هذا وقد مضى في كلام الشاطبي ومن نقل عنهم أن الأذان النبوي كان يوم الجمعة على المنارة ، وقد صرح بذلك ابن الحاج أيضاً في "المدخل" ، فقال ما مختصره : (( إن السنة في أذان الجمعة إذا صعد الإمام على المنبر أن يكون المؤذن على المنارة ، كذلك كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر و صدراً من خلافة عثمان ، ثم زاد عثمان أذاناً آخر بالزوراء ؛ لما كثر الناس ، وأبقى الأذان الذي كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنارة و الخطيب على المنبر إذ ذاك )) ، ثم ذكر قصة نقل هشام للأذان نحو ما تقدم نقله عن الشاطبي .
قلت : ولم أقف على ما يدل صراحة أن الأذان النبوي كان على المنارة ؛ إلا ما تقدم في الحديث أنه كان على باب المسجد ، فإن ظاهره أنه على سطحه عند الباب ، ويؤيد هذا أن من المعروف أنه كان لبلال – وهو الذي يؤذن يوم الجمعة – شيء يرقى عليه ليؤذن ، ففي "صحيح البخاري" (4/110) عن القاسم بن محمد عائشة رضي الله عنها : (( إن بلالاً كان يؤذن بليل ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( كلوا و اشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم ، فإنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر )) ، قال القاسم : ولم يكن بين أذانـهما إلا أن يرقى هذا وينزل ذا )) .
فلعله كان هناك عند الباب على السطح شيء مرتفع ، يشبه المنارة ، وقد يشهد لهذا ما أخرجه ابن سعد في "الطبقات" (8/307) بإسناده عن أم زيد بن ثابت قالت : (( كان بيتي أطول بيت حول المسجد ، فكان بلال يؤذن فوقه من أول ما أذن ، إلى أن بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجده ، فكان يؤذن بعدُ على ظهر المسجد ، وقد رفع له شيء فوق ظهره )) . لكن إسناده ضعيف ، وقد رواه أبو داود بإسناد حسن دون قوله : (( وقد رفع له شيء فوق ظهره )) ، والله أعلم .
والذي تلخص عندي في هذا الموضوع ؛ أنه لم يثبت أن المنارة في المسجد كانت معروفة في عهده صلى الله عليه وسلم (1) ، ولكن من المقطوع به أن الأذان كان حينذاك في مكان مرتفع على المسجد يرقى إليه كما تقدم ، ومن المحتمل أن الرقي المذكور إنما هو إلى ظهر المسجد فقط (2) ، ومن المحتمل أنه إلى شيء كان فوق ظهره كما في حديث أم زيد ، وسواء كان الواقع هذا أو ذاك ، فالذي نجزم به أن المنارة المعروفة اليوم ليست من السنة في شيء ، غير أن المعنى المقصود منها – وهو التبليغ – أمر مشروع بلا ريب ، فإذا كان التبليغ لا يحصل إلا بـها ، فهي حينئذ مشروعة ؛ لما تقرر في علم الأصول : أن ما لا يقوم الواجب إلا به ؛ فهو واجب ، و لكن ترفع بقدر الحاجة .
غير أن من رأيي أن وجود الآلات المكبرة للصوت اليوم يغني عن اتخاذ المئذنة كأداة للتبليغ ، ولا سيما أنـها تكلف أموالاً طائلة ، فبناؤها والحالة هذه – مع كونه بدعة ، ووجود ما يغني عنه– غير مشروع ؛ لما فيه من إسراف و تضييع للمال ، ومما يدل دلالة قاطعة على أنـها صارت اليوم عديمة الفائدة ؛ أن المؤذنين لا يصعدون إليها البتة ، مستغنين عنها بمكبرات الصوت .
لكننا نعتقد أن الأذان في المسجد أمام المكبر لا يشرع ؛ لأمور :
منها : التشويش على من فيه من التالين و المصلين والذاكرين .
ومنها: عدم ظهور المؤذن بجسمه ، فإن ذلك من تمام هذا الشعار الإسلامي العظيم ( الأذان ) .
