قاعدة في الامر الارشادي والنهي الارشادي ...
قال ابن عبدالبر رحمه الله (الاستذكار 5/ 288- 289): "وَأَصْلُ النَّهْيِ؛
أَنْ تَنْظُرَ إِلَى مَا وَرَدَ مِنْهُ وَطَرَأَ عَلَى مِلْكِكَ أَوْ عَلَى مَا لَيْسَ فِي مِلْكِكَ فَمَا كَانَ مِنْهُ وَارِدًا عَلَى مِلْكِكَ فَهُوَ يَمِينُ آدَابٍ وَإِرْشَادٍ وَاخْتِيَارٍ.
وَمَا طَرَأَ عَلَى [غير] مِلْكِكَ فَهُوَ عَلَى التَّحْرِيمِ.
وَعَلَى هَذَا وَرَدَ النهي في القرآن والسنة لا لِمَنِ اعْتَبَرَهُمَا، أَلَّا تَرَى إِلَى نَهْيِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم عن :
اختناث الْأَسْقِيَةِ .
وَالْأَكْلِ مِنْ رَأْسِ الصَّحْفَةِ .
وَالْمَشْيِ فِي نعل واحد .
وأن يقرن بَيْنَ تَمْرَتَيْنِ مَنْ أَكَلَ مَعَ غَيْرِهِ .
وَالِاسْتِنْجَاءِ بِالْيَمِينِ دُونَ الشِّمَالِ .
وَالْأَكْلِ بِالشِّمَالِ دُونَ الْيَمِينِ .
وَالتَّيَامُنِ فِي لِبَاسٍ النِّعَالِ وَفِي الشَّرَابِ.
وغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَطُولُ ذِكْرُهُ؛ فَهَذَا كُلُّهُ وَمَا كَانَ مِثْلُهُ نَهْيُ أَدَبٍ وَإِرْشَادٍ لِأَنَّهُ طَرَأَ عَلَى مَا فِي مِلْكِ الْإِنْسَانِ فَمَنْ وَاقَعَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِ فِعْلُهُ وَلَا شَيْءٌ مِنْ طَعَامِهِ وَلَا لِبَاسِهِ.
وَأَمَّا نَهْيُهُ ؛عَنِ الشِّغَارِ .
وَنِكَاحِ الْمُحْرِمِ .
وَنِكَاحِ الْمَرْأَةِ عَلَى عَمَّتِهَا وَخَالَتِهَا .
وَعَنْ قَلِيلِ مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ .
وَعَنْ بَيْعِ حَبَلِ حَبَلَةٍ .
وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْبُيُوعِ الْفَاسِدَةِ؛ فَهَذَا كُلُّهُ طَرَأَ عَلَى شَيْءٍ مَحْظُورٍ اسْتِبَاحَتُهُ إِلَّا عَلَى سُنَّتِهِ، فَمَنْ لَمْ يَسْتَبِحْهُ عَلَى سُنَّتِهِ حَرُمَ ذَلِكَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَبْلُ فِي مُلْكِهِ.
