الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد :
فهذه الحلقة الثانية في ذكر بعض الفوائد والأحكام المتعلقة بصيام شهر رمضان، أحببت أن أتحف به إخواني لعلّ الله أن يكتب لنا المثوبة من عنده سبحانه جل وعز،إنه جوادكريم.
تعريف الصيام :
الصيام لغة: الإمساك، يقال: صام الفرس، إذا أمسك عن الجري ،قال الله تعالى مخبرا عن مريم رضي الله عنها :{إنّي نذرت للرّحمن صوما } الآية أي :صمتًا؛ لأنه إمساك عن الكلام، وقال الشاعر:
خيل صيَامٌ وخَيلٌ غير صائمة ... تحت العجاج وأخرى تعلك اللجُمَا
يعني بالصائمة الممسكة عن الصهيل وصام النهار صومًا إذا قام قائم الظهيرة قال امرؤ القيس:
فدعها وسلِّ الهمَ عنها بحسرة ... ذمول إذا صام النهار وهَجَّرا.[1]
وفي الشرع: إمساك عن أشياء مخصوصة في زمن مخصوص من شخص مخصوص.
فأما الأشياء المخصوصة فهي مفسداته؛ وأما الزمن المخصوص فهو من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس؛ وأما الشخص فهو المسلم العاقل غير الحائض والنفساء.
سبب تسمية شهر الصيام بشهر رمضان :
اختلف أهل العلم في سبب تسمية شهر رمضان بهذا الاسم على أقوال عدة :
ـ قيل :لأنه ترمض فيه الذنوب -أي تحترق- لأن الرمضاء شدة الحر.
ـ وقيل : لابتداء الصوم في زمن حار.
ـ وقيل : لأن العرب كانوا يرمضون أسلحتهم فيه أي يحشدونها ويجهزونها استعدادا للحرب في شهر شوال.
ـ وقيل : لارتماض الصائمين فيه من حر الجوع ومقاساة شدته.
الصيام عند الأمم السابقة قبل الإسلام :
قال تعالى: { يأيها الذين أمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون}
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : إن أهل الجاهلية كانوا يصومون يوم عاشوراء وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم صامه والمسلمون قبل أن يفترض رمضان فلما افترض رمضان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن عاشوراء يوم من أيام الله فمن شاء صامه ومن شاء تركه.[2]
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة فرأى اليهود تصوم يوم عاشوراء فقال: ما هذا؟ قالوا: هذا يوم صالح، هذا يوم نجى الله بني إسرائيل من عدوهم فصامه موسى، قال: فأنا أحق بموسى منكم فصامه وأمر بصيامه.[3]
وعن عائشة رضي الله عنها أن قريشاً كانت تصوم يوم عاشوراء في الجاهلية ، ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بصيامه حتى فُرض رمضان ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من شاء فلْيصُمْ ومن شاء أفطر.[4]
وعنها رضي الله عنها قالت: كان يوم عاشوراء تصومه قريش في الجاهلية، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصومه فلما قدم المدينة صامه وأمر بصيامه، فلما فرض رمضان ترك يوم عاشوراء، فمن شاء صامه ومن شاء تركه.[5]
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال :دخل عليه الأشعث وهو يَطْعَم فقال : اليوم عاشوراء ، فقال : كان يُصام قبل أن ينزل رمضان ، فلما نزل رمضان تُرك ، فادْنُ فكُل.[6]
وعن الرُّبَيِّع بنت مُعوِّذ لقالت:أرسل النبي صلى الله عليه وسلم غداةَ عاشوراء إلى قرى الأنصار : من أصبح مفطراً فلْيُتمَّ بقيةَ يومه ومن أصبح صائماً فلْيصمْ قالت : فكنا نصومه بعدُ ونُصوِّم صبيانَنا ، ونجعل لهم اللعبةَ من العِهْن فإذا بكى أحدُهم على الطعام أعطيناه ذلك حتى يكون عند الإفطار.[7]
وعن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث رجلاً ينادي في الناس يوم عاشوراء : إِنَّ مَن أكل فليُتِمَّ أو فلْيصُمْ ومن لم يأكل فلا يأكل.[8]
حكم صوم شهر رمضان :
صوم رمضان واجب وهو أحد أركان الإسلام ،من جحد وجوبه بعد العلم كفر ،وإن كان جاهلاً يعرّف؛ ومن ترك صيامه تهاونا وكسلا لا جحودا فهو تحت مشيئة الله تعالى -على القول الراجح-، والأصل في وجوبه: الكتاب والسُّنة والإجماع.
فمن الكتاب : قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون }
من السنة :
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والحج وصوم رمضان.[9]
وعن طلحة بن عبيد الله أن أعرابيا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثائر الرأس فقال يا رسول الله أخبرني ماذا فرض الله علي من الصلاة فقال الصلوات الخمس إلا أن تطوع شيئا فقال أخبرني ما فرض الله علي من الصيام فقال شهر رمضان إلا أن تطوع شيئا فقال أخبرني بما فرض الله علي من الزكاة فقال فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم شرائع الإسلام قال والذي أكرمك لا أتطوع شيئا ولا أنقص مما فرض الله علي شيئا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أفلح إن صدق أو دخل الجنة إن صدق.[10]
فرضية شهر رمضان مرّ على ثلاثة مراحل:
مراتب صيام شهر رمضان مر على ثلاثة مراحل :
المرحلة الأولى : من شاء صامه ومن شاء أفطره وأطعم عن كل يوم مسكيناً .
