الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه أجمعين ، أما بعد :
إن مكة المكرمة أفضل البقع على وجه الأرض على الإطلاق على الراجح من أقوال أهل العلم والفضل ، وقد عظّمها الله تبارك وتعالى أيّما تعظيم ، وخصّها بخصائص عديدة ،وميّزها بمميّزات جليلة، وذلك لبيان فضلها وشرفها ، وعلوّ قدرها ومنزلتها ومكانتها ،قال تعالى : { إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين } [آل عمران: ـ 9796]
وقال تعالى: {لا أقسم بهذا البلد وأنت حل بهذا البلد } [البلد: 1ـ 2]
ومكة المكرمة لم تزل حرماً من حين خلق الله السموات والأرض، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم افتتح مكة: «لا هجرة، ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم، فانفروا، فإن هذا بلد حرم[1] الله يوم خلق السموات والأرض، وهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي، ولم يحل لي إلا ساعة من نهار، فهوو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا يعضد شوكه، ولا ينفر صيده، ولا يلتقط لقطته إلا من عرفها، ولا يختلى خلاها»، قال العباس: يا رسول الله إلا الإذخر فإنه لقينهم ولبيوتهم، قال: قال: «إلا الإذخر».[2]
وهي أحبّ البلاد إلى الله ،وأحبّ البلاد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ،فعن عبد الله بن عدي الحمراء رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم واقفا على الحَزْورة فقال: والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت.[3]
وفي لفظ : " ما أطيبك من بلد وأحبك إلي ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك "[4].
وفضائل مكة المكرمة ومزاياها لا تعدّ ولا تحصى في كتاب الله ، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنزلتها ومكانتها في قلوب أهل الإسلام والإيمان تكاد تعجز عن الوصف.
وقد ثبت مضاعفة أجر وثواب الصلاة في المسجد الحرام ،فعن أبي الدرداء وجابر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : فضل الصلاة في المسجد الحرام على غيره مائة ألف صلاة ، وفي مسجدي هذا ألف صلاة وفي مسجد بيت المقدس خمسمائة صلاة[5].
وقد ورد ذكر اسم المسجد الحرام في كتاب الله تعالى في خمسة عشر موضعاً ، وقد اختلف أهل العلم في المراد به على سبعة أقوال[6]،والراجح من ذلك أن مضاعفة الصلاة تتعلق بجميع حرم مكة المكرمة ،وبه قال جمهور العلماء من الحنفية والمالكية والشافعية ، وبه قال ابن عباس ، وعطاء بن أبي رباح ،ومجاهد , وقتادة ،وابن تيمية ،وابن القيم ، وابن باز ،وشيخنا صالح الفوزان ،وعبد الله الغديان ،وصالح اللحيدان ،وغيرهم.
والذي بيّن معالم وأماكن ومواضع حدود الحرم[7] هو النبي الكريم إبراهيم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم ، وهو أمر توقيفيّ.
قال النووي رحمه الله: ذكر الأزرقي وغيره بأسانيدهم أن إبراهيم الخليل عليه السلام علمها, ونصب العلامات فيها ، وكان جبريل عليه السلام يريه مواضعها, ثم أُمر نبيناا صلى الله عليه وسلم بتجديدها ، ثم عمر ، ثم عثمان ، ثم معاوية رضي الله عنهم ، وهي إلى الآن بينة ولله الحمد.
قال الأزرقي رحمه الله في آخر كتاب "مكة ": أنصاب الحرم التي على رأس الثنية ما كان من وجوهها في هذا الشق فهو حرم , وما كان في ظهرها فهو حل قال: وبعض الأعشاش في الحل وبعضه في الحرم.[8]
وعن ابن عباس رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث تميم بن أسد الخزاعي يجدّد أنصاب الحرم، وكان إبراهيم عليه السلام وضعها ، يريها إياه جبريل عليه السلام.[9]
الأدلة على أن مضاعفة أجر الصلاة عامّة في جميع حرم مكة :
أولا : قال تعالى : {سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنآ إنه هو السميع البصير} [الإسراء: 1]
ومن المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم أسري به من بيت أم هانئ رضي الله عنها ،والبيت خارج عن المسجد الحرام ،وكل ذلك سمّاه الله تعالى حرما .
وعن أنس بن مالك رضي الله عنهما قال: كان أبو ذر يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فرج عن سقف بيتي وأنا بمكة، فنزل جبريل، ففرج صدري، ثم غسله بماء زمزم، ثم جاء بطست من ذهب ممتلئ حكمة وإيمانا، فأفرغه في صدري ثم أطبقه، ثم أخذ بيدي فعرج بي الى السماء الدنيا. فلما جئت الى السماء الدنيا قال جبريل لخازن السماء: افتح. قال: من هذا؟ قال: هذا جبريل. قال: هل معك احد؟ قال: نعم، معي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم. فقال: أرسل اليه؟ قال: نعم. فلما فتح علونا السماء الدنيا، فإذا رجل قاعد، على يمينه أسودة وعلى يساره أسودة؛ إذا نظر قبل يمينه ضحك، وإذا نظر قبل يساره بكى، فقال: مرحبا بالنبي الصالح والابن الصالح. قلت لجبريل: من هذا؟ قال: هذا آدم، وهذه الأسودة عن يمينه وشماله نسم بينه، فأهل اليمين منهم أهل الجنة، والأسودة التي عن شماله أهل النار فإذا نظر عن يمينه ضحك، وإذا نظر قبل شماله بكى ،حتى عرج بي الى السماء الثانية، فقال لخازنها: افتح ، فقال له خازنها مثل ما قال الأول، ففتح".[10]
وقد ثبت أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم أسري به من مسجد الكعبة عند الحطيم ، كما ورد من حديث عن مالك بن صعصعة رضي الله عنهما، أن نبي الله صلى الله عليه وسلم حدثهم عن ليلة أسري به: " بينما أنا في الحطيم، - وربما قال: في الحجر - مضطجعا إذ أتاني آت....الحديث.[11]
ويمكن الجمع بينهما كما أفاده العلماء وهو : أنه عليه الصلاة والسلام كان نائما في بيت أم هانئ رضي الله عنها ، وبيتها حينئذ كان في شعب أبي طالب، ففرج سقف بيته صلى الله عليه وسلم ن فنزل جبريل عليه الصلاة والسلام فأخرجه من البيت إلى المسجد ، فكان به مضطجعا وبه أثر النعاس، ثم أخرجه الملك الى باب المسجد، فأركبه البراق.[12]
جاء في "الموسوعة الفقهية (27/239) : " ذهب الحنفية في المشهور والمالكية والشافعية إلى أن المضاعفة تعم جميع حرم مكة ، فقد ورد من حديث عطاء بن أبي رباح قال : بينما ابن الزبير يخطبنا إذ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام ، وصلاة في المسجد الحرام تفضل بمائة ، قال عطاء : فكأنه مائة ألف ، قال : قلت : يا أبا محمد ، هذا الفضل الذي يذكر في المسجد الحرام وحده أو في الحرم ؟ قال : بل في الحرم ، فإن الحرم كله مسجد .....اهـ
ثانيا :
قال تعالى : {إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا} [التوبة:28]
فهذه الآية أيضا من أصرح ما يكون في الدّلالة على أن المقصود بالمسجد الحرام هو الحرم كلّه وليس المسجد فقط، بل نقل أبو محمد ابن حزم رحمه الله أنه لا خلاف بين أهل العلم في ذلك.[13]
وقد نقل الشربيني إجماع المفسرين على ذلك.[14]
قال عطاء بن أبي رباح رحمه الله : " الحرم كله قبلة ومسجد، قال: {فلا يقربوا المسجد الحرام} [التوبة: 28] لم يعن المسجد وحده، إنما عنى مكة والحرم. قال ذلك غير مرة.[15]
قال القرطبي رحمه الله : يحرم تمكين المشرك من دخول الحرم أجمع، فإذا جاء رسول منهم خرج الإمام إلى الحل ليسمع ما يقول ، ولو دخل مشرك الحرم مستوراً ومات نبش قبره وأخرجت عظامه.[16
ثالثا :
قال تعالى : {فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا } [آل عمران: 97]
هذه الآية الكريمة تبيّن أنه إذا دخل الخائف حدود الحرم يأمن من كل سوء وشرّ، ويجب أن يعطى الأمان، وهذا كان معروفا مشهورا حتى قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم-أي: في الأيام الجاهلية-، كما قال الحسن البصري رحمه الله : “كان الرجل يقتل فيضع في عنقه صوفة ويدخل الحرم، فيلقاه ابن المقتول فلا يهيجه حتى يخرج.
وقد امتنّ الله تبارك وتعالى بهذه المنّة والمزيّة العظيمة ، وهذه الميزة الجليلة على أهل الحرم دون غيرهم ، حيث قال جلّ وعزّ : {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ الناس مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت: 67]
رابعا :
قال تعالى : {إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم} [التوبة: 7]
ومن المعلوم أن المعاهدة التي كانت بين النبي صلى الله عليه وسلم وكفار قريش لم تكن في مسجد الكعبة ، وإنما كانت بموضع يعرف بالحديبية ،وهو معروف معلوم على حدود الحرم ، بل بعضه في الحلّ وبعضه في الحرم كما في حديث المسور بن مخرمة رضي الله عنه.
خامسا :
قال الله تعالى : {يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله} [البقرة: 217]
قال الجصاص رحمه الله : والمراد إخراج المسلمين من مكة حين هاجروا إلى المدينة، فجعل المسجد الحرام عبارة عن الحرم. ويدل على أن المراد جميع الحرم كله قوله تعالى: {ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم} والمراد به من انتهك حرمة الحرم بالظلم فيه.[17]
سادسا :
قال الله تعالى : { ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم} [الحج:25].
