بسم الله الرحمن الرحيم
قال ابن أبي زيد القيرواني –رحمه الله - : بابٌ في الصيام .
متن :وصوم شهر رمضان فريضة ، يصام لرؤية الهلال ، ويفطر لرؤيته ، كان ثلاثين يوما أو تسعة وعشرين يوما فإن غم الهلال فيَعدُ ثلاثين يوما من غرة الشهر الذي قبله ثم يصام ، وكذلك في الفطر ... --------------------
شرح : في هذا مسائل :
الأولى : قوله : باب في الصيام ، أي معناه هذا باب جامع في أحكام الصيام ، وما يتعلق به .كفاية الطالب الرباني لرسالة أبي زيد القيرواني (1/553) لأبي الحسن المالكي ، تحقيق : يوسف الشيخ محمد البقاعي.بتصرف يسير .
أقول : وأول تلك المسائل فضائل الصيام والترغيب فيه ، فقد جاء في فضل الصيام عامة ، وفضل رمضان خاصة آيات وأحاديث كثيرة تبين فضله وتحض على فعله تقربا إلى الله تعالى ، وتدل على أن الصيام من أعظم القربات التي يُتقرب بها إلى الله، فمن القرآن قوله تعالى : { إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا } الأحزاب 35.
فذكر تعالى في معرض المدح والثناء على هؤلاء أن الصائمين والصائمات ممن أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما ، وهذا فيه ترغيب في فضل الصيام وتشويق لأجره العظيم الذي لا يعلمه إلا الله ، أنه المغفرة والأجر العظيم .وإذا استعظم الله شيئا فلا تسأل بعده عن عظمته، ونفس المؤمن تواقة للأمور العظيمة فلا ترضى بالدون .
وقوله تعالى : { وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ }(184)البقرة.
ففي الآية الكريمة أن الصيام مع القدرة فيه خير كبير للصائم ، وأي خير من الله يَعِد به الصائمين ، فلا تسأل عن عِظمه وفضله ..لأنه من العظيم .
ففي الموطا (324) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ. لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ. إِنَّمَا يَذَرُ شَهْوَتَهُ، وَطَعَامَهُ، وَشَرَابَهُ مِنْ أَجْلِي. فَالصِّيَامُ لِي، وَأَنَا أَجْزِي بِهِ. كُلُّ حَسَنَةٍ بِعَشْرَةِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ، إِلاَّ الصِّيَامَ، فَهُوَ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ».
أنظر إلى سر عظيم الأجر كيف يملأ نفسك شوقا للتطلع إليه وحرصا على الحصول عليه بالحرص التام على الصيام إيمانا واحتسابا ؛ فليس فقط في رمضان ولكن أن تجعل السنة كلها رمضان ..
فالصيام حصن حصين من الشهوات ،ومن النّار وتربية للنفس وترغيبها وحملها على الصبر وتحمل المشاق فالصوم مدرسة وقائية تربوية ..
فمن الشهوات ؛ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَنْكِحْ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَا فَلْيَصُمْ فَإِنَّ الصَّوْمَ لَهُ وِجَاءٌ)) البخاري (5065-5066)ومسلم (1400) .
ومن النّار ؛ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " الصِّيَامُ جُنَّةٌ، وَحِصْنٌ حَصِينٌ مِنَ النَّارِ " (9225)وقال محققه حديث صحيح .
والصيام جنّة يستجنّ بها العبد من النّار:((عَنْ جَابِرٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " قَالَ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ: الصِّيَامُ جُنَّةٌ يَسْتَجِنُّ بِهَا الْعَبْدُ مِنَ النَّارِ، وَهُوَ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ ))أخرجه أحمد(14669) من حديث جابر وعثمان بن أبي العاص y .قال محققه حديث صحيح بطرقه وشواهده، وهذا إسناد حسن .
