حُكْمُ التَّشَهُد فِي سُجُودِ السَّهْوِ
إعداد: أبي عبد الله الأنصاري
حمداً لك اللهم؛ وصلاة وسلام على خاتم رسلك .
أما بعد:
فإنَّ مسائل كثيرة تمرُّ على المسلم في يومه يجد نفسه في حيرة من حكمها؛ وإنَّ من هذه المسائل مسألة التشهد في سجود السَّهو؛ بعدياً كان أم قبلياً، هل يُأتى به أم يُترك؟
فدونك هذا البحث أخي العزيز . .
فدونك هذا البحث أخي العزيز . .
سائلاً المولى سبحانه وتعالى أن ينفع بما كتبت جميع المسلمين .
تَوْطِئَةٌ فِي سُجُودِ السَّهْو
يتعيَّن سجود السهو في الصلاة إمَّا لزِّيَادَةٍ أو نَّقْصٍ وَإِمَّا لشَّكّ؛ فيسجد المسلم في النَّقْصِ وَالشَّكِّ قَبْلَ السَّلَامِ؛ وَفِي الزِّيَادَةِ أو الشك مع غلبة الظن بَعْدَهُ.
وهذا القول جملةً هو قول طائفة من أهل العلم؛ على رأسهم إمام دار الهجرة مالك بن أنس، وأومأ إليه الشافعي في القديم، ونصره شيخ الإسلام ابن تيمية بقوَّة([1]) ونقحَّه مع خلاف مع مالك في موضع السجود في مسألة الشك والتحرِّي؛ واختاره النووي وقوَّاه، وابن دقيق العيد وصاحب العون ورجحَّوا قول مالك بن أنس وعلى هذا جماعة من المعاصرين .
وذهب قوم إلى نفي السجود القبلي وهو ما استقر عليه الأحناف، وذهب الآخرون إلى نفي البعدي وهم الشافعية، ولا يخفى أن ذلك خلاف النصوص والأحاديث الصحيحة والقواعد الأصولية، فقد ثبت السجود البعديّ في حديث ذي اليدين، والقبلي في حديث ابن بحينة، وترجيح أحدهما مع إمكان الجمع فيه إهمال والأولى هو الإعمال .
لذلك قال النووي: " وَأَقْوَى الْمَذَاهِب هُنَا مَذْهَب مَالِك"([2])؛ قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " فَهَذَا الْقَوْلُ الَّذِي نَصَرْنَاهُ هُوَ الَّذِي يُسْتَعْمَلُ فِيهِ جَمِيعُ الْأَحَادِيثِ لَا يُتْرَكُ مِنْهَا حَدِيثٌ، مَعَ اسْتِعْمَالِ الْقِيَاسِ الصَّحِيحِ فِيمَا لَمْ يَرِدْ فِيهِ نَصٌّ، وَإِلْحَاقُ مَا لَيْسَ بِمَنْصُوصِ بِمَا يُشْبِهُهُ مِنْ الْمَنْصُوصِ"([3])، وقد رجَّحه ابن دقيق العيد فقال: " َهَذَا الْمَذْهَبُ([4]) مَعَ مَذْهَبِ مَالِكٍ مُتَّفِقَانِ فِي طَلَبِ الْجَمْعِ، وَعَدَمِ سُلُوكِ طَرِيقِ التَّرْجِيحِ، لَكِنَّهُمَا اخْتَلَفَا فِي وَجْهِ الْجَمْعِ؛ وَيَتَرَجَّحُ قَوْلُ مَالِكٍ . . ."([5]) .
فَإِذَا ثَبَتَ وُجُودُ النَّوْعَيْنِ، القَبْلِيُّ وَالبَعْدِيُّ؛ فَهَلْ فِيهِمَا تَشَهُّدٌ؟
أقول: أمَّا في التشهُّد الذي قبل السلام، فإنَّ الجمهور على أنه لا يعيد التشهد بلا ريب([6]) .
قال الحافظ ابن رجب في الفتح: " وأما السجود قبل السلام، فلا يتشهد فيه عند أحد من العلماء، إلا رواية عن مالك، رواها عنه ابن وهب"([7])، والصحيح ما رواه أشهب عن مالك أنه لا يتشهد في القبلي كما نقله ابن بطَّال([8]) وحكى ذلك عنه ابن رشد في "البداية" .
والأمر في البعدي كذلك، مع وجود خلاف قد يقوى([9])، الراجح فيه أنَّه لاتشهد فيه أيضاً .
وهو ما روي عن سعد بن أبى وقاص، وعمَّار، وابن أبى ليلى، وابن سيرين، وقد حكاه الطحاوي عن الأوزاعى والشافعى: "ليس فيهما تشهد" .