قال الجصاص رحمه الله : فإن الإلحاد هو الميل عن الحق إلى الباطل، وإنما سمي اللحد في القبر; لأنه مائل إلى شق القبر قال الله تعالى: {وذروا الذين يلحدون في أسمائه} [الأعراف: 180] وقال: {لسان الذي يلحدون إليه أعجمي} [النحل: 103] أي لسان الذي يومئون إليه. و "الباء" في قوله: {بإلحاد} زائدة، كقوله: {تنبت بالدهن} [المؤمنون: 20] أي تنبت الدهن، وقوله تعالى: {فبما رحمة من الله لنت لهم} [آل عمران: 159] . وروي عن ابن عمر أنه قال "ظلم الخادم فما فوقه بمكة إلحاد". وقال عمر "احتكار الطعام بمكة إلحاد". وقال غيره: "الإلحاد بمكة الذنوب". وقال الحسن: "أراد بالإلحاد الإشراك بالله".
الإلحاد مذموم; لأنه اسم للميل عن الحق ولا يطلق في الميل عن الباطل إلى الحق، فالإلحاد اسم مذموم، وخص الله تعالى الحرم بالوعيد في الملحد فيه تعظيما لحرمته. ولم يختلف المتأوّلون للآية أن الوعيد في الإلحاد مراد به من ألحد في الحرم كله وأنه غير مخصوص به المسجد، وفي ذلك دليل على أن قوله: {والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد} قد أريد به الحرم; لأن قوله: {ومن يرد فيه بإلحاد} هذه الهاء كناية عن الحرم وليس للحرم ذكر متقدم إلا قوله: {والمسجد الحرام} فثبت أن المراد بالمسجد ههنا الحرم كله. وقد روى عمارة بن ثوبان قال: أخبرني موسى بن زياد قال: سمعت يعلى بن أمية قال: قال رسول الله "احتكار الطعام بمكة إلحاد". وروى عثمان بن الأسود عن مجاهد قال: "بيع الطعام بمكة إلحاد، وليس الجالب كالمقيم". وليس يمتنع أن يكون جميع الذنوب مرادا بقوله: {بإلحاد بظلم} فيكون الاحتكار من ذلك وكذلك الظلم والشرك، وهذا يدل على أن الذنب في الحرم أعظم منه في غيره. ويشبه أن يكون من كره الجوار بمكة ذهب إلى أنه لما كانت الذنوب بها تتضاعف عقوبتها آثروا السلامة في ترك الجوار بها مخافة مواقعة الذنوب التي تتضاعف عقوبتها. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يلحد بمكة رجل عليه مثل نصف عذاب أهل الأرض". وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أعتى الناس على الله رجل قتل في الحرم ورجل قتل غير قاتله ورجل قتل بذحول الجاهلية".[18]
سابعا :
عن المسور بن مخرمة، ومروان بن الحكم، قالا: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية يريد زيارة البيت، لا يريد قتالا، وساق معه الهدي سبعين بدنة، وكان الناس سبع مائة رجل، فكانت كل بدنة عن عشرة......،وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في الحرم وهو مضطرب في الحل.[19]
وهذا من أصرح الأدلّة على أن مضاعفة أجر الصلاة تتعلّق بجميع الحرم وليست خاصة بمسجد الكعبة.
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : الحرم كلّه هو المسجد الحرام.[20]
قال ابن القيم رحمه الله: وفي هذا كالدلالة على أن مضاعفة الصلاة بمكّة تتعلّق بجميع الحرم ، لا يخصّ بها المسجد الذي هو مكان الطواف ، وأن قوله :صلاة فيالمسجد الحرام أفضل من مائة صلاة في مسجدي ، كقوله تعالى :(فلا يقربوا المسجد الحرام) [ التوبة : 28 ] وقوله تعالى : (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام) [ الإسراء : 1 ] وكان الإسراء من بيت أم هانئ.[21]
ثامنا:
حديث جابر رضي الله عنه الطويل المشهور في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم الذي جعله بعض أهل العلم أصلا وعمدة في صفة حجته صلى الله عليه وسلم ؛ لأن جابرا رضي الله عنه ذكره ووصفه بشيء من التفصيل والبيان والإيضاح مالم يصفه غيره.
فذكر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم بعدما أكمل نسك العمرة نزل بالأبطح وهو مكان معروف شرقي مكة ، ثم لما كان يوم الثامن من ذي الحجة دفع إلى منى.[22]
وقد بوّب الإمام محمد بن إسماعيل البخاري في "صحيحه" بابا فقال : " باب من لم يقرب الكعبة ، ولم يطف حتى يخرج إلى عرفة ويرجع بعد الطواف الأول ".
ثم ذكر بإسناده إلى عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال : قدم النبي صلى الله عليه وسلم مكة فطاف سبعا ، وسعى بين الصفا والمروة ، ولم يقرب الكعبة بعد طوافه بها حتى رجع من عرفة.[23]
وعن عون بن أبي جحيفة، عن أبيه، قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بمكة وهو بالأبطح في قبة له حمراء من أدم...[24]
الشاهد : هو أن النبي صلى الله عليه وسلم بعدما انتهى من نسك العمرة ذهب إلى الأبطح وهو مكان معروف مشهور شرقي مكة قريب من منى ونزل به ، وضربت له قبة حمراء وجلس في ذلكم المكان ليالي وأياما، من يوم الأحد من رابع ذي الحجة إلى صبيحة يوم الخميس الثامن ذي الحجة بعدما صلى الفجر ،وانتظر طلوع الشمس قدر رمح دفع بعدها إلى منى .
فيتبيّن من فعله صلى الله عليه وسلم أن حدود الحرم كله محلّ مضاعفة أجرالصلاة ، وإلا كيف يعدل عن الفاضل ويفعل المفضول ، وهي الصلاة بالأبطح وترك الصلاة بمسجد الكعبة ،والمسافة بين الأبطح وبين مسجد الكعبة مسافة يسيرة ،وهو من هو بأبي وأمي صلى الله عليه وسلم ، فهو معلّم البشرية جمعاء ، ومن أحرص الناس على الخير ، ومن أسرعهم مسابقة في النيل أعلى الدرجات ، وأكمل الفضائل والمزيّات، قال تعالى : {سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم} [الحديد: 21]، وقال تعالى : { وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين } [آل عمران: 133]
تاسعا :
عن مجاهد قال : رأيت عبد الله بن عمرو بن العاص بعرفة، ومنزله في الحل، ومصلاه في الحرم، فقيل له: لم تفعل هذا؟ فقال: «لأن العمل فيه أفضل، والخطيئة أعظم فيه».[25]
وعن ابن عباس رضي الله عنه : الحرم كلّه هو المسجد الحرام.[26]
وعن حميد بن عبد الرحمن بن عوف، أن عبد الرحمن بن عبد القاري أخبره: أنه طاف مع عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بعد صلاة الصبح بالكعبة، فلما قضى عمر طوافه، نظر فلم ير الشمس، فركب حتى أناخ بذي طوى، فسبح ركعتين.[27]
وذو طوى ليست من المسجد وإنما تقع داخل حدود الحرم تحديدا بمنطقة جرول, وهو يدل على أنه كان من المتقرّر عندهم فضيلة الصلاة في الحرم كلّه .
قـال العلامة ولي الدين العراقي رحمه الله : ولا يختص التضعيف بالمسجد الذي كان في زمنه بل يشمل جميع ما زيد فيه بل المشهور عند أصحابنا أنه يـعم جميع مكـة بل جميع حرمها الذي يحرم صيده كما صححه النووي.[28]
ففهم الصحابة رضي الله عنهم مقدّم على فهم كلّ أحد ، وطريقتهم مقدّمة على طريقة كل أحد ، ومسلكهم مقدّم على مسلك كل أحد.
تنبيه :
وذهب بعض أهل العلم إلى أن مضاعفة أجر الصلاة خاص بمسجد الكعبة وهو قول مرجوح لا راجحا ، واستدلوا بعدّة أدلّة من أقواها ما ثبت عن ابن عباس، أنه قال: إن امرأة اشتكت شكوى، فقالت: إن شفاني الله لأخرجن فلأصلين في بيت المقدس، فبرأت، ثم تجهزت تريد الخروج، فجاءت ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم تسلم عليها، فأخبرتها ذلك، فقالت: اجلسي فكلي ما صنعت، وصلي في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم. فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: «صلاة فيه أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد، إلا مسجد الكعبة»[29]
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إنما يسافر إلى ثلاثة مساجد: مسجد الكعبة، ومسجدي، ومسجد إيلياء "[30]
فذكروا أن الروايات التي مفادها حصول أجرالصلاة *بالمسجد الحرام ، جاءت روايات أخرى ،وألفاظ مقيّدة ومخصّصة ما أطلق وعمّم ،وذلك في تخصيص الأجر بمسجد الكعبة لا كلّ الحرم.
والجواب على ذلك باختصار شديد :
1 ـ وهو أن هذا التخصيص والتقييد من باب التشريف والتعظيم ،كإضافة البيت لله ، وهكذا الناقة ونحو ذلك ، كما قال تعالى : {فقال لهم رسول الله ناقة الله وسقياها} [الشمس: 13]، وكما في قوله :{قد جاءتكم بينة من ربكم هذه ناقة الله لكم آية} [الأعراف: 73]، وكم في قوله : {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [ص: 72]، وقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} [النساء: 171]،وكما في قولِه سُبحانه: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ} [الحج: 26].
2 ـ فقد ذكر الله تبارك وتعالى أن المحرم إذا أحرم وهو يريد الحج أو العمرة ، فلا يجوز له أن يصيد الصيد، أو يدل عليه ، فإذا قتل الصيد عامدا متعمّدا فعليه الكفارة في حقّه –على تفصيل في ذلك كما هو مبسوط ومبثوث في كتب الفقه-، كما قال تعالى : {يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرمم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما ليذوق وبالل أمره عفا الله عما سلف ومن عاد فينتقم الله منه والله عزيز ذو انتقام} [المائدة:95].
