السلام عليكم ورحمة الله وبركاته؛ أمَّا بعد:
وبعد: فقد قرأت لأحد الكتاب من طلبة العلم يرد على صاحب كتاب ما، بعدة نقاط، منها ما هو صواب ومنها ما يثير الاستشكال .
وعلى رأس هذه النقاط يرشده إلى ترك السجع في عنوان الكتاب، هكذا مطلقًأ (!) ولو قيَّده وبيَّن وجه التكلف فيه لأصاب الصواب ولما باعد أحد النجعة .
يقول: هذا ليس من هدي القرون الثلاثة الأولى (!) .
أقول: اعلم -رحمني الله وإياك- أنَّ السجع منه ما هو مذموم ومنه ما هو محمود .
تعريف السجع:
وَالسَّجْع بِفَتْحِ الْمُهْمَلَة وَسُكُون الْجِيم بَعْدهَا عَيْن مُهْمَلَة هُوَ مُوَالَاة الْكَلَام عَلَى رَوِيّ وَاحِد وَمِنْهُ سَجَعَتْ الْحَمَامَة إِذَا رَدَّدَتْ صَوْتهَا، وينتج عنه تَنَاسُب آخِر الْكَلِمَات لَفْظًا، وَأَصْله الِاسْتِوَاء، وَفِي الِاصْطِلَاح الْكَلَام الْمُقَفَّى وَالْجَمْع أَسْجَاع وَأَسَاجِيع .
وَقَالَ الْأَزْهَرِيّ : هُوَ الْكَلَام الْمُقَفَّى مِنْ غَيْر مُرَاعَاة وَزْن .
الحكم الإجمالي:
الأصل في السجع الإباحة، فقد جاء كثيرًا في نصوص الشريعة، وعلى لسان رسول الله -صلى الله عليه وسلَّم- .
كقوله: ((وَغَلَبَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ ، فَلَا شَيْءَ بَعْدَهُ)) وقوله: ((خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَان ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَان)) . . . وغيرها الكثير الكثير من النظائر .
من النصوص التي تذم السجع:
لقد جاء النهي عن السجع في وقائع من حديث رسول الله، فقد كان لرجل امرأتان، ضربت إحداهما الأخرى بفسطاط ، وقد كانت حاملاً فمات جنينها الذي في بطنها .
فحكم رسول الله -صلى الله عليه وسلَّم- بالديَّة عن جنينها الذي في بطنها على عاقلتها، وزوجها الذي قتل ولده داخل في العاقلة دخولاً أوليًا .
فقال له أبو الجنين: كيف ندي -أي نعطي الدية- من لا شرب ولا أكل ولا صاح ولا استهل، فمثله يُطل -أي لا يستحق أن تدفع عنه الدية-(!)
فقال له -رسول الله صلى الله عليه وسلَّم-: ((إِنَّمَا هَذَا مِنْ إِخْوَان الْكُهَّان مِنْ أَجْل سَجْعه)) وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى : ((سَجْع كَسَجْعِ الْأَعْرَاب)) .
وَفِي حَدِيثِ مُرْسَلِ سَعِيدٍ : ((إِنَّ هَذَا مِنْ إِخْوَانِ الْكُهَّانِ)) . وَفِي حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ فَقَالَ : ((سَجْعٌ كَسَجْعِ الْأَعْرَابِ))، وَفِي حَدِيثِ اِبْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيِّ : ((أَسْجَعُ الْجَاهِلِيَّةِ وَكَهَانَتِهَا)) .
كيف جمع العلماء بين السجع في النصوص وبين النهي عنه في هذه الواقعة؟
قال الْعُلَمَاء : إِنَّمَا ذَمّ سَجْعه لِوَجْهَيْنِ:
أَحَدهمَا: أَنَّهُ عَارَضَ بِهِ حُكْم الشَّرْع وَرَامَ إِبْطَاله.
وَالثَّانِي : أَنَّهُ تَكَلَّفَهُ فِي مُخَاطَبَته، وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ مِنْ السَّجْع مَذْمُومَانِ.