عن ابن أبي ليلى حدثنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم قال :نزل رمضان فشق عليهم فكان من أطعم كل يوم مسكينا ترك الصوم ممن يطيقه ورخص لهم في ذلك فنسختها (وأن تصوموا خير لكم) فأمروا بالصوم.[11]
وعن يزيد مولى سلمة بن الأكوع عن سلمة رضي الله عنه قال : لما نزلت { وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين } . كان من أراد أن يفطر ويفتدي حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها.[12]
المرحلة الثانية : من نام قبل أن يفطر لم يأكل ليلته ولا يومه حتى يمسي.
عن البراء رضي الله عنه قال : كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إذا كان الرجل صائما فحضر الإفطار فنام قبل أن يفطر لم يأكل ليلته ولا يومه حتى يمسي وإن قيس بن صرمة الأنصاري كان صائما فلما حضر الإفطار أتى امرأته فقال لها أعندك طعام ؟ . قالت لا ولكن أنطلق فأطلب لك وكان يومه يعمل فغلبته عيناه فجاءته امرأته فلما رأته قالت خيبة لك فلما انتصف النهار غشي عليه فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية { أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم } . ففرحوا بها فرحا شديدا ونزلت { وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود }.[13]
المرحلة الثالثة : وهى التي استقر عليها الشرع إلى يوم القيامة .
عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال :أُحيلت الصلاةُ ثلاثةَ أحوال ، وأُحيل الصيامُ ثلاثةَ أحوال - فذكر الحديث إلى أن قال - وأما أحوالُ الصيام ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدِم المدينة ، فجعل يصوم من كل شهر ثلاثة أيام - وقال يزيد : تسعة عشر شهراً - من ربيع الأول إلى رمضان ، من كل شهر ثلاثة أيام وصام يوم عاشوراء ، ثم إن الله فرض عليه الصيام فأنزل الله عزَّ وجلَّ ( يا أَيُّها الذين آمنوا كُتِبَ عليكم الصِّيامُ كما كُتبَ على الذين من قبلِكم ... ) إلى هذه الآية ( ... وعلى الذين يُطيقونُه فِدْيةٌ طعامُ مسكين ... ) قال : فكان مَن شاء صام ، ومن شاء أطعم مسكيناً ، فأجزأ ذلك عنه ، قال : ثم إن الله عزَّ وجلَّ أنزل الآية الأخرى ( شهرُ رمضانَ الذي أُنزلَ فيه القرآنُ ... ) إلى قوله ( ... فمن شهدَ منكم الشَّهرَ فَلْيصُمْه ... ) قال : فأثبت الله صيامه على المقيم الصحيح ، ورخَّص فيه للمريض والمسافر ، وثبَّت الإِطعام للكبير الذي لا يستطيع الصيام ، فهذان حَوْلان ، قال : وكانوا يأكلون ويشربون ، ويأتون النساء ما لم يناموا فإذا ناموا امتنعوا ، قال : ثم إن رجلاً من الأنصار يقال له صِرْمة ، ظل يعمل صائماً حتى أمسى ، فجاء إلى أهله فصلَّى العشاء ثم نام فلم يأكل ولم يشرب حتى أصبح ، فأصبح صائماً ، قال : فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد جَهَد جَهْداً شديداً ، قال : مالي أراك قد جَهَدْت جَهْداً شديداً ؟ قال : يا رسول الله ، إني عملتُ أمسِ ، فجئت حين جئت ، فألقيتُ نفسي فنمت ، وأصبحتُ حين أصبحتُ صائماً ، قال : وكان عمر قد أصاب النساء من جارية ، أو من حرَّة ، بعدما نام ، وأتى النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكر ذلك له ، فأنزل الله عزَّ وجلَّ ( أُحلَّ لكم ليلةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نسائِكم … ) إلى قوله ( ... ثم أتِمُّوا الصيامَ إِلى الليلِ ... ) - وقال يزيد -فصام تسعةَ عشر شهراً من ربيع الأول إلى رمضان[14] }.
في أي عام فرض الصيام على المسلمين وكم سنة صام النبي صلى الله عليه وسلم :
فرض صيام شهر رمضان في السنة الثانية من الهجرة ، وصام الرسول صلى الله عليه وسلم تسع رمضانات[15] ، وتوفي النبي صلى الله عليه وسلم في شهر ربيع الأول سنة إحدى عشرة من الهجرة.
