الفتوى رقم: ٧١١
الصنف: فتاوى الطهارة - الوضوء
في مشروعية الوضوء للمعذور بعد رفعِ الحدث بالتيمُّم
السؤال:
إذا تَيمَّمَ المكلَّفُ للجنابة لعُذْرٍ مُبِيحٍ، ثمَّ أَحْدَثَ وقَدَرَ على الوضوء دون الغُسْل: فهل يكتفي بالوضوء باعتباره الأصلَ ـ بحُجَّةِ أنَّ التيمُّمَ قام مَقامَ الغُسْلِ ولا ينقضه إلَّا ناقضُ الغُسْل ـ أم يَصيرُ إلى البدلِ فيُعيدُ التيمُّمَ كُلَّما أَحْدَثَ أو أراد الصلاةَ؟ وجزاكم الله خيرًا.
الجواب:
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلام على مَنْ أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
فهذه المسألةُ، ومِثْلُها ما إذا تَيمَّمَ ولَبِسَ الخُفَّين: فهل يجوز المسحُ عليهما في الوضوء بعد ذلك؟ ومِثْلُها ـ أيضًا ـ ما إذا طَهُرَتِ الحائضُ وصَلَّتْ بالتيمُّمِ للعذر المُبيح: فهل يجوز وَطْؤُها قبل الاغتسال أم لا يجوز؟ كُلُّها مبنيَّةٌ على مسألةِ: «هل يرفع التيمُّمُ الحدثَ أم لا؟».
ويتفرَّعُ عن القول بعدم ارتفاع الحدث بالتيمُّم عدمُ صِحَّةِ الوضوء والمسحِ على الخُفَّين، وعدَمُ جوازِ الوطء قبل الاغتسال، وإنَّما على المتيمِّم أَنْ ينويَ استباحةَ ما لا يُباحُ إلَّا بالطهارة، وما يُقابِلُه يُعاكِسُه في الحكم.
ولعلَّ أقربَ مذهبٍ إلى الصواب الذي تَنتظِمُ فيه الأدلَّةُ ويَندفِعُ به التناقضُ يتمثَّل في أنَّ التيمُّمَ يرفع الحدثَ رفعًا مؤقَّتًا، وبه قال الصنعانيُّ واختاره الشنقيطيُّ؛ للإجماع الحاصل على أنَّ الصلاة تصحُّ بالتيمُّم كما تصحُّ بالماء؛ فيَستلزِمُ ارتفاعَ صفة الحدث عنه باللزوم الشرعيِّ، وقد أطلق الشرعُ على التيمُّمِ اسْمَ «الطَّهورِ» و«الوَضوءِ»، في قوله تعالى: ﴿فَٱمۡسَحُواْ بِوُجُوهِكُمۡ وَأَيۡدِيكُم مِّنۡهُۚ مَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيَجۡعَلَ عَلَيۡكُم مِّنۡ حَرَجٖ وَلَٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمۡ﴾ [المائدة: ٦]، وقولِه صلَّى الله عليه وسلَّم: «جُعِلَتْ لِيَ الأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا»(١)، وقولِه صلَّى الله عليه وسلَّم: «إِنَّ الصَّعِيدَ الطَّيِّبَ وَضُوءُ المُسْلِمِ»(٢)، وقولِه صلَّى الله عليه وسلَّم: «إِنَّ الصَّعِيدَ الطَّيِّبَ طَهُورُ المُسْلِمِ»(٣)؛ فجَعَله الشرعُ بدلًا مِنَ الماء فيأخذُ حُكْمَه، هذا مِنْ جهةٍ، وللإجماعِ الحاصلِ ـ مِنْ جهةٍ أخرى ـ على وجوب الاغتسال أو الوضوء بعد زوال العذر، وهذا يدلُّ على أنَّ الحدث بَقِيَ مُطلقًا لم يرتفع كُلِّيَّةً؛ فيَتعيَّنُ ـ حالتَئذٍ ـ الارتفاعُ المؤقَّتُ.
ولازمُ هذا المذهبِ يقضي أنَّ المُتيمِّمَ مِنَ الجنابة ـ إِنْ قَدَرَ على الوضوء بعد حدَثِه ـ له أَنْ يتوضَّأ كالطاهر، ما دام العذرُ الذي أُبيحَ ـ مِنْ أَجْله ـ التيمُّمُ لا يزال قائمًا، وكذلك يجوز المسحُ على الخُفَّين في الوضوء بعد تيمُّمه ولُبْسِهما، كما يجوز وطءُ الحائض إذا طَهُرَتْ وصَلَّتْ بالتيمُّم للعذر قبل الاغتسال.
أمَّا الاستدلالُ بقوله صلَّى الله عليه وسلَّم لعمرو بنِ العاص رضي الله عنه: «صَلَّيْتَ بِأَصْحَابِكَ وَأَنْتَ جُنُبٌ؟!»(٤) على إثباتِ بقاءِ جنابته بعد التيمُّم؛ إذ مقتضى الحديثِ أنَّ جنابته حاصلةٌ له في نفس وقت الصلاة؛ لأنَّ الحال هي «كونُه جُنُبًا»، وعامِلَها قولُه: «صَلَّيْتَ»؛ فيَلْزَمُ اتِّحادُ وقتِ الصلاة مع الجنابة، على ما قَرَّره أهلُ اللسان مِنْ لزوم اقتران الحال وعامِلِها في الزمان، بمعنَى: أنَّ وقت عامِلِ الحال هو بعينه وقتُ الحال؛ فإنَّ هذا الاستدلالَ لا يُشْكِلُ على ما تَقدَّمَ تقريرُه مِنْ تَعيُّنِ الارتفاع المؤقَّت؛ ذلك لأنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم إنَّما وَصَفه بالجنابة قبل عِلْمه بعُذْره المتمثِّلِ في خشيةِ الهلاك والموت بالاغتسال، فلمَّا عَلِمَ أقرَّه بعذره المبيحِ للتيمُّم ولم يُلْزِمه بالإعادة؛ فظَهَر جَليًّا أنَّه كان طاهرًا غيرَ جُنُبٍ حالَ صلاته بأصحابه.
وعلى فرضِ التسليم أَنَّه كان جُنُبًا حالَ صلاته فيمكن حملُ إطلاقِ هذا الوصفِ على عدم الارتفاع الكُلِّيِّ، وهذا لا ينفي الارتفاعَ المؤقَّت، بأَنْ كان ـ وقتَ صلاته ـ غيرَ جُنُبٍ، وبه تتَّحِدُ الأدلَّةُ وتَتوافَقُ، والجمعُ بينها واجبٌ متى أَمْكَنَ كما تَقرَّرَ في أصول الفقه.
والعلم عند الله تعالى، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا.
الجزائر في: ٢٨ ربيع الأوَّل ١٤٢٨ﻫ
الموافق ﻟ: ١٥ أبريل ٢٠٠٧م
(١) جزءٌ مِنْ حديثٍ مُتَّفَقٍ عليه: أخرجه البخاريُّ في «التيمُّم» (٣٣٥)، ومسلمٌ في «المساجد» (٥٢١)، مِنْ حديثِ جابر بنِ عبد الله رضي الله عنهما.
(٢) أخرجه أبو داود في «الطهارة» باب الجُنُب يتيمَّم (٣٣٢، ٣٣٣)، والترمذيُّ في «الطهارة» باب التيمُّم للجُنُب إذا لم يجد الماءَ (١٢٤)، والنسائيُّ في «الطهارة» باب الصلوات بتيمُّمٍ واحدٍ (٣٢٢)، مِنْ حديثِ أبي ذرٍّ الغِفاريِّ رضي الله عنه. قال ابنُ حجرٍ في «فتح الباري» (١/ ٤٤٦): «وصحَّحه الترمذيُّ وابنُ حِبَّان والدارقطنيُّ»، وصحَّحه كذلك الألبانيُّ في «الإرواء» (١/ ١٨١) رقم: (١٥٣).
(٣) سبق تخريجه قريبًا، انظر: (الهامش ٢).
(٤) أخرجه أبو داود في «الطهارة» باب: إذا خاف الجُنُبُ البردَ: أيتيمَّمُ؟ (٣٣٤) مِنْ حديثِ عمرو بنِ العاص رضي الله عنه. وعَلَّقه البخاريُّ في «التيمُّم» (١/ ٤٥٤) باب: إذا خاف الجُنُبُ على نفسِه المرضَ أو الموتَ أو خاف العطشَ تَيمَّمَ، وقوَّاه الحافظ في «فتح الباري» (١/ ٤٥٤)، وصحَّحه الألبانيُّ في «الإرواء» (١/ ١٨١) رقم: (١٥٤) و«صحيح أبي داود» (٣٦١).
