الدرس الأول : إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لاإله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله
(يأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولاتموتن إلا وأنتم مسلمون )
(يأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساءا واتقوا الله الذي تساءلون به والارحام إن الله كان عليكم رقيبا)
يايها الذين آمنوا اتقو الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفرلكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما)
ألا وإن أصدق الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار
أما بعد
فإن علوم الشريعة على ثلاثة أنواع
الأول علوم المصادر المتمثل في الكتاب والسنة وما يتعلق بهما من أحكام وأصول ويأتي في طليعة الكتاب العزيز علم التفسير ويأتي على رأس السنة شروحها
والنوع الثاني علوم المقاصد وتتمثل علوم المقاصد في العقيدة والفقه وما يتعلق بهما من أحكام وأصول ويأتي في طليعة العقيدة التوحيد وفي طليعة الفقه العبادات
والنوع الثالث من أنواع علوم الشريعة هو علم الوسائل والآلات وتتمثل في العلوم المعينة والمساعدة للعلوم الأخرى ويأتي في طليعة هذه العلوم أصول التشريع المتمثلة في القواعد العامة سواء كانت هذه القواعد تتمثل في علم أصل الفقه أوالقواعد الفقهية
ولايخفى أن الشريعة الإسلامية شاملة لمصالح الناس وقضاياهم ومسائلهم في كل زمان ومكان،ولما كانت هذه الشمولية من معاني كمال الدين ولوازمه كما أخبر بذلك المولى عز وجل في قوله ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا)فإن هذه الشمولية لا تتحقق إلا عن طريق النصوص الخاصة المتعلقة بأفعال المكلفين، كما تتحقق بالنصوص أو بالقواعد العامة الشاملة للأحكام المتعلقة بالمكلفين أيضا ،
هذه القواعد العامة التي ذكرنا فيها قبل قليل أنها قواعد التشريع تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول : وهو علم أصول الفقه الذي غالب أمره يتمحور على قواعد الأحكام الناشئة من الألفاظ العربية الخاصة وما يعرض لتلك الألفاظ من نسخ وترجيح ، وما خرج عن هذا النمط إلا كون خبر الواحد حجة أو كون القياس حجة أو المسائل التي تتعلق بصفات المجتهدين
هذه الطريق هي ميدان علماء الأصول الذين جعلوا أو أحالوا النصوص المتعلقة بالمكلفين أحالوها على جملة من القواعد العامة واجتهدوا في بيان هذه القواعد وأنفقوا نفيس أعمارهم وعصارة أفكارهم في تأصيل هذه الأصول بالأدلة وبيان الفروع التي تنبني عليها
أما القسم الثاني من أصول التشريع : هي القواعد الفقهية الكلية وهي عظيمة النفع كبيرة المدد كثيرة الفروع مشتملة على أسرار التشريع وحكمه
فقد ساهم الفقهاء بمشاركتهم لعلماء الأصول في إستنباط القواعد الفقهية العامة ، وتحريرها وربط الفروع الفقهية والأحكام الجزئية التي تندرج تحت هذه القواعد ، ولاشك أن من ضبط الفقه بقواعده إستغنى عن تلك الجزئيات لإندراجها تحت الكليات وإتحد عنده ما تناقض عند غيره .
ومن هنا ندرك أهمية القواعد الفقهية التي تحظى بالنظر إلى موقعها من الفقه بمكانة مرموقة في أصول التشريع لما تخلفه من أهمية بالغة على الدراسات الفقهية وما تحويه من فوائد عظيمة وخصائص متميزة في تنظيم فروع الفقه الإسلامي.
ومن خصائص هذه القواعد الفقهية
1-أنها تجمع شتات الفروع الفقهية المترامية الأطراف وتجمعها جميعا في متناول الباحث وبين يديه، كل الفروع والجزئيات المنتشرة والمتناثرة التي لها رباط وثيق فيما بينها جعلت في سلك واحد وضمن قياس واحد تجعل جميعا ليتسنى للباحث أو لدارس الفقه في أن يطلع على هذه الجزئيات بمعرفته لهذه الكليات ، أي يعرف قواعد الفقه التي تمتاز بوجازة في صياغتها بحيث أنها تصاغ بصيغة موجزة تمثل ألفاظا محكمة من ألفاظ العموم كقاعدة " إنما الأعمال بالنيات " أو " الأمور بمقاصدها " أو "العادة محكمة " أو " التابع تابع "
هذه القواعد في صياغتها الموجزة تتسع للعديد من الأفراد أو المفردات والجزئيات التي تندرج تحتها ، ذلك لأن إستيعاب هذه الجزئيات درب من الإستحالة وأن هذه الجزئيات سريعة النسيان لاتثبت في الذهن لذلك كانت القواعد الفقهية عندما تجمع هذه الفروع الفقهية جميعا وتضعها ضمن هذه الصياغة الموجزة تسهل للباحث ولدارس الفقه ،لأنه كلما أراد أنيستحضر بعض الجزئيات من باب من الأبواب فيكفيه أن يستحضر تلك القاعدة
2- كما أن القواعد الفقهية تكون لدى الباحث ملكة فقهية علمية وذلك بإستقصاء أبواب الفقه الواسع وربطها بوحدات موضوعية وجمعها جميعا بقياس واحد الأمر الذي يسهل على الباحث درك حكم التشريع والتفقه في الدين وحفظ الفقه وضبطه كما تساعده هذه القواعد في تفادي التناقض في الأحكام المتشابهة تلك الأحكام المتشابهة التي تحصل من جراء تتبع الجزئيات الفقهية وإندراجها تحت موضوعات مختلفة فهي تساعده على الإبتعاد وتجنب ذلك التناقض الذي يحصل من هذا التشابه في الأحكام
3-كما أن القواعد الفقهية من جهة أخرى تصور لدى الباحث منهاجا قياسيا عاما في ترتيب الأحكام ، إذ لايخفى أن القياس يدخله الإستثناء والعدول عن بعض الأحكام من الوجهة القياسية إلى حكم آخر يتلائم مع نقاصد التشريع
من جلب المصالح ودفع المفاسد ورفع الرج فضلا عن تحقيق العدالة هذه الإستثناءات والشذوذ الواقع في القاعدة لا يفقد القاعدة كليتها ولا يؤثر هذا الإستثناء على قوة القاعدة الفقهية ولايزيل قيمتها العلمية لعدم إختلال حجيتها في الجملة ،إذ تكون هذه المستثنيات قواعد أخرى تكون أليق بالقاعدة الفقهية فقد ترد هذه القواعد الأخرى كتقييد للإطلاق وقد ترد إستثناءات من أصل أو من قاعدة تكون هذه الإستثناءات عبارة عن قواعد في ذاتها مخصصة للعموم الذي تحويه هذه القاعدة الأم
مثال :شيوع قاعدة " الضرورات تبيح المظورات " فإن هذه القاعدة يندرج تحتها كل مسألة أو فرع فقهي يتناول الإضطرار وظااهر هذه القاعدة إستمرارها وعدم توقفها
تأتي القاعدة الأخرى التي تخالفها أو التي تقيدها وهي " الضرورة تقدر بقدرها " بمعنى أن القاعدة الثانية تحد من إطلاق وشيوع القاعدة الاولى وتجعلها مقيدة بما إذا إنتفى أو زال الخطر الذي من أجله جاءت الإباحة للمحظور،
ولهذا يفهم منه أن القاعدة الأولى لايمكن أخذها على إطلاقها ولا الإسترسال في الإضطرار وتقيدها القاعدة الثانية وهو معنى قولهم "متى زال الخطر عاد الحظر " أي متى زال الخطر الذي هو سبب في تجويز ما كان منهي عنه إذا زال عاد الحظر عاد التحريم من جديد
فإذن هذه القاعدة الأخرى المستثناة من القاعدة الأولى لا يلزم أن تكون دائما مخالفة أو مستثناة إستثناءا يعارض أصل القاعدة بل قد يكون خدوما لها ومكملا لها
ومثال التخصيص " قاعدة الضرر يزال " ويفهم من هذه القاعدة التي هي مؤسسة ومسندة إلى حديث ابن عباس "لاضرر ولاضرار " هذه القاعدة يفهم منها أنه متى كان هناك ضرر ينبغي إزالته وترميم ىثاره بعد وقوعه سواء كان ذلك بإحداث ضرر مثله أو لا، هذا العموم في هذه القاعدة تخصصه قاعدة أخرى تتمثل أو مفادها "الضرر لا يزال بمثله "بمعنى أن الضرر الذي ينبغي إزالته من ذاك العموم الذي يفهم من القاعدة لا يجوز فهمه بل لابد أن تكون هذه القاعدة مخصصة بالقاعدة التالية وهو أنه لايزال الضرر بمثله أي أن إزالة الضرر بمثله لا يسمى إزالة
4- كذلك القواعد الفقهية تنير الطريق لدارس الفقه في أن يتناول المسائل في أبواب الفقه الواسعة ويعرف مضامينها ومراميها ويعرف أبعادها وأهدافها وقد ترتقي هذه الدراسة به إلى دراسة النظريات الفقهيةحيث تفتح له المجال واسعا في التعرف على القضايا والحوادث المستجدة وإيجاد الحلول لها سواء كانت هذه الحوادث نوازل مستحدثة أو أمور متكررة غذن القواعد الفقهية تمهيد للنظريات الفقهية
5- كما أن القاعدة الفقهية تهيئ له -أي لدارس الفقه- مجال الإطلاع على مباحث علم أصول الفقه وتحفزه على دراسة مباحثه
6- كما أن علم القواعد الفقهية تعرف الباحث أو الدارس مواطن الإتفاق بين الفقهاء في المسائل ومواطن الإختلاف بين الفقهاء في المسائل ولا يخفى أن معرفة مواطن الإتفاق من مواطن الإختلاف بين العلماء هو من شروط الإجتهاد ،بمعنى أن المجتهد لايسعه أن ينال رتبة الإجتهاد إلا إذا كان عالما بالكتاب عالما بالسنة عالما بأصول الفقه عارفا بمواضع ومواطن إجماع العلماء ومواطن الخلاف عارفا أيضا بالناسخ والمنسوخ مدركا وعارفا أيضا باللسان العربي ....إلخ من الشروط
إذن القواعد الفقهية تساعده على معرفة هذه المواضع تساعده على إدراك مواضع ومواطن الخلاف من الإتفاق بين أهل العلم ،وما دام أنها تحفزه في معرفة مباحث الفقه حصل والحال هذه أن يحوز على شرطين من شروط الإجتهاد معرفة المواطن ومعرفة علم أصول الفقه لأنه بواسطته تستنبط الأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية
-كذلك علم القواعد يخدم مقاصد الشريعة سواء العامة أو الخاصة بحيث أنه بواسطة القواعد تدرك حكم التشريع وتعطي نظرا ومفهوما صحيحا جليا على مقاصد الشريعة بحيث مثلا "الضرر يزال "يستفاد منه (1)
فإذن الحاصل أن القواعد الفقهية لها أهميتها البالغة حيث أنه بواسطتها تتضح مناهج الفتوى ويدرك الدارس لها رونق الفقه وبقدر الإحاطة بهذه القواعد تزداد قيمة الفقيه وتعلوا وقد أشاد بأهميتها كثير من أهل العلم ونبهوا على قيمتها منهم: الإمام القرافي ،الزركشي ،تاج الدين السبكي ،والسيوطي وغيرهم في كتبهم التي تتناول الأشباه والنظائر أو الفروق للإمام القرافي
بعد ما عرفنا أهمية القواعد الفقهية وخصائصها المتميزة وأحببنا أن نذكر هذه الخصائص من باب التشويق للإطلاع أو لفتح النفس إلى الإطلاع على مباحث هذا العلم لمعرفة هذه القاعدة ،معرفة مصادر القواعد ، مميزات هذه القواعد ، فضلا عن معرفة مناهج التأليف في هذه القواعد ثم بعد ذلك الدخول في القواعد الخمس المعروفة وهي :" الأمور بمقاصدها " " اليقين لا يزال بالشك " " العادة محكمة "
" الضرر يزال " وأيضا " المشقة تجلب التيسير "
هذه القواعد الخمس التي تقل فيها الإستثناءات وسنتعرض لها إن شاء الله بالتبع شيئا فشيئا
- ننتقل بكم إلى القاعدة ما معناها لغة وما معناها إصطلاحا ثم نتعرض بعد ذلك إلى الإختلافات القائمة بين الفقهاء في القاعدة الفقهية ونختار لكم تعريفا للقاعدة الفقهية يكون جامعا ومانعا من دخول العلوم الأخرى التي قد تختلط به
القاعدة من الناحية اللغوية جمع قواعد والمراد بها الأساس أساس الشيء وأصوله وهذا الشيء سواء كان حسيا كأن تقول أساس البيت كما في قوله تعالى "( وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ") فقواعد البيت بمعنى أسسه وقواعده أسسه وأصوله "( فأتى الله بنيانهم من القواعد ")
ويقال الأساطين التي يعتمد عليها البناء هي القواعد أي ذلك الاساس الذي ينبني عليه الشيء فأساسه هو أصله وقاعدته ويقال قواعد الهودج بمعنى تلك الخشبات الأربع المعترضة والتي تقام عليها عيدان الهودج فهذا من الناحية الحسية
أما من الناحية المعنوية فيقال فلان بنى أمره على قواعد أي على دعائم وأسس ويقال بني الإسلام على خمس قواعد يعني على دعائم خمس وهي أسسه ودعائمه هذا من الناحية اللغوية
هذه الناحية اللغوية روعيت أيضا في الناحية الإصطلاحية لكن الناحية الإصطلاحية تختلف فيها القاعدة من علم لآخر
فالأصوليون والنحاة يعرفون القاعدة بأنها " قضية كلية تنطبق على جميع جزئياتها لتفهم أحكامها منها أو لتعرف أحكامها منها " فعند الأصوليون يمثلون بالقاعدة المعروفة الأمر المجرد عن القرائن يفيد الوجوب
فهي قضية كلية والقضية المراد بها ما توفر فيه الأركان الأربع والأركان الأربع في القضية هي:
فقضية الأمر المجرد عن القرائن يقتضي الوجوب تنطبق على جميع الجزئيات التي فيها الأمر –أقيموا الصلاة –ءاتوا الزكاة –أطيعوا الله كل هذه أوامر فإذا جردت عن القرائن أفادت الوجوب
فإذن هذه الجزئيات التي فيها الأوامر تندرج تحت القاعدة وهي الأمر إذا جرد عن القرائن أفاد الوجوب
كذلك عند النحاة الفاعل مرفوع والمفعول به منصوب فكل فاعل يكون مرفوعا و كل مفعول يكون منصوبا أينما كانت الصيغة أواللفظ الذي يكون فيه الفاعل ويكون فيه المفعول به ، فإذن عند النحاة كذا عند الأصوليين أن القاعدة المراد بها قضية كلية وكلية القعدة الأصولية والقاعدة النحوية قليلة الإستثناءات بالنظر إلى القواعد الفقهية بمعنى أن مثل هذه القواعد ليس فيها إستثناءات بحيث تشكل هذه الإستثناءات قواعد أخرى تقوم بالموازاة مع القواعد الأولى، أي لاتشكل إستثناءات كثيرة بخلاف القاعدة الفقهية كما سيأتي ، هذا بالنسبة للقاعدة عند النحاة والأصوليين أما القاعدة عند الفقهاء فقد إختلف الفقهاء في تعريف القاعدة على إختلافات سنبين بعد حين سبب هذا الإختلاف
- فعرفها المقري التلمساني أبو عبد الله محمد بن محمد بن أحمد المقري المتوفى في 758 قال:" نعني بالقاعدة كل كلي أخص من الأصول ومن سائر المعاني العقلية العامة وأعم من العقود وجملة الضوابط الفقهية " بمعنى أنه جعل القواعد الفقهية من حيث سعتها وضيقها جعلها دون الأصول والقواعد العقلية وأعم وأشمل من الضوابط الفقهية، القاعدة الفقهية تدخل في أبواب شتى من أبواب الفقه بينما الضابط الفقهي لا يشمل سوى باب واحد من أبواب الفقه فإذن القاعدة الفقهية أشمل وأعم من الضَوابط الفقهية ولكن إذا ما نظرنا إليها من جهة الأصول والمعاني العقلية فهي دون الأصول لأن الأصول معاني عقلية حيث أنها ليست قواعد أغلبية كما هو الشأن بالنسبة للقاعدة الفقهية ، القاعدة الفقهية نجد أن غالب هذه القواعد مستثناة أو يدخلها الشذوذ باسم المستثنيات ولهذا كانت المعاني العقلية أعم من القاعدة الفقهية.
لكن تلاحظون في هذا التعريف أن التعريف بقي محصورا أي لم يفصح عن معنى القاعدة بوجهها الكامل غاية ما في الأمر أنه حصرها في بيان موضع أو مكان القاعدة الفقهية من الأصول ومن الضوابط الفقهية
لكن عرفها بأنها كلي كما يعرفها تاج الدين السبكي المتوفى في 771 عرف القاعدة بأنها " الأمر الكلي الذي ينطبق على جزئيات لتفهم أحكامها منها "
فعرفها تاج الدين السبكي في الأشباه والنظائر عرف القاعدة بأنها الأمر الكلي ونظر إلى القاعدة بأنها تندرج تحتها جزئيات كثيرة تفهم هذه الجزئيات بالحكم الوارد على تلك القاعدة الكلية أي الحكم الذي يكون على القاعدة الكلية ، كل الأفراد وكل الجزئيات والأحكام التي تندرج تحتها تعطى لها حكمها .
غير أن هذا التعريف أيضا لا يفصح عن المعنى الصحيح للقاعدة الفقهية بحيث أنه ليس مانعا من دخول النظريات الفقهية من دخول أيضا أصول الفقه من دخول ايضا قواعد النحو إلى غير ذلك
يأتي بعض الفقهاء أيضا يعرفون القاعدة ، كتعريف سعد الدين التفتزاني المتوفى في 791 يعرف القاعدة بأنها " الحكم الكلي الذي ينطبق على جزئياته ليعرف منها " أيضا فهذا عرفها (1)
ويأتي آخرون ويعرفونها بأنها " حكم أغلبي ينطبق على معظم جزئياته ليعرف حكمها منها " فهؤلاء عرفوا القاعدة بأنهاحكم أغلبي لأن المستثنيات تخرج من القاعدة ولأن الشواذ تخرج من القاعدة فلا تأخذ القاعدة شكل الكلية وإنما تأخذ شكل الأكثرية بمعنى الأغلبية ولهذا جعلوا القاعدة حكما أغلبيا وليس كليا
فإذن هذه التعاريف المتعارضة في القضية وفي النظر إلى إتصافها بصفة الأغلبية أو بصفة الكلية تبين لنا سبب الخلاف بين الفقهاء في تعريف القاعدة ،
سبب الخلاف في ذلك يرجع أساسا إلى إعتبار القاعدة حكما أغلبيا أو إعتبارها قضية كلية(1)
إلى الحكم بإعتبار ذلك الحكم يمثل عموم القضية وجل القضية وأنه يستدعي طرفين المحكوم عليه والمحكوم فيه فجعل تعريف القاعدة عرفها بأنها الحكم لأن الحكم هو معظم القضية وأجل ما فيها لأنها ثمرة القضية ، ذكرنا القضية قبل قليل أنها المحكوم عليه المحكوم فيه النسبة الحكمية والحكم الحكم أعم وهو ثمرة من وراء القضية ولهذا عرفوا القاعدة بأنها الحكم و أن القضية إنما تعنى بأفعال المكلفين وأفعال المكلفين وإن شملت القضية هذه الأفعال إلا أن الحكم يقتضي ويستدعي وجود طرفين وهو المحكوم عليه والمحكوم فيه والمحكوم فيه هو فعل المكلف والمحكوم عليه هو المكلف
ومن هنا هؤلاء جنحوا إلى تعريف القضية بالحكم لكنهم أضافوا إلى الحكم أنه أغلبي بمعنى أن القواعد الفقهية لو قورنت بالقواعد الأصولية أو القواعد النحوية لوجدنا في القواعد الفقهية العديد من المستثنيات حتى أن هذه المستثنيات قد تشكل بذاتها قواعد أخرى تندرج تحتها أيضا جزئيات من أحكام وقد ترد على هذه الجزئيات من أحكام (1) ولهذا قالوا لا نستطيع أن نسميها كلية و إنما هي أكثرية أي تتصف بالأكثرية هذه القاعدة ولا تتصف بالكلية
والفريق الثاني نظر إلى الكلية بإعتبار أن الكلية لايلزم منها أن تكون كلية مطلقة بل يجوز أن تكون كلية نسبية بمعنى أنها تدخل فيها الإستثناءات تلك الإستثناءات لاتضعف القاعدة الفقهية ولا تزيل قيمتها العلمية لما قد ذكرنا آنفا لأن هذا تجرد القاعدة من كليتها في الجملة
لأنه إذا نظرنا إلى القواعد الفقهية نجد أن بعض القواعد الفقهية محدودة الإستثناءات كما هو الشأن بخصوص القواعد الخمس فهي محدودة الإستثناءات وهذا لا يفقدها من عمومها وشمولها وإضفاء صفة الكلية عليها ، ذلك لأن العموم الشرعي عموم عادي طريقه الإستقراء بمعنى أنه لو تخلف حكم عن هذا العموم أو خرج جزئي من هذا الكلي لا يلزم أن يفقد هذا العموم صبغته كعموم وشمول بخلاف القواعد العقلية ،العقليات طريقها البحث والنظر فعمومها عموم تام بحيث لو تخلف جزئي عن القواعد العقلية للزم منه الإنتقاض والإنخرام بحيث أنه لاتصلح القاعدة العقلية بأن تكون لها أفراد يخرجون من كليتها ولهذا قالوا أنه إذن القواعد الفقهية قواعد كلية لاينخرم عمومها ولا ينتقض لخروج تلك الجزئيات فهي تبقى محافظة على ذلك العموم هذا من جهة
أما القواعد الأخرى التي تتصف أي ليست محدودة من حيث المستثنيات أي مستثنياتها غير محدودة أي كثيرة وأغلبية فهذه تحفظ كما تحفظ الأصول بمعنى أنه يكون الأليق بها أن تكون –لو كانت كثيرة- أن تكون ضمن قواعد أخرى تلك القواعد التي تحتفظ بتلك المستثنيات ، أي قاعدة يخرج منها جملة من المستثنيات تكون هذه المستثنيات تسوغ لها قاعدة أخرى تكون مشمولة بها فتحفظ كما تحفظ الأصول وبالتالي تبقى كليتها كاملة من غير إنتقاض
كما انتقد الإعتماد على صفة الأغلبية في القاعدة الفقهية فيقال أن الإعتماد على صفة الأغلبية في القاعدة الفقهية غير صحيح من ناحية أنه لو قلنا أن القاعدة الفقهية هي حكم أغلبي للزم أن بعض القواعد الأخرى اليسيرة لها حكم الكلي فتكون القاعدة شاملة للأغلبي ولذلك الكلي فهي من حيث شمولها تشمل القواعد الكلية كما تشمل من جهة أخرى القواعد القواعد الأغلبية ولذلك لايجوز أن تتصف القاعدة الفقهية بأنها أغلبية بل أنها كلية لأنها شاملة للقواعد الأغلبية كما أنها شاملة للكلية فتكون أعم من أن تكون شاملة لصفة الأغلبية أو الأكثرية
والحاصل هذه كما ذكرت آنفا الحاصل أن التعريفات السابقة للقاعدة الفقهية لم تفصح عن المعنى الصحيح الواضح للقاعدة الفقهية كما أنها لا تمنع من دخول النظريات الفقهية ودخول الضوابط الفقهية ودخول أيضا حتى القواعد الأصولية والقواعد الفقهية فيها
فتلاحظون أن تعريف تاج الدين السبكي لا يختلف عن تعريف الأصوليين وتعريف النحاة كذلك لا يختلف تعريف التفتزاني عن تعريف الأصوليين فهي غير مانع من دخول قواعد أخرى وبالتالي تكون غير مانعة لأن التعريف أو الحد ينبغي أن يكون جامعا مانعا
لذلك يمكن أن نعرف القاعدة الفقهية تعريفا نحاول فيه أن يكون جامعا مانعا وهو يظهر كالتالي :
القاعدة الفقهية هي " أصل فقهي كلي يجمع في ذاته أحكاما جزئية بلا واسطة من أبواب شتى "
قولنا " أصل " هنا روعي المعنى اللغوي في هذا التعريف لأن القاعدة في المعنى اللغوي بمعنى الأساس أساس الشيء وأصوله فهو أصل يتضمن جملة من الأحكام تلك الأحكام الفقهية تجمعها رابطة واحدة أو تجمع في سلك واحد بقياس واحد
"فقهي" يخرج منه الأمور الغير شرعية أولا الأمور الغير شرعية كالقواعد العقلية وكالقواعد القانونية تخرج من هذا التعريف كما يخرج من لفظ الفقه يخرج منه القواعد الأصولية والقواعد النحوية لأنه أصل فقهي بخلاف علم الأصول أو قواعد النحو فليس بفقهي ، أي يخرج من علم الآلات أو علم الوسائل كل من الأصول والنحو
" أصل فقهي كلي " ونقصد بالكلي هاهنا كلية نسبية لا شمولية بمعنى أنهخروج المستثنيات من هذه الكلية لا يلزم منها أن تكون غير كلية لأنه كما ذكرت آنفا العمومات في الشرعيات طريقها الإستقراء وهي عمومات لايقدح في عمومها خروج بعض الجزئيات منها تبقى عامة وتبقى كلية وإن كان الأمر يتفاوت من قاعدة لأخرى قد تكون هذه كلية وهذه كلية لكن كلية هذه أعم من كلية هذه بالنظر لعدم وجود إستثناءات كثيرة في هذه بخلاف الأخرى.
أصل فقهي كلي ثم يوصف هذا بأنه " يجمع في ذاته أحكاما جزئية " هنا يجمع في ذاته أحكاما جزئية بمعنى أن القاعدة تجمع عدة أحكام جزئية يجمعها سلك واحد جامع واحد مثلا تقول " الضرر يزال " في كل فرع فقهي وفي كل مسالة جزئية وجد فيها الضرر إلا إندرج تحت هذه القاعدة أي في سلك واحد فيقال الضرر يزال ووجد الضرر فينبغي أن يزال ،ثم بعد ذلك كما ذكرنا آنفا هذا يخصص بقواعد أخرى كالضرر لا يزال بمثله.
مثلا " اليقين لا يزول بالشك " في كل مسألة أو فرع فقهي وجد فيه يقين وشك إلا إندرج تحت هذه القاعدة أن اليقين لا يزول بالشك فيكون المسائل التي فيها يقين وشك تندرج جميعا تحت هذه القاعدة وتعطى حكمها بمعنى أنها تعطى حكم القاعدة لسائر الجزئيات التي تندرج تحتها
من هنا ندرك الفرق بين القاعدة الفقهية والنظريات الفقهية، أن القاعدة الفقهية تجمع في ذاتها بمعنى أنها تتضمن وتندرج هذه الأحكام الجزئية والفروع الفقهية تحتها بخلاف النظريات الفقهية كنظرية الملكية ونظرية (1)
ونظرية البطلان أو غيرها من النظريات فإن حقيقتها هي كل أركان وشروط وأحكام تجمع بين الشروط والأركان والأحكام صلة فقهية لا تندرج تحت أي قاعدة هي نظرية عامة شاملة هذه النظرية فيها تبين مثلا أحكام أركان الملكية وشروط الملكية والأحكام المتعلقة بالملكية تجمعها في رباط واحد بخلاف القاعدة الفقهية فهي تجمع في ذاتها ، النظريات الفقهية لاتجمع في ذاتها وهنا فرق بين القاعدة الفقهية والنظريات الفقهية وهذا ما سيأتي في مميزات القاعدة الفقهية سنعطي إن شاء الله الفوارق الكثيرة بين النظريات الفقهية والقواعد الفقهية وبين القواعد الفقهية والقواعد الأصولية وبين القواعد الفقهية والضوابط الفقهية ونعطي أمثلة على ذلك
إذن في هذا التعريف " أصل فقهي كلي يجمع في ذاته أحكاما جزئية " وأحكاما جزئية كما ذكرنا تدخل في ذاته وهنا قيد لإخراج النظريات الفقهية
" بلا واسطة " هنا أيضا قيد آخر لإخراج القواعد الأصولية لأن القواعد الأصولية تتوسط بين الحكم والدليل بمعنى أن القاعدة الأصولية منشأة للحكم من الدليل فهي تتوسط بين الحكم والدليل فمثلا ( أقيموا الصلاة ) دليل جزئي تفصيلي ويفهم الأمر بواسطة القاعدة أن الأمر يفيد الوجوب ففهمنا أن الأمر في أقيموا أمر والقاعدة تقول أن الأمر يفيد الوجوب إذن الصلاة واجبة فإذن القاعدة توسطت بين الدليل وهو أقيموا الصلاة وبين الحكم الذي هو وجوب الصلاة و القاعدة أن الأمر يفيد الوجوب
فالقاعدة الأصولية تتوسط بين الدليل والحكم بخلاف القاعدة الفقهية فهي مباشرة تتعلق بفعل المكلف لأنها أحكام ليست سوى كونها تندرج تحت تلك الصياغة العامة التي تعرف أحكام هذه الجزئيات بها، بمعنى أن القاعدة الأصولية قاعدة منشأة للحكم مولدة للحكم بينما القواعد الفقهية مجمعة للحكم ، أي كل قاعدة لها نفس الموضوع يتعلق بها تجتمع تحت هذه الصياغة الكلية مثلا: مسألة فيها ضرر تجتمع كليا تحت " لاضرر ولاضرار" مسألة تتعلق بالمشقة تجتمع تحت " المشقة تجلب التيسير " وهكذا بخلاف كما سيأتي بيانه في مميزات القاعدة أو الفرق بين القاعدة الأصولية والقاعدة الفقهية ، حيث إنه يدرك الفرق بينهما حيث أن القاعدة الأصولية مولدة ومنشأة للحكم وهي تتوسط بين الدليل والحكم بخلاف القاعدة الفقهية فهي مباشرة تتعلق بفعل المكلف.
في التعريف قلنا هو " أصل فقهي كلي يجمع في ذاته أحكاما جزئيت بلا واسطة من أبواب شتى "
قولنا " من أبواب شتى " يدل على أو قيد يستفاد منه الإحتراز من الضوابط الفقهية ، الضابط الفقهي يجمع تحته عدة جزئيات لكن من باب واحد يقال باب الصلاة مثلا الصلاة الأمور التي تتعلق بمسألة من مسائل الصلاة ويوضع عليها ضابط فهي تدخل في باب واحد وهو باب الصلاة فهذا يسمى ضابط فقهي أما القاعدة فشاملة لكل أبواب الفقه ، فالقاعدة التي تكون كليتها فكليتها ليست محصورة في باب بل هي شاملة لكل الأبواب سواء باب العبادات أو باب المعاملات في الجملة مثلا تقول " الأعمال بالنيات " فشاملة لكل الأبواب أو قاعدة " المشقة تجلب التيسير " فشاملة لكل الأبواب بخلاف الضابط الفقهي فهو شامل لباب واحد ، فإذن التعريف بلا واسطة في أبواب شتى يعني أن هذا القيد لإخراج الضابط الفقهي وهنا الفرق بين الضابط الفقهي والقاعدة الفقهية أن الضابط الفقهي شبيه بالقاعدة الفقهية غير أنه محدود الأثر ولا ينتقل إلى غيره من الأبواب بل يبقى في باب واحد بخلاف القاعدة الفقهية فهي شاملة لأكثر من باب
بعد هذا التعريف للقاعدة الفقهية فإنشاء الله سنتعرض في الحصة اللاحقة بحول الله إلى مسائل أخرى منها مصادر القاعدة الفقهية ثم نتناول بعدها إلى مميزات القاعدة الفقهية وبعد إنشاء الله إلى مناهج التأليف في القواعد الفقهية لندخل بعدها من الناحية التطبيقية العملية لرؤية المسائل المتعلقة أو ندخل في القواعد وننظر في الجزئيات التي تندرج تحتها والمسائل التي تستثنى من هذه القواعد
(يأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولاتموتن إلا وأنتم مسلمون )
(يأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساءا واتقوا الله الذي تساءلون به والارحام إن الله كان عليكم رقيبا)
يايها الذين آمنوا اتقو الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفرلكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما)
ألا وإن أصدق الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار
أما بعد
فإن علوم الشريعة على ثلاثة أنواع
الأول علوم المصادر المتمثل في الكتاب والسنة وما يتعلق بهما من أحكام وأصول ويأتي في طليعة الكتاب العزيز علم التفسير ويأتي على رأس السنة شروحها
والنوع الثاني علوم المقاصد وتتمثل علوم المقاصد في العقيدة والفقه وما يتعلق بهما من أحكام وأصول ويأتي في طليعة العقيدة التوحيد وفي طليعة الفقه العبادات
والنوع الثالث من أنواع علوم الشريعة هو علم الوسائل والآلات وتتمثل في العلوم المعينة والمساعدة للعلوم الأخرى ويأتي في طليعة هذه العلوم أصول التشريع المتمثلة في القواعد العامة سواء كانت هذه القواعد تتمثل في علم أصل الفقه أوالقواعد الفقهية
ولايخفى أن الشريعة الإسلامية شاملة لمصالح الناس وقضاياهم ومسائلهم في كل زمان ومكان،ولما كانت هذه الشمولية من معاني كمال الدين ولوازمه كما أخبر بذلك المولى عز وجل في قوله ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا)فإن هذه الشمولية لا تتحقق إلا عن طريق النصوص الخاصة المتعلقة بأفعال المكلفين، كما تتحقق بالنصوص أو بالقواعد العامة الشاملة للأحكام المتعلقة بالمكلفين أيضا ،
هذه القواعد العامة التي ذكرنا فيها قبل قليل أنها قواعد التشريع تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول : وهو علم أصول الفقه الذي غالب أمره يتمحور على قواعد الأحكام الناشئة من الألفاظ العربية الخاصة وما يعرض لتلك الألفاظ من نسخ وترجيح ، وما خرج عن هذا النمط إلا كون خبر الواحد حجة أو كون القياس حجة أو المسائل التي تتعلق بصفات المجتهدين
هذه الطريق هي ميدان علماء الأصول الذين جعلوا أو أحالوا النصوص المتعلقة بالمكلفين أحالوها على جملة من القواعد العامة واجتهدوا في بيان هذه القواعد وأنفقوا نفيس أعمارهم وعصارة أفكارهم في تأصيل هذه الأصول بالأدلة وبيان الفروع التي تنبني عليها
أما القسم الثاني من أصول التشريع : هي القواعد الفقهية الكلية وهي عظيمة النفع كبيرة المدد كثيرة الفروع مشتملة على أسرار التشريع وحكمه
فقد ساهم الفقهاء بمشاركتهم لعلماء الأصول في إستنباط القواعد الفقهية العامة ، وتحريرها وربط الفروع الفقهية والأحكام الجزئية التي تندرج تحت هذه القواعد ، ولاشك أن من ضبط الفقه بقواعده إستغنى عن تلك الجزئيات لإندراجها تحت الكليات وإتحد عنده ما تناقض عند غيره .
ومن هنا ندرك أهمية القواعد الفقهية التي تحظى بالنظر إلى موقعها من الفقه بمكانة مرموقة في أصول التشريع لما تخلفه من أهمية بالغة على الدراسات الفقهية وما تحويه من فوائد عظيمة وخصائص متميزة في تنظيم فروع الفقه الإسلامي.
ومن خصائص هذه القواعد الفقهية
1-أنها تجمع شتات الفروع الفقهية المترامية الأطراف وتجمعها جميعا في متناول الباحث وبين يديه، كل الفروع والجزئيات المنتشرة والمتناثرة التي لها رباط وثيق فيما بينها جعلت في سلك واحد وضمن قياس واحد تجعل جميعا ليتسنى للباحث أو لدارس الفقه في أن يطلع على هذه الجزئيات بمعرفته لهذه الكليات ، أي يعرف قواعد الفقه التي تمتاز بوجازة في صياغتها بحيث أنها تصاغ بصيغة موجزة تمثل ألفاظا محكمة من ألفاظ العموم كقاعدة " إنما الأعمال بالنيات " أو " الأمور بمقاصدها " أو "العادة محكمة " أو " التابع تابع "
هذه القواعد في صياغتها الموجزة تتسع للعديد من الأفراد أو المفردات والجزئيات التي تندرج تحتها ، ذلك لأن إستيعاب هذه الجزئيات درب من الإستحالة وأن هذه الجزئيات سريعة النسيان لاتثبت في الذهن لذلك كانت القواعد الفقهية عندما تجمع هذه الفروع الفقهية جميعا وتضعها ضمن هذه الصياغة الموجزة تسهل للباحث ولدارس الفقه ،لأنه كلما أراد أنيستحضر بعض الجزئيات من باب من الأبواب فيكفيه أن يستحضر تلك القاعدة
2- كما أن القواعد الفقهية تكون لدى الباحث ملكة فقهية علمية وذلك بإستقصاء أبواب الفقه الواسع وربطها بوحدات موضوعية وجمعها جميعا بقياس واحد الأمر الذي يسهل على الباحث درك حكم التشريع والتفقه في الدين وحفظ الفقه وضبطه كما تساعده هذه القواعد في تفادي التناقض في الأحكام المتشابهة تلك الأحكام المتشابهة التي تحصل من جراء تتبع الجزئيات الفقهية وإندراجها تحت موضوعات مختلفة فهي تساعده على الإبتعاد وتجنب ذلك التناقض الذي يحصل من هذا التشابه في الأحكام
3-كما أن القواعد الفقهية من جهة أخرى تصور لدى الباحث منهاجا قياسيا عاما في ترتيب الأحكام ، إذ لايخفى أن القياس يدخله الإستثناء والعدول عن بعض الأحكام من الوجهة القياسية إلى حكم آخر يتلائم مع نقاصد التشريع
من جلب المصالح ودفع المفاسد ورفع الرج فضلا عن تحقيق العدالة هذه الإستثناءات والشذوذ الواقع في القاعدة لا يفقد القاعدة كليتها ولا يؤثر هذا الإستثناء على قوة القاعدة الفقهية ولايزيل قيمتها العلمية لعدم إختلال حجيتها في الجملة ،إذ تكون هذه المستثنيات قواعد أخرى تكون أليق بالقاعدة الفقهية فقد ترد هذه القواعد الأخرى كتقييد للإطلاق وقد ترد إستثناءات من أصل أو من قاعدة تكون هذه الإستثناءات عبارة عن قواعد في ذاتها مخصصة للعموم الذي تحويه هذه القاعدة الأم
مثال :شيوع قاعدة " الضرورات تبيح المظورات " فإن هذه القاعدة يندرج تحتها كل مسألة أو فرع فقهي يتناول الإضطرار وظااهر هذه القاعدة إستمرارها وعدم توقفها
تأتي القاعدة الأخرى التي تخالفها أو التي تقيدها وهي " الضرورة تقدر بقدرها " بمعنى أن القاعدة الثانية تحد من إطلاق وشيوع القاعدة الاولى وتجعلها مقيدة بما إذا إنتفى أو زال الخطر الذي من أجله جاءت الإباحة للمحظور،
ولهذا يفهم منه أن القاعدة الأولى لايمكن أخذها على إطلاقها ولا الإسترسال في الإضطرار وتقيدها القاعدة الثانية وهو معنى قولهم "متى زال الخطر عاد الحظر " أي متى زال الخطر الذي هو سبب في تجويز ما كان منهي عنه إذا زال عاد الحظر عاد التحريم من جديد
فإذن هذه القاعدة الأخرى المستثناة من القاعدة الأولى لا يلزم أن تكون دائما مخالفة أو مستثناة إستثناءا يعارض أصل القاعدة بل قد يكون خدوما لها ومكملا لها
ومثال التخصيص " قاعدة الضرر يزال " ويفهم من هذه القاعدة التي هي مؤسسة ومسندة إلى حديث ابن عباس "لاضرر ولاضرار " هذه القاعدة يفهم منها أنه متى كان هناك ضرر ينبغي إزالته وترميم ىثاره بعد وقوعه سواء كان ذلك بإحداث ضرر مثله أو لا، هذا العموم في هذه القاعدة تخصصه قاعدة أخرى تتمثل أو مفادها "الضرر لا يزال بمثله "بمعنى أن الضرر الذي ينبغي إزالته من ذاك العموم الذي يفهم من القاعدة لا يجوز فهمه بل لابد أن تكون هذه القاعدة مخصصة بالقاعدة التالية وهو أنه لايزال الضرر بمثله أي أن إزالة الضرر بمثله لا يسمى إزالة
4- كذلك القواعد الفقهية تنير الطريق لدارس الفقه في أن يتناول المسائل في أبواب الفقه الواسعة ويعرف مضامينها ومراميها ويعرف أبعادها وأهدافها وقد ترتقي هذه الدراسة به إلى دراسة النظريات الفقهيةحيث تفتح له المجال واسعا في التعرف على القضايا والحوادث المستجدة وإيجاد الحلول لها سواء كانت هذه الحوادث نوازل مستحدثة أو أمور متكررة غذن القواعد الفقهية تمهيد للنظريات الفقهية
5- كما أن القاعدة الفقهية تهيئ له -أي لدارس الفقه- مجال الإطلاع على مباحث علم أصول الفقه وتحفزه على دراسة مباحثه
6- كما أن علم القواعد الفقهية تعرف الباحث أو الدارس مواطن الإتفاق بين الفقهاء في المسائل ومواطن الإختلاف بين الفقهاء في المسائل ولا يخفى أن معرفة مواطن الإتفاق من مواطن الإختلاف بين العلماء هو من شروط الإجتهاد ،بمعنى أن المجتهد لايسعه أن ينال رتبة الإجتهاد إلا إذا كان عالما بالكتاب عالما بالسنة عالما بأصول الفقه عارفا بمواضع ومواطن إجماع العلماء ومواطن الخلاف عارفا أيضا بالناسخ والمنسوخ مدركا وعارفا أيضا باللسان العربي ....إلخ من الشروط
إذن القواعد الفقهية تساعده على معرفة هذه المواضع تساعده على إدراك مواضع ومواطن الخلاف من الإتفاق بين أهل العلم ،وما دام أنها تحفزه في معرفة مباحث الفقه حصل والحال هذه أن يحوز على شرطين من شروط الإجتهاد معرفة المواطن ومعرفة علم أصول الفقه لأنه بواسطته تستنبط الأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية
-كذلك علم القواعد يخدم مقاصد الشريعة سواء العامة أو الخاصة بحيث أنه بواسطة القواعد تدرك حكم التشريع وتعطي نظرا ومفهوما صحيحا جليا على مقاصد الشريعة بحيث مثلا "الضرر يزال "يستفاد منه (1)
فإذن الحاصل أن القواعد الفقهية لها أهميتها البالغة حيث أنه بواسطتها تتضح مناهج الفتوى ويدرك الدارس لها رونق الفقه وبقدر الإحاطة بهذه القواعد تزداد قيمة الفقيه وتعلوا وقد أشاد بأهميتها كثير من أهل العلم ونبهوا على قيمتها منهم: الإمام القرافي ،الزركشي ،تاج الدين السبكي ،والسيوطي وغيرهم في كتبهم التي تتناول الأشباه والنظائر أو الفروق للإمام القرافي
بعد ما عرفنا أهمية القواعد الفقهية وخصائصها المتميزة وأحببنا أن نذكر هذه الخصائص من باب التشويق للإطلاع أو لفتح النفس إلى الإطلاع على مباحث هذا العلم لمعرفة هذه القاعدة ،معرفة مصادر القواعد ، مميزات هذه القواعد ، فضلا عن معرفة مناهج التأليف في هذه القواعد ثم بعد ذلك الدخول في القواعد الخمس المعروفة وهي :" الأمور بمقاصدها " " اليقين لا يزال بالشك " " العادة محكمة "
" الضرر يزال " وأيضا " المشقة تجلب التيسير "
هذه القواعد الخمس التي تقل فيها الإستثناءات وسنتعرض لها إن شاء الله بالتبع شيئا فشيئا
- ننتقل بكم إلى القاعدة ما معناها لغة وما معناها إصطلاحا ثم نتعرض بعد ذلك إلى الإختلافات القائمة بين الفقهاء في القاعدة الفقهية ونختار لكم تعريفا للقاعدة الفقهية يكون جامعا ومانعا من دخول العلوم الأخرى التي قد تختلط به
القاعدة من الناحية اللغوية جمع قواعد والمراد بها الأساس أساس الشيء وأصوله وهذا الشيء سواء كان حسيا كأن تقول أساس البيت كما في قوله تعالى "( وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ") فقواعد البيت بمعنى أسسه وقواعده أسسه وأصوله "( فأتى الله بنيانهم من القواعد ")
ويقال الأساطين التي يعتمد عليها البناء هي القواعد أي ذلك الاساس الذي ينبني عليه الشيء فأساسه هو أصله وقاعدته ويقال قواعد الهودج بمعنى تلك الخشبات الأربع المعترضة والتي تقام عليها عيدان الهودج فهذا من الناحية الحسية
أما من الناحية المعنوية فيقال فلان بنى أمره على قواعد أي على دعائم وأسس ويقال بني الإسلام على خمس قواعد يعني على دعائم خمس وهي أسسه ودعائمه هذا من الناحية اللغوية
هذه الناحية اللغوية روعيت أيضا في الناحية الإصطلاحية لكن الناحية الإصطلاحية تختلف فيها القاعدة من علم لآخر
فالأصوليون والنحاة يعرفون القاعدة بأنها " قضية كلية تنطبق على جميع جزئياتها لتفهم أحكامها منها أو لتعرف أحكامها منها " فعند الأصوليون يمثلون بالقاعدة المعروفة الأمر المجرد عن القرائن يفيد الوجوب
فهي قضية كلية والقضية المراد بها ما توفر فيه الأركان الأربع والأركان الأربع في القضية هي:
-المحكوم عليه – المحكوم فيه
-النسبة الحكمية – الحكم
فإذن هذه الجزئيات التي فيها الأوامر تندرج تحت القاعدة وهي الأمر إذا جرد عن القرائن أفاد الوجوب
كذلك عند النحاة الفاعل مرفوع والمفعول به منصوب فكل فاعل يكون مرفوعا و كل مفعول يكون منصوبا أينما كانت الصيغة أواللفظ الذي يكون فيه الفاعل ويكون فيه المفعول به ، فإذن عند النحاة كذا عند الأصوليين أن القاعدة المراد بها قضية كلية وكلية القعدة الأصولية والقاعدة النحوية قليلة الإستثناءات بالنظر إلى القواعد الفقهية بمعنى أن مثل هذه القواعد ليس فيها إستثناءات بحيث تشكل هذه الإستثناءات قواعد أخرى تقوم بالموازاة مع القواعد الأولى، أي لاتشكل إستثناءات كثيرة بخلاف القاعدة الفقهية كما سيأتي ، هذا بالنسبة للقاعدة عند النحاة والأصوليين أما القاعدة عند الفقهاء فقد إختلف الفقهاء في تعريف القاعدة على إختلافات سنبين بعد حين سبب هذا الإختلاف
- فعرفها المقري التلمساني أبو عبد الله محمد بن محمد بن أحمد المقري المتوفى في 758 قال:" نعني بالقاعدة كل كلي أخص من الأصول ومن سائر المعاني العقلية العامة وأعم من العقود وجملة الضوابط الفقهية " بمعنى أنه جعل القواعد الفقهية من حيث سعتها وضيقها جعلها دون الأصول والقواعد العقلية وأعم وأشمل من الضوابط الفقهية، القاعدة الفقهية تدخل في أبواب شتى من أبواب الفقه بينما الضابط الفقهي لا يشمل سوى باب واحد من أبواب الفقه فإذن القاعدة الفقهية أشمل وأعم من الضَوابط الفقهية ولكن إذا ما نظرنا إليها من جهة الأصول والمعاني العقلية فهي دون الأصول لأن الأصول معاني عقلية حيث أنها ليست قواعد أغلبية كما هو الشأن بالنسبة للقاعدة الفقهية ، القاعدة الفقهية نجد أن غالب هذه القواعد مستثناة أو يدخلها الشذوذ باسم المستثنيات ولهذا كانت المعاني العقلية أعم من القاعدة الفقهية.
لكن تلاحظون في هذا التعريف أن التعريف بقي محصورا أي لم يفصح عن معنى القاعدة بوجهها الكامل غاية ما في الأمر أنه حصرها في بيان موضع أو مكان القاعدة الفقهية من الأصول ومن الضوابط الفقهية
لكن عرفها بأنها كلي كما يعرفها تاج الدين السبكي المتوفى في 771 عرف القاعدة بأنها " الأمر الكلي الذي ينطبق على جزئيات لتفهم أحكامها منها "
فعرفها تاج الدين السبكي في الأشباه والنظائر عرف القاعدة بأنها الأمر الكلي ونظر إلى القاعدة بأنها تندرج تحتها جزئيات كثيرة تفهم هذه الجزئيات بالحكم الوارد على تلك القاعدة الكلية أي الحكم الذي يكون على القاعدة الكلية ، كل الأفراد وكل الجزئيات والأحكام التي تندرج تحتها تعطى لها حكمها .
غير أن هذا التعريف أيضا لا يفصح عن المعنى الصحيح للقاعدة الفقهية بحيث أنه ليس مانعا من دخول النظريات الفقهية من دخول أيضا أصول الفقه من دخول ايضا قواعد النحو إلى غير ذلك
يأتي بعض الفقهاء أيضا يعرفون القاعدة ، كتعريف سعد الدين التفتزاني المتوفى في 791 يعرف القاعدة بأنها " الحكم الكلي الذي ينطبق على جزئياته ليعرف منها " أيضا فهذا عرفها (1)
ويأتي آخرون ويعرفونها بأنها " حكم أغلبي ينطبق على معظم جزئياته ليعرف حكمها منها " فهؤلاء عرفوا القاعدة بأنهاحكم أغلبي لأن المستثنيات تخرج من القاعدة ولأن الشواذ تخرج من القاعدة فلا تأخذ القاعدة شكل الكلية وإنما تأخذ شكل الأكثرية بمعنى الأغلبية ولهذا جعلوا القاعدة حكما أغلبيا وليس كليا
فإذن هذه التعاريف المتعارضة في القضية وفي النظر إلى إتصافها بصفة الأغلبية أو بصفة الكلية تبين لنا سبب الخلاف بين الفقهاء في تعريف القاعدة ،
سبب الخلاف في ذلك يرجع أساسا إلى إعتبار القاعدة حكما أغلبيا أو إعتبارها قضية كلية(1)
إلى الحكم بإعتبار ذلك الحكم يمثل عموم القضية وجل القضية وأنه يستدعي طرفين المحكوم عليه والمحكوم فيه فجعل تعريف القاعدة عرفها بأنها الحكم لأن الحكم هو معظم القضية وأجل ما فيها لأنها ثمرة القضية ، ذكرنا القضية قبل قليل أنها المحكوم عليه المحكوم فيه النسبة الحكمية والحكم الحكم أعم وهو ثمرة من وراء القضية ولهذا عرفوا القاعدة بأنها الحكم و أن القضية إنما تعنى بأفعال المكلفين وأفعال المكلفين وإن شملت القضية هذه الأفعال إلا أن الحكم يقتضي ويستدعي وجود طرفين وهو المحكوم عليه والمحكوم فيه والمحكوم فيه هو فعل المكلف والمحكوم عليه هو المكلف
ومن هنا هؤلاء جنحوا إلى تعريف القضية بالحكم لكنهم أضافوا إلى الحكم أنه أغلبي بمعنى أن القواعد الفقهية لو قورنت بالقواعد الأصولية أو القواعد النحوية لوجدنا في القواعد الفقهية العديد من المستثنيات حتى أن هذه المستثنيات قد تشكل بذاتها قواعد أخرى تندرج تحتها أيضا جزئيات من أحكام وقد ترد على هذه الجزئيات من أحكام (1) ولهذا قالوا لا نستطيع أن نسميها كلية و إنما هي أكثرية أي تتصف بالأكثرية هذه القاعدة ولا تتصف بالكلية
والفريق الثاني نظر إلى الكلية بإعتبار أن الكلية لايلزم منها أن تكون كلية مطلقة بل يجوز أن تكون كلية نسبية بمعنى أنها تدخل فيها الإستثناءات تلك الإستثناءات لاتضعف القاعدة الفقهية ولا تزيل قيمتها العلمية لما قد ذكرنا آنفا لأن هذا تجرد القاعدة من كليتها في الجملة
لأنه إذا نظرنا إلى القواعد الفقهية نجد أن بعض القواعد الفقهية محدودة الإستثناءات كما هو الشأن بخصوص القواعد الخمس فهي محدودة الإستثناءات وهذا لا يفقدها من عمومها وشمولها وإضفاء صفة الكلية عليها ، ذلك لأن العموم الشرعي عموم عادي طريقه الإستقراء بمعنى أنه لو تخلف حكم عن هذا العموم أو خرج جزئي من هذا الكلي لا يلزم أن يفقد هذا العموم صبغته كعموم وشمول بخلاف القواعد العقلية ،العقليات طريقها البحث والنظر فعمومها عموم تام بحيث لو تخلف جزئي عن القواعد العقلية للزم منه الإنتقاض والإنخرام بحيث أنه لاتصلح القاعدة العقلية بأن تكون لها أفراد يخرجون من كليتها ولهذا قالوا أنه إذن القواعد الفقهية قواعد كلية لاينخرم عمومها ولا ينتقض لخروج تلك الجزئيات فهي تبقى محافظة على ذلك العموم هذا من جهة
أما القواعد الأخرى التي تتصف أي ليست محدودة من حيث المستثنيات أي مستثنياتها غير محدودة أي كثيرة وأغلبية فهذه تحفظ كما تحفظ الأصول بمعنى أنه يكون الأليق بها أن تكون –لو كانت كثيرة- أن تكون ضمن قواعد أخرى تلك القواعد التي تحتفظ بتلك المستثنيات ، أي قاعدة يخرج منها جملة من المستثنيات تكون هذه المستثنيات تسوغ لها قاعدة أخرى تكون مشمولة بها فتحفظ كما تحفظ الأصول وبالتالي تبقى كليتها كاملة من غير إنتقاض
كما انتقد الإعتماد على صفة الأغلبية في القاعدة الفقهية فيقال أن الإعتماد على صفة الأغلبية في القاعدة الفقهية غير صحيح من ناحية أنه لو قلنا أن القاعدة الفقهية هي حكم أغلبي للزم أن بعض القواعد الأخرى اليسيرة لها حكم الكلي فتكون القاعدة شاملة للأغلبي ولذلك الكلي فهي من حيث شمولها تشمل القواعد الكلية كما تشمل من جهة أخرى القواعد القواعد الأغلبية ولذلك لايجوز أن تتصف القاعدة الفقهية بأنها أغلبية بل أنها كلية لأنها شاملة للقواعد الأغلبية كما أنها شاملة للكلية فتكون أعم من أن تكون شاملة لصفة الأغلبية أو الأكثرية
والحاصل هذه كما ذكرت آنفا الحاصل أن التعريفات السابقة للقاعدة الفقهية