ماحكم العمرة من التنعيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين ، أما بعد:
فعن عائشة رضي الله عنها قالت :خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نذكر إلا الحج حتى جئنا سرف فطمثت فدخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي فقال ما يبكيك ؟ فقلت والله لوددت أني لم أكن خرجت العام قال مالك ؟ لعلك نفست ؟ قلت نعم قال هذا شيء كتبه على بنات آدم افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري قالت فلما قدمت مكة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه اجعلوها عمرة فأحل الناس إلا من كان معه الهدي قالت فكان الهدي مع النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وذوي اليسارة ثم أهلوا حين راحوا قالت فلما كان يوم النحر طهرت فأمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم فأفضت قالت فأتينا بلحم بقر فقلت ما هذا ؟ فقالوا أهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نسائه البقر فلما كانت ليلة الحصبة قلت يا رسول الله يرجع الناس بحجة وعمرة وأرجع بحجة ؟ قالت فأمر عبدالرحمن بن أبي بكر فأردفني على جمله قالت فإني لأذكر وأنا جارية حديثة السن أنعس فتيصيب وجهي مؤخرة الرحل حتى جئنا إلى التنعيم فأهللت منها بعمرة جزاء بعمرة الناس التي اعتمروا .1
وفي رواية "وكان صلى الله عليه وسلم رجلاً سهلاً إذا هَوِيَتِ الشيء تابعها عليه، فأرسلها مع أخيها عبد الرحمن، فأهلت بعمرة من التنعيم.2
فهذه العمرة التي فعلتها عائشة رضي الله عنها خاصة بالحائض التي لم تتمكن من الإتيان بعمرة الحج بين يدي الحج ، فمن أهلت من النساء بعمرة الحج كما فعلت عائشة رضي الله عنها ثم حال بينها وبين إتمامها ما كتبه الله تعالى على بنات آدم عليه السلام من الحيض شرع لها أن تأتي بعمرة من التنعيم، أو أي حدّ من حدود الحرم ،ولا يشرع لغيرها من النساء الطاهرات فضلاً عن الرجال،وما يفعله كثير من الأفاقيين –أي: غير أهل مكة- من الإتيان بعمرة من التنعيم فالصحيح من قولي العلماء أنها عمرة مبتدعة وغير مشروعة إلا من كانت من النساء في حالة عائشة رضي الله عنها وذلك لما يلي :
أولا :
إن أخاها عبد الرحمن رضي الله عنه لما أمرة النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرج معها من التنعيم لم يأت هو بعمرة ،فلو كانت جائزة لم يحرم نفسه من الأجر العظيم المترتب من الإتيان بعمرة.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: وذلك أنه مخالف لهدي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فإن النبي صلى الله عليه وسلم فتح مكة في رمضان في عشرين من رمضان وبقي في مكة آمنا مطمئنا ولم يخرج هو وأصحابه ولا أحد منهم إلى التنعيم من أجل أن يأتوا بعمرة مع أن الزمن هو رمضان وذلك في عام الفتح ولم يعهد أن أحداً من الصحابة أتى بعمرة من التنعيم أبداً إلا عائشة رضي الله عنها لسبب من الأسباب وذلك أن عائشة رضي الله عنها قدمت من المدينة في حجة الوداع مع النبي صلى الله عليه وسلم وكانت محرمة بالعمرة فحاضت قبل أن تصل إلى مكة فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تحرم بالحج لتكون قارنة ففعلت ومن المعلوم أن القارن لا يأتي بأفعال العمرة تامة بل تندرج أفعال العمرة بأفعال الحج فلما انتهى الناس من الحج طلبت عائشة من النبي صلى الله عليه وسلم أن تعتمر فأمرها أن تخرج مع أخيها عبد الرحمن بن أبي بكر إلى التنعيم فتحرم بالعمرة) ففعلت ولما كان هذا السبب ليس موجودا في أخيها عبد الرحمن لم يحرم بعمرة بل جاء مُحِلاً وهذا أكثر ما يعتمد عليه الذين يقولون بجواز العمرة من التنعيم لمن كان في مكة وكما سمعت ليس فيه دليل بذلك لأنه خاص بحال معينة أذن فيها النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة.3
ثانيا :
لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم فعلها ولا حث عنها ولا رغّب فيها لا من قوله ولا من فعله ولا من تقريره –أي:خروج الأفاقي إلى حد من حدود الحرم للإتيان بعمرة-،ولو كانت مشروعة لبيّنها النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه رضي الله عنهم كما بين المواقيت الشرعية ،فعن ابن عباس بقال إن النبي صلى الله عليه وسلم وقت لأهل المدينة ذا الحليفة ولأهل الشأم الجحفة ولأهل نجد قرن المنازل ولأهل اليمن يلملم هن لهن ولمن أتى عليهن من غيرهن ممن أراد الحج والعمرة ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ حتى أهل مكة من مكة.4
قال شيخنا عبد المجسن العباد ـ حفظه الله ـ: فلو كان ذلك مشروعاً لأرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم ، ولقال لأصحابه الذين كانوا بالآلاف نازلين في الأبطح وهم ينتظرون عائشة : اذهبوا إلى التنعيم وائتوا بعمرة ما دمتم جالسين، والنبي صلى الله عليه وسلم عُمره كلها كانت وهو داخل إلى مكة، والترغيب إنما هو في عمرة الإنسان الذي يدخل إلى مكة، أما إنسان تحت الكعبة يذهب مسافة كيلو أو أكثر ويرجع ويقول: لبيك عمرة، ومعنى لبيك: دعوتني فأجبتك، فهذا لا يناسب، بل يناسب من أتى بعمرة بسفره من خارج مكة، فمن حصل لها من النساء مثلما حصل لعائشة فلها أن تفعل مثلما فعلت عائشة ، أما كون الإنسان يقول: العمرة من التنعيم سائغة ومشروعة، ونأتي بعشر عمر أو خمس عمر أو ثلاث عمر؛ فهذا لا يوجد شيء يدل عليه.5
ثالثا :
لم يثبت فعلها لا عن أبي بكر ولا عن عمر ولا عن عثمان ولاعن علي ولا عن أحد من الصحابة الكرام رضي الله عنهم أجمعين.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:يكره الخروج من مكة لعمرة تطوع، وذلك بدعة لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا أصحابه على عهده، لا في رمضان ولا في غيره، ولم يأمر عائشة بها، بل أذن لها بعد المراجعة تطييباً لقلبها، وطوافه بالبيت أفضل من الخروج اتفاقاً، ويخرج عند من لم يكرهه على سبيل الجواز.6
رابعا :
لم يثبت عن أحد من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ،ولا عن أحد من الصحابيات رضي الله عنهن أجمعين أنهن كن يخرجن يعتمرن من التنعيم أو من حد من حدود الحرم .