الصنف: فتاوى الطهارة - الوضوء
في مشروعية الوضوء للمعذور بعد رفعِ الحدث بالتيمُّم
السؤال:
إذا تَيمَّمَ المكلَّفُ للجنابة لعُذْرٍ مُبِيحٍ، ثمَّ أَحْدَثَ وقَدَرَ على الوضوء دون الغُسْل: فهل يكتفي بالوضوء باعتباره الأصلَ ـ بحُجَّةِ أنَّ التيمُّمَ قام مَقامَ الغُسْلِ ولا ينقضه إلَّا ناقضُ الغُسْل ـ أم يَصيرُ إلى البدلِ فيُعيدُ التيمُّمَ كُلَّما أَحْدَثَ أو أراد الصلاةَ؟ وجزاكم الله خيرًا.
الجواب:
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلام على مَنْ أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
فهذه المسألةُ، ومِثْلُها ما إذا تَيمَّمَ ولَبِسَ الخُفَّين: فهل يجوز المسحُ عليهما في الوضوء بعد ذلك؟ ومِثْلُها ـ أيضًا ـ ما إذا طَهُرَتِ الحائضُ وصَلَّتْ بالتيمُّمِ للعذر المُبيح: فهل يجوز وَطْؤُها قبل الاغتسال أم لا يجوز؟ كُلُّها مبنيَّةٌ على مسألةِ: «هل يرفع التيمُّمُ الحدثَ أم لا؟».
ويتفرَّعُ عن القول بعدم ارتفاع الحدث بالتيمُّم عدمُ صِحَّةِ الوضوء والمسحِ على الخُفَّين، وعدَمُ جوازِ الوطء قبل الاغتسال، وإنَّما على المتيمِّم أَنْ ينويَ استباحةَ ما لا يُباحُ إلَّا بالطهارة، وما يُقابِلُه يُعاكِسُه في الحكم.
ولعلَّ أقربَ مذهبٍ إلى الصواب الذي تَنتظِمُ فيه الأدلَّةُ ويَندفِعُ به التناقضُ يتمثَّل في أنَّ التيمُّمَ يرفع الحدثَ رفعًا مؤقَّتًا، وبه قال الصنعانيُّ واختاره الشنقيطيُّ؛ للإجماع الحاصل على أنَّ الصلاة تصحُّ بالتيمُّم كما تصحُّ بالماء؛ فيَستلزِمُ ارتفاعَ صفة الحدث عنه باللزوم الشرعيِّ، وقد أطلق الشرعُ على التيمُّمِ اسْمَ «الطَّهورِ» و«الوَضوءِ»، في قوله تعالى: ﴿فَٱمۡسَحُواْ بِوُجُوهِكُمۡ وَأَيۡدِيكُم مِّنۡهُۚ مَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيَجۡعَلَ عَلَيۡكُم مِّنۡ حَرَجٖ وَلَٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمۡ﴾ [المائدة: ٦]، وقولِه صلَّى الله عليه وسلَّم: «جُعِلَتْ لِيَ الأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا»(١)، وقولِه صلَّى الله عليه وسلَّم: «إِنَّ الصَّعِيدَ الطَّيِّبَ وَضُوءُ المُسْلِمِ»(٢)، وقولِه صلَّى الله عليه وسلَّم: «إِنَّ الصَّعِيدَ الطَّيِّبَ طَهُورُ المُسْلِمِ»(٣)؛ فجَعَله الشرعُ بدلًا مِنَ الماء فيأخذُ حُكْمَه، هذا مِنْ جهةٍ، وللإجماعِ الحاصلِ ـ مِنْ جهةٍ أخرى ـ على وجوب الاغتسال أو الوضوء بعد زوال العذر، وهذا يدلُّ على أنَّ الحدث بَقِيَ مُطلقًا لم يرتفع كُلِّيَّةً؛ فيَتعيَّنُ ـ حالتَئذٍ ـ الارتفاعُ المؤقَّتُ.
ولازمُ هذا المذهبِ يقضي أنَّ المُتيمِّمَ مِنَ الجنابة ـ إِنْ قَدَرَ على الوضوء بعد حدَثِه ـ له أَنْ يتوضَّأ كالطاهر، ما دام العذرُ الذي أُبيحَ ـ مِنْ أَجْله ـ التيمُّمُ لا يزال قائمًا، وكذلك يجوز المسحُ على الخُفَّين في الوضوء بعد تيمُّمه ولُبْسِهما، كما يجوز وطءُ الحائض إذا طَهُرَتْ وصَلَّتْ بالتيمُّم للعذر قبل الاغتسال.