على من يجب صيام رمضان :
"يجب صوم رمضان على كل مسلم بالغ عاقل قادر مقيم خال من الموانع"[16].[17]
الترهيب من الفطر في رمضان :
عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أتاني رجلان فأخذا بضبعي فأتيا بي جبلا وعرا فقالا : اصعد فقلت : إني لا أطيقه فقالا : إنا سنسهله لك . فصعدت حتى إذا كنت في سواء الجبل إذا بأصوات شديدة قلت : ما هذه الأصوات ؟ قالوا : هذا عواء أهل النار
ثم انطلق بي فإذا أنا بقوم معلقين بعراقيبهم مشققة أشداقهم تسيل أشداقهم دما قال : قلت : من هؤلاء ؟ قال : هؤلاء الذين يفطرون قبل تحلة صومهم فقال : خابت اليهود والنصارى - فقال سليمان : ما أدري أسمعه أبو أمامة من رسول الله صلى الله عليه وسلم أم شئ من رأيه ؟
ثم انطلقا بي فإذا بقوم أشد شئ انتفاخا وأنتنه ريحا وأسوأه منظرا فقلت : من هؤلاء ؟ فقال : هؤلاء قتلى الكفار
ثم انطلقا بي فإذا بقوم أشد شئ انتفاخا وانتنه ريحا كأن ريحهم المراحيض قلت : من هؤلاء ؟ قال : هؤلاء الزانون والزواني
ثم انطلقا بي فإذا أنا بنساء تنهش ثديهن الحيات قلت : ما بال هؤلاء ؟ قال : هؤلاء اللاتي يمنعن أولادهن ألبانهن
ثم انطلقا بي فإذا أنا بالغلمان يلعبون بين نهرين قلت : من هؤلاء ؟ قال : هؤلاء ذراري المؤمنين
ثم أشرفا بي شرفا فإذا أنا بنفر ثلاثة يشربون من خمر لهم قلت : من هؤلاء ؟ قال : هؤلاء جعفر وزيد وابن رواحة
ثم أشرفا بي شرفا آخر فإذا أنا بنفر ثلاثة قلت : من هؤلاء ؟ قال : هذا إبراهيم وموسى وعيسى وهم ينظرونك.[18]
قال ابن تيمية رحمه الله : وإذا كان المتقيء معذوراً كان ما فعله جائزاً، وصار من جملة المرضى الذين يقضون، ولم يكن من أهل الكبائر أفطروا بغير عذر.[19]
وقال القفّال رحمه الله:ومن أفطر في رمضان بغير جماع من غير عذر وجب عليه القضاء وإمساك بقية نهاره، ولا كفارة عليه. وعزّره السلطان. وبه قال أحمد وداود[20].
وقال الذهبي رحمه الله : وعند المؤمنين مقرّر أن من ترك صوم شهر رمضان بلا مرض ولا غرض أنه شرّ من الزاني والمكّاس ومدمن الخمر، بل يشكّون في إسلامه، ويظنون به الزندقة والانحلال[21].
سئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله : عن حكم الفطر في نهار رمضان بدون عذر ؟
فأجاب بقوله:
الفطر في نهار رمضان بدون عذر من أكبر الكبائر ، ويكون به الإنسان فاسقا ، ويجب عليه أن يتوب إلى الله ، وأن يقضي ذلك اليوم الذي أفطره ، يعني لو أنه صام وفي أثناء اليوم أفطر بدون عذر فعليه الإثم ، وأن يقضي ذلك اليوم الذي أفطره ؛ لأنه لما شرع فيه التزم به ودخل فيه على أنه فرض فيلزمه قضاؤه كالنذر ، أما لو ترك الصوم من الأصل متعمدا بلا عذر : فالراجح : أنه لا يلزمه القضاء ؛ لأنه لا يستفيد به شيئا ، إذ إنه لن يقبل منه ، فإن القاعدة أن كل عبادة مؤقتة بوقت معين فإنها إذا أخرت عن ذلك الوقت المعين بلا عذر لم تقبل من صاحبها ؛ لقول النبي صلى الله عليه وسل : ( من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد ) ولأنه من تعدي حدود الله عز وجل ، وتعدي حدود الله تعالى ظلم ، والظالم لا يقبل منه ، قال الله تعالى : ( ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظلمون ) ؛ ولأنه لو قدم هذه العبادة على وقتها - أي : فعلها قبل دخول الوقت - لم تقبل منه ، فكذلك إذا فعلها بعده لم تقبل منه إلا أن يكون معذورا.[22]
الحكمة من مشروعية الصوم :
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} فالله تعالى شرع الصيام ليكون وسيلة عظمى لتقواه سبحانه، وتقوى الله جماع خيري الدنيا والآخرة، وهي وصية الله للأولين والآخرين، كما قال تعالى: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ) فالصيام شُرع تعبُّدًا لله وخضوعا لأمره، وتعظيما له سبحانه ليتحلى المسلم بالتقوى، التي هي فعل الأوامر، وترك المحارم، فالصوم الحقيقي ليس هو مجرد الإمساك عن الطعام والشراب والتمتع الجنسي فحسب،وإنما المقصود منه تقوى الله تعالى.