والمقصود من هذه الآية الكريمة أن هذا الهدي يجب أن يذبح في الحرم المكي لا المقصود منه مسجد الكعبة ،
ونظائر ذكر كثيرة منها ،قوله تعالى : {لكم فيها منافع إلى أجل مسمى ثم محلها إلى البيت العتيق} [الحج:33].
فعن جابر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : منى كلها منحر ، وكل فجاج مكّة طريق ومنحر.[31]
قال ابن حزم رحمه الله : فبطل أن يكون الله تعالى أراد الكعبة فقط، لأنه لو كان ذلك لكان لا يسقط الهدى إلا عمن أهله في الكعبة ،وهذا معدوم وغير موجود، وبطل أن يكون جزوجل أراد ما أحاطت به جدران المسجد الحرام فقط ،لأن المسجد الحرام قد زيد فيه مرة بعد مرة ،فكان يكون هذا الحكم ينتقل ولا يثبت، وأيضا فكان لا يكون هذا الحكم إلا لمن أهله في المسجد الحرام، وهذا معدوم غير موجود، فإذا قد بطل هذان الوجهان فقد صح الثالث ،إذ لم يبق غيره.
وأيضا: فانه إذا كان اسم المسجد الحرام يقع على الحرم كله فغير جائز أن يخص بهذا الحكم بعض ما يقع عليه هذا الاسم دون سائر ما يقع عليه بلا برهان.
وأيضا: فإن الله تعالى قد بيّن علينا فقال: (يريد الله ليبين لكم).
فلو أراد الله تعالى بعض ما يقع عليه اسم المسجد الحرام دون بعض ،لما أهمل ذلك ولبينه، أو لكان الله تعالى معنتا لنا غير مبين علينا ما ألزمنا ، ومعاذ الله من أن يظن هذا مسلم، فصحّ إذ لم يبيّن الله تعالى أنه أراد بعض ما يقع عليه اسم المسجد الحرام دون بعض، فلا شك في انه تعالى أراد كل ما يقع عليه اسم المسجد الحرام.
وأيضا فإن الله تعالى يقول: (انما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا)، فلم يختلفوا في أنه تعالى أراد الحرم كلّه، فلا يجوز تخصيص ذلك بالدعوى، وصحّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من طريق أبى هريرة، وجابر، وحذيفة : "جعلت لى الارض مسجدا وطهورا" ،
فصحّ أن الحرم مسجد لأنه من الأرض فهو كله مسجد حرام فهو المسجد الحرام بلا شك، والحاضرون هم القاطنون غير الخارجين، فصح أن من كان أهله حاضري المسجد الحرام هم من كان أهله قاطنين في الحرم.
فإن قيل: فإن من سكن خارجا منه بقربه هم حاضروه ؟ قلنا: هذا خطأ، وبرهان فساد هذا القول، أننا نسألكم عن تحديد ذلك القرب الذى يكون من هو فيه حاضرا مما يكون من هو فيه غير حاضر ؟، وهذا لا سبيل إلى تفصيله الا بدعوى كاذبة، لأن الأرض كلها خط بعد خط إلى منقطعها.[32]
وقال الجصاص رحمه الله : والمراد جميع الحرم كما قال الله تعالى: {هديا بالغ الكعبة} [المائدة: 95] والمراد الحرم لا الكعبة نفسها; لأنه لا يذبح في الكعبة ولا في المسجد.[33]
الشاهد : الذي خص مضاعفة الصلاة بمسجد الكعبة لزمه أن يخص الذبح أو النحر عند مسجد الكعبة لأن جاء التخصيص والتقييد بذلك ، وحينئذ يتبيّن قوة قول جمهور العلماء أن هذه الإضافة من باب التشريف والتعظيم ، خاصة وهوالذي فهمه بعض الصحابة رضي الله عنهم في أنهم كانوا يتحرّون الصلاة داخل حدود الحرم ،فإذا أتموا صلاتهم خرجوا إلى الحلّ وذلك مهابة منهم أن يقترفوا جرما وخطايا داخل حدود الحرم.
وما أحسن ما قاله أبو بكرالجصاص رحمه الله بقوله : لم يتأوّل هؤلاء السلف المسجد الحرام على الحرم كله إلا والاسم شامل له من طريق الشرع، إذ غير جائز أن يتأول الآية على معنى لا يحتمله اللفظ، وفي ذلك دليل على أنهم قد علموا وقوع اسم المسجد على الحرم من طريق التوقيف.[34]
هل تكون المضاعفة في الأعمال الصالحة في الحرم المكيّ كالصلاة بمائة ألف :
اختلف العلماء هل مضاعفة الأجر خاص بالصلاة أو يشمل جميع الأعمال الصالحة كالصوم والصدقة والتسبيح ؟؟ على قولين مشهورين ، وهو القول الأقرب للصواب والله أعلم أن الأدلة الصحيحة الصريحة في التضعيف مختصة بالصلاة لا غير ،والقول بمضاعفة سائر الطاعات، وباقي القربات التي يتقرّب بها المسلم إلى الله تعالى يحتاج إلى دليل ثابت وليس ثمة دليل صحيح يعوّل عله ،وبه قال جمهور العلماء.
والنصوص الواردة في مضاعفة الصوم ، والصدقة وسائر القربات غير الصلاة في الحرم المكيّ كلّها ضعيفة لا تثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن تبقى الأعمال الصالحة في الحرم لها شأن عظيم ومزية عن غيرها من الأماكن والمناطق والبلدان وذلك لفضيلة الحرم على الحلّ.
قال الشيخ ابن باز رحمه الله : الأدلة الشرعية على أن الحسنات تضاعف في الزمان الفاضل والمكان الفاضل، مثل رمضان وعشر ذي الحجة، والمكان الفاضل كالحرمين، فإن الحسنات تضاعف في مكة والمدينة مضاعفة كبيرة، وقد جاء في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:* صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة في ما سواه إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة صلاة في مسجدي هذا*". رواه أحمد وابن حبان بإسناد صحيح.
فدلّ ذلك على أن الصلاة بالمسجد الحرام تضاعف بمائة ألف صلاة في سوى المسجد النبوي، وتضاعف بمائة صلاة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وبقية الأعمال الصالحة تضاعف، ولكن لم يرد فيها حد محدود إنما جاء الحد والبيان في الصلاة، أما بقية الأعمال كالصوم والأذكار وقراءة القرآن والصدقات فلا أعلم فيها نصاً ثابتاً يدل على تضعيف محدد، وإنما فيها في الجملة ما يدل على مضاعفة الأجر وليس فيها حد محدود.
والحديث الذي فيه: من صام في مكة كتب الله له مائة ألف رمضان حديث ضعيف عند أهل العلم .
والحاصل أن المضاعفة في الحرم الشريف بمكة المكرمة لا شك فيها - أعني مضاعفة الحسنات - لكن ليس في النص فيما نعلم حد محدود ما عدا الصلاة فإن فيها نصاً يدل على أنها مضاعفة بمائة ألف صلاة كما سبق.[35]
وقال رحمه الله : وبقية الأعمال الصالحة تضاعف – أي في الحرم – ولكن لم يرد فيها حد محدود، إنما جاء الحد والبيان في الصلاة، أما بقية الأعمال الصالحة كالصوم والأذكار وقراءة القرآن والصدقات فلا أعلم. فيها نصاً ثابتاً يدل على تضعيف محدد.[36]
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى: فإن قال قائل: وهل تضاعف بقية الأعمال الصالحة هذا التضعيف؟
فالجواب: أن تضعيف الأعمال بعدد معين توقيفي، يحتاج إلى دليل خاص، ولا مجال للقياس فيه، فإن قام دليل صحيح في تضعيف بقية الأعمال أخذ به، ولكن لا ريب أن للمكان الفاضل، والزمان أثراً في تضعيف الثواب، كما قال العلماء ـ رحمهم الله ـ: إن الحسنات تضاعف في الزمان، والمكان الفاضل، لكن تخصيص التضعيف بقدر معين، يحتاج إلى دليل خاص[37].
هل تضاعف السيئة في الحرم المكيّ :
اختلف أهل العلم في مضاعفة السيّئات في مكة من عدمها ، والراجح من ذلك أنها تضعّف من ناحية الكيف لا الكم ، وتغلّظ وتعظّم لحرمة مكة المكرمة، وبه قال جمهور العلماء.
قال ابن رجب رحمه الله : وكان جماعة من الصحابة يتقون سكنى الحرم، خشية ارتكاب الذنوب
فيه: منهم ابن عباس، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وكذلك كان عمر بن عبد العزيز يفعل، وكان عبد الله بن عمرو بن العاص يقول: الخطيئة فيه أعظم.
