وبعقيدتكم خصوصاً، فإنها الأصل والأساس، فإن الدين ينبني على أصلين:
الأصل الأول: الإخلاص لله في العبادة،
والأصل الثاني: المتابعة لرسول صلى الله عليه وسلم.
وهذان الأصلان إنما يعرفان من تدبر الكتاب والسنة وإتباعهما.
في بيان توحيد العبادة من خلال الحج ومناسكه
الحمد لله رب العالمين، شرع لعباده ما يصلحهم ويصلح دينهم ودنياهم. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولي المؤمنين ومولاهم، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أخشى الخلق لله وأتقاهم، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وكل من أحبهم وتولاهم. وسلم تسليماً كثيراً ... أما بعد:
أيها الناس:
اتقوا الله تعالى يا مَنْ مَنَّ الله عليهم بحج بيته العتيق، وتعلمتم من مناسكه العقيدة الصحيحة، وأدركتم ما كنتم عليه أو ما كان عليه غيركم من أهل بلادكم من أخطاء تخالف هذه العقيدة.
عليكم أن تسعوا في تصحيح هذه الأخطاء، فإنكم مسئولون عن ذلك أمام الله تعالى، فإن الله حمل العالم مسؤولية تعليم الجاهل،
قال تعالى:(وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) [التوبة: 122].
فإياكم والمجاملة فيما يغضب الله، والمداهنة في دين الله.
(ولتكن وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [آل عمران: 104].
فالمؤمن يسعى في إصلاح نفسه، ثم في إصلاح غيره، قال صلى الله عليه وسلم : "لا يؤمن أحدكم حتى يحبَّ لأخيه ما يحبُّ لنفسه".
فاتقوا الله- عباد الله- واهتموا بدينكم عموماً وبعقيدتكم خصوصاً، فإنها الأصل والأساس، فإن الدين ينبني على أصلين:
الأصل الأول: الإخلاص لله في العبادة،
والأصل الثاني: المتابعة لرسول صلى الله عليه وسلم.
وهذان الأصلان إنما يعرفان من تدبر الكتاب والسنة وإتباعهما.
تعليق