ولقد أودع الله في الصوم من الحكم والأسرار والمصالح الدينية والدنيوية ما هو فوق تصور البشر،فمنها تذكير العبد بعظيم نعم الله عليه وجزيل إحسانه إليه فإنه إذا جاع وعطش وهجر شهوته ذكر بعض تلك النعم التي كان يتنعم فيها ،وكونه تدريبًا للمؤمنين على أعمال التقوى في هذا الشهر ،وموجبا لسكون النفس ، وكسر لشهوتها فهو سببٌ لتنزيه هذه النفس وصفائها لأنه يضيق مجاري الشيطان؛ فالشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم؛ يعني يوسوس له ويحمله على الغفلة، وعلى البعد وعلى التكاسل عن الطاعة، ويزين له الوقوع في المعصية ، والصيام يسد عليه تلك المنافذ التي يدخل منها الشيطان،وكونه يتعود به على الصبر وكونه موجبا للرحمة والشفقة والتذكر للفقراء والمساكين ،فإن الإنسان إذا أثر عليه الصيام جوعا وعطشا تذكر حال الفقراء والمساكين وما يلاقونه من الشدة في ذلك ، فيسارع إلى مواساتهم في آلامهم والإحسان إليهم والعطف عليهم ويمد يده بالعون إليهم ، ولما في الصيام من فرصة للعصاة ليقلعوا عن معاصيهم ،ويراجعوا أنفسهم ويتوبوا وينيبوا إلى ربهم ، ولما في الصيام من إراحة للمعدة من الأكل والشرب طيلة فترة الصيام وذلك مفيد لكثير من الأمراض فكثير من الأطباء ينصحون مرضاهم بذلك
قال ابن القيم رحمه الله : وأما مرض الأبدان فقال تعالى:{ ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج}[ النور : 61 ] وذكر مرض البدن في الحج والصوم والوضوء لسر بديع يبين لك عظمة القرآن والإستغناء به لمن فهمه وعقله عن سواه وذلك أن قواعد طب الأبدان ثلاثة : حفظ الصحة والحمية عن المؤذي واستفراغ المواد الفاسدة فذكر سبحانه هذه الأصول الثلاثة في هذه المواضع الثلاثة
فقال في آية الصوم : { فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر }[ البقرة : 184 ] فأباح الفطر للمريض لعذر المرض وللمسافر طلبا لحفظ صحته وقوته لئلا يذهبها الصوم في السفر لاجتماع شدة الحركة وما يوجبه من التحليل وعدم الغذاء الذي يخلف ما تحلل فتخور القوة وتضعف فأباح للمسافر الفطر حفظا لصحته وقوته عما يضعفها
وقال في آية الحج : { فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك}[ البقرة : 196 ) فأباح للمريض ومن به أذى من رأسه من قمل أو حكة أو غيرهما أن يحلق رأسه في الإحرام استفراغا لمادة الأبخرة الرديئة التي أوجبت له الأذى في رأسه باحتقانها تحت الشعر فإذا حلق رأسه تفتحت المسام فخرجت تلك الأبخرة منها فهذا الإستفراغ يقاس عليه كل استفراغ يؤذي انحباسه
والأشياء التي يؤذي انحباسها ومدافعتها عشرة : الدم إذا هاج والمني إذا تبيغ والبول والغائط والريح والقئ والعطاس والنوم والجوع والعطش وكل واحد من هذه العشرة يوجب حبسه داء من الأدواء بحسبه
وقد نبه سبحانه باستفراغ أدناها وهو البخار المحتقن في الرأس على استفراغ ما هو أصعب منه كما هي طريقة القرآن التنبيه بالأدنى على الأعلى
وأما الحمية : فقال تعالى في آية الوضوء:{ وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا }[ النساء : 43 ) فأباح للمريض العدول عن الماء إلى التراب حمية له أن يصيب جسده ما يؤذيه وهذا تنبيه على الحمية عن كل مؤذ له من داخل أو خارج فقد أرشد سبحانه عباده إلى أصول الطب ومجامع قواعده.[23]
هذا وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
كتبه : عبد الحميد الهضابي.
الحواشي :
[1] ـ انظر :"تهذيب اللغة"(12 /182)،و"معجم مقاييس اللغة"(3/323)،
[2] ـ أخرجه مسلم (1126)
[3] ـ أخرجه البخارى (1900)
[4] ـ أخرجه البخاري (1794).
[5] ـ أخرجه البخاري (189 ،
[6] ـ أخرجه البخاري (4233)،ومسلم (1127).
[7] ـ أخرجه البخاري (1859)،ومسلم (1136).
[8] ـ أخرجه البخاري (1824)،ومسلم (1135).
[9] ـ أخرجه البخاري (،ومسلم ( 16 )
[10] ـ أخرجه البخاري (1891).
[11] ـ أخرجه البخاري معلقا بصيغة الجزم(3/34)،وصححه الألباني في "صحيح سنن أبي داود"(2/433)
[12] ـ أخرجه البخاري (4237)،ومسلم (1145).
[13] ـ أخرجه البخاري (1816)
[14] ـ أخرجه أبو داود (507) ، والبيهقي (1830) ، وأحمد (22177) ، والطبراني (270)،وصححه الألباني في "صحيح سنن أبي داود"(507).
[15] ـ نظم الأجهوري : الاختلاف في أشهر الصوم التامة والناقصة في حياته صلى الله عليه وسلم فقال :
و فرض الصيام ثاني الهجرة ........فصام تسعة نبيّ الرحمة
فأربعا تسعاوعشرين يوم وما........زاد على ذا بالكمال اتّسما
كذا لبعضهم وقال الهيتمي..........ماصام كاملا سوى شهر علم
و للدمّيري أنه شهران...........و ناقص سواه خذ بياني
ذكره الطحطاوي في حاشيته "مراقي الفلاح"( ص : 430)من كتب الحنفية
[16] ـ ما بين المعكوفتين من "فقه العبادات" لابن عثيمين( ص: 17.
[17] ـ أي: من موانع الوجوب وهذا يختص بالمرأة، فيشترط في وجوب الصوم عليها ألاّ تكون حائضاً ولا نفساء، فإن كانت حائضاً أو نفساء: لم يلزمها الصوم، وإنما تقضي بدل الأيام التي أفطرت
[18] ـ أخرجه ابن حبان (7491) ، والحاكم (2837) ، والطبراني (7667) . أخرجه الطبراني (7666) قال الهيثمي (1/77) : رجاله رجال الصحيح . والحاكم (2837) وقال صحيح على شرط مسلم . والبيهقي فى "إثبات عذاب القبر" (ص 78 ، رقم 9 . وصححه الألباني في "الصحيحة" ( 3951 )
[19] ـ "مجموع الفتاوى" (25/225).
[20] ـ "حلية العلماء" (3/19، وانظر: "الأحكام السلطانية" للماوردي (ص227).
[21] ـ الكبائر (ص64).
[22] ـ "مجموع فتاوى ورسائل الشيخ ابن عثيمين" (19/89 ـ 90) .