قال ابن القيم رحمه الله : ولم يكن صلى الله عليه وسلم في عُمْرة واحدة خارجاً من مكة كما يفعل كثير من الناس اليوم، وإنما كانت عمره كلها داخلاً إلى مكة، وقد أقام بعد الوحي بمكة ثلاث عشرة سنة، لم ينقل عنه أنه اعتمر خارجاً من مكة في تلك المدة أصلاً، فالعمرة التي فعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وشرعها فهي عمرة الداخل إلى مكة، لا عمرة من كان بها فيخرج إلى الحل ليعتمر، ولم يفعل هذا على عهد أحد قط إلا عائشة وحدها من بين سائر من كان معه، لأنها كانت قد أهلت بالعمرة فحاضت، فأمرها فأدخلت الحج على العمرة وصارت قارنة، وأخبرها أن طوافها بالبيت وبين الصفا والمروة قد وقع عن حجتها وعمرتها، فوجدت في نفسها أن ترجع صواحباتها بحج وعمرة مستقلين فإنهن كن متمتعات ولم يحضن ولم يَقْرِنَ، وترجع هي بعمرة في ضمن حجتها، فأمر أخاها أن يُعْمِرَها من التنعيم تطييباً لقلبها، ولم يعتمر هو من التنعيم في تلك الحجة ولا أحد ممن كان معه.7
خامسا :
أن عائشة رضي الله عنها صاحبة الحادثة كانت بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم إذا أرادت أن تعتمر تخرج إلى ميقات الجحفة الشرعي ،فقد أخرج البيهقي في "السنن الكبرى" (4/344) بسند صحيح عن عائشة رضي الله عنها بسند صحيح أنها كانت تعتمر في آخر ذي الحجة من الجحفة.8
فلو فهمت أن العمرة من التنعيم جائزة مطلقا فلم تتعب نفسها و ترحّل راحلتها حتى تخرج إلى الجحفة مع العلم أن الجحفة بينها وبين مكة على مسافة ثلاثة مراحل وبالكيلو حوالي " 187 " كلم.
سادسا :
قد ثبت عن السلف إنكارهم لهذه العمرة المبتدعة ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ولهذا كان السلف والأئمة ينهون عن ذلك، فروى سعيد بن منصور في "سننه" عن طاوس -أجَلَّ أصحاب ابن عباس- قال: الذين يعتمرون من التنعيم ما أدري أيؤجرون عليها أم يعذبون؟ قيل: فَلِمَ يُعذَّبون؟ قال: لأنه يدع الطواف بالبيت، ويخرج إلى أربعة أميال ويجيء، وإلى أن يجيء من أربعة أميال يكون قد طاف مائتي طواف، وكلما طاف بالبيت كان أفضل من أن يمشي في غير شيء). وأقره الإمام أحمد. وقال عطاء بن السائب: اعتمرنا بعد الحج، فعاب ذلك علينا سعيد بن جبير.9
كان شيخنا وصي الله عباس ـ حفظه الله ـ كثيرا ما يسأل عن عمرة التنعيم فيكون جوابه للسائل : أنه إذا كان حاله مثل حالة عائشة ل جاز له ذلك –أي: إذا كان الرجل يحيض-.
تنبيه :
وأما من كان في مكة ثم خرج عن حدود الحرم لغرض من الأغراض ولم يخرج بنية العمرة ثم أنشأ نية العمرة جاز له أن يحرم من محله ثم يدخل بعمرة ، لعموم قوله صلى الله عليه وسلم "ومن كان دون ذلك فمحله حيث أنشأ-أي :دون المواقيت المكانية الشرعية-فمحله حيث أنشأ "، وكما فعل النبي صلى الله عليه وسلم أنه اعتمر من الجعرانة لما قفل من غزوة حنين ونزل بها ومعه الغنائم فقسم الغنائم وأقام بها ثم خرج منها ليلا محرما بالعمرة .
وهذا والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وكتبه :
عبد الحميد الهضابي
الحواشي :
ـ أخرجه مسلم ( 1211 )
2 ـ أخرجه مسلم (299
3 ـ "فتاوى الحج من برنامج نور على الدرب "
4 ـ أخرجه البخاري (1524)
5 ـ عقب شرحه لحديث(1786) من "سنن أبي داود"
6 ـ "الاختيارات العلمية" (ص119)
7 ـ "زاد المعاد" (1/243)
8 ـ وصححه الألباني في"الصحيحة"(6/260)
9 ـ "الاختيارات العلمية"(26/264):