وروي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: لأن أخطى سبعين خطيئة - يعني بغير مكة - أحب إلي من أن أخطئ خطيئة واحدة بمكة.[38]
فعن مجاهد قال : رأيت عبد الله بن عمرو بن العاص بعرفة، ومنزله في الحل، ومصلاه في الحرم، فقيل له: لم تفعل هذا؟ فقال: «لأن العمل فيه أفضل، والخطيئة أعظم فيه».[39]
قال ابن باز رحمه الله: ومما يدل على شدة الوعيد في سيئات الحرم وأن سيئة الحرم عظيمة وشديدة: يقول الله تعالى: (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) [الحج: من الآية25], فهذا يدل على أن السيئة في الحرم عظيمة, حتى إن في الهم بالسيئة فيه هذا الوعيد. وإذا كان من همَّ بالإلحاد في الحرم متوعداً بالعذاب الأليم فكيف بحال من فعل في الحرم الإلحاد بالسيئات والمنكرات؛ فإن إثمه يكون أكبر من مجرد الهم, وهذا كله يدلنا على أن السيئة في الحرم لها شأن خطير.[40]
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله : فإن قال قائل: وهل تضاعف السيئات في الأمكنة الفاضلة والأزمنة الفاضلة؟
فالجواب: أما في الكمية فلا تضاعف لقوله تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ *} [الأنعام: 160] وهذه الآية مكية لأنها من سورة الأنعام، وكلها مكية لكن قد تضاعف السيئة في مكة من حيث الكيفية لقوله تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25].[41]
فالسيئة في الأشهر الحرم ليست كغيرها من الأشهر، وهكذا السيئة بمكة تكون أشدّ جرما وأعظم قبحا، وهكذا التقرّب إلى الله في العشر الأواخر من ليالي رمضان بمكة ليست كالقرب في غيرها من الليالي ، وهكذا في الأيام العشر من شهر الله المحرّم ، ليست كغيرها من الأيام وهكذا .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : المعاصي في الأيام المعظمة والأمكنة المعظمة تُغلظ معصيتها وعقابها بقدر فضيلة الزمان والمكان.
وفصلّ تلميذه ابن القيم رحمه الله تفصيلا جميلا حيث قال : ومن هذا تُضاعف مقادير السيئات فيه ،-أي: في الحرم- لا كمياتها؛ فإن السيئة جزاؤها سيئة, لكن سيئة كبيرة وجزاؤها مثلها, وصغيرة جزاؤها مثلها؛ فالسيئة في حرم الله وبلده وعلى بساطه آكد وأعظم منها في طرف من أطراف الأرض؛ ولهذا ليس من عصى الملك على بساط ملكه كمن عصاه في الموضع البعيد من داره وبساطه؛ فهذا فصل النزاع في تضعيف السيئات, والله أعلم.[42]
وقال رحمه الله : ومن خواصه –أي: الحرم- أنه يُعاقَب فيه على الهم بالسيئات وإن لم يفعلها, قال تعالى: (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ)[الحج: من الآية25]. فتأمل كيف عدَّى فعل الإرادة هاهنا بالباء, ولا يُقال: (أردت بكذا) إلا لما ضُمِّن معنى الفعل (هم)؛ فإنه يقال: هممت بكذا. فتوعد من هم بأن يظلم فيه بأن يذيقه العذاب الأليم.[43]
فهذا أظهر الأقوال في الآية، وأما قول من قال: إن الإرادة في الآية بمعنى العمل فلا يخفى ما فيه من البعد ومخالفة الظاهر.
وكذلك حمل الإرادة على العزم المصمم) ففيه نظر؛ فإن بين الهم والعزم فرقا؛ ثم إن العزم مما يعاقب به في سائر البقاع، في مكة وغيرها، والآية –مع تفسير ابن مسعود لها- ذات دلالة ظاهرة على أن الحرم له شأن خاص ليس كغيره، والله تعالى أعلم.
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال في قوله تعالى: {إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم} قال: لو أن رجلا هم فيه بإلحاد وهو بعدن أبين لأذاقه الله - عز وجل - عذابا أليما.
وقد وضّح الزركشي ثمرة الخلاف حيث قال رحمه الله: فإن قيل: فيرجع النزاع أيضاً, وأي فرق بين أن تكون السيئة المعظَّمة بمائة ألف سيئة وهي واحدة, وبين أن تكون بمائة ألف سيئة عدداً ؟ فالجواب: أنه قد جاء أن من زادت حسناته على سيئاته في العدد دخل الجنة, ومن زادت سيئاته على حسناته في العدد دخل النار, ومن استوت حسناته وسيئاته عدداً كان من أهل الأعراف؛ فلا يبعد أن يكون في الغلظ من غير تعدد معنى من عدم الزيادة العددية المرجحة بسبب فضل السيئات في الحرم في الحالة التي لولا هذا التأويل لرجح جانب السيئة, أو معنى غيره يحصل به.[44]
ومن عنده إشادة ،أوإفادة ،أو تعقيب فلا يبخل به علينا لتعمّ الفائدة.
هذا وصلى الله على نبيّنا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم.
كتبه : عبد الحميد الهضابي.
27 / 07 / 1438
مكة المكرمة.
الحواشي :
[1] ـ تحريم مكة أشد من تحريم المدينة ، قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :" المدينة محرمة ، ولها حرم ، لكن حرمها دون حرم مكة بكثير، حرم مكة لا يمكن يأتيه أحد من المسلمين ، لم يأته أول مرة ، إلا محرما يجب عليه أن يحرم , والمدينة ليست كذلك .
ـ حرم مكة يحرم حشيشه وشجره مطلقا, وأما حرم المدينة فرخص في بعض شجره للحرث ونحوه .
صيد مكة حرام وفيه الجزاء, وصيد المدينة ليس فيه جزاء .
المهم أن أعظم مكان آمن هو مكة , حتى الأشجار آمنة فيه , وحتى الصيود آمنة فيه "اهـ "لقاء الباب المفتوح" (103 /2).
[2] ـ أخرجه البخاري (1834).
[3] ـ أخرجه أحمد (18715)،وابن أبي شيبة في "مصنفه"(67،وعبد بن حميد في "منتخبه"( 491)،
[4] وابن ماجه (310،والترمذي (3925)، وصححه الألباني في "صحيح وضعيف سنن ابن ماجه" (310
[5] ـ أخرجه البيهقي في السنن الصغرى رقم ( 1821 ) 2 / 31 ، وفى شعب الإيمان رقم ( 4140 ) 3 / 485 ، وابن عبد البر في التمهيد 6 / 30 ، وصححه الألباني في صحيح الجامع ( 4211 ) ، وفي إرواء الغليل رقم ( 1129 ) .
[6] ـ قال الزركشي : يتحصل في المراد بالمسجد الحرام الذي تضاعف فيه الصلاة سبعة أقوال .
الأول :أنه المكان الذي يحرم على الجنب الإقامة فيه .
الثاني :أنه مكة .
الثالث :أنه الحرم كله إلى الحدود الفارقة بين الحل والحرم ، قاله عطاء وقد سبق مثله عن* الماوردي وغيره ، وقال الروياني : فضل الحرم على سائر البقاع فرخص في الصلاة فيه في جميع الأوقات لفضيلة البقعة وحيازة الثواب المضاعف.
الرابع : أنه الكعبة ، قال الزركشي وهو أبعدها .
الخامس :أنه الكعبة والمسجد حولها ، وهو الذي قاله النووي في استقبال القبلة .
السادس :أنه جميع الحرم وعرفة ، قاله ابن حزم .
السابع :أنه الكعبة وما في الحجر من البيت ، وهو قول صاحب البيان من أصحاب الشافعية. "إعلام الساجد" (120 - 121 .)*
[7] ـ وحدود الحرم معروفة نظم بعضهم مسافتها بالأميال في قوله: كما في "نهاية المحتاج"(3/3357) *:
وللحرم التحديد من أرض طيبة ... ثلاثة أميال إذا رمت إتقانه
وسبعة أميال عراق وطائف ... وجدة عشر ثم تسع جعرانه
ومن يمن سبع بتقديم سينه ... وقد كملت فاشكر لربك إحسانه.
[8] ـ "شرح المهذب"(7/463) .
[9] ـ رواه أبو نعيم في "معرفة الصحابة" (1/452) وحسن إسناده الحافظ ابن حجر رحمه الله في " الإصابة في تمييز الصحابة " عند ترجمة تميم بن أسد الخزاعي رضي الله عنه(1/367) .
[10] ـ أخرجه مسلم (163)
[11] ـ أخرجه البخاري (3887).
[12] ـانظر: "الفتح"(7/404)،و"فتاوي الشيخ ابن عثيمين"(1/43.
[13] ـ " المحلى" (4/243).
[14] ـ "مغني المحتاج"(6/76).
[15] ـ "تفسير الطبري"(11/39
[16] ـ "الجامع لأحكام القرآن" (8 / 104).
[17] ـ "أحكام القرآن"(3/300)
[18] ـ "أحكام القرآن"(3/301)
[19] ـ أخرجه أحمد (18910)(31/212)
[20] ـ أخرجه الفاكهي (2/106)
[21] ـ "زاد المعاد"(3/303)
[22] ـ أخرجه مسلم (121
[23] ـ أخرجه البخاري (1625)
[24] ـ أخرجه مسلم (503).
[25] ـ "مصنف عبد الرزاق" (5/27)
[26] ـ أخرجه الفاكهي (2/106)
[27] ـ أخرجه مالك (1297)(1/502)
[28] ـ "طرح التثريب" (6/53).
[29] ـ أخرجه مسلم (1396)
[30] ـ أخرجه مسلم (1397)
[31] ـ أخرجه أحمد (1449،ومالك (17، وعبد الرزاق (18110)، وعبد بن حميد (1004)، والدارمي (1921)، وابن ماجه (304، وأبوداود (1937)، وابن خزيمة (2787)، والطبراني في الأوسط (4250)، وصححه الألبااني في " صحيح وضعيف سنن أبي داود "( 2324).
[32] ـ "المحلى"(13/397 ـ 400)
[33] ـ "أحكام القرآن"(1/8
[34] ـ "أحكام القرآن"(3/300).
[35] ـ "مجموع فتاوى ومقالات الشيخ ابن باز" (3/389)
[36] ـ "مجموع فتاوى ومقالات الشيخ ابن باز" (17/19.
[37] ـ "الشرح الممتع" (6/514)
[38] ـ "روائع التفسير"(1/147).
[39] ـ "مصنف عبد الرزاق" (5/27)
[40] ـ* "مجموع قتاوى ابن باز" (17/199).
[41] ـ "الشرح الممتع" (6/514)
[42] ـ "زاد المعاد"(1/52)
[43] ـ "زاد المعاد"(1/51)
[44] ـ "إعلام الساجد" (12.