[23] ـ "زاد المعاد"(4/6)
فهذه الحلقة الثانية في ذكر بعض الفوائد والأحكام المتعلقة بصيام شهر رمضان، أحببت أن أتحف به إخواني لعلّ الله أن يكتب لنا المثوبة من عنده سبحانه جل وعز،إنه جوادكريم.
تعريف الصيام :
الصيام لغة: الإمساك، يقال: صام الفرس، إذا أمسك عن الجري ،قال الله تعالى مخبرا عن مريم رضي الله عنها :{إنّي نذرت للرّحمن صوما } الآية أي :صمتًا؛ لأنه إمساك عن الكلام، وقال الشاعر:
خيل صيَامٌ وخَيلٌ غير صائمة ... تحت العجاج وأخرى تعلك اللجُمَا
يعني بالصائمة الممسكة عن الصهيل وصام النهار صومًا إذا قام قائم الظهيرة قال امرؤ القيس:
فدعها وسلِّ الهمَ عنها بحسرة ... ذمول إذا صام النهار وهَجَّرا.[1]
وفي الشرع: إمساك عن أشياء مخصوصة في زمن مخصوص من شخص مخصوص.
فأما الأشياء المخصوصة فهي مفسداته؛ وأما الزمن المخصوص فهو من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس؛ وأما الشخص فهو المسلم العاقل غير الحائض والنفساء.
سبب تسمية شهر الصيام بشهر رمضان :
اختلف أهل العلم في سبب تسمية شهر رمضان بهذا الاسم على أقوال عدة :
ـ قيل :لأنه ترمض فيه الذنوب -أي تحترق- لأن الرمضاء شدة الحر.
ـ وقيل : لابتداء الصوم في زمن حار.
ـ وقيل : لأن العرب كانوا يرمضون أسلحتهم فيه أي يحشدونها ويجهزونها استعدادا للحرب في شهر شوال.
ـ وقيل : لارتماض الصائمين فيه من حر الجوع ومقاساة شدته.
الصيام عند الأمم السابقة قبل الإسلام :
قال تعالى: { يأيها الذين أمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون}
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : إن أهل الجاهلية كانوا يصومون يوم عاشوراء وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم صامه والمسلمون قبل أن يفترض رمضان فلما افترض رمضان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن عاشوراء يوم من أيام الله فمن شاء صامه ومن شاء تركه.[2]
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة فرأى اليهود تصوم يوم عاشوراء فقال: ما هذا؟ قالوا: هذا يوم صالح، هذا يوم نجى الله بني إسرائيل من عدوهم فصامه موسى، قال: فأنا أحق بموسى منكم فصامه وأمر بصيامه.[3]
وعن عائشة رضي الله عنها أن قريشاً كانت تصوم يوم عاشوراء في الجاهلية ، ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بصيامه حتى فُرض رمضان ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من شاء فلْيصُمْ ومن شاء أفطر.[4]
وعنها رضي الله عنها قالت: كان يوم عاشوراء تصومه قريش في الجاهلية، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصومه فلما قدم المدينة صامه وأمر بصيامه، فلما فرض رمضان ترك يوم عاشوراء، فمن شاء صامه ومن شاء تركه.[5]
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال :دخل عليه الأشعث وهو يَطْعَم فقال : اليوم عاشوراء ، فقال : كان يُصام قبل أن ينزل رمضان ، فلما نزل رمضان تُرك ، فادْنُ فكُل.[6]
وعن الرُّبَيِّع بنت مُعوِّذ لقالت:أرسل النبي صلى الله عليه وسلم غداةَ عاشوراء إلى قرى الأنصار : من أصبح مفطراً فلْيُتمَّ بقيةَ يومه ومن أصبح صائماً فلْيصمْ قالت : فكنا نصومه بعدُ ونُصوِّم صبيانَنا ، ونجعل لهم اللعبةَ من العِهْن فإذا بكى أحدُهم على الطعام أعطيناه ذلك حتى يكون عند الإفطار.[7]
وعن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث رجلاً ينادي في الناس يوم عاشوراء : إِنَّ مَن أكل فليُتِمَّ أو فلْيصُمْ ومن لم يأكل فلا يأكل.[8]
حكم صوم شهر رمضان :
صوم رمضان واجب وهو أحد أركان الإسلام ،من جحد وجوبه بعد العلم كفر ،وإن كان جاهلاً يعرّف؛ ومن ترك صيامه تهاونا وكسلا لا جحودا فهو تحت مشيئة الله تعالى -على القول الراجح-، والأصل في وجوبه: الكتاب والسُّنة والإجماع.
فمن الكتاب : قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون }
من السنة :
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والحج وصوم رمضان.[9]
وعن طلحة بن عبيد الله أن أعرابيا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثائر الرأس فقال يا رسول الله أخبرني ماذا فرض الله علي من الصلاة فقال الصلوات الخمس إلا أن تطوع شيئا فقال أخبرني ما فرض الله علي من الصيام فقال شهر رمضان إلا أن تطوع شيئا فقال أخبرني بما فرض الله علي من الزكاة فقال فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم شرائع الإسلام قال والذي أكرمك لا أتطوع شيئا ولا أنقص مما فرض الله علي شيئا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أفلح إن صدق أو دخل الجنة إن صدق.[10]
فرضية شهر رمضان مرّ على ثلاثة مراحل:
مراتب صيام شهر رمضان مر على ثلاثة مراحل :
المرحلة الأولى : من شاء صامه ومن شاء أفطره وأطعم عن كل يوم مسكيناً .
