تفريغ
" يُكره رَفْعُ بصرِه إلى السماء " يعني يُكره رَفْعُ بصرِه إلى السمَاء يَعنِي وَهُو يُصلِّي ، سَوَاء فِي حَال القِراءَة أَو فِي حَال الرُّكُوع ، أَو فِي حَال الرَّفْعِ من الرُّكوع ، أَو فِي أَيِّ حَال مِنَ الأَحوَال ؛ يُكره أَن يَرفَع بَصَرَه إِلى السّماء بِدلِيل وَتعلِيل : يعني له دليل و له تعليل أما الدليل ، فلأن النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «لينتهينَّ أقوامٌ عن رَفْعِ أبصارِهم إلى السَّماءِ في الصَّلاة ، أو لتُخْطَفَنَّ أبصارُهم» يعني : إما أن يُنتهوا ، وإما أن يُعاقبوا بهذه العقوبة ، أن تخطف أبصارهم فلا ترجع إليهم ، واشتدَّ قوله صلّى الله عليه وسلّم في ذلك هذا الدليل ، والحقيقة أنَّ الدليل أقوى من المدلول ، لأن الدليل يقتضي أن يكون رَفْعُ البصرِ إلى السَّماءِ محرَّماً ، فإن الرَّسول صلّى الله عليه وسلّم حَذَّر منه ، واشتدَّ قوله فيه ، ثم ذَكَرَ عقوبة محتملة ، وهي أن تُخطف أبصارهم، ولا ترجع إليهم.
ومن المعلوم أن التحذير عن الشيء بِذِكْرِ العقوبة يدلُّ على أنه حرام ، كما قلنا في قول رسول عليهِ الصلاة و السَّلام : «أَمَا يَخشى الذي يرفعُ رأسَه قبل الإمام أن يحوِّل اللهُ رأسَه رأسَ حِمارٍ، أو يجعل صورتَه صورةَ حِمار» قلنا إن هذا دليل على تحريم مسابقة الإمام ، وكذلك أيضا قلنا في قوله عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ « لَتُسَوُّنَّ صُفُوفَكُمْ أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللَّهُ بَيْنَ وُجُوهِكُمْ » قلنا إنَّ فيه دليلاً على القول الرَّاجح على وجوب تسوية الصفِّ.
وهذا الحديث الذي معنا في رفع البصر إلى السماء لا يفصُل دلَالَة عَن دَلالَة قَولِه صلّى الله عليه وسلّم: « أَمَا يَخْشَى الَّذِي يَرْفَعُ رَأْسَهُ قَبْلَ الإِمَامِ أَنْ يُحَوِّلَ اللَّهُ رَأْسَهُ رَأْسَ حِمَارٍ , أَوْ يَجْعَلَ صُورَتَهُ صُورَةَ حِمَارٍ » بل إنَّمَا قَد يَكُون أشدَّ وأبلغَ أن يَرجِع بصرُ الإنسَان إِلى عَمَى قَبلَ أنْ يرتدَّ إليه ، ولهذا كان القول الرَّاجح في رَفْعِ البصرِ إلى السَّماءِ في الصَّلاة أنه حرام ، حرام ليس بمكروه فقط .
وَلكِن إِذَا قُلنَا بِأنَّه حَرَام ثمَّ رَفعَ بصَرَه إلَى السَّماء ، فهَل تُبطِل الصَلاة ؟
اختَلفَ فِي ذَلِك أَهلُ العِلم ، فَقالَ بعضهُم: إِنَّها تُبطُل الصَلاة ، وَعلَّلُوا ذَلكَ بِتعْليلِيْن :
اختَلفَ فِي ذَلِك أَهلُ العِلم ، فَقالَ بعضهُم: إِنَّها تُبطُل الصَلاة ، وَعلَّلُوا ذَلكَ بِتعْليلِيْن :
التعليلُ الأوَّل: أَنَّه فِعلٌ مَنهيٌ عَنْه فِي العبَادة ، والإنسان إذا فَعَل فِعلًا مَنْهِيًا عَنه فِي العِبادة أَبطَلهَا ، لأنَّه يُنافِيها.
وَالتَاني : أنَّ فِيه انحِرافًا عَن القِبلَة ، لأَنَّ اذَا رَفعَ رأسَه صَار مُستَقبِل القِبلة بِحلْقه لَا بِوجهِه ، وَلكِن الذي يَظهَر لِي أَنَّ المَسأَلَة لَا تصِل إلى حَدِّ البُطلَان ، لانَّ الرَّفع البَصَر إلى السَّماءِ فِي الصَلاةِ حَرام ، لَكن الوصُولُ إِلى حدِّ البُطلَان فِي النَّفسِ مِنهُ شَيء ، أمَّا التَّعلِيل بِأنَّه إنحِراف عَن القِبلة فَإنَّه مَنقُوض بِالاِلتِفات ، فَإنَّ المُلتَفِت إلَى اليَمِين أَو اليسَار قَد انحَرفَ عَنِ القِبلَة ، وَمَع ذَلِك لَا تُبطِل صَلَاتُه.
وَأمَّا أَنَّه فِعل مُحرَّم فِي العِبادَة فَيقتَضِي أنْ يُبطِلُها ، كَما أبطَل الكَلَام الصَلاة ، وَ أبطَل الأَكلَ وَالشُربَ الصَّوم ، فَهذا مِثله ، فَهُو لَا شكَّ أنَّه تعلِيلٌ قَوي ، لكن النَّفسَ لَا تَطمئِن إِلى أمْرِ المُصلِّي بِالإعَادة إِذا رَفعَ رأسَه ، إنَّما نَقول : إنَّ صَلاتُك عَلى خَطَر ، وَأمَّا الإِثم فَإنَّك آثِم ، وَبنَاء عَلى ذَلك يَنبغِي لِطالبِ العِلم إذَا رَأى الذين يَرفعُون أَبصَارُهم إلى السَّماء فِي الصلَاة أن يُنْكِر عَليهِم وَيجِب أنْ يُعلِّمَهم أنَّ هَذا حَرام ، وَأنا أَرَى كَثيرًا مِنَ النَّاس إِذا رَفعَ رَأسه مِنَ الرُّكوع خَاصة رفَع وَجهُه إلى السَماء ! حَتى تَكادُ تَقول إنَّه ارتَفعَ عَنِ الأَرضِ مِن شدَّة رَفع وَجهِه إِلى السَّماء ، فيُحذَر مِن ذَلِك .