فقد أخرج مالك في موطئه رقم ( 696) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : (( الصيام جنّة ، فإذا كان أحدكم صائما ، فلا يرفث ، ولا يجهل ، فإن امرؤٌ قاتله أو شاتمه فليقل:إني صائم ، إني صائم )). أخرجه البخاري ( 1894) وأبو داود والنسائي من طريق مالك ، وأخرجه أحمد . وفي عظيم فضله قال صلى الله عليه وسلم : ((من صام يوما في سبيل الله باعد الله بذلك وجهه عن النار سبعين خريفا >> رواه البخاري (6/35) ومسلم 1153).
هذا في صيام يوم واحد فكيف بمن يصوم شهرا إيمانا واحتسابا ، فكيف بمن يصوم الدهر كذلك. ولكن هل أحد يصوم الدهر أو يستطيعه ؟ نعم . كيف ذلك ؟ إذا صام رمضان وأتبعه ستا من شوال فقد صام الدهر أي العام كله لأن الحسنة بعشر أمثالها.فإذا واظب كل سنة كذلك فهو صائم للدهر وكذلك إذا صام رمضان ، وصام من كل شهر ثلاثة أيام ؛ فهذا صيام الدهر .
والصوم يدخل الجنة ، فإذا كان وقاية من النّار فهو يدخل الجنة ؛عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: مُرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ. قَالَ: " عَلَيْكَ بِالصَّوْمِ؛ فَإِنَّهُ لَا عِدْلَ لَهُ ". ثُمَّ أَتَيْتُهُ الثَّانِيَةَ فَقَالَ لِي : " عَلَيْكَ بِالصِّيَامِ " أحمد(22149)قال محققه :إسناده صحيح على شرط مسلم.والنسائي في الكبرى (2544)وفي الصغرى (2223) وابن حبان في صحيحه (3425)وقال الألباني صحيح .وله في الجنة بابا خاصا يسمى الريان لا يدخل منه إلا من صام لله تعالى ، أي أكثر من الصيام نفلا زائدا عن صيام رمضان .
. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (( مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ مِنْ مَالِهِ فِي سَبِيلِ اللهِ، دُعِيَ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، وَلِلْجَنَّةِ أَبْوَابٌ، فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ، دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّلَاةِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ، دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّدَقَةِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ، دُعِيَ مِنْ بَابِ الْجِهَادِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ، دُعِيَ مِنْ بَابِ الرَّيَّانِ )). فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ، مَا عَلَى أَحَدٍ مِنْ ضَرُورَةٍ مِنْ أَيِّهَا دُعِيَ، فَهَلْ يُدْعَى مِنْهَا كُلِّهَا أَحَدٌ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: (( نَعَمْ، وَإِنِّي أَرْجُو أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ )).أخرجه مالك في "الموطأ"(2/479)، والبخاري (1897)باب الريان للصائمين وفيه (1896-3275)عَنْ سَهْلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: (( إِنَّ فِي الجَنَّةِ بَابًا يُقَالُ لَهُ الرَّيَّانُ، يَدْخُلُ مِنْهُ الصَّائِمُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ، لاَ يَدْخُلُ مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ، يُقَالُ: أَيْنَ الصَّائِمُونَ؟ فَيَقُومُونَ لاَ يَدْخُلُ مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ، فَإِذَا دَخَلُوا أُغْلِقَ فَلَمْ يَدْخُلْ مِنْهُ أَحَدٌ )). وأخرج مسلم حديث أبي هريرة (1027-85)وحديث سهل بن سعد (1152) والترمذي حديث أبي هريرة (3674)، والنسائي (4/168- 169و6/47-4 وأحمد (7633-9800).
وله أجرا لا يعلمه إلا الله يوم يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب ، والصيام أعظم عمل اجتمع فيه أنواع الصبر، قال تعالى :{إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (10)الزمر.
وفي الحديث عَنْ أَبِي صَالِحٍ الزَّيَّاتِ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " قَالَ اللَّهُ: كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ، إِلَّا الصِّيَامَ، فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ ..))البخاري (1904) ومسلم (1151).