عن ابن أبي ليلى حدثنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم قال :نزل رمضان فشق عليهم فكان من أطعم كل يوم مسكينا ترك الصوم ممن يطيقه ورخص لهم في ذلك فنسختها (وأن تصوموا خير لكم) فأمروا بالصوم.[11]
وعن يزيد مولى سلمة بن الأكوع عن سلمة رضي الله عنه قال : لما نزلت { وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين } . كان من أراد أن يفطر ويفتدي حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها.[12]
المرحلة الثانية : من نام قبل أن يفطر لم يأكل ليلته ولا يومه حتى يمسي.
عن البراء رضي الله عنه قال : كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إذا كان الرجل صائما فحضر الإفطار فنام قبل أن يفطر لم يأكل ليلته ولا يومه حتى يمسي وإن قيس بن صرمة الأنصاري كان صائما فلما حضر الإفطار أتى امرأته فقال لها أعندك طعام ؟ . قالت لا ولكن أنطلق فأطلب لك وكان يومه يعمل فغلبته عيناه فجاءته امرأته فلما رأته قالت خيبة لك فلما انتصف النهار غشي عليه فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية { أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم } . ففرحوا بها فرحا شديدا ونزلت { وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود }.[13]
المرحلة الثالثة : وهى التي استقر عليها الشرع إلى يوم القيامة .
عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال :أُحيلت الصلاةُ ثلاثةَ أحوال ، وأُحيل الصيامُ ثلاثةَ أحوال - فذكر الحديث إلى أن قال - وأما أحوالُ الصيام ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدِم المدينة ، فجعل يصوم من كل شهر ثلاثة أيام - وقال يزيد : تسعة عشر شهراً - من ربيع الأول إلى رمضان ، من كل شهر ثلاثة أيام وصام يوم عاشوراء ، ثم إن الله فرض عليه الصيام فأنزل الله عزَّ وجلَّ ( يا أَيُّها الذين آمنوا كُتِبَ عليكم الصِّيامُ كما كُتبَ على الذين من قبلِكم ... ) إلى هذه الآية ( ... وعلى الذين يُطيقونُه فِدْيةٌ طعامُ مسكين ... ) قال : فكان مَن شاء صام ، ومن شاء أطعم مسكيناً ، فأجزأ ذلك عنه ، قال : ثم إن الله عزَّ وجلَّ أنزل الآية الأخرى ( شهرُ رمضانَ الذي أُنزلَ فيه القرآنُ ... ) إلى قوله ( ... فمن شهدَ منكم الشَّهرَ فَلْيصُمْه ... ) قال : فأثبت الله صيامه على المقيم الصحيح ، ورخَّص فيه للمريض والمسافر ، وثبَّت الإِطعام للكبير الذي لا يستطيع الصيام ، فهذان حَوْلان ، قال : وكانوا يأكلون ويشربون ، ويأتون النساء ما لم يناموا فإذا ناموا امتنعوا ، قال : ثم إن رجلاً من الأنصار يقال له صِرْمة ، ظل يعمل صائماً حتى أمسى ، فجاء إلى أهله فصلَّى العشاء ثم نام فلم يأكل ولم يشرب حتى أصبح ، فأصبح صائماً ، قال : فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد جَهَد جَهْداً شديداً ، قال : مالي أراك قد جَهَدْت جَهْداً شديداً ؟ قال : يا رسول الله ، إني عملتُ أمسِ ، فجئت حين جئت ، فألقيتُ نفسي فنمت ، وأصبحتُ حين أصبحتُ صائماً ، قال : وكان عمر قد أصاب النساء من جارية ، أو من حرَّة ، بعدما نام ، وأتى النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكر ذلك له ، فأنزل الله عزَّ وجلَّ ( أُحلَّ لكم ليلةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نسائِكم … ) إلى قوله ( ... ثم أتِمُّوا الصيامَ إِلى الليلِ ... ) - وقال يزيد -فصام تسعةَ عشر شهراً من ربيع الأول إلى رمضان[14] }.
في أي عام فرض الصيام على المسلمين وكم سنة صام النبي صلى الله عليه وسلم :
فرض صيام شهر رمضان في السنة الثانية من الهجرة ، وصام الرسول صلى الله عليه وسلم تسع رمضانات[15] ، وتوفي النبي صلى الله عليه وسلم في شهر ربيع الأول سنة إحدى عشرة من الهجرة.