وممن يرى([10]) بأنَّه لا تشهد فيهما أنس، وطاوس، والحسن، والشعبى"([11]) .
قال الخطابي: " . . . لا يتشهد لسجدتي السهو وإن سجدهما بعد السلام"([12]) .
قال الجوزجاني: " لا نعلم في شيء من فعل الرسول -صلى الله عليه وسلم- في سجدتي السهو قبل السلام وبعده، أنه يتشهد بعدهما.
وقال - أيضا-: ليس في التشهد في سجود السهو سُنَّة قائمة تتبع"([13]) .
وقال - أيضا-: ليس في التشهد في سجود السهو سُنَّة قائمة تتبع"([13]) .
قال أبو عمر: " أما السلام من التي بعد السلام، فثابت عن النبي -صلى الله عليه وسلَّم-؛ وأما التشهد فلا أحفظه من وجه ثابت"([14]).
قال ابن المنذر: " التسليم فى سجدتى السهو ثابت عن النبى - صلى الله عليه وسلم - من غير وجه، وفى ثبوت التشهد عنه - صلى الله عليه وسلم - فيهما نظر"([15]).
وأنقل هنا كلام شيخ الإسلام ابن تيمية مع طوله النسبي فإنه كلام نفيس لن تجد مثله في كتاب آخر؛ قال شيخ الإسلام: " وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ أَقْوَالِهِ أَمْرٌ بِالتَّشَهُّدِ بَعْدَ السُّجُودِ وَلَا فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الْمُتَلَقَّاةِ بِالْقَبُولِ : أَنَّهُ يَتَشَهَّدُ بَعْدَ السُّجُودِ، بَلْ هَذَا التَّشَهُّدُ بَعْدَ السَّجْدَتَيْنِ عَمَلٌ طَوِيلٌ بِقَدْرِ السَّجْدَتَيْنِ أَوْ أَطْوَلُ .
وَمِثْلُ هَذَا مِمَّا يُحْفَظُ وَيُضْبَطُ وَتَتَوَفَّرُ الْهِمَمُ وَالدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ فَلَوْ كَانَ قَدْ تَشَهَّدَ لَذَكَرَ ذَلِكَ مَنْ ذَكَرَ أَنَّهُ سَجَدَ، وَكَانَ الدَّاعِي إلَى ذِكْرِ ذَلِكَ أَقْوَى مِنْ الدَّاعِي إلَى ذِكْرِ السَّلَامِ وَذِكْرِ التَّكْبِيرِ عِنْدَ الْخَفْضِ وَالرَّفْعِ، فَإِنَّ هَذِهِ أَقْوَالٌ خَفِيفَةٌ وَالتَّشَهُّدُ عَمَلٌ طَوِيلٌ؛ فَكَيْفَ يَنْقُلُونَ هَذَا وَلَا يَنْقُلُونَ هَذَا؟ . . . وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ أَنْ يَخْتِمَ صَلَاتَهُ بِالسُّجُودِ لَا بِالتَّشَهُّدِ بِدَلِيلِ أَنَّ السُّجُودَ قَبْلَ السَّلَامِ لَمْ يُشْرَعْ قَبْلَ التَّشَهُّدِ بَلْ إنَّمَا شُرِعَ بَعْدَ التَّشَهُّدِ فَعُلِمَ أَنَّهُ جُعَلَ خَاتِمًا لِلصَّلَاةِ لَيْسَ بَعْدَهُ إلَّا الْخُرُوجَ مِنْهَا، وَلِأَنَّ إعَادَةَ التَّشَهُّدِ وَالدُّعَاءِ يَقْتَضِي تَكْرِيرَ ذَلِكَ مَعَ قُرْبِ الْفَصْلِ بَيْنَهُمَا فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَشْرُوعًا كَإِعَادَتِهِ إذَا سَجَدَ قَبْلَ السَّلَامِ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ بَعْدَهُمَا تَشَهَّدٌ لَمْ يَكُنْ الْمَشْرُوعُ سَجْدَتَيْنِ .
وَالنَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إنَّمَا أَمَرَ بِسَجْدَتَيْنِ فَقَطْ لَا بِزِيَادَةِ عَلَى ذَلِكَ وَسَمَّاهُمَا الْمُرْغِمَتَيْنِ لِلشَّيْطَانِ فَزِيَادَةُ التَّشَهُّدِ بَعْدَ السُّجُودِ كَزِيَادَةِ الْقِرَاءَةِ قَبْلَ السُّجُودِ وَزِيَادَةِ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا افْتِتَاحَ لَهُمَا بَلْ يُكَبِّرُ لِلْخَفْضِ لَا يُكَبِّرُ وَهُوَ قَاعِدٌ فَعُلِمَ أَنَّهُمَا دَاخِلَتَانِ فِي تَحْرِيمِ الصَّلَاةِ فَيَكُونَانِ جُزْءًا مِنْ الصَّلَاةِ كَمَا لَوْ سَجَدَهُمَا قَبْلَ السَّلَامِ فَلَا يَخْتَصَّانِ بِتَشَهُّدِ وَلَكِنْ يُسَلِّمُ مِنْهُمَا" اهـ .