إن مكة المكرمة أفضل البقع على وجه الأرض على الإطلاق على الراجح من أقوال أهل العلم والفضل ، وقد عظّمها الله تبارك وتعالى أيّما تعظيم ، وخصّها بخصائص عديدة ،وميّزها بمميّزات جليلة، وذلك لبيان فضلها وشرفها ، وعلوّ قدرها ومنزلتها ومكانتها ،قال تعالى : { إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين } [آل عمران: ـ 9796]
وقال تعالى: {لا أقسم بهذا البلد وأنت حل بهذا البلد } [البلد: 1ـ 2]
ومكة المكرمة لم تزل حرماً من حين خلق الله السموات والأرض، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم افتتح مكة: «لا هجرة، ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم، فانفروا، فإن هذا بلد حرم[1] الله يوم خلق السموات والأرض، وهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي، ولم يحل لي إلا ساعة من نهار، فهوو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا يعضد شوكه، ولا ينفر صيده، ولا يلتقط لقطته إلا من عرفها، ولا يختلى خلاها»، قال العباس: يا رسول الله إلا الإذخر فإنه لقينهم ولبيوتهم، قال: قال: «إلا الإذخر».[2]
وهي أحبّ البلاد إلى الله ،وأحبّ البلاد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ،فعن عبد الله بن عدي الحمراء رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم واقفا على الحَزْورة فقال: والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت.[3]
وفي لفظ : " ما أطيبك من بلد وأحبك إلي ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك "[4].
وفضائل مكة المكرمة ومزاياها لا تعدّ ولا تحصى في كتاب الله ، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنزلتها ومكانتها في قلوب أهل الإسلام والإيمان تكاد تعجز عن الوصف.
وقد ثبت مضاعفة أجر وثواب الصلاة في المسجد الحرام ،فعن أبي الدرداء وجابر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : فضل الصلاة في المسجد الحرام على غيره مائة ألف صلاة ، وفي مسجدي هذا ألف صلاة وفي مسجد بيت المقدس خمسمائة صلاة[5].
وقد ورد ذكر اسم المسجد الحرام في كتاب الله تعالى في خمسة عشر موضعاً ، وقد اختلف أهل العلم في المراد به على سبعة أقوال[6]،والراجح من ذلك أن مضاعفة الصلاة تتعلق بجميع حرم مكة المكرمة ،وبه قال جمهور العلماء من الحنفية والمالكية والشافعية ، وبه قال ابن عباس ، وعطاء بن أبي رباح ،ومجاهد , وقتادة ،وابن تيمية ،وابن القيم ، وابن باز ،وشيخنا صالح الفوزان ،وعبد الله الغديان ،وصالح اللحيدان ،وغيرهم.
والذي بيّن معالم وأماكن ومواضع حدود الحرم[7] هو النبي الكريم إبراهيم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم ، وهو أمر توقيفيّ.
قال النووي رحمه الله: ذكر الأزرقي وغيره بأسانيدهم أن إبراهيم الخليل عليه السلام علمها, ونصب العلامات فيها ، وكان جبريل عليه السلام يريه مواضعها, ثم أُمر نبيناا صلى الله عليه وسلم بتجديدها ، ثم عمر ، ثم عثمان ، ثم معاوية رضي الله عنهم ، وهي إلى الآن بينة ولله الحمد.
قال الأزرقي رحمه الله في آخر كتاب "مكة ": أنصاب الحرم التي على رأس الثنية ما كان من وجوهها في هذا الشق فهو حرم , وما كان في ظهرها فهو حل قال: وبعض الأعشاش في الحل وبعضه في الحرم.[8]
وعن ابن عباس رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث تميم بن أسد الخزاعي يجدّد أنصاب الحرم، وكان إبراهيم عليه السلام وضعها ، يريها إياه جبريل عليه السلام.[9]
الأدلة على أن مضاعفة أجر الصلاة عامّة في جميع حرم مكة :
أولا : قال تعالى : {سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنآ إنه هو السميع البصير} [الإسراء: 1]
ومن المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم أسري به من بيت أم هانئ رضي الله عنها ،والبيت خارج عن المسجد الحرام ،وكل ذلك سمّاه الله تعالى حرما .
وعن أنس بن مالك رضي الله عنهما قال: كان أبو ذر يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فرج عن سقف بيتي وأنا بمكة، فنزل جبريل، ففرج صدري، ثم غسله بماء زمزم، ثم جاء بطست من ذهب ممتلئ حكمة وإيمانا، فأفرغه في صدري ثم أطبقه، ثم أخذ بيدي فعرج بي الى السماء الدنيا. فلما جئت الى السماء الدنيا قال جبريل لخازن السماء: افتح. قال: من هذا؟ قال: هذا جبريل. قال: هل معك احد؟ قال: نعم، معي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم. فقال: أرسل اليه؟ قال: نعم. فلما فتح علونا السماء الدنيا، فإذا رجل قاعد، على يمينه أسودة وعلى يساره أسودة؛ إذا نظر قبل يمينه ضحك، وإذا نظر قبل يساره بكى، فقال: مرحبا بالنبي الصالح والابن الصالح. قلت لجبريل: من هذا؟ قال: هذا آدم، وهذه الأسودة عن يمينه وشماله نسم بينه، فأهل اليمين منهم أهل الجنة، والأسودة التي عن شماله أهل النار فإذا نظر عن يمينه ضحك، وإذا نظر قبل شماله بكى ،حتى عرج بي الى السماء الثانية، فقال لخازنها: افتح ، فقال له خازنها مثل ما قال الأول، ففتح".[10]
وقد ثبت أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم أسري به من مسجد الكعبة عند الحطيم ، كما ورد من حديث عن مالك بن صعصعة رضي الله عنهما، أن نبي الله صلى الله عليه وسلم حدثهم عن ليلة أسري به: " بينما أنا في الحطيم، - وربما قال: في الحجر - مضطجعا إذ أتاني آت....الحديث.[11]
ويمكن الجمع بينهما كما أفاده العلماء وهو : أنه عليه الصلاة والسلام كان نائما في بيت أم هانئ رضي الله عنها ، وبيتها حينئذ كان في شعب أبي طالب، ففرج سقف بيته صلى الله عليه وسلم ن فنزل جبريل عليه الصلاة والسلام فأخرجه من البيت إلى المسجد ، فكان به مضطجعا وبه أثر النعاس، ثم أخرجه الملك الى باب المسجد، فأركبه البراق.[12]
جاء في "الموسوعة الفقهية (27/239) : " ذهب الحنفية في المشهور والمالكية والشافعية إلى أن المضاعفة تعم جميع حرم مكة ، فقد ورد من حديث عطاء بن أبي رباح قال : بينما ابن الزبير يخطبنا إذ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام ، وصلاة في المسجد الحرام تفضل بمائة ، قال عطاء : فكأنه مائة ألف ، قال : قلت : يا أبا محمد ، هذا الفضل الذي يذكر في المسجد الحرام وحده أو في الحرم ؟ قال : بل في الحرم ، فإن الحرم كله مسجد .....اهـ
ثانيا :
قال تعالى : {إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا} [التوبة:28]
فهذه الآية أيضا من أصرح ما يكون في الدّلالة على أن المقصود بالمسجد الحرام هو الحرم كلّه وليس المسجد فقط، بل نقل أبو محمد ابن حزم رحمه الله أنه لا خلاف بين أهل العلم في ذلك.[13]
وقد نقل الشربيني إجماع المفسرين على ذلك.[14]
قال عطاء بن أبي رباح رحمه الله : " الحرم كله قبلة ومسجد، قال: {فلا يقربوا المسجد الحرام} [التوبة: 28] لم يعن المسجد وحده، إنما عنى مكة والحرم. قال ذلك غير مرة.[15]
قال القرطبي رحمه الله : يحرم تمكين المشرك من دخول الحرم أجمع، فإذا جاء رسول منهم خرج الإمام إلى الحل ليسمع ما يقول ، ولو دخل مشرك الحرم مستوراً ومات نبش قبره وأخرجت عظامه.[16
ثالثا :
قال تعالى : {فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا } [آل عمران: 97]
هذه الآية الكريمة تبيّن أنه إذا دخل الخائف حدود الحرم يأمن من كل سوء وشرّ، ويجب أن يعطى الأمان، وهذا كان معروفا مشهورا حتى قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم-أي: في الأيام الجاهلية-، كما قال الحسن البصري رحمه الله : “كان الرجل يقتل فيضع في عنقه صوفة ويدخل الحرم، فيلقاه ابن المقتول فلا يهيجه حتى يخرج.
وقد امتنّ الله تبارك وتعالى بهذه المنّة والمزيّة العظيمة ، وهذه الميزة الجليلة على أهل الحرم دون غيرهم ، حيث قال جلّ وعزّ : {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ الناس مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت: 67]
رابعا :
قال تعالى : {إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم} [التوبة: 7]
ومن المعلوم أن المعاهدة التي كانت بين النبي صلى الله عليه وسلم وكفار قريش لم تكن في مسجد الكعبة ، وإنما كانت بموضع يعرف بالحديبية ،وهو معروف معلوم على حدود الحرم ، بل بعضه في الحلّ وبعضه في الحرم كما في حديث المسور بن مخرمة رضي الله عنه.
خامسا :
قال الله تعالى : {يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله} [البقرة: 217]
قال الجصاص رحمه الله : والمراد إخراج المسلمين من مكة حين هاجروا إلى المدينة، فجعل المسجد الحرام عبارة عن الحرم. ويدل على أن المراد جميع الحرم كله قوله تعالى: {ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم} والمراد به من انتهك حرمة الحرم بالظلم فيه.[17]
سادسا :
قال الله تعالى : { ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم} [الحج:25].