على من يجب صيام رمضان :
"يجب صوم رمضان على كل مسلم بالغ عاقل قادر مقيم خال من الموانع"[16].[17]
الترهيب من الفطر في رمضان :
عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أتاني رجلان فأخذا بضبعي فأتيا بي جبلا وعرا فقالا : اصعد فقلت : إني لا أطيقه فقالا : إنا سنسهله لك . فصعدت حتى إذا كنت في سواء الجبل إذا بأصوات شديدة قلت : ما هذه الأصوات ؟ قالوا : هذا عواء أهل النار
ثم انطلق بي فإذا أنا بقوم معلقين بعراقيبهم مشققة أشداقهم تسيل أشداقهم دما قال : قلت : من هؤلاء ؟ قال : هؤلاء الذين يفطرون قبل تحلة صومهم فقال : خابت اليهود والنصارى - فقال سليمان : ما أدري أسمعه أبو أمامة من رسول الله صلى الله عليه وسلم أم شئ من رأيه ؟
ثم انطلقا بي فإذا بقوم أشد شئ انتفاخا وأنتنه ريحا وأسوأه منظرا فقلت : من هؤلاء ؟ فقال : هؤلاء قتلى الكفار
ثم انطلقا بي فإذا بقوم أشد شئ انتفاخا وانتنه ريحا كأن ريحهم المراحيض قلت : من هؤلاء ؟ قال : هؤلاء الزانون والزواني
ثم انطلقا بي فإذا أنا بنساء تنهش ثديهن الحيات قلت : ما بال هؤلاء ؟ قال : هؤلاء اللاتي يمنعن أولادهن ألبانهن
ثم انطلقا بي فإذا أنا بالغلمان يلعبون بين نهرين قلت : من هؤلاء ؟ قال : هؤلاء ذراري المؤمنين
ثم أشرفا بي شرفا فإذا أنا بنفر ثلاثة يشربون من خمر لهم قلت : من هؤلاء ؟ قال : هؤلاء جعفر وزيد وابن رواحة
ثم أشرفا بي شرفا آخر فإذا أنا بنفر ثلاثة قلت : من هؤلاء ؟ قال : هذا إبراهيم وموسى وعيسى وهم ينظرونك.[18]
قال ابن تيمية رحمه الله : وإذا كان المتقيء معذوراً كان ما فعله جائزاً، وصار من جملة المرضى الذين يقضون، ولم يكن من أهل الكبائر أفطروا بغير عذر.[19]
وقال القفّال رحمه الله:ومن أفطر في رمضان بغير جماع من غير عذر وجب عليه القضاء وإمساك بقية نهاره، ولا كفارة عليه. وعزّره السلطان. وبه قال أحمد وداود[20].
وقال الذهبي رحمه الله : وعند المؤمنين مقرّر أن من ترك صوم شهر رمضان بلا مرض ولا غرض أنه شرّ من الزاني والمكّاس ومدمن الخمر، بل يشكّون في إسلامه، ويظنون به الزندقة والانحلال[21].
سئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله : عن حكم الفطر في نهار رمضان بدون عذر ؟
فأجاب بقوله:
الفطر في نهار رمضان بدون عذر من أكبر الكبائر ، ويكون به الإنسان فاسقا ، ويجب عليه أن يتوب إلى الله ، وأن يقضي ذلك اليوم الذي أفطره ، يعني لو أنه صام وفي أثناء اليوم أفطر بدون عذر فعليه الإثم ، وأن يقضي ذلك اليوم الذي أفطره ؛ لأنه لما شرع فيه التزم به ودخل فيه على أنه فرض فيلزمه قضاؤه كالنذر ، أما لو ترك الصوم من الأصل متعمدا بلا عذر : فالراجح : أنه لا يلزمه القضاء ؛ لأنه لا يستفيد به شيئا ، إذ إنه لن يقبل منه ، فإن القاعدة أن كل عبادة مؤقتة بوقت معين فإنها إذا أخرت عن ذلك الوقت المعين بلا عذر لم تقبل من صاحبها ؛ لقول النبي صلى الله عليه وسل : ( من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد ) ولأنه من تعدي حدود الله عز وجل ، وتعدي حدود الله تعالى ظلم ، والظالم لا يقبل منه ، قال الله تعالى : ( ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظلمون ) ؛ ولأنه لو قدم هذه العبادة على وقتها - أي : فعلها قبل دخول الوقت - لم تقبل منه ، فكذلك إذا فعلها بعده لم تقبل منه إلا أن يكون معذورا.[22]
الحكمة من مشروعية الصوم :
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} فالله تعالى شرع الصيام ليكون وسيلة عظمى لتقواه سبحانه، وتقوى الله جماع خيري الدنيا والآخرة، وهي وصية الله للأولين والآخرين، كما قال تعالى: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ) فالصيام شُرع تعبُّدًا لله وخضوعا لأمره، وتعظيما له سبحانه ليتحلى المسلم بالتقوى، التي هي فعل الأوامر، وترك المحارم، فالصوم الحقيقي ليس هو مجرد الإمساك عن الطعام والشراب والتمتع الجنسي فحسب،وإنما المقصود منه تقوى الله تعالى.