قال ابن دقيق العيد: " لَمْ يَذْكُرْ التَّشَهُّدَ بَعْدَ سُجُودِ السَّهْوِ؛ وَفِيهِ خِلَافٌ عِنْدَ أَصْحَابِ مَالِكٍ فِي السُّجُودِ الَّذِي بَعْدَ السَّلَامِ، وَقَدْ يُسْتَدَلُّ بِتَرْكِهِ فِي الْحَدِيثِ عَلَى عَدَمِهِ فِي الْحُكْمِ، كَمَا فَعَلُوا فِي مِثْلِهِ كَثِيرًا، مِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَوْ كَانَ؛ لَذُكِرَ ظَاهِرًا"([16]) .
قالت اللَّجْنَةُ الدَّائِمَة: " لاَ يشْرُعُ التَّشَهُّدُ بَعْدَ سُجُودِ السَّهْوِ إِذَا كَانَ قَبْلَ السَّلاَمِ بِلاَ رَيْبٍ، أَمَّا السُّجُودُ بَعْدَ السَّلاَمِ فَفِيهِ خِلاَفٌ بَيْنَ أَهْلِ العِلْمِ وَالأَرْجَحُ عَدَمُ شَرْعِيَّتِهِ؛ لِعَدَمِ ذِكْرِهِ فِي الأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ"([17]) .
قال ابن عثيمين: " إِنْ كَانَ سُجُودُ السَّهْوِ قَبْلَ السَّلاَمِ فِإِنَّهُ لاَ تَشَهُّدَ فِيهِ؛ وِإنْ كَانَ سُجُودُ السَّهْوِ بّعْدَ السَّلاَمِ فَإِنَّ القَوْلَ الرَّاجِحَ أنَّهُ لاَ تَشَهُّدَ فِيهِ وَإِنَّمَا فِيهِ التَّسْلِيمُ"([18]) .
الخُلاَصَةُ:
لاَ تَشَهُّدَ فِي سُجُودِ السَّهْوِ مطلقاً؛ قَبْلِياً كَانَ أَمْ بَعْدِياً .
وهَذَا مَا بَدَا لِي نَقْلُهُ وَالتَّعْلِيقُ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ المَسْأَلَةِ المُهِمَّةِ، فِإِنَ كَانَ خَطَأُ فَمِنِّي وَمِنَ الشَّيْطَانِ، وَمَا كَانَ صَوَاباً فَبِتَوفِيقٍ مِنَ اللهِ وَهوَ المُسْتَعَانُ .
أعدَّه: أبو عبد الله الأنصاري
الحواشي
-----------------
([1]) انظر مجموع الفتاوى (5/253) .
([2]) نقله عنه شمس الحق في تعقيبه على كلام المازري المنقول في الجزء الأول من العون .
([3]) مجموع الفتاوى (5/253) .
([4]) أي مذهب أحمد .
([5]) إحكام الأحكام (1/437) .
([6]) كذا عن الشوكاني في النيل .
([7]) فتح الباري لابن رجب (7/213) بتصرُّف .
([8]) في شرحه على الصحيح (5/243) .
([9]) لاختلاف في تقوية ضعيف الأحاديث بكثرة الطرق، ذكرنا أنها لا تصل إلى الصحة ولا يقوي بعضها البعض، ولكن بعض أهل العلم أخذوا بها .
([10]) مع نفيهم للسلام أيضاً وهو خلاف الراجح .
([11]) قله ابن بطال في شرحه على الصحيح (5/243) .
([12]) قاله في معرض شرحه لحديث ذي اليدين، وهو من فوائد الحديث، ونقل ذلك عنه صاحب العون (2/486).
([13]) نقله عنه الحافظ ابن رجب في القتح (7/215) .
([14]) نقله عنه ابن رشد في بداية المجتهد (1/154) .
([15]) نقله عنه ابن بطَّال في شرحه على الصحيح والحافظ ابن رجب وابن حجر العسقلاني وغيرهم .
([16]) إحكام الأحكام (1/437) .
([17]) فتاوى اللجنة الدائمة س9 من الفتوى 4624 .
([18]) مجموع الفتاوى والمقالات ف720 .
تعليق