فَإِنْ قِيلَ : إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ نَهَى عَنْ وَطْءِ الْحَائِضِ وَمَنْ وَطِئَهَا لَمْ تَحْرُمْ بِذَلِكَ عَلَيْهِ امْرَأَتُهُ وَلَا سَرِيَّتُهُ؟
قِيلَ لَهُ : لَوْ تَدَبَّرْتَ هَذَا لَعَلِمْتَ أَنَّهُ مِنَ الْبَابِ الْوَارِدِ عَلَى مَا فِي مَلِكِ الْإِنْسَانِ مُطْلَقًا، لَأَنَّ عِصْمَةَ النِّكَاحِ وَمِلْكِ الْيَمِينِ فِي مَعْنَى الْوَطْءِ مِنَ الْعِبَادَاتِ الَّتِي أَصْلُهَا الْحَظْرُ ثُمَّ وَرَدَتِ الْإِبَاحَةُ
فِيهَا بِشَرْطٍ لَا يَجُوزُ أَنْ يُتَعَدَّى وَلَا يُسْتَبَاحَ إِلَّا بِهِ ، لِأَنَّ الْفُرُوجَ مَحْظُورَةٌ إِلَّا بِنِكَاحٍ أَوْ مِلْكِ يَمِينٍ وَلَمْ تَرِدِ الْإِبَاحَةُ فِي نِكَاحِ مَا طَابَ لَنَا مِنَ النِّسَاءِ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُنَا إِلَّا مَقْرُونَةً، لِأَنَّ
الْحَائِضَ لَا تُوطَأُ حَتَّى تَطْهُرَ، كَمَا وَرَدَ تَحْرِيمُ الْحَيَوَانِ فِي أنه لا يستباح إلا بالذكاة؛ فوطء الْحَائِضِ وَاسْتِبَاحَةُ الْحَيَوَانِ مِنَ الْقِسْمِ الثَّانِي لَا مِنَ الْأَوَّلِ الَّذِي وَرَدَتْ فِيهِ الْإِبَاحَةُ فِي مِلْكِ
الْإِنْسَانِ مُطْلَقَةً بِغَيْرِ شَرْطٍ وَهَذَا بَيِّنٌ ِمِنْ تَدَبِّرَهُ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ"اهـ
وكلامه رحمه الله في المسألة أهميته أنه كلام إمام في السنة والحديث يقرر الفرق بين الإرشاد وسائر الأحكام التكليفية.
وإلا فإن ضابط المسألة عنده يحتاج إلى مزيد تحرير؛ وقد ضبطه الأصوليون بضابط أظنه أوضح وأقوى مما ذكره، وهو أن الأمر والنهي إذا تعلقا بتحصيل مصلحة دنيوية تعود إلى
الشخص في دنياه، إن شاء فعلهما وإن شاء تركهما فهما من باب الإرشاد. من جهة هذا التعلق.
وإن نظر إلى القضية من منظار آخر ، وهو الاقتداء والأسوة بالرسول صلى الله عليه وسلم مطلقاً، فمن هذه الجهة لا يكون إلا للاستحباب في باب الأمر، وللكراهة في باب النهي.
فليعد هذا من القرائن الصارفة للأمر من الوجوب إلى الاستحباب، والنهي من التحريم إلى الكراهة. من هذه الجهة.
والله الموفق.
قال ابن عبدالبر رحمه الله (الاستذكار 5/ 288- 289): "وَأَصْلُ النَّهْيِ؛
أَنْ تَنْظُرَ إِلَى مَا وَرَدَ مِنْهُ وَطَرَأَ عَلَى مِلْكِكَ أَوْ عَلَى مَا لَيْسَ فِي مِلْكِكَ فَمَا كَانَ مِنْهُ وَارِدًا عَلَى مِلْكِكَ فَهُوَ يَمِينُ آدَابٍ وَإِرْشَادٍ وَاخْتِيَارٍ.
وَمَا طَرَأَ عَلَى [غير] مِلْكِكَ فَهُوَ عَلَى التَّحْرِيمِ.
وَعَلَى هَذَا وَرَدَ النهي في القرآن والسنة لا لِمَنِ اعْتَبَرَهُمَا، أَلَّا تَرَى إِلَى نَهْيِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم عن :
اختناث الْأَسْقِيَةِ .
وَالْأَكْلِ مِنْ رَأْسِ الصَّحْفَةِ .
وَالْمَشْيِ فِي نعل واحد .
وأن يقرن بَيْنَ تَمْرَتَيْنِ مَنْ أَكَلَ مَعَ غَيْرِهِ .
وَالِاسْتِنْجَاءِ بِالْيَمِينِ دُونَ الشِّمَالِ .
وَالْأَكْلِ بِالشِّمَالِ دُونَ الْيَمِينِ .
وَالتَّيَامُنِ فِي لِبَاسٍ النِّعَالِ وَفِي الشَّرَابِ.
وغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَطُولُ ذِكْرُهُ؛ فَهَذَا كُلُّهُ وَمَا كَانَ مِثْلُهُ نَهْيُ أَدَبٍ وَإِرْشَادٍ لِأَنَّهُ طَرَأَ عَلَى مَا فِي مِلْكِ الْإِنْسَانِ فَمَنْ وَاقَعَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِ فِعْلُهُ وَلَا شَيْءٌ مِنْ طَعَامِهِ وَلَا لِبَاسِهِ.