قال الجصاص رحمه الله : فإن الإلحاد هو الميل عن الحق إلى الباطل، وإنما سمي اللحد في القبر; لأنه مائل إلى شق القبر قال الله تعالى: {وذروا الذين يلحدون في أسمائه} [الأعراف: 180] وقال: {لسان الذي يلحدون إليه أعجمي} [النحل: 103] أي لسان الذي يومئون إليه. و "الباء" في قوله: {بإلحاد} زائدة، كقوله: {تنبت بالدهن} [المؤمنون: 20] أي تنبت الدهن، وقوله تعالى: {فبما رحمة من الله لنت لهم} [آل عمران: 159] . وروي عن ابن عمر أنه قال "ظلم الخادم فما فوقه بمكة إلحاد". وقال عمر "احتكار الطعام بمكة إلحاد". وقال غيره: "الإلحاد بمكة الذنوب". وقال الحسن: "أراد بالإلحاد الإشراك بالله".
الإلحاد مذموم; لأنه اسم للميل عن الحق ولا يطلق في الميل عن الباطل إلى الحق، فالإلحاد اسم مذموم، وخص الله تعالى الحرم بالوعيد في الملحد فيه تعظيما لحرمته. ولم يختلف المتأوّلون للآية أن الوعيد في الإلحاد مراد به من ألحد في الحرم كله وأنه غير مخصوص به المسجد، وفي ذلك دليل على أن قوله: {والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد} قد أريد به الحرم; لأن قوله: {ومن يرد فيه بإلحاد} هذه الهاء كناية عن الحرم وليس للحرم ذكر متقدم إلا قوله: {والمسجد الحرام} فثبت أن المراد بالمسجد ههنا الحرم كله. وقد روى عمارة بن ثوبان قال: أخبرني موسى بن زياد قال: سمعت يعلى بن أمية قال: قال رسول الله "احتكار الطعام بمكة إلحاد". وروى عثمان بن الأسود عن مجاهد قال: "بيع الطعام بمكة إلحاد، وليس الجالب كالمقيم". وليس يمتنع أن يكون جميع الذنوب مرادا بقوله: {بإلحاد بظلم} فيكون الاحتكار من ذلك وكذلك الظلم والشرك، وهذا يدل على أن الذنب في الحرم أعظم منه في غيره. ويشبه أن يكون من كره الجوار بمكة ذهب إلى أنه لما كانت الذنوب بها تتضاعف عقوبتها آثروا السلامة في ترك الجوار بها مخافة مواقعة الذنوب التي تتضاعف عقوبتها. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يلحد بمكة رجل عليه مثل نصف عذاب أهل الأرض". وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أعتى الناس على الله رجل قتل في الحرم ورجل قتل غير قاتله ورجل قتل بذحول الجاهلية".[18]
سابعا :
عن المسور بن مخرمة، ومروان بن الحكم، قالا: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية يريد زيارة البيت، لا يريد قتالا، وساق معه الهدي سبعين بدنة، وكان الناس سبع مائة رجل، فكانت كل بدنة عن عشرة......،وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في الحرم وهو مضطرب في الحل.[19]
وهذا من أصرح الأدلّة على أن مضاعفة أجر الصلاة تتعلّق بجميع الحرم وليست خاصة بمسجد الكعبة.
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : الحرم كلّه هو المسجد الحرام.[20]
قال ابن القيم رحمه الله: وفي هذا كالدلالة على أن مضاعفة الصلاة بمكّة تتعلّق بجميع الحرم ، لا يخصّ بها المسجد الذي هو مكان الطواف ، وأن قوله :صلاة فيالمسجد الحرام أفضل من مائة صلاة في مسجدي ، كقوله تعالى :(فلا يقربوا المسجد الحرام) [ التوبة : 28 ] وقوله تعالى : (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام) [ الإسراء : 1 ] وكان الإسراء من بيت أم هانئ.[21]
ثامنا:
حديث جابر رضي الله عنه الطويل المشهور في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم الذي جعله بعض أهل العلم أصلا وعمدة في صفة حجته صلى الله عليه وسلم ؛ لأن جابرا رضي الله عنه ذكره ووصفه بشيء من التفصيل والبيان والإيضاح مالم يصفه غيره.
فذكر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم بعدما أكمل نسك العمرة نزل بالأبطح وهو مكان معروف شرقي مكة ، ثم لما كان يوم الثامن من ذي الحجة دفع إلى منى.[22]
وقد بوّب الإمام محمد بن إسماعيل البخاري في "صحيحه" بابا فقال : " باب من لم يقرب الكعبة ، ولم يطف حتى يخرج إلى عرفة ويرجع بعد الطواف الأول ".
ثم ذكر بإسناده إلى عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال : قدم النبي صلى الله عليه وسلم مكة فطاف سبعا ، وسعى بين الصفا والمروة ، ولم يقرب الكعبة بعد طوافه بها حتى رجع من عرفة.[23]
وعن عون بن أبي جحيفة، عن أبيه، قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بمكة وهو بالأبطح في قبة له حمراء من أدم...[24]
الشاهد : هو أن النبي صلى الله عليه وسلم بعدما انتهى من نسك العمرة ذهب إلى الأبطح وهو مكان معروف مشهور شرقي مكة قريب من منى ونزل به ، وضربت له قبة حمراء وجلس في ذلكم المكان ليالي وأياما، من يوم الأحد من رابع ذي الحجة إلى صبيحة يوم الخميس الثامن ذي الحجة بعدما صلى الفجر ،وانتظر طلوع الشمس قدر رمح دفع بعدها إلى منى .
فيتبيّن من فعله صلى الله عليه وسلم أن حدود الحرم كله محلّ مضاعفة أجرالصلاة ، وإلا كيف يعدل عن الفاضل ويفعل المفضول ، وهي الصلاة بالأبطح وترك الصلاة بمسجد الكعبة ،والمسافة بين الأبطح وبين مسجد الكعبة مسافة يسيرة ،وهو من هو بأبي وأمي صلى الله عليه وسلم ، فهو معلّم البشرية جمعاء ، ومن أحرص الناس على الخير ، ومن أسرعهم مسابقة في النيل أعلى الدرجات ، وأكمل الفضائل والمزيّات، قال تعالى : {سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم} [الحديد: 21]، وقال تعالى : { وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين } [آل عمران: 133]
تاسعا :
عن مجاهد قال : رأيت عبد الله بن عمرو بن العاص بعرفة، ومنزله في الحل، ومصلاه في الحرم، فقيل له: لم تفعل هذا؟ فقال: «لأن العمل فيه أفضل، والخطيئة أعظم فيه».[25]
وعن ابن عباس رضي الله عنه : الحرم كلّه هو المسجد الحرام.[26]
وعن حميد بن عبد الرحمن بن عوف، أن عبد الرحمن بن عبد القاري أخبره: أنه طاف مع عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بعد صلاة الصبح بالكعبة، فلما قضى عمر طوافه، نظر فلم ير الشمس، فركب حتى أناخ بذي طوى، فسبح ركعتين.[27]
وذو طوى ليست من المسجد وإنما تقع داخل حدود الحرم تحديدا بمنطقة جرول, وهو يدل على أنه كان من المتقرّر عندهم فضيلة الصلاة في الحرم كلّه .
قـال العلامة ولي الدين العراقي رحمه الله : ولا يختص التضعيف بالمسجد الذي كان في زمنه بل يشمل جميع ما زيد فيه بل المشهور عند أصحابنا أنه يـعم جميع مكـة بل جميع حرمها الذي يحرم صيده كما صححه النووي.[28]
ففهم الصحابة رضي الله عنهم مقدّم على فهم كلّ أحد ، وطريقتهم مقدّمة على طريقة كل أحد ، ومسلكهم مقدّم على مسلك كل أحد.
تنبيه :
وذهب بعض أهل العلم إلى أن مضاعفة أجر الصلاة خاص بمسجد الكعبة وهو قول مرجوح لا راجحا ، واستدلوا بعدّة أدلّة من أقواها ما ثبت عن ابن عباس، أنه قال: إن امرأة اشتكت شكوى، فقالت: إن شفاني الله لأخرجن فلأصلين في بيت المقدس، فبرأت، ثم تجهزت تريد الخروج، فجاءت ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم تسلم عليها، فأخبرتها ذلك، فقالت: اجلسي فكلي ما صنعت، وصلي في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم. فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: «صلاة فيه أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد، إلا مسجد الكعبة»[29]
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إنما يسافر إلى ثلاثة مساجد: مسجد الكعبة، ومسجدي، ومسجد إيلياء "[30]
فذكروا أن الروايات التي مفادها حصول أجرالصلاة *بالمسجد الحرام ، جاءت روايات أخرى ،وألفاظ مقيّدة ومخصّصة ما أطلق وعمّم ،وذلك في تخصيص الأجر بمسجد الكعبة لا كلّ الحرم.
والجواب على ذلك باختصار شديد :
1 ـ وهو أن هذا التخصيص والتقييد من باب التشريف والتعظيم ،كإضافة البيت لله ، وهكذا الناقة ونحو ذلك ، كما قال تعالى : {فقال لهم رسول الله ناقة الله وسقياها} [الشمس: 13]، وكما في قوله :{قد جاءتكم بينة من ربكم هذه ناقة الله لكم آية} [الأعراف: 73]، وكم في قوله : {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [ص: 72]، وقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} [النساء: 171]،وكما في قولِه سُبحانه: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ} [الحج: 26].
2 ـ فقد ذكر الله تبارك وتعالى أن المحرم إذا أحرم وهو يريد الحج أو العمرة ، فلا يجوز له أن يصيد الصيد، أو يدل عليه ، فإذا قتل الصيد عامدا متعمّدا فعليه الكفارة في حقّه –على تفصيل في ذلك كما هو مبسوط ومبثوث في كتب الفقه-، كما قال تعالى : {يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرمم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما ليذوق وبالل أمره عفا الله عما سلف ومن عاد فينتقم الله منه والله عزيز ذو انتقام} [المائدة:95].