وَأَمَّا السَّجْع الَّذِي كَانَ النَّبِيّ -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولهُ فِي بَعْض الْأَوْقَات وَهُوَ مَشْهُور فِي الْحَدِيث فَلَيْسَ مِنْ هَذَا؛ لِأَنَّهُ لَا يُعَارِض بِهِ حُكْم الشَّرْع، وَلَا يَتَكَلَّفهُ، فَلَا نَهْي فِيهِ، بَلْ هُوَ حَسَن، وَيُؤَيِّد مَا ذَكَرنَا مِنْ التَّأْوِيل قَوْله -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((كَسَجْعِ الْأَعْرَاب))، فَأَشَارَ إِلَى أَنَّ بَعْض السَّجْع هُوَ الْمَذْمُوم . وَاللَّهُ أَعْلَمُ؛ قاله النووي في شرحه على صحيح مسلم .
قَالَ الطِّيبِيُّ : وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ مِنْ أَجْلِ سَجْعِهِ الَّذِي سَجَعَ وَلَمْ يَعِبْهُ بِمُجَرَّدِ السَّجْعِ دُونَ مَا تَضَمَّنَ سَجْعُهُ مِنْ الْبَاطِلِ ، أَمَّا إِذَا وُضِعَ السَّجْعُ فِي مَوَاضِعِهِ مِنْ الْكَلَامِ فَلَا ذَمَّ فِيهِ ، وَكَيْفَ يُذَمُّ وَقَدْ جَاءَ فِي كَلَامِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَثِيرًا اِنْتَهَى .
قال الحافظ ابن حجر: " قَالَ اِبْن بَطَّال: فِيهِ ذَمّ الْكُفَّار وَذَمّ مَنْ تَشَبَّهَ بِهِمْ فِي أَلْفَاظهمْ ، وَإِنَّمَا لَمْ يُعَاقِبهُ لِأَنَّهُ -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ مَأْمُورًا بِالصَّفْحِ عَنْ الْجَاهِلِينَ، وَقَدْ تَمَسَّكَ بِهِ مَنْ كَرِهَ السَّجْع فِي الْكَلَام، وَلَيْسَ عَلَى إِطْلَاقه، بَلْ الْمَكْرُوه مِنْهُ مَا يَقَع مَعَ التَّكَلُّف فِي مَعْرِض مُدَافَعَة الْحَقّ، وَأَمَّا مَا يَقَع عَفْوًا بِلَا تَكَلُّف فِي الْأُمُور الْمُبَاحَة فَجَائِز، وَعَلَى ذَلِكَ يُحْمَل مَا وَرَدَ عَنْهُ -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- . .
. وَالْحَاصِل أَنَّهُ إِنْ جَمَعَ الْأَمْرَيْنِ مِنْ التَّكَلُّف وَإِبْطَال الْحَقّ كَانَ مَذْمُومًا، وَإِنْ اِقْتَصَرَ عَلَى أَحَدهمَا كَانَ أَخَفّ فِي الذَّمّ .
قال البدر العيني: إن قلت هذا سجع؛ والنبي ذم السجع حيث قال منكرًا: أسجع كسجع الكهان(!)
قلت: المنكر والمذموم السجع الذي يأتي بالتكلف وبالتزام ما لا يلزم، وسجعه من السجع المحمود؛ لأنه جاء بانسجام واتفاق على مقتضى السجية، وكذلك وقع منه في أدعية كثيرة من غير قصد لذلك، ولا اعتماد إلى وقوعه موزوناً مقفًى بقصده إلى القافية .
قال الصنعاني: قَالَ الْعُلَمَاءُ: إنَّمَا كَرِهَهُ مِنْ هَذَا الشَّخْصِ لِوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عَارَضَ بِهِ حُكْمَ الشَّرْعِ وَرَامَ إبْطَالَهُ .
الثَّانِي : أَنَّهُ تَكَلَّفَهُ فِي مُخَاطَبَتِهِ ، وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ مِنْ السَّجْعِ مَذْمُومَانِ .