وَأَمَّا نَهْيُهُ ؛عَنِ الشِّغَارِ .
وَنِكَاحِ الْمُحْرِمِ .
وَنِكَاحِ الْمَرْأَةِ عَلَى عَمَّتِهَا وَخَالَتِهَا .
وَعَنْ قَلِيلِ مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ .
وَعَنْ بَيْعِ حَبَلِ حَبَلَةٍ .
وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْبُيُوعِ الْفَاسِدَةِ؛ فَهَذَا كُلُّهُ طَرَأَ عَلَى شَيْءٍ مَحْظُورٍ اسْتِبَاحَتُهُ إِلَّا عَلَى سُنَّتِهِ، فَمَنْ لَمْ يَسْتَبِحْهُ عَلَى سُنَّتِهِ حَرُمَ ذَلِكَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَبْلُ فِي مُلْكِهِ.
فَإِنْ قِيلَ : إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ نَهَى عَنْ وَطْءِ الْحَائِضِ وَمَنْ وَطِئَهَا لَمْ تَحْرُمْ بِذَلِكَ عَلَيْهِ امْرَأَتُهُ وَلَا سَرِيَّتُهُ؟
قِيلَ لَهُ : لَوْ تَدَبَّرْتَ هَذَا لَعَلِمْتَ أَنَّهُ مِنَ الْبَابِ الْوَارِدِ عَلَى مَا فِي مَلِكِ الْإِنْسَانِ مُطْلَقًا، لَأَنَّ عِصْمَةَ النِّكَاحِ وَمِلْكِ الْيَمِينِ فِي مَعْنَى الْوَطْءِ مِنَ الْعِبَادَاتِ الَّتِي أَصْلُهَا الْحَظْرُ ثُمَّ وَرَدَتِ الْإِبَاحَةُ
فِيهَا بِشَرْطٍ لَا يَجُوزُ أَنْ يُتَعَدَّى وَلَا يُسْتَبَاحَ إِلَّا بِهِ ، لِأَنَّ الْفُرُوجَ مَحْظُورَةٌ إِلَّا بِنِكَاحٍ أَوْ مِلْكِ يَمِينٍ وَلَمْ تَرِدِ الْإِبَاحَةُ فِي نِكَاحِ مَا طَابَ لَنَا مِنَ النِّسَاءِ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُنَا إِلَّا مَقْرُونَةً، لِأَنَّ
الْحَائِضَ لَا تُوطَأُ حَتَّى تَطْهُرَ، كَمَا وَرَدَ تَحْرِيمُ الْحَيَوَانِ فِي أنه لا يستباح إلا بالذكاة؛ فوطء الْحَائِضِ وَاسْتِبَاحَةُ الْحَيَوَانِ مِنَ الْقِسْمِ الثَّانِي لَا مِنَ الْأَوَّلِ الَّذِي وَرَدَتْ فِيهِ الْإِبَاحَةُ فِي مِلْكِ
الْإِنْسَانِ مُطْلَقَةً بِغَيْرِ شَرْطٍ وَهَذَا بَيِّنٌ ِمِنْ تَدَبِّرَهُ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ"اهـ
وكلامه رحمه الله في المسألة أهميته أنه كلام إمام في السنة والحديث يقرر الفرق بين الإرشاد وسائر الأحكام التكليفية.
وإلا فإن ضابط المسألة عنده يحتاج إلى مزيد تحرير؛ وقد ضبطه الأصوليون بضابط أظنه أوضح وأقوى مما ذكره، وهو أن الأمر والنهي إذا تعلقا بتحصيل مصلحة دنيوية تعود إلى
الشخص في دنياه، إن شاء فعلهما وإن شاء تركهما فهما من باب الإرشاد. من جهة هذا التعلق.
وإن نظر إلى القضية من منظار آخر ، وهو الاقتداء والأسوة بالرسول صلى الله عليه وسلم مطلقاً، فمن هذه الجهة لا يكون إلا للاستحباب في باب الأمر، وللكراهة في باب النهي.
فليعد هذا من القرائن الصارفة للأمر من الوجوب إلى الاستحباب، والنهي من التحريم إلى الكراهة. من هذه الجهة.
والله الموفق.