ولقد أودع الله في الصوم من الحكم والأسرار والمصالح الدينية والدنيوية ما هو فوق تصور البشر،فمنها تذكير العبد بعظيم نعم الله عليه وجزيل إحسانه إليه فإنه إذا جاع وعطش وهجر شهوته ذكر بعض تلك النعم التي كان يتنعم فيها ،وكونه تدريبًا للمؤمنين على أعمال التقوى في هذا الشهر ،وموجبا لسكون النفس ، وكسر لشهوتها فهو سببٌ لتنزيه هذه النفس وصفائها لأنه يضيق مجاري الشيطان؛ فالشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم؛ يعني يوسوس له ويحمله على الغفلة، وعلى البعد وعلى التكاسل عن الطاعة، ويزين له الوقوع في المعصية ، والصيام يسد عليه تلك المنافذ التي يدخل منها الشيطان،وكونه يتعود به على الصبر وكونه موجبا للرحمة والشفقة والتذكر للفقراء والمساكين ،فإن الإنسان إذا أثر عليه الصيام جوعا وعطشا تذكر حال الفقراء والمساكين وما يلاقونه من الشدة في ذلك ، فيسارع إلى مواساتهم في آلامهم والإحسان إليهم والعطف عليهم ويمد يده بالعون إليهم ، ولما في الصيام من فرصة للعصاة ليقلعوا عن معاصيهم ،ويراجعوا أنفسهم ويتوبوا وينيبوا إلى ربهم ، ولما في الصيام من إراحة للمعدة من الأكل والشرب طيلة فترة الصيام وذلك مفيد لكثير من الأمراض فكثير من الأطباء ينصحون مرضاهم بذلك
قال ابن القيم رحمه الله : وأما مرض الأبدان فقال تعالى:{ ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج}[ النور : 61 ] وذكر مرض البدن في الحج والصوم والوضوء لسر بديع يبين لك عظمة القرآن والإستغناء به لمن فهمه وعقله عن سواه وذلك أن قواعد طب الأبدان ثلاثة : حفظ الصحة والحمية عن المؤذي واستفراغ المواد الفاسدة فذكر سبحانه هذه الأصول الثلاثة في هذه المواضع الثلاثة
فقال في آية الصوم : { فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر }[ البقرة : 184 ] فأباح الفطر للمريض لعذر المرض وللمسافر طلبا لحفظ صحته وقوته لئلا يذهبها الصوم في السفر لاجتماع شدة الحركة وما يوجبه من التحليل وعدم الغذاء الذي يخلف ما تحلل فتخور القوة وتضعف فأباح للمسافر الفطر حفظا لصحته وقوته عما يضعفها
وقال في آية الحج : { فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك}[ البقرة : 196 ) فأباح للمريض ومن به أذى من رأسه من قمل أو حكة أو غيرهما أن يحلق رأسه في الإحرام استفراغا لمادة الأبخرة الرديئة التي أوجبت له الأذى في رأسه باحتقانها تحت الشعر فإذا حلق رأسه تفتحت المسام فخرجت تلك الأبخرة منها فهذا الإستفراغ يقاس عليه كل استفراغ يؤذي انحباسه
والأشياء التي يؤذي انحباسها ومدافعتها عشرة : الدم إذا هاج والمني إذا تبيغ والبول والغائط والريح والقئ والعطاس والنوم والجوع والعطش وكل واحد من هذه العشرة يوجب حبسه داء من الأدواء بحسبه
وقد نبه سبحانه باستفراغ أدناها وهو البخار المحتقن في الرأس على استفراغ ما هو أصعب منه كما هي طريقة القرآن التنبيه بالأدنى على الأعلى
وأما الحمية : فقال تعالى في آية الوضوء:{ وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا }[ النساء : 43 ) فأباح للمريض العدول عن الماء إلى التراب حمية له أن يصيب جسده ما يؤذيه وهذا تنبيه على الحمية عن كل مؤذ له من داخل أو خارج فقد أرشد سبحانه عباده إلى أصول الطب ومجامع قواعده.[23]
هذا وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
كتبه : عبد الحميد الهضابي.
الحواشي :
[1] ـ انظر :"تهذيب اللغة"(12 /182)،و"معجم مقاييس اللغة"(3/323)،
[2] ـ أخرجه مسلم (1126)
[3] ـ أخرجه البخارى (1900)
[4] ـ أخرجه البخاري (1794).
[5] ـ أخرجه البخاري (189 ،
[6] ـ أخرجه البخاري (4233)،ومسلم (1127).
[7] ـ أخرجه البخاري (1859)،ومسلم (1136).
[8] ـ أخرجه البخاري (1824)،ومسلم (1135).
[9] ـ أخرجه البخاري (،ومسلم ( 16 )
[10] ـ أخرجه البخاري (1891).
[11] ـ أخرجه البخاري معلقا بصيغة الجزم(3/34)،وصححه الألباني في "صحيح سنن أبي داود"(2/433)
[12] ـ أخرجه البخاري (4237)،ومسلم (1145).
[13] ـ أخرجه البخاري (1816)
[14] ـ أخرجه أبو داود (507) ، والبيهقي (1830) ، وأحمد (22177) ، والطبراني (270)،وصححه الألباني في "صحيح سنن أبي داود"(507).
[15] ـ نظم الأجهوري : الاختلاف في أشهر الصوم التامة والناقصة في حياته صلى الله عليه وسلم فقال :
و فرض الصيام ثاني الهجرة ........فصام تسعة نبيّ الرحمة
فأربعا تسعاوعشرين يوم وما........زاد على ذا بالكمال اتّسما
كذا لبعضهم وقال الهيتمي..........ماصام كاملا سوى شهر علم
و للدمّيري أنه شهران...........و ناقص سواه خذ بياني
ذكره الطحطاوي في حاشيته "مراقي الفلاح"( ص : 430)من كتب الحنفية
[16] ـ ما بين المعكوفتين من "فقه العبادات" لابن عثيمين( ص: 17.
[17] ـ أي: من موانع الوجوب وهذا يختص بالمرأة، فيشترط في وجوب الصوم عليها ألاّ تكون حائضاً ولا نفساء، فإن كانت حائضاً أو نفساء: لم يلزمها الصوم، وإنما تقضي بدل الأيام التي أفطرت
[18] ـ أخرجه ابن حبان (7491) ، والحاكم (2837) ، والطبراني (7667) . أخرجه الطبراني (7666) قال الهيثمي (1/77) : رجاله رجال الصحيح . والحاكم (2837) وقال صحيح على شرط مسلم . والبيهقي فى "إثبات عذاب القبر" (ص 78 ، رقم 9 . وصححه الألباني في "الصحيحة" ( 3951 )
[19] ـ "مجموع الفتاوى" (25/225).
[20] ـ "حلية العلماء" (3/19، وانظر: "الأحكام السلطانية" للماوردي (ص227).
[21] ـ الكبائر (ص64).
[22] ـ "مجموع فتاوى ورسائل الشيخ ابن عثيمين" (19/89 ـ 90) .
[23] ـ "زاد المعاد"(4/6)