بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلام على مَنْ أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
فلا يُستحسَنُ تقيُّدُ الخطيبِ في جُمَعه بموضوعٍ واحدٍ مِنَ الموضوعات يُلقيهِ على وجه التتابع، أو يَقتصرُ على فنٍّ مِنَ الفنون يجزِّئه على خُطَبٍ مُتسلسِلةٍ؛ فهي طريقةٌ غيرُ مَرْضيَّةٍ ولو ادُّعِيَ أنَّ هذا الأسلوبَ الدعويَّ يقترن به إيجابياتُ الدعوةِ ومزايا التبليغ، مِنْ ناحيةِ إضافتها إلى جانبِ الخُطبةِ دروسًا متتاليةً يحصِّل الحاضرون ـ مِنْ مجموعها ـ علمًا نافعًا، أو مِنْ ناحيةِ أنَّ فيها تحسيسًا للسامعين بترابطِ عناصرِ موضوعات الخُطبة وتواصُلِها، وهو الأمرُ الذي يبعث في الحاضرين تشويقًا محسوسًا ومتناميًا إلى إكمالِ موضوعات الخُطبة التي ابتدأها الإمامُ، ممَّا يحصل ـ مِنْ ورائه ـ انتفاعُ السامعين.
وفي تقديري أنَّ دوافعَ القولِ بعدمِ استحسانِ هذا الفعلِ تكمن في أنه لم يكن مأثورًا فعلُه ـ في حدود علمي ـ عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم ولا عن صحابته الكرام ولا مَنْ بعدهم مِنَ التابعين لهم بإحسانٍ، وإنما كان هديُه صلَّى الله عليه وسلَّم تذكيرَ الناسِ بما يحتاجون إليه وما يُصْلِح شئونَهم الدنيوية والأخروية، وحثَّهم على التوحيد والْتزامِ السنَّة، وتحذيرَهم مِنَ الشرك والبِدَع والضلالات، وبيانَ آثارِها السيِّئة وعواقبِها الوخيمة، فيأمرهم وينهاهم على ما يتطلَّبه مَقامُ التربية والدعوة والتبليغ، وقد بيَّن ابنُ القيِّم ـ رحمه الله ـ هديَ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم في خُطَبه فقال: «وكان يقصر الخُطبةَ، ويُطيلُ الصلاة، ويُكثِر الذِّكرَ، ويقصد الكلماتِ الجوامع، وكان يقول: «إِنَّ طُولَ صَلَاةِ الرَّجُلِ وَقِصَرَ خُطْبَتِهِ مَئِنَّةٌ مِنْ فِقْهِهِ»(1)، وكان يعلِّم أصحابَه في خُطبته قواعدَ الإسلامِ وشرائعَه، ويأمرهم وينهاهم في خُطبته إذا عَرَض له أمرٌ أو نهيٌ»(2).
لذلك كان حريًّا بالخطيب التأسِّي بالنبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم في خُطَبِه والاقتداءُ به، علمًا أنَّ السبب المقتضيَ لهذا الفعلِ المتمثِّلِ في تسلسلِ خُطَبِ الجمعة في موضوعٍ واحدٍ على وجه التتابع كان موجودًا في عهده، وحاجةُ الناسِ قائمةً إلى فعله، مع انتفاءِ الموانع وانعدامِ العوارض، وتَرَكه النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم ولم يفعله، وكان تركُه لهذا الفعلِ سنَّةً يجب الأخذُ بها ومتابعتُه في صورة الفعل والقصد.
ولا يخفى أنَّ وسائل الدعوة إلى اللهِ وأساليبَها وإِنْ كانَتِ اجتهاديةً في باب العادات والمعاملات، إلَّا أنها توقيفيةٌ في باب العبادات، ومِنْ شرط الوسائل الدعوية ـ أيضًا ـ أَنْ لا تخالف نصوصَ الشرعِ أو قواعدَه، وقد تقدَّم أنَّ الأصل فيما تَرَكه النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم ولم يفعله ـ مع وجودِ المقتضي وانتفاءِ المانع والمعارض وتوافُرِ الدواعي للعمل به ـ أنَّ تركه سنَّةً؛ لِمَا عُلِم مِنْ قصدِه صلَّى الله عليه وسلَّم التركَ، وقد خالف هذا الأسلوبُ الدعويُّ السنَّةَ التركية بالفعل والعمل.
وأمَّا القول بأنَّ هذا الأسلوبَ الدعويَّ في الاقتصار على فنٍّ مِنَ الفنون والتسلسل في موضوعٍ واحدٍ لخُطَبٍ متعدِّدةٍ له مزاياه ومحاسنُه المذكورة آنفًا، فقَدْ يُعارَضُ بأنَّ فيه ـ أيضًا ـ مَثالِبَ ومساوئَ تُقابِلُه منها:
أنَّ هذا الأسلوبَ الدعويَّ يتسبَّب في إهدارِ موضوعاتٍ أخرى ذاتِ أهمِّيةٍ أو علومٍ وفنونٍ غيرِ موضوع الفنِّ المتطرَّقِ إليه يحتاج الناسُ إليها.
وقد تنقطع فائدةُ عناصر الموضوع المُتسلسِلةِ عن الغائب عن الخُطبة الماضية ـ لسببٍ أو لآخَرَ ـ أو المبتدئِ في أثناءِ تسلسلِ الخُطَب؛ فيصعب عليه فهمُ مراد الخُطبة الحاضرة إذا كانَتْ معانيها وتوجيهاتُها مبنيَّةً على الخُطبة التي غاب عنها؛ فتَقِلُّ فائدةُ الخُطبة التي شَهِدها بالأسلوب المذكور، وقد ينعدم جدواها.
وجديرٌ بالتنبيه أنَّ خُطبة الجمعة تتضمَّن مواعظَ وعِبَرًا وتوجيهاتٍ وما إلى ذلك، على نحوِ ما تقدَّم مِنْ هديِه صلَّى الله عليه وسلَّم في خُطَبِه، وليسَتْ دروسًا تكوينيةً علميةً مُتلاحِقةً.
وعليه، فللخطيب ـ إِنْ شاء ـ أَنْ يخصِّص دروسًا علميةً في غيرِ خُطْبة الجمعة، فبإمكانه أَنْ يختار ـ خلالَ أسبوعه ـ أيَّامًا يعلِّم فيها الناسَ الإسلامَ والسنَّةَ، لا أَنْ يُورِدها في غيرِ محلِّها.
فظَهَر ـ والحالُ هذه ـ أنَّ هذا الأسلوبَ الدعويَّ لم ينضبط بالضوابط الشرعية لِمَا فيه مِنْ مخالفةٍ للسنَّة التركية مِنْ جهةٍ، وأنه ـ مِنْ جهةٍ أخرى ـ يترتَّب على الأخذ بهذه الوسيلةِ مفسدةٌ إِنْ لم تكن أكبرَ مِنْ مصلحتها فهي مساويةٌ لها.
والعلم عند الله تعالى، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا.