زَادَكَ اللهُ حِرْصًا وَلاَ تَعُد
((مُنَاظَرَةٌ لَطِيفَةٌ))
((مُنَاظَرَةٌ لَطِيفَةٌ))
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته؛ أَّما بعد:
فهذه مناظرة لطيفة في مسألة الركوع دون الصف؛ أسأل الله أن ينفع بها .
وسميت الطرف الأول زيداً والثاني عمر، وقد حان أوان الشروع في المقصود:
جاء زيد من الناس ذات يوم للصلاة -مسبوقاً-؛ فركع دون الصفِّ، ثم دبَّ راكعاً حتى دخله وأكمل الصلاة معتداً بتلك الركعة .
وحينما خرج من المسجد تبعه عمر . .
قال عمر: السلام عليكم ورحمة الله؛ لقد رأيت -يا أخي العزيز- ركوعك دون الصف، وهذا لا يجوز؛ فقد نهى عنه رسول الله
-صلى الله عليه وسلَّم- أبا بكرة حينما فعله، وذلك واضح في الحديث .
قال زيد: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، إن النهي الذي ذكرت في حديث أبي بكرة -أخي الفاضل- غير صريح، ففي حديث أبي بكرة ثلاث أمور:
الأوَّل: اعتداده بالركعة التي إنما أدرك منها ركوعها فقط .
الثاني: إسراعه في المشي .
الثالث: ركوعه دون الصف ثم مشيه إليه .
فإذا تبين لك ما سبق، فهل قوله -صلى الله عليه وسلم-: " لا تعد " نهي عن هذه الأمور الثلاثة جميعها أم عن بعضها؟
أما الأمر الأول، فالظاهر أنه لا يدخل في النهي، لأنه لو كان نهاه عنه لأمره بإعادة الصلاة لكونها خداجاً ناقصة الركعة، فإذ لم يأمره بذلك دل على صحتها، وعلى عدم شمول النهي الاعتداد بالركعة بإدراك ركوعها .
وأما الأمر الثاني، فلا نشك في دخوله في النهي لما سبق ذكره من الروايات، ولأنه لا معارض له، بل هناك ما يشهد له، و هو حديث أبي هريرة مرفوعا: ((إذا أتيم الصلاة فلا تأتوها و أنتم تسعون، و أتوها و عليكم السكينة والوقار))؛ و الحديث متفق عليه .
وأمَّا الأمر الثالث، فيخرج أيضاً من النهي كما خرج الأمر الأوَّل، وذلك كي نجمع بينه وبين حديث ابن الزبير؛ فقد رفعه إلى النبي -صلى الله عليه وسلَّم-، وقال إنها السنَّة.
ويقوي ذلك أنَّ خطبة ابن الزبير بحديثه على المنبر كانت في أكبر جمع يخطب عليهم في المسجدالحرام، وقد أعلن عليهم أنَّ ذلك من السنَّة؛ دون أن يعارضه أحد .
كما أن ذلك ما عليه عمل كبار الصحابة، كأبي بكر و ابن مسعود و زيد بن ثابت كما تقدم وغيرهم؛ فذلك من المرجحات المعروفة في علم الأصول، بخلاف حديث أبي بكرة، فإننا لا نعلم أنَّ أحداً من الصحابة قال بما دل عليه ظاهره في هذه المسألة، فكان ذلك كله دليلاً قوياً على أن دلالته فيها مرجوحة، و أن حديث ابن الزبير هو الراجح في الدلالة عليها .
قال عمر: بارك الله فيك، هذا تفصيل مقنع قوي، لم أسمعه قبل ذلك البتة، ولكن ألا يقال بأنَّ ما نقلته من عمل الصحابة ومنهم أبو بكرة قد كان السنَّة -كما قال ابن الزبير- ثم نُسخ؟
قال زيد: لا يخفاك أخي العزيز أن النسخ يحتاج إلى معرفة المتقدم من المتأخر وثبوت المعارض؛ ونحن قد جمعنا بين الحديثين، فكما استثنينا وأنت معنا أنَّ النهي لا يشمل الاعتداد بالركعة وهو من جملة الحديث لثبوت إدراك الصلاة بإدراك الركوع، استثنينا كذلك النهي عن الركوع دون الصف لثبوته سنيَّته في الحديث الآخر، ولم يبق إلا النهي عن الإسراع، وهذا أتم وجه للجمع بين النصوص .
قال عمر: ومن قال من أهل العلم المتقدمين بهذا الذي صرتَ إليه؟ فإني أراه من اختيارات الإمام الألباني -رحمه الله- . .
قال زيد: لقد قال بهذا جماعة من المتقدمين والمتأخرين؛ وعلى رأسهم الصحابة الذين ذكرت، وقد أنكر ابن مسعود على من خالف في ذلك، واتفق الصحابة على موافقته، ولم يخالف منهم أحدٌ، إلا ما روي عن أبي هريرة من عدم الاعتداد بالركعة أصلاً بله أن يعتد بالركوع دون الصف! وقد روي عنه من وجه أصح منه أنه يعتد بتلك الركعة .
وهو قول سعيد بن جبير وعطاء، وقالا: يركع وإن لم يصل إلى صف النساء، ثم يمشي .
وممن رأي الركوع دون الصف والمشي راكعاً: زيد بن ثابت وعروة ومجاهد وأبو سلمة وأبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود
وابن جريج ومعمر .
وقاله القاسم والحسن : بشرط أن يظن أنه يدرك الصف .
وقال بذلك مطلقاً الشافعي؛ وكذلك مالك وأحمد مع التفريق عندهما بين إدراك الإمام قبل أن يرفع وهو يدب أو بعد أن يرفع، وصححوا الصلاة في كلا الأمرين؛ وبمثل قولهما قال الليث والأوزاعي والزهري .
وهو المعروف عن جماعة من أصحاب أحمد كأبي حفص البرمكي وغيره؛ قال الحافظ ابن رجب في الفتح: " وحملوا قوله: ((ولا تعد)) على شدة السعي إلى الصلاة، كما قاله الشافعي؛ وذكر ابن عبد البر أن معنى قوله: ((ولا تعد)) عند العلماء: لا تعد إلى الإبطاء عن الصلاة حتى لا يفوتك منها شيء"([1]) اهـ .
وهو قول ابن حبَّان، قال: " أَرَادَ: لَا تَعُدْ فِي إبْطَاء الْمَجِيء إلَى الصَّلَاة"([2]) .
قال عمر: بارك الله فيك أخي العزيز! لم أكن أعلم بهذا العدد الهائل من أهل العلم القائلين بجواز ذلك . .
قال زيد: ولتضف إلى علمك أنَّ الإمام الألباني قد ضرب لنا مثلاً جليلاً في الرجوع إلى الحق؛ فقد كان يقول بعدم جواز ذلك الفعل، حتى قال في الإرواء: " الركوع دون الصف مما لا نراه جائزاً لحديث أبي بكرة . . . والظاهر أنَّ الصحابة المذكورين لم يبلغهم هذا الحديث، وذلك دليل على صدق القول المشهور عن مالك وغيره: ((ما منا من أحد إلا رد ورُد عليه إلا صاحب هذا القبر -صلى الله عليه وسلم-))" اهـ ثم قال بعدها مباشرة: " ثم رجعت عن ذلك إلى ما ذكرنا عن الصحابة؛ لحديث عبد الله بن الزبير في أن ذلك من السنة، وهو صحيح الإسناد كما بينته في سلسلة الأحاديث الصحيحة"([3]) اهـ، فانظر كيف أثبت ذلك ولم يحذفه وبيَّن تراجعه إلى الصواب، وهذا صنيع المحققين، فقد فعل ذلك قبله ابن حزم وشيخ الإسلام وغيرهم من المحققين في غير هذه المسألة، وقد أحال الشيخ إلى السلسلة الصحيحة والتي فيها بيان قوله في الجديد، وبعض حواري معك مستفاد منه .
قال عمر: أحسنت وبوركت؛ ولكن هل ترى أن هذا ضرب من أضراب التقليد للإمام الألباني؟
قال زيد: قد أسلفت لك أنَّه ليس بقول الإمام الألباني وحده، وهب أنه كذلك، ففرِّق يا أخي بين التقليد المذموم، الذي ذمه الله ورسوله، وبين الاقتداء الذي لا يعرف الحق إلا
به .
فالأول: داخل في معنى قوله تعالى:{إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [سورة الزخرف آية: 23] .
والثاني: داخل في معنى قوله تعالى إخباراً عن عباده الصالحين:{ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} [سورة الفرقان آية: 74]، أئمة نقتدي بمن قبلنا، ويقتدي بنا من بعدنا؛ وذلك أنَّ الله سبحانه قد جعل العلماء واسطة بين الرسل وأممهم في تبليغ العلم، كما جعل الرسل واسطة بينه وبين عباده، في بيان ما أحل لهم وحرم عليهم، فالرسل بلغت ذلك إلى أممهم، والعلماء بلغت ذلك إلى من بعدهم.
فهل كان لنا معرفة بالأحاديث والآثار إلا من جهتهم؟ وهل كان لنا معرفة بمعاني كلام الله وكلام رسوله عليه السلام إلا من جهة العلماء؛ فالحمد لله الذي جعل العلماء في هذه الأمة كأنبياء بني إسرائيل، كلما هلك نبي خَلَفَه نبي، كذلك كلما هلك عالم خلفه عالم؛ ولهذا جعل النبي -صلى الله عليه وسلم- العلماء ورثة الأنبياء، والمراد بذلك العلماء العاملين بعلمهم، جعلنا الله وإياكم منهم، إنه على كل شيء قدير.
إذا فهمت ذلك، فاعلم أن التقليد المذموم هو أن يقلد رجل شخصاً بعينه، في تحريم أو تحليل أو تأويل، بلا دليل . .
وأما إن كان الرجل مقتدياً بمن يحتج لقوله بكتاب الله وسنة -رسوله صلى الله عليه وسلم- وبأقوال العلماء الربانيين، فليس بمقلد، بل هو متبع لتلك الأدلة الشرعية، مجتهد فيما اختاره، فلا ينسب إلى التقليد المذموم؛ وعليه يحمل قوله تعالى: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [سورة النحل آية: 43]، وهم العالمون بالكتاب والسنة.
قال عمر: وما الحكمة من هذا الركوع دون الصف؟
قال زيد: ذكر الإمام الألباني في أشرطته أن الحكم من تشريع الركوع دون الصفِّ إطفاء طمع المصلي في إدراك الركعة، حتى لا يسعى ويجري، فهو يمشي في سكينة حتى إذا ما اقترب من الصف ركع دونه ثم دبَّ، وقد لمست أنَّه علاج ناجع أدركت به ركعات بسكينة دون سعي كما لاحظت.
قال عمر: جزاك الله عني خير الجزاء، فقد أجدت وأفدت، ختم الله لنا ولك بالحسنى، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
قلتُ -أبو عبد الله الأنصاري-: هذا ما بدا لي صياغته من هذه المناظرة اللطيفة؛ استفدت مادتها من بطون كتب علماء الأمَّة، مشكل الآثار للطحاوي وفتح الباري لابن رجب وسميِّه لابن حجر العسقلاني ونيل الأوطار وبلوغ المرام وإرواء الغليل والسلسلة الصحيحة والدرر السنية وغير ذلك من المراجع ذكرت أكثرها في محله .
الحواشي
([1]) فتح الباري لابن رجب (6/4) .
([2]) نقله عنه الشوكاني في النيل (5/170) .
([3]) من إرواء الغليل في تخريجه لأحاديث الباب بتصرف .
تعليق