وحديث الموطأ(5 عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((...فَالصِّيَامُ لِي، وَأَنَا أَجْزِي بِهِ.كُلُّ حَسَنَةٍ بِعَشْرَةِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ، إِلاَّ الصِّيَامَ، فَهُوَ لِي. وَأَنَا أَجْزِي بِهِ)).فاجتمع الصبر كله في الصيام ، ولهذا السر قال الله إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به ، فلا يعلم أجره إلا هو سبحانه كما لا يعلم أجر الصابرين إلا هو سبحانه وتعالى .
والصيام والقرآن يشفعان لصاحبهما ،قال صلى الله عليه وسلم :((الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة يقول الصيام: أي رب إني منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفعني فيه يقول القرآن: رب منعته النوم بالليل فشفعني فيه فيشفعان)) . صحيح الجامع (3882)،وقال: (صحيح) [حم طب ك هب] عن ابن عمرو. المشكاة (1963) وصحيح الترغيب (973) وقال أحمد شاكر في تحقيق المسند : إسناده صحيح. وهو كفارة للذنوب : قال صلى الله عليه وسلم: (الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان: مكفرات ما بينهن؛ إذا اجتُنبتِ الكبائر) . مسلم (233) ومسند أحمد (7129) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الصَّلَاةُ الْمَكْتُوبَةُ إِلَى الصَّلَاةِ الَّتِي بَعْدَهَا، كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا "، قَالَ: " وَالْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ، وَالشَّهْرُ إِلَى الشَّهْرِ - يَعْنِي رَمَضَانَ إِلَى رَمَضَانَ - كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا " قال أحمد شاكر : (6/353)إسناده صحيح ، وقال الأرنئوط : صحيح دون قوله : "إلا من ثلاث ... "إلى آخر الحديث .وكذلك صححه الشيخ الألباني في الصحيحة (3322).
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ، إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» البخاري (38-1901) بَابُ مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا وَنِيَّةً.(2014)ومسلم (760).
ومن ثمرته أنه فرح وسرور وحبور لصحبه يوم فطره ويوم يلقى ربه ، قال صلى الله عليه وسلم :(( للصائم فرحتان يفرحهما ، إذا أفطر فرح ، وإذا لقي ربه فرح بفطره ))مالك في الموطأ باب جامع في الصيام ،والبخاري (1805) ومسلم (1151). بهذا كله من الفضائل وغيرها جاءت الآيات و الأحاديث النبوية الصحيحة ، فطوبى لمن صام رمضان إيمانا واحتسابا واتبعه بما استطاع من تطوع ونافلة في سبيل الله .
المسألة الثانية : تعريف الصيام :
والصيام في اللغة : قال ابن عبد البر - رحمه الله- : وأصله في اللغة الإمساك مطلقا ، وكل من أمسك عن شيء فقد صام عنه ، ويسمى صائما .. ألا ترى قول الله تعالى : { إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا } فسمي الإمساك صوما ، وكل ممسك عن حركة ، أو عمل ، أو طعام ، أو شراب فهو صائم في أصل اللسان .
تعريفه في الشرع : لكن الاسم الشرعي هو : الإمساك عن الأكل والشرب ووطء النساء نهارا ، إذا كان تارك ذلك يريد به وجه الله وينويه ، هذا معنى الصيام في الشريعة عند جميع علماء الأمة . موسوعة شروح الموطأ ( 9/ 344- 345). وقال في الكافي في فقه أهل المدينة (1/ 320):معنى الصيام في الشريعة الإمساك عن الأكل والشرب والجماع ، وذلك فرضه . وسنته :أن يجتنب الصائم قول الزور ، والغيبة ، والخنا ، وما لا يصلح من والقول والعمل . أقول : إن كان يقصد بقوله فرضه أي مما فرضه الله عليه ، وسنته ما سنه رسول الله فنعم ، أما إن كان يقصد بالفرض الاصطلاحي والسنية عند الفقهاء فغير صحيح بل واجب عليه( أي الصائم ) أن يجتنب قول الزور والرفث والغيبة والنميمة وغير ذلك من المعاصي التي تأثر في الصيام ، وإن كانت لا تبطله على قول المختار وقال ببطلانه طائفة من العلماء . وجاء في كفاية الطالب الرباني لرسالة ابن أبي زيد القيرواني (1/553) لأبي الحسن المالكي : أن الصيام شرعا هو : الإمساك عن شهوتي البطن والفرج من طلوع الفجر إلى غروب الشمس بنية قبل الفجر أو معه في غير أيام الحيض والنفاس وأيام الأعياد ، ويضاف إليه قيد : بقصد التقرب إلى الله. وهذا التعريف هو المختار في المذهب . والذي تعضده الأدلة .