لذلك نرى أنه لا بد للمؤذن من البروز على المسجد، والتأذين أمام المكبر، فيجمع بين المصلحتين، وهذا التحقيق يقتضي اتخاذ مكان خاص فوق المسجد يصعد إليه المؤذن ، ويوصل إليه مكبر الصوت ، فيؤذن أمامه ، وهو ظاهر للناس .
ومن فائدة ذلك أنه قد تنقطع القوة الكهربائية ويستمر المؤذن على أذانه وتبليغه إياه إلى الناس من فوق المسجد ، بينما هذا لا يحصل – والحالة هذه – إذا كان يؤذن في المسجد ؛ كما هو ظاهر .
ولا بد من التذكير هنا بأنه لا بد للمؤذنين من المحافظة على سنة الالتفات يمنة ويسرة عند الحيعلتين ، فإنـهم كادوا أن يُطبِقوا على ترك هذه السنة ؛ تقيداً منهم باستقبال لاقط الصوت ، ولذلك نقترح وضع لاقطين على اليمين واليسار قليلاً بحيث يجمع بين تحقيق السنة المشار إليها ، والتبليغ الكامل .
ولا يقال : إن القصد من الالتفات هو التبليغ فقط ، وحينئذ فلا داعي إليه مع وجود المكبر ؛ لأننا نقول : إنه لا دليل على ذلك ، فيمكن أن يكون في الأمر مقاصد أخرى قد تخفى على الناس ، فالأولى المحافظة على هذه السنة على كل حال .
(منقول من: الأجوبة النافعة عن أسئلة لجنة مسجد الجامعة تأليف العلامة المحدث محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله)
------------------------------------------
(1) ولا ينافي هذا قول عبد الله بن شقيق التابعي : (( من السنة الأذان من المنارة و الإقامة في المسجد ، وكان عبد الله يفعله )) ، أخرجه ابن أبي شيبة (1/86/1) بسند صحيح عنه ، وذلك لما تقرر في علم الأصول ؛ أن قول التابعي : من السنة كذا ؛ ليس في حكم المرفوع ، بخلاف ما إذا قال ذلك صحابي ، فإنه في حكم المرفوع .
(2) كما في حديث عروة بن الزبير قال : (( أمر النبي صلى الله عليه وسلم بلالاً أن يؤذن يوم الفتح فوق الكعبة )) ، أخرجه ابن أبي شيبة (1/86/1) بسند صحيح عنه ؛ إلا أنه مرسل .
قلت : ولم أقف على ما يدل صراحة أن الأذان النبوي كان على المنارة ؛ إلا ما تقدم في الحديث أنه كان على باب المسجد ، فإن ظاهره أنه على سطحه عند الباب ، ويؤيد هذا أن من المعروف أنه كان لبلال – وهو الذي يؤذن يوم الجمعة – شيء يرقى عليه ليؤذن ، ففي "صحيح البخاري" (4/110) عن القاسم بن محمد عائشة رضي الله عنها : (( إن بلالاً كان يؤذن بليل ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( كلوا و اشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم ، فإنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر )) ، قال القاسم : ولم يكن بين أذانـهما إلا أن يرقى هذا وينزل ذا )) .
فلعله كان هناك عند الباب على السطح شيء مرتفع ، يشبه المنارة ، وقد يشهد لهذا ما أخرجه ابن سعد في "الطبقات" (8/307) بإسناده عن أم زيد بن ثابت قالت : (( كان بيتي أطول بيت حول المسجد ، فكان بلال يؤذن فوقه من أول ما أذن ، إلى أن بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجده ، فكان يؤذن بعدُ على ظهر المسجد ، وقد رفع له شيء فوق ظهره )) . لكن إسناده ضعيف ، وقد رواه أبو داود بإسناد حسن دون قوله : (( وقد رفع له شيء فوق ظهره )) ، والله أعلم .