أمَّا الاستدلالُ بقوله صلَّى الله عليه وسلَّم لعمرو بنِ العاص رضي الله عنه: «صَلَّيْتَ بِأَصْحَابِكَ وَأَنْتَ جُنُبٌ؟!»(٤) على إثباتِ بقاءِ جنابته بعد التيمُّم؛ إذ مقتضى الحديثِ أنَّ جنابته حاصلةٌ له في نفس وقت الصلاة؛ لأنَّ الحال هي «كونُه جُنُبًا»، وعامِلَها قولُه: «صَلَّيْتَ»؛ فيَلْزَمُ اتِّحادُ وقتِ الصلاة مع الجنابة، على ما قَرَّره أهلُ اللسان مِنْ لزوم اقتران الحال وعامِلِها في الزمان، بمعنَى: أنَّ وقت عامِلِ الحال هو بعينه وقتُ الحال؛ فإنَّ هذا الاستدلالَ لا يُشْكِلُ على ما تَقدَّمَ تقريرُه مِنْ تَعيُّنِ الارتفاع المؤقَّت؛ ذلك لأنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم إنَّما وَصَفه بالجنابة قبل عِلْمه بعُذْره المتمثِّلِ في خشيةِ الهلاك والموت بالاغتسال، فلمَّا عَلِمَ أقرَّه بعذره المبيحِ للتيمُّم ولم يُلْزِمه بالإعادة؛ فظَهَر جَليًّا أنَّه كان طاهرًا غيرَ جُنُبٍ حالَ صلاته بأصحابه.
وعلى فرضِ التسليم أَنَّه كان جُنُبًا حالَ صلاته فيمكن حملُ إطلاقِ هذا الوصفِ على عدم الارتفاع الكُلِّيِّ، وهذا لا ينفي الارتفاعَ المؤقَّت، بأَنْ كان ـ وقتَ صلاته ـ غيرَ جُنُبٍ، وبه تتَّحِدُ الأدلَّةُ وتَتوافَقُ، والجمعُ بينها واجبٌ متى أَمْكَنَ كما تَقرَّرَ في أصول الفقه.
والعلم عند الله تعالى، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا.
الجزائر في: ٢٨ ربيع الأوَّل ١٤٢٨ﻫ
الموافق ﻟ: ١٥ أبريل ٢٠٠٧م
(١) جزءٌ مِنْ حديثٍ مُتَّفَقٍ عليه: أخرجه البخاريُّ في «التيمُّم» (٣٣٥)، ومسلمٌ في «المساجد» (٥٢١)، مِنْ حديثِ جابر بنِ عبد الله رضي الله عنهما.
(٢) أخرجه أبو داود في «الطهارة» باب الجُنُب يتيمَّم (٣٣٢، ٣٣٣)، والترمذيُّ في «الطهارة» باب التيمُّم للجُنُب إذا لم يجد الماءَ (١٢٤)، والنسائيُّ في «الطهارة» باب الصلوات بتيمُّمٍ واحدٍ (٣٢٢)، مِنْ حديثِ أبي ذرٍّ الغِفاريِّ رضي الله عنه. قال ابنُ حجرٍ في «فتح الباري» (١/ ٤٤٦): «وصحَّحه الترمذيُّ وابنُ حِبَّان والدارقطنيُّ»، وصحَّحه كذلك الألبانيُّ في «الإرواء» (١/ ١٨١) رقم: (١٥٣).
(٣) سبق تخريجه قريبًا، انظر: (الهامش ٢).
(٤) أخرجه أبو داود في «الطهارة» باب: إذا خاف الجُنُبُ البردَ: أيتيمَّمُ؟ (٣٣٤) مِنْ حديثِ عمرو بنِ العاص رضي الله عنه. وعَلَّقه البخاريُّ في «التيمُّم» (١/ ٤٥٤) باب: إذا خاف الجُنُبُ على نفسِه المرضَ أو الموتَ أو خاف العطشَ تَيمَّمَ، وقوَّاه الحافظ في «فتح الباري» (١/ ٤٥٤)، وصحَّحه الألبانيُّ في «الإرواء» (١/ ١٨١) رقم: (١٥٤) و«صحيح أبي داود» (٣٦١).