والمقصود من هذه الآية الكريمة أن هذا الهدي يجب أن يذبح في الحرم المكي لا المقصود منه مسجد الكعبة ،
ونظائر ذكر كثيرة منها ،قوله تعالى : {لكم فيها منافع إلى أجل مسمى ثم محلها إلى البيت العتيق} [الحج:33].
فعن جابر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : منى كلها منحر ، وكل فجاج مكّة طريق ومنحر.[31]
قال ابن حزم رحمه الله : فبطل أن يكون الله تعالى أراد الكعبة فقط، لأنه لو كان ذلك لكان لا يسقط الهدى إلا عمن أهله في الكعبة ،وهذا معدوم وغير موجود، وبطل أن يكون جزوجل أراد ما أحاطت به جدران المسجد الحرام فقط ،لأن المسجد الحرام قد زيد فيه مرة بعد مرة ،فكان يكون هذا الحكم ينتقل ولا يثبت، وأيضا فكان لا يكون هذا الحكم إلا لمن أهله في المسجد الحرام، وهذا معدوم غير موجود، فإذا قد بطل هذان الوجهان فقد صح الثالث ،إذ لم يبق غيره.
وأيضا: فانه إذا كان اسم المسجد الحرام يقع على الحرم كله فغير جائز أن يخص بهذا الحكم بعض ما يقع عليه هذا الاسم دون سائر ما يقع عليه بلا برهان.
وأيضا: فإن الله تعالى قد بيّن علينا فقال: (يريد الله ليبين لكم).
فلو أراد الله تعالى بعض ما يقع عليه اسم المسجد الحرام دون بعض ،لما أهمل ذلك ولبينه، أو لكان الله تعالى معنتا لنا غير مبين علينا ما ألزمنا ، ومعاذ الله من أن يظن هذا مسلم، فصحّ إذ لم يبيّن الله تعالى أنه أراد بعض ما يقع عليه اسم المسجد الحرام دون بعض، فلا شك في انه تعالى أراد كل ما يقع عليه اسم المسجد الحرام.
وأيضا فإن الله تعالى يقول: (انما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا)، فلم يختلفوا في أنه تعالى أراد الحرم كلّه، فلا يجوز تخصيص ذلك بالدعوى، وصحّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من طريق أبى هريرة، وجابر، وحذيفة : "جعلت لى الارض مسجدا وطهورا" ،
فصحّ أن الحرم مسجد لأنه من الأرض فهو كله مسجد حرام فهو المسجد الحرام بلا شك، والحاضرون هم القاطنون غير الخارجين، فصح أن من كان أهله حاضري المسجد الحرام هم من كان أهله قاطنين في الحرم.
فإن قيل: فإن من سكن خارجا منه بقربه هم حاضروه ؟ قلنا: هذا خطأ، وبرهان فساد هذا القول، أننا نسألكم عن تحديد ذلك القرب الذى يكون من هو فيه حاضرا مما يكون من هو فيه غير حاضر ؟، وهذا لا سبيل إلى تفصيله الا بدعوى كاذبة، لأن الأرض كلها خط بعد خط إلى منقطعها.[32]
وقال الجصاص رحمه الله : والمراد جميع الحرم كما قال الله تعالى: {هديا بالغ الكعبة} [المائدة: 95] والمراد الحرم لا الكعبة نفسها; لأنه لا يذبح في الكعبة ولا في المسجد.[33]
الشاهد : الذي خص مضاعفة الصلاة بمسجد الكعبة لزمه أن يخص الذبح أو النحر عند مسجد الكعبة لأن جاء التخصيص والتقييد بذلك ، وحينئذ يتبيّن قوة قول جمهور العلماء أن هذه الإضافة من باب التشريف والتعظيم ، خاصة وهوالذي فهمه بعض الصحابة رضي الله عنهم في أنهم كانوا يتحرّون الصلاة داخل حدود الحرم ،فإذا أتموا صلاتهم خرجوا إلى الحلّ وذلك مهابة منهم أن يقترفوا جرما وخطايا داخل حدود الحرم.
وما أحسن ما قاله أبو بكرالجصاص رحمه الله بقوله : لم يتأوّل هؤلاء السلف المسجد الحرام على الحرم كله إلا والاسم شامل له من طريق الشرع، إذ غير جائز أن يتأول الآية على معنى لا يحتمله اللفظ، وفي ذلك دليل على أنهم قد علموا وقوع اسم المسجد على الحرم من طريق التوقيف.[34]
هل تكون المضاعفة في الأعمال الصالحة في الحرم المكيّ كالصلاة بمائة ألف :
اختلف العلماء هل مضاعفة الأجر خاص بالصلاة أو يشمل جميع الأعمال الصالحة كالصوم والصدقة والتسبيح ؟؟ على قولين مشهورين ، وهو القول الأقرب للصواب والله أعلم أن الأدلة الصحيحة الصريحة في التضعيف مختصة بالصلاة لا غير ،والقول بمضاعفة سائر الطاعات، وباقي القربات التي يتقرّب بها المسلم إلى الله تعالى يحتاج إلى دليل ثابت وليس ثمة دليل صحيح يعوّل عله ،وبه قال جمهور العلماء.
والنصوص الواردة في مضاعفة الصوم ، والصدقة وسائر القربات غير الصلاة في الحرم المكيّ كلّها ضعيفة لا تثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن تبقى الأعمال الصالحة في الحرم لها شأن عظيم ومزية عن غيرها من الأماكن والمناطق والبلدان وذلك لفضيلة الحرم على الحلّ.
قال الشيخ ابن باز رحمه الله : الأدلة الشرعية على أن الحسنات تضاعف في الزمان الفاضل والمكان الفاضل، مثل رمضان وعشر ذي الحجة، والمكان الفاضل كالحرمين، فإن الحسنات تضاعف في مكة والمدينة مضاعفة كبيرة، وقد جاء في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:* صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة في ما سواه إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة صلاة في مسجدي هذا*". رواه أحمد وابن حبان بإسناد صحيح.
فدلّ ذلك على أن الصلاة بالمسجد الحرام تضاعف بمائة ألف صلاة في سوى المسجد النبوي، وتضاعف بمائة صلاة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وبقية الأعمال الصالحة تضاعف، ولكن لم يرد فيها حد محدود إنما جاء الحد والبيان في الصلاة، أما بقية الأعمال كالصوم والأذكار وقراءة القرآن والصدقات فلا أعلم فيها نصاً ثابتاً يدل على تضعيف محدد، وإنما فيها في الجملة ما يدل على مضاعفة الأجر وليس فيها حد محدود.
والحديث الذي فيه: من صام في مكة كتب الله له مائة ألف رمضان حديث ضعيف عند أهل العلم .
والحاصل أن المضاعفة في الحرم الشريف بمكة المكرمة لا شك فيها - أعني مضاعفة الحسنات - لكن ليس في النص فيما نعلم حد محدود ما عدا الصلاة فإن فيها نصاً يدل على أنها مضاعفة بمائة ألف صلاة كما سبق.[35]
وقال رحمه الله : وبقية الأعمال الصالحة تضاعف – أي في الحرم – ولكن لم يرد فيها حد محدود، إنما جاء الحد والبيان في الصلاة، أما بقية الأعمال الصالحة كالصوم والأذكار وقراءة القرآن والصدقات فلا أعلم. فيها نصاً ثابتاً يدل على تضعيف محدد.[36]
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى: فإن قال قائل: وهل تضاعف بقية الأعمال الصالحة هذا التضعيف؟
فالجواب: أن تضعيف الأعمال بعدد معين توقيفي، يحتاج إلى دليل خاص، ولا مجال للقياس فيه، فإن قام دليل صحيح في تضعيف بقية الأعمال أخذ به، ولكن لا ريب أن للمكان الفاضل، والزمان أثراً في تضعيف الثواب، كما قال العلماء ـ رحمهم الله ـ: إن الحسنات تضاعف في الزمان، والمكان الفاضل، لكن تخصيص التضعيف بقدر معين، يحتاج إلى دليل خاص[37].
هل تضاعف السيئة في الحرم المكيّ :
اختلف أهل العلم في مضاعفة السيّئات في مكة من عدمها ، والراجح من ذلك أنها تضعّف من ناحية الكيف لا الكم ، وتغلّظ وتعظّم لحرمة مكة المكرمة، وبه قال جمهور العلماء.
قال ابن رجب رحمه الله : وكان جماعة من الصحابة يتقون سكنى الحرم، خشية ارتكاب الذنوب
فيه: منهم ابن عباس، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وكذلك كان عمر بن عبد العزيز يفعل، وكان عبد الله بن عمرو بن العاص يقول: الخطيئة فيه أعظم.