=============================
متن :ثم قال المصنف رحمه الله : وصوم شهر رمضان فريضة ...
------------------
المسألة الرابعة : حكم الصيام :
قوله هذا فيه حكم الصيام : أي أنه فريضة على الأعيان المكلفين ، بالكتاب والسنة والإجماع ، بعد أن كان على التخيير ..فإن الصيام مر بثلاث مراحل .
أولا : كان يصام عاشوراء وجوبا ثم نسخ الوجوب بنزول صيام شهر رمضان ، ونزل في البداية على التخيير فمن شاء صام ومن شاء أفطر وأفدى ، ثم نسخ هذا وفرض صيامه على الأعيان المكلفين بشروط سيأتي ذكرها .
قال القرطبي - رحمه الله -:في المقدمات (1/246): وكان في أول الإسلام من شاء أن يصوم صام ومن شاء أن يفطر أفطر وأطعم عن كل يوم مسكينا على ما ورد في هذه الآية، فنسخ ذلك بقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 185]، وهذا مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وجميع أصحابه.
أما وجوبه بالكتاب فقوله تعالى :{ يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون ...} البقرة :.. وقال عز وجل : { فمن شهد منكم الشهر فليصمه ..} هذه الآية نسخت الآية التي قبلها، وهي قوله تعالى : { وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون }.
روى البخاري برقم (4507)عن سلمة بن الأكوع أنه قال: لما نزلت: {وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين} كان من أراد أن يفطر يفتدي، حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها . وروي أيضا من حديث عبيد الله عن نافع ،عن ابن عمر، قال: هي منسوخة. ولابن عباس - رضي الله عنهما - وغيره قول في هذه الآية أنها غير منسوخة وإنما هي في الشيخ الكبير والمرأة العجوز العاجزين عن الصوم.. والحامل والمرضع، وسيأتي الكلام عليهما. أخرجالبخاري برقم (4505): حدثنا إسحاق،أخبرنا روح، حدثنا زكريا بن إسحاق ، حدثنا عمرو بن دينار،عن عطاء سمع ابن عباس يقر أ: ((وعلى الذين يطوقونه فدية طعام مسكين )). قال ابن عباس: ليست منسوخة ،هو للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لايستطيعان أن يصوما، فيطعمان مكان كل يوم مسكينا. وهكذاروى غير واحدعن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، نحوه.
وقال القرطبي (1/247) وقد قيل: إن الآية محكمة وردت في الشيخ الكبير والعجوز والمرضع والحامل. جاء ذلك عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - في رواية، جاء عنه وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - أنهما قرءا وعلى الذين يطوقونه. ومعنى هذه القراءة يكلفونه فلا يطيقونه إلا بجهد ومشقة.
وقد وردت الآية عامة في هؤلاء وفي الصحيح المقيم، فنسخ من ذلك الصحيح المقيم بقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] وبقيت الآية محكمة في المذكورين.انتهى كلام القرطبي.
وقال ابن رشد القرطبي المالكي في المقدمات (1/246)وقَوْله تَعَالَى في شهر رمضان: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة: 184] منسوخ، نسخه قول الله تبارك وتعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185].