والذي تلخص عندي في هذا الموضوع ؛ أنه لم يثبت أن المنارة في المسجد كانت معروفة في عهده صلى الله عليه وسلم (1) ، ولكن من المقطوع به أن الأذان كان حينذاك في مكان مرتفع على المسجد يرقى إليه كما تقدم ، ومن المحتمل أن الرقي المذكور إنما هو إلى ظهر المسجد فقط (2) ، ومن المحتمل أنه إلى شيء كان فوق ظهره كما في حديث أم زيد ، وسواء كان الواقع هذا أو ذاك ، فالذي نجزم به أن المنارة المعروفة اليوم ليست من السنة في شيء ، غير أن المعنى المقصود منها – وهو التبليغ – أمر مشروع بلا ريب ، فإذا كان التبليغ لا يحصل إلا بـها ، فهي حينئذ مشروعة ؛ لما تقرر في علم الأصول : أن ما لا يقوم الواجب إلا به ؛ فهو واجب ، و لكن ترفع بقدر الحاجة .
غير أن من رأيي أن وجود الآلات المكبرة للصوت اليوم يغني عن اتخاذ المئذنة كأداة للتبليغ ، ولا سيما أنـها تكلف أموالاً طائلة ، فبناؤها والحالة هذه – مع كونه بدعة ، ووجود ما يغني عنه– غير مشروع ؛ لما فيه من إسراف و تضييع للمال ، ومما يدل دلالة قاطعة على أنـها صارت اليوم عديمة الفائدة ؛ أن المؤذنين لا يصعدون إليها البتة ، مستغنين عنها بمكبرات الصوت .
لكننا نعتقد أن الأذان في المسجد أمام المكبر لا يشرع ؛ لأمور :
منها : التشويش على من فيه من التالين و المصلين والذاكرين .
ومنها: عدم ظهور المؤذن بجسمه ، فإن ذلك من تمام هذا الشعار الإسلامي العظيم ( الأذان ) .
لذلك نرى أنه لا بد للمؤذن من البروز على المسجد، والتأذين أمام المكبر، فيجمع بين المصلحتين، وهذا التحقيق يقتضي اتخاذ مكان خاص فوق المسجد يصعد إليه المؤذن ، ويوصل إليه مكبر الصوت ، فيؤذن أمامه ، وهو ظاهر للناس .
ومن فائدة ذلك أنه قد تنقطع القوة الكهربائية ويستمر المؤذن على أذانه وتبليغه إياه إلى الناس من فوق المسجد ، بينما هذا لا يحصل – والحالة هذه – إذا كان يؤذن في المسجد ؛ كما هو ظاهر .
ولا بد من التذكير هنا بأنه لا بد للمؤذنين من المحافظة على سنة الالتفات يمنة ويسرة عند الحيعلتين ، فإنـهم كادوا أن يُطبِقوا على ترك هذه السنة ؛ تقيداً منهم باستقبال لاقط الصوت ، ولذلك نقترح وضع لاقطين على اليمين واليسار قليلاً بحيث يجمع بين تحقيق السنة المشار إليها ، والتبليغ الكامل .
ولا يقال : إن القصد من الالتفات هو التبليغ فقط ، وحينئذ فلا داعي إليه مع وجود المكبر ؛ لأننا نقول : إنه لا دليل على ذلك ، فيمكن أن يكون في الأمر مقاصد أخرى قد تخفى على الناس ، فالأولى المحافظة على هذه السنة على كل حال .
(منقول من: الأجوبة النافعة عن أسئلة لجنة مسجد الجامعة تأليف العلامة المحدث محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله)
------------------------------------------
(1) ولا ينافي هذا قول عبد الله بن شقيق التابعي : (( من السنة الأذان من المنارة و الإقامة في المسجد ، وكان عبد الله يفعله )) ، أخرجه ابن أبي شيبة (1/86/1) بسند صحيح عنه ، وذلك لما تقرر في علم الأصول ؛ أن قول التابعي : من السنة كذا ؛ ليس في حكم المرفوع ، بخلاف ما إذا قال ذلك صحابي ، فإنه في حكم المرفوع .
(2) كما في حديث عروة بن الزبير قال : (( أمر النبي صلى الله عليه وسلم بلالاً أن يؤذن يوم الفتح فوق الكعبة )) ، أخرجه ابن أبي شيبة (1/86/1) بسند صحيح عنه ؛ إلا أنه مرسل .
تعليق