وروي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: لأن أخطى سبعين خطيئة - يعني بغير مكة - أحب إلي من أن أخطئ خطيئة واحدة بمكة.[38]
فعن مجاهد قال : رأيت عبد الله بن عمرو بن العاص بعرفة، ومنزله في الحل، ومصلاه في الحرم، فقيل له: لم تفعل هذا؟ فقال: «لأن العمل فيه أفضل، والخطيئة أعظم فيه».[39]
قال ابن باز رحمه الله: ومما يدل على شدة الوعيد في سيئات الحرم وأن سيئة الحرم عظيمة وشديدة: يقول الله تعالى: (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) [الحج: من الآية25], فهذا يدل على أن السيئة في الحرم عظيمة, حتى إن في الهم بالسيئة فيه هذا الوعيد. وإذا كان من همَّ بالإلحاد في الحرم متوعداً بالعذاب الأليم فكيف بحال من فعل في الحرم الإلحاد بالسيئات والمنكرات؛ فإن إثمه يكون أكبر من مجرد الهم, وهذا كله يدلنا على أن السيئة في الحرم لها شأن خطير.[40]
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله : فإن قال قائل: وهل تضاعف السيئات في الأمكنة الفاضلة والأزمنة الفاضلة؟
فالجواب: أما في الكمية فلا تضاعف لقوله تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ *} [الأنعام: 160] وهذه الآية مكية لأنها من سورة الأنعام، وكلها مكية لكن قد تضاعف السيئة في مكة من حيث الكيفية لقوله تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25].[41]
فالسيئة في الأشهر الحرم ليست كغيرها من الأشهر، وهكذا السيئة بمكة تكون أشدّ جرما وأعظم قبحا، وهكذا التقرّب إلى الله في العشر الأواخر من ليالي رمضان بمكة ليست كالقرب في غيرها من الليالي ، وهكذا في الأيام العشر من شهر الله المحرّم ، ليست كغيرها من الأيام وهكذا .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : المعاصي في الأيام المعظمة والأمكنة المعظمة تُغلظ معصيتها وعقابها بقدر فضيلة الزمان والمكان.
وفصلّ تلميذه ابن القيم رحمه الله تفصيلا جميلا حيث قال : ومن هذا تُضاعف مقادير السيئات فيه ،-أي: في الحرم- لا كمياتها؛ فإن السيئة جزاؤها سيئة, لكن سيئة كبيرة وجزاؤها مثلها, وصغيرة جزاؤها مثلها؛ فالسيئة في حرم الله وبلده وعلى بساطه آكد وأعظم منها في طرف من أطراف الأرض؛ ولهذا ليس من عصى الملك على بساط ملكه كمن عصاه في الموضع البعيد من داره وبساطه؛ فهذا فصل النزاع في تضعيف السيئات, والله أعلم.[42]
وقال رحمه الله : ومن خواصه –أي: الحرم- أنه يُعاقَب فيه على الهم بالسيئات وإن لم يفعلها, قال تعالى: (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ)[الحج: من الآية25]. فتأمل كيف عدَّى فعل الإرادة هاهنا بالباء, ولا يُقال: (أردت بكذا) إلا لما ضُمِّن معنى الفعل (هم)؛ فإنه يقال: هممت بكذا. فتوعد من هم بأن يظلم فيه بأن يذيقه العذاب الأليم.[43]
فهذا أظهر الأقوال في الآية، وأما قول من قال: إن الإرادة في الآية بمعنى العمل فلا يخفى ما فيه من البعد ومخالفة الظاهر.
وكذلك حمل الإرادة على العزم المصمم) ففيه نظر؛ فإن بين الهم والعزم فرقا؛ ثم إن العزم مما يعاقب به في سائر البقاع، في مكة وغيرها، والآية –مع تفسير ابن مسعود لها- ذات دلالة ظاهرة على أن الحرم له شأن خاص ليس كغيره، والله تعالى أعلم.
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال في قوله تعالى: {إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم} قال: لو أن رجلا هم فيه بإلحاد وهو بعدن أبين لأذاقه الله - عز وجل - عذابا أليما.
وقد وضّح الزركشي ثمرة الخلاف حيث قال رحمه الله: فإن قيل: فيرجع النزاع أيضاً, وأي فرق بين أن تكون السيئة المعظَّمة بمائة ألف سيئة وهي واحدة, وبين أن تكون بمائة ألف سيئة عدداً ؟ فالجواب: أنه قد جاء أن من زادت حسناته على سيئاته في العدد دخل الجنة, ومن زادت سيئاته على حسناته في العدد دخل النار, ومن استوت حسناته وسيئاته عدداً كان من أهل الأعراف؛ فلا يبعد أن يكون في الغلظ من غير تعدد معنى من عدم الزيادة العددية المرجحة بسبب فضل السيئات في الحرم في الحالة التي لولا هذا التأويل لرجح جانب السيئة, أو معنى غيره يحصل به.[44]
ومن عنده إشادة ،أوإفادة ،أو تعقيب فلا يبخل به علينا لتعمّ الفائدة.
هذا وصلى الله على نبيّنا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم.
كتبه : عبد الحميد الهضابي.
27 / 07 / 1438
مكة المكرمة.
الحواشي :
[1] ـ تحريم مكة أشد من تحريم المدينة ، قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :" المدينة محرمة ، ولها حرم ، لكن حرمها دون حرم مكة بكثير، حرم مكة لا يمكن يأتيه أحد من المسلمين ، لم يأته أول مرة ، إلا محرما يجب عليه أن يحرم , والمدينة ليست كذلك .
ـ حرم مكة يحرم حشيشه وشجره مطلقا, وأما حرم المدينة فرخص في بعض شجره للحرث ونحوه .
صيد مكة حرام وفيه الجزاء, وصيد المدينة ليس فيه جزاء .
المهم أن أعظم مكان آمن هو مكة , حتى الأشجار آمنة فيه , وحتى الصيود آمنة فيه "اهـ "لقاء الباب المفتوح" (103 /2).
[2] ـ أخرجه البخاري (1834).
[3] ـ أخرجه أحمد (18715)،وابن أبي شيبة في "مصنفه"(67،وعبد بن حميد في "منتخبه"( 491)،
[4] وابن ماجه (310،والترمذي (3925)، وصححه الألباني في "صحيح وضعيف سنن ابن ماجه" (310
[5] ـ أخرجه البيهقي في السنن الصغرى رقم ( 1821 ) 2 / 31 ، وفى شعب الإيمان رقم ( 4140 ) 3 / 485 ، وابن عبد البر في التمهيد 6 / 30 ، وصححه الألباني في صحيح الجامع ( 4211 ) ، وفي إرواء الغليل رقم ( 1129 ) .
[6] ـ قال الزركشي : يتحصل في المراد بالمسجد الحرام الذي تضاعف فيه الصلاة سبعة أقوال .
الأول :أنه المكان الذي يحرم على الجنب الإقامة فيه .
الثاني :أنه مكة .
الثالث :أنه الحرم كله إلى الحدود الفارقة بين الحل والحرم ، قاله عطاء وقد سبق مثله عن* الماوردي وغيره ، وقال الروياني : فضل الحرم على سائر البقاع فرخص في الصلاة فيه في جميع الأوقات لفضيلة البقعة وحيازة الثواب المضاعف.
الرابع : أنه الكعبة ، قال الزركشي وهو أبعدها .
الخامس :أنه الكعبة والمسجد حولها ، وهو الذي قاله النووي في استقبال القبلة .
السادس :أنه جميع الحرم وعرفة ، قاله ابن حزم .
السابع :أنه الكعبة وما في الحجر من البيت ، وهو قول صاحب البيان من أصحاب الشافعية. "إعلام الساجد" (120 - 121 .)*
[7] ـ وحدود الحرم معروفة نظم بعضهم مسافتها بالأميال في قوله: كما في "نهاية المحتاج"(3/3357) *:
وللحرم التحديد من أرض طيبة ... ثلاثة أميال إذا رمت إتقانه
وسبعة أميال عراق وطائف ... وجدة عشر ثم تسع جعرانه
ومن يمن سبع بتقديم سينه ... وقد كملت فاشكر لربك إحسانه.
[8] ـ "شرح المهذب"(7/463) .
[9] ـ رواه أبو نعيم في "معرفة الصحابة" (1/452) وحسن إسناده الحافظ ابن حجر رحمه الله في " الإصابة في تمييز الصحابة " عند ترجمة تميم بن أسد الخزاعي رضي الله عنه(1/367) .
[10] ـ أخرجه مسلم (163)
[11] ـ أخرجه البخاري (3887).
[12] ـانظر: "الفتح"(7/404)،و"فتاوي الشيخ ابن عثيمين"(1/43.
[13] ـ " المحلى" (4/243).
[14] ـ "مغني المحتاج"(6/76).
[15] ـ "تفسير الطبري"(11/39
[16] ـ "الجامع لأحكام القرآن" (8 / 104).
[17] ـ "أحكام القرآن"(3/300)
[18] ـ "أحكام القرآن"(3/301)
[19] ـ أخرجه أحمد (18910)(31/212)
[20] ـ أخرجه الفاكهي (2/106)
[21] ـ "زاد المعاد"(3/303)
[22] ـ أخرجه مسلم (121
[23] ـ أخرجه البخاري (1625)
[24] ـ أخرجه مسلم (503).
[25] ـ "مصنف عبد الرزاق" (5/27)
[26] ـ أخرجه الفاكهي (2/106)
[27] ـ أخرجه مالك (1297)(1/502)
[28] ـ "طرح التثريب" (6/53).
[29] ـ أخرجه مسلم (1396)
[30] ـ أخرجه مسلم (1397)
[31] ـ أخرجه أحمد (1449،ومالك (17، وعبد الرزاق (18110)، وعبد بن حميد (1004)، والدارمي (1921)، وابن ماجه (304، وأبوداود (1937)، وابن خزيمة (2787)، والطبراني في الأوسط (4250)، وصححه الألبااني في " صحيح وضعيف سنن أبي داود "( 2324).
[32] ـ "المحلى"(13/397 ـ 400)
[33] ـ "أحكام القرآن"(1/8
[34] ـ "أحكام القرآن"(3/300).
[35] ـ "مجموع فتاوى ومقالات الشيخ ابن باز" (3/389)
[36] ـ "مجموع فتاوى ومقالات الشيخ ابن باز" (17/19.
[37] ـ "الشرح الممتع" (6/514)
[38] ـ "روائع التفسير"(1/147).
[39] ـ "مصنف عبد الرزاق" (5/27)
[40] ـ* "مجموع قتاوى ابن باز" (17/199).
[41] ـ "الشرح الممتع" (6/514)
[42] ـ "زاد المعاد"(1/52)
[43] ـ "زاد المعاد"(1/51)
[44] ـ "إعلام الساجد" (12.