وَأَمَّا السَّجْعُ الَّذِي وَرَدَ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ ، وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْحَدِيثِ فَلَيْسَ مِنْ هَذَا ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعَارِضُ حُكْمَ الشَّرْعِ ، وَلَا يَتَكَلَّفُهُ ، فَلَا نَهْيَ عَنْهُ
قَالَ الشَّوْكَانِيُّ : وَفِي قَوْلِهِ فِي حَدِيثِ اِبْنِ عَبَّاسٍ أَسْجَعُ الْجَاهِلِيَّةِ وكهانتها دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَذْمُومَ مِنْ السَّجْعِ إِنَّمَا هُوَ مَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ الْقَبِيلِ الَّذِي يُرَادُ بِهِ إِبْطَالُ شَرْعٍ ، أَوْ إِثْبَاتُ بَاطِلٍ أَوْ كَانَ مُتَكَلِّفًا .
إشكال:
لقد ورد النهي عن السجع في الدعاء مطلقًا، ألا يكون ذلك ناسخًا؟
لا يكون ناسخًا، فمعلوم أنَّ النسخ لا يثبت إلا بثبوت المعارض ومعرفة المتقدم من المتأخر .
والجمع بين النصوص، كما ذكر العلماء يقتضي أنَّ السجع في الدعاء مكروه إذا ألزم الداعي تكلفًا في القافية يجعله يخرج عن الخشوع ملتزمًا بمحسنات الكلام، وهذا لا شك مذموم، فالمطلوب في الدعاء الخشوع والعزم لا أن يشتغل الداعي بالكماليات من ظواهر الألفاظ .
ارجع إلى كتب شراح الحديث لمزيد فائدة .
خلاصة:
يَخْرُج مِنْ ذَلِكَ تَقْسِيم السجع إِلَى أَرْبَعَة أَنْوَاع :
1- فَالْمَحْمُود مَا جَاءَ عَفْوًا فِي حَقّ، ولا خلاف في جوازه إذ جاء في كلام الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى .
2- وَدُونه مَا يَقَع مُتَكَلَّفًا فِي حَقّ أَيْضًا، وهو ما درج عليه أهل العلم وغيرهم في ثنايا كتبهم كابن القيم وغيره، فهو من محسنات الكلام، وقوة البلاغة، وفي عناونين مؤلفات أهل العلم، فقد درج جلهم على ذلك، وأكثرهم تكلفًأ فيه السيوطي -رحمه الله- .
وهذا النوع قد يكون مذمومًا إذا صرف المؤلف عن قصده وسياق كلامه حتى يقيم القافية، أو إذا سبب ركاكة في السياق وضعفًأ من كثرته .
وكذا فإنه مكروه في الدعاء إذا أدى إلى صرف الداعي عن الخشوع حتى يقيم القوافي .
كما صحت في ذلك نصوص في اجتناب ذلك والتحذير منه .
3- وَالْمَذْمُوم ما جاء تكلفًا باستكراه بالتزام ما لا يلزم -ولا علاقة له بالسياق- ولكن في نصرة الحق، فهو مكروه .
ومثاله: فوائد الليمون في بيان ضلال فلان بمدحه لحزب فرعون (!) .
4- أشد الأنواع ذمًا ما جمع بين التكلف وإبطال الحق .
كالذي في الحديث: كيف ندي من لا شرب ولا أكل، ولا صاح ولا استهل، فمثله يُطلُّ .
خاتمة:
ها نحن وقد تبيَّنت أحكام السجع، نستغرب . . كيف ينكر بعض الأفاضل السجع في المصنفات والمؤلفات، والبحوث والمقالات، لمجرد السجع؟!
ولا يدري الذي يُخَطِّئُ في هذه المسألة أنه لا يَرُد ُّعلى ذلك الرجل فقط، بل يرد على جل أهل العلم في عمل تعارفوا عليه من كتاب الله وسنة رسوله .
ولكن لأنَّه من الأفاضل -حفظه الله-، لا أظن إلا أنه يشير أن الشخص الذي رد عليه في كتابه رأى أنه بعنوانه له، وإن كان لا شيء فيه، ولكنه نصر به باطلاً أودعه في كتابه، والله أعلم .
تعليق