وفي حاشية العدوي على كفاية الطالب الرباني (1/440):ومن السنة أيضا على وجوب الصوم حديث عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما-قال : قال رسول الله :(( بني الإسلام على خمس ، شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ، وَإِقَامِ الصَّلاَةِ ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالحَجِّ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ)) والحديث أخرجه البخاري (1/47)(رقم 8- 4514)وبوب عليه : بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((بُنِيَ الإِسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ )). وكذلك فعل في صحيح مسلم (رقم16). وعنده في رواية تقديم الصوم على الحج.انظر فقه العبادات على المذهب المالكي(1/304).
وحديث طلحة بن عبيد الله أَنَّ أَعْرَابِيًّاجَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثَائِرَ الرَّأْسِ ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِي مَاذَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيَّ مِنَ الصَّلاَةِ؟ فَقَالَ : ((الصَّلَوَاتِ الخَمْسَ إِلَّاأَنْ تَطَّوَّعَ شَيْئًا))، فَقَالَ : أَخْبِرْنِي مَافَرَضَ اللَّهُ عَلَيَّ مِنَ الصِّيَامِ؟ فَقَالَ : ((شَهْرَ رَمَضَانَ إِلَّا أَنْ تَطَّوَّعَ شَيْئًا))، فَقَالَ : أَخْبِرْنِي بِمَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيَّ مِنَ الزَّكَاةِ؟فَقَالَ : فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شَرَائِعَ الإِسْلاَمِ ، قَالَ: وَالَّذِي أَكْرَمَكَ ،لاَ أَتَطَوَّعُ شَيْئًا،وَلاَ أَنْقُصُ مِمَّا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيَّ شَيْئًا،فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : ((أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ ، أَوْ دَخَلَ الجَنَّةَ إِنْ صَدَقَ)) أخرجه البخاري باب وجوب صوم رمضان (1891)ومسلم (11).من طريق مالك وهو في الموطأ برقم ( 18هكذا فيهما بتقديم الصوم على الزكاة وذلك حسب سؤال الأعرابي .
وأما الإجماع : فإن الأمة قد أجمعت من عصر الصحابة إلى يومنا هذا على وجوب صيام رمضان وأنه أحد أركان الإسلام الخمسة وشرائعه التي علمت من الدين بالضرورة ، فإن منكره كافر مرتد عن الإسلام . جاء في كفاية الطالب الرباني لرسالة ابن أبي زيد القيرواني (1/553) لأبي الحسن المالكي قال : ولوجوبه شروط - يأتي الكلام عليها- وقد دل على فرضيته الكتاب والسنة والإجماع ؛ فمن جحد وجوب صوم رمضان فهو كافر إجماعا يستتاب ثلاثا فإن تاب وإلا قتل ، ومن أقر بوجوبه وامتنع من صومه فهو عاص يجبر على فعله؛ فإن لم يفعل قتل حدا كالصلاة ، هذا قول عامة العلماء .
وكذلك قاله في الثمر الداني في تقريب المعاني شرح رسالة ابن أبي زيد القيرواني (1/293). لصالح بن عبد السميع الآبي الأزهري (المتوفى : 1335هـ). وخلاصة الموضوع : أن الصيام من فروض الأعيان يجب على كل مكلف ، ومن المعلوم بالضرورة من الدين الذي لا يجوز جهل فرضه ووجوبه لوضوحه وبيان حكمه للعالم والجاهل والكبير والصغير فلا يعذر أحد بتركه فمن تركه جحودا فهر كافر مرتد ، ومن تركه عمدا تهاونا بلا عذر فهو على كبيرة عدها بعض العلماء أعظم من شرب الخمر وتعاطي الزنا .
قال الحافظ الذهبي رحمه الله : أن من ترك صوم رمضان بلا مرض ولا عذر أنه شر من الزاني ، ومد من الخمر ، بل يشكون في إسلامه ،ويظنون به الزندقة والانحلال .
يتبع- إن شاء الله -...
تعليق