بسم الله الرحمن الرحيم
وبعد :
فقد كتب بعضهم مقالا ينتصر فيه للفتوى الشيخ فركوس - وفقه الله - ومما استدل به ما نقله عن الذهبي في السير أن الإمام مالك كان يصلي الجمعة في بيته وحده ، كما ذكر أشياء أخرى لم يفهم المقصود من سياقها بل راح يوجهها حسب ظنه أنها ترفع الإشكال وتزيل غشاوة الخطأ عن فتوى الشيخ فركوس - وفقه الله –ولقد تعجبت من صنيعه وصنيع غيره في هذا العصر ممن يتعصبون تعصبا مقيتا غير لائق بمقام الرد العلمي كيف يتفانى أحدهم في التنقيب والتفتيش فيما يمكنه أن تصل إليه يداه لعله يجد قشة يتمسك بها لنصرة من يتعصب له ، حاله في ذلك حال الغريق وهو يعلم أن ذلك لا يفيده في شيء ؛ بل ربما يزيد الطين بلة ، تظهر العلة .. ولم يرفعه علمه الذي تعلم وأدبه أن ينصف شيخه ويصوب من خطأه ، لعله يرجع ، إقرارا بالحق ومراقبة للرقيب الحسيب سبحانه وتعالى .. وإليك أيها القارئ الكريم ما نقله عن الإمام مالك ثم ننظر هل ثبت الرواية عنه وهل الدراية توافق مقاصد الشريعة وقواعد مذهب مالك رحمه الله أم لا؟؟
قال الكاتب : أحدهما: ما ذكره الذهبي في (السير: 8/ 114) وفيه: "كَانَ مَالِكٌ بَعْدَ تَخَلُّفِهِ عَنِ المَسْجِدِ يُصَلِّي فِي مَنْزِلِهِ فِي جَمَاعَةٍ يُصَلُّونَ بِصَلاَتِهِ، وَكَانَ يُصَلِّي صَلاَةَ الجُمُعَةِ فِي مَنْزِلِهِ وَحْدَه".
قلت: تحقيق الرواية : هذه الرواية تفرد بذكرها الذهبي ولم أجدها في حدود بحثي عن غيره ..وذكرها أيضا في تاريخ الإسلام (11/326)ت / عمر عبد السلام تدمري ، وأشار المحقق أنها في وفيات الأعيان (4/136).
وبالرجوع إلى وفيات الأعيان (4/136) قال أبو العباس ابن خالكان : وقال الواقدي: كان مالك يأتي المسجد، ويشهد الصلوات والجمعة والجنائز، ويعود المرضى ويقضي الحقوق ويجلس في المسجد ويجتمع إليه أصحابه، ثم ترك الجلوس في المسجد فكان يصلي وينصرف إلى مجلسه، وترك حضور الجنائز فكان يأتي أصحابها فيعزيهم، ثم ترك ذلك كله فلم يكن يشهد الصلوات في المسجد ولا الجمعة ولا يأتي أحدا يعزيه ولا يقضي له حقا، واحتمل الناس له ذلك حتى مات عليه، وكان ربما قيل له في ذلك فيقول: ليس كل الناس يقدر أن يتكلم بعذره (1).
فأنت ترى أن ابن خلكان لم يذكر رواية الحسين بن الحسن التي ذكرها الذهبي أنه كان يصلي الجمعة في منزله وحده ، وما ذكره من عدم شهوده الجماعة والجمعة إنما كان من طريق الواقدي الكذاب ..
وهذه الرواية الأخيرة عن الواقدي هي التي ذكرها القاضي عياض في ترتيب المدارك (2/54-55). وزاد : قال عتيق بن يعقوب ومصعب فلما حضرته الوفاة سئل عن تخلفه عن المسجد قال عتيق بن يعقوب وكان تخلفه عنه قبل موته بسنين فقال لولا أني في آخر يوم من الدنيا وأوله من الآخرة ما أخبرتكم؟ سلس بولي. فكرهت أن آتي مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم على غير طهارة استخفافاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم وكرهت أن أذكر علتي فأشكو ربي. وفي طريق آخر أنه قال خيفة أن آتي منكراً ، وفي رواية خلف بن محمد عنه أني ضعفت عن ذلك. وقيل بل كان عراه فتق من الضرب الذي ضرب فكانت الريح تخرج منه فقال كرهت أن أوذي مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وذكر القاضي أيضا:قال يحيى بن الزبير قال لي مالك اعتزلت أنت وعبد الله بن عبد العزيز؟ قلت نعم.قال عجلتم، ليس هذا أوانه. ثم لقيت مالكاً بعد عشرين سنة فقال هذا أوانه ثم اعتزل ولزم بيته.
قال القاضي : قال بعضهم لم يشهد مالك الجماعة والجمعة سنين.
قلت : هكذا بهذه الصيغة المعلقة ، قال بعضهم ... فلم ينسبها وإن كان نسبها قبل إلى الواقدي فلم يذكر فيها أنه كان يصلي الجمعة لوحده في بيته ..
والذهبي نفسه في تذكرة الحفاظ (1/156)لم يذكر قول الحسين بن الحسن ، ولم يذكر ذلك أيضا الداودي المالكي في طبقات المفسرين ،
وكذلك لم يزد على ذلك صاحب كتاب طبقات علماء الحديث (1/314)أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الهادي الدمشقي الصالحي .
و الذهبي لما نقلها في سير أعلام النبلاء (8/ 114) وفي تاريخ الإسلام (4/719) : تحقيق بشار عواد . نقلها معلقة بدون إسناد هكذا: وقال الحسين بن الحسن بن مهاجر الْحَافِظُ: سَمِعْتُ أَبَا مُصْعَبٍ يَقُولُ: كَانَ مَالِكٌ بَعْدَ تَخَلُّفِهِ عَنِ الْمَسْجِدِ يُصَلِّي فِي مَنْزِلِهِ في جَمَاعَةً يُصَلُّونَ بِصَلاتِهِ. وكَانَ يُصَلِّي صَلاةَ الْجُمُعَةِ فِي مَنْزِلِهِ وَحْدَهُ.
والحسين بن الحسن بن المهاجر:ذكره الذهبي رحمه الله في " تاريخ الإسلام " أحداث ووفيات (271 - 280) (ص 337) فقال:الحسين بن الحسن بن مهاجر أبو محمد السلمي النيسابوري. وقال : كتب عنه البخاري مع تقدمه... إلى أن قال : توفي سنة ثمان وسبعين(ومائتين ) وكان محله الصدق اهـ. رجال الحاكم في المستدرك (1/320) (622 ) لعلامة اليمن مُقْبلُ بنُ هَادِي بنِ مُقْبِلِ الوادعِيُّ .
فالحسين بن الحسن وإن كان محله الصدق وهو من كبار المحدثين كما قال السمعاني في الأنساب ، ولم أر لغيره كلام غير ذلك إلا أنه تفرد بهده الرواية ، وبينه وبين الإمام مالك مفاوز ، كما أنه بينه وبين الذهبي مفاوز تنقطع لها الرواحل..
فالرواية شاذة ولم يذكرها أحد ممن ترجم للإمام مالك بسند معتبر ، نعم قصة اعتزاله ثابتة ، فقد ذكرها كثير ممن ترجم له ، وصلاته الجماعة بجماعة ربما صلاها مرة أو مرات لما كان الطلاب يزورونه ، فقد كان بيته عامرا بمن يطلب الحديث ، وهذا لا إشكال فيه ، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لمّا وقصته ناقته وحبس في البيت زاره بعض الصحابة فصلى بهم إحدى صلاتي العشي الظهر أو العصر في بيته..
ومع ذلك لم يذكر من ترجم لمالك أنه كان دائما يقيم الجماعة في بيته كل تلك السنين ، ولو فعل ذلك ما كان ليخفى على كل ما ترجم له وكل الذين كانوا يذهبون إليه ، أما صلاة الجمعة فلم تثبت عنه ولم ينقلها أحد غير الذهبي .
هذا من جهة الرواية ، أما من جهة المعنى فهذا من أعجب ما نقل عن الإمام مالك ، ولو كان سنده كالشمس فلا يقبل ، فكيف وقد علمت أنه لا سند لها ، بل هي معلقة معضلة ؛ ثم إن مضمونها ضعيف يتصادم مع النصوص الشرعية وما كان عليه سلف الأمة في مقاصد الجماعة والجمعة كما يتصادم مع قواعد مذهبه ..
فكيف يقال أنه يصلي الجماعة في بيته جماعة ، وهي سنة مؤكدة عنده ، ويصلي صلاة الجمعة في منزله وحده وهي فرض ؟؟ ما هذه المفارقة العجيبة الفرض يصليه وحده ، والسنة المؤكدة يصليها جماعة ؟!!! إن تخلف مالك عن المسجد لا يخلو من حالين ، إن كان لعذر كالمرض أو غيره من الأعذار فهو معذور وصلاة الجمعة تسقط في حقه ، وعليه أن يصليها ظهرا وهو الأصل في حق من سقطت الجمعة عنهم فكيف يصليها لوحده وهو ساقطة ؟؟؟
هذا أولا ؛ وثانيا ، من شرائط الجمعة عنده الجماعة وذلك باتفاق العلماء على خلاف في العدد الذي تصح به الجماعة ؛ فهل يقال خالفت تقواه فتواه ، فاشترط الجماعة للجمعة ولم يعمل بها فصلاها لوحده ، فيكون ممن قال الله فيهم : ((لما تقولون ما لا تفعلون ))
وهذا بعيد لم يعرف عنه - رحمه الله - من شدة تعظيمه للسنة .. فالمحققون من العلماء يشترطون لصلاة الجمعة حصولها في جماعة، فمتى صلاها منفردًا فلا تصح ويلزمه أن يعيدها ظهرًا؛ وذلك لحديث طارق بن شهاب -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة ... " (2).
والحالة الثانية : أن تخلفه كان لغير عذر ، وهذا لا يمكن أن ينسب للإمام مالك وحاشاه أن يترك الجماعة والجمعة لغير عذر ، وهو القائل ليس كل أحد يمكنه أن يخبر بعذره ، ومع ذلك يقال أن من فاتته الجمعة فعليه أن يصليها ظهرا لأن الجمعة لا تقضى اتفاقا .
وأما من تكرر منه تركها فوق الثلاث فإنه يخشى أن يطبع على قلبه فيكون من الغافلين أو المنافقين ، كما جاء في الحديث : قال الْحَكَمُ بْنُ مِينَاءَ، أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ، وَأَبَا هُرَيْرَةَ حَدَّثَاهُ، أَنَّهُمَا سَمِعَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ عَلَى أَعْوَادِ مِنْبَرِهِ: (( «لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ عَنْ وَدْعِهِمُ الْجُمُعَاتِ، أَوْ لَيَخْتِمَنَّ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ، ثُمَّ لَيَكُونُنَّ مِنَ الْغَافِلِينَ)) رواه مسلم. (865) 12 - بَابُ التَّغْلِيظِ فِي تَرْكِ الْجُمُعَةِ. وفي موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان للهيثمي (2/276):باب فيمن ترك الجمعة 553عَنْ أبِي الْجَعْدِ الضَّمْرِيّ - وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ تَرَكَ الْجُمُعَةَ ثَلاَثاً مِنْ غَيْرِ عُذْر فَهُوَ مُنَافِقٌ" (2).إسناده حسن.
وفي الموطأ :وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ قَالَ مَالِكٌ: لَا أَدْرِي أَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْ لَا؟ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ تَرَكَ الْجُمُعَةَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ وَلَا عِلَّةٍ، طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قَلْبِهِ» (3) .
ها أنت ترى مالك يشدد في ترك الجمعة من غير عذر فهل يقال بعد ذلك أنه ترك الجمعة وكان يصليها في بيته لوحده ؟؟؟ ومما ذكر الكاتب أيضا قوله : والثاني: نقلته من كتاب ابن الجوزي [(المنتظم في تاريخ الملوك والأمم: 13/ 5)] وفيه: "قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو بكر الخطيب، قَالَ: كانت صلاة الجمعة ببغداد لا تقام إلا في جامع المنصور، وجامع المهدي إلى أن استخلف المعتضد، وأمر بعمارة القصر الحسني، وأمر ببناء مطامير في الدار، وَكَانَ النَّاسُ يُصَلُّونَ الجُمُعَةَ فِي الدَّارِ، وليس هناك رسم للمسجد وإنما يؤذّن للنّاس في الدخول وقت الصلاة، ويخرجون عند انقضائها ".
أما هذه فهي حكاية حال لولاة أمر كانوا يخافون على أنفسهم من الخوارج والطوائف المناوئة والأعداء ، فليس فيها حجة على جواز الجمعة في البيوت فهذا الكلام سيق لبيان أن الجمعة كانت واحدة في البلد الواحد ولم تكن متعددة في عدة مساجد، وهكذا كان الحال قرونا من عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى عهد المعتضد فهي أول جمعة تقام مع الجمعة القديمة في الجامع الكبير في دار الخلافة وليس دار السكنى والعلة لأن الخليفة وحاشيته كانوا يخافون على أنفسهم . ففي عهد النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة كانت تقام جمعة واحدة وتعطل جميع المساجد التي كانت حول المدينة وقد بلغ عددهم تسعة مساجد فهل يقال في هذا أن تعطيل المساجد يحق فيها قوله تعالى :{ ومن أظلم ممن منع مساجد الله }.
وقال الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الله بن محمد بن حميد إلى جناب الأخ المكرم الأحشم: محمد بن سليمان الجراح، رزقه الله الفهم والتوفيق، وأدر عليه سحائب التحقيق، آمين. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. كتابكم المكرم وصل؛ وصلك الله إلى ما يرضيه، وسرنا إذ أنبأ بصحتكم، واستقامة أحوالكم، الحمد لله رب العالمين. رزقنا الله وإياكم شكر نعمه، وصرف عنا وعنكم أسباب سخطه ونقمه.
وما ذكرته عن الأصحاب، رحمهم الله، من أنهم نصوا على جواز إقامة الجمعة في أكثر من موضع في البلد لحاجة كضيق المسجد عن أهله ... إلخ.
الجواب: الحمد لله، نص العلماء، رحمهم الله في كل مذهب على جواز ذلك مع الحاجة، كما لو ضاق مسجد الجامع عن أهله؛ والمراد بأهله هاهنا: هم الذين يغلب فعلهم لها ممن تصح منه، كما ذكره غير واحد من محققي الحنابلة، والشافعية وغيرهم. أما تعدد إقامتها في البلد من غير حاجة، فهذا لا يعرف القول به، لا عن صحابي، ولا تابعي، إلا ما يروى عن عطاء، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجمع بالمدينة وبها تسعة مساجد سوى مسجده، ولم يكونوا يجمعون في شيء منها، وأهل ذي الحليفة وقباء، وأهل العوالي وكانت على ثلاثة أميال من المدينة، لم يكونوا يجمعون في عهده، وفي عهد الخلفاء بعده، إلا في مسجده صلى الله عليه وسلم؛ بل روى الترمذي في جامعه(501): عن رجل من أهل قباء، قال: " أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نشهد الجمعة من قباء " ، قال البيهقي، رحمه الله: ولم ينقل أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لأحد في إقامة الجمعة في شيء من مساجد المدينة، ولا في القرى التي بقربها.
وكتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي موسى، وإلى عمرو بن العاص، وإلى سعد بن أبي وقاص، رضي الله عنهم: باتخاذ مسجد جامع، ومسجد آخر للقبائل، فإذا كان يوم الجمعة، انضموا وشهدوا الجمعة في مسجدها.
وقال ابن عمر رضي الله عنهما: " لا تقام الجمعة إلا في المسجد الأكبر ". واستمر عمل المسلمين على هذا إلى آخر القرن الثالث. أيظن حينئذ أنهم منعوا مساجد الله أن يذكر فيها اسمه ، وهذا عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء بعده، وعمل به المسلمون في تلك القرون المفضلة؟! نعوذ بالله أن نقول ذلك.
فإن أول جمعة أحدثت في الإسلام في بلد، مع قيام الجمعة القديمة، على ما ذكره الخطيب في تأريخ بغداد، في أيام المعتضد، سنة مائتين وثمانين، وسبب ذلك: خشية الخلفاء على أنفسهم في المسجد العام؛ فأقاموا جمعة بدار الخلافة، من غير بناء مسجد لها. وقد أفتى علماء مرو، وأئمتها لما أقيم بها جمعتان، بإعادة الجمعة ظهراً حتماً، احتياطاً، لقوله صلى الله عليه وسلم: " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " (4)،
ولقوله: " فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه " (5)؛
والجمعة سميت بهذا لجمعها الجماعات الكثيرة، بأن يكونوا جماعة واحدة، وهي من أعظم اجتماعات فروض الإسلام، فإنه ليس في الإسلام مجمع أكبر ولا أفرض منه، سوى إلاجتماع بعرفات. وفي تعطيل المسلمين مساجدهم يوم الجمعة، واجتماعهم في مسجد واحد، واستمرارهم على هذا جيلاً بعد جيل وقرناً بعد قرن، أبين بيان وأدل دليل، على أن الجمعة خلاف سائر الصلوات، وأنها لا تصلى إلا في مكان واحد; ومن قال بجواز تعدد إقامة الجمعة في كل مسجد بدون حاجة، كسائر الصلوات، تنفيذاً لهمة الشارع صلى الله عليه وسلم في التسهيل على هذه الأمة، فقوله مردود عليه، لم يؤيده كتاب ولا سنة ولا إجماع، ولا قول صاحب، وليس عندهم في ذلك أثارة من علم. فهلا قالوا بإقامتها لكل أحد في بيته، تسهيلاً وتيسيراً؟! بل التسهيل والتيسير هو اتباع سنته والتمسك بهديه، والاقتداء بأفعاله، {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [سورة الأحزاب آية: 21] .
وقولهم: إن عدم تعدد إقامتها في زمنه وزمن الخلفاء بعده، لما يتولد من إقامتها في موضع آخر من الاختلاف، وخشية الخروج على الأئمة، غير مسلم؛ ولو سلم لهم ذلك، بأنها علة مؤثرة في عدم تعدد إقامة الجمعة، لتعددت بانتفاء العلة، ولا قائل به من سلف الأمة؛ فالأحكام لا يجوز إثباتها بالتحكم بغير دليل، والله سبحانه وتعالى أعلم. انتهى كلامه.الدرر السنية في الأجوبة النجدية (5/46)لعلماء نجد الأعلام المحقق: عبد الرحمن بن محمد بن قاسم
------------------
الهامش :
1- قال إحسان عباس محقق الكتاب : :هامش ل: وإنما كان تخلف عن المسجد لأنه سلس بوله فقال عند ذلك : لا يجوز أن أجلس في مسجد الرسول (ص) وأنا على غير طهارة، فيكون ذلك استخفافاً، كذا وجد في نسخة بخط المصنف.
(2)- أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب الجمعة للمملوك والمرأة، برقم (1067)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (1/ 199)، برقم (942).
(3)- الموطأ (1/ 111) (20) - كتاب الجمعة، 9 - باب القراءة في صلاة الجمعة، والاحتباء، ومن تركها بغير عذر. وهو حسن بشواهده. قال ابن عبد البر في التمهيد (16/239) فَإِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مَرْوِيٌّ عَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ وُجُوهٍ أجودها وأحسنها أبِي الْجَعْدِ الضَّمْرِيّ .
(4)- البخاري: الصلح (2697) ، ومسلم: (171 , وأبو داود: السنة (4606) ، وابن ماجة: المقدمة (14) ، وأحمد (6/240- 270) .
(5)- البخاري الإيمان (52) ، ومسلم (1599) ، والترمذي: البيوع (1205) ، والنسائي: البيوع (4453) والأشربة (5710)، وأبو داود: البيوع (3329) ، وابن ماجة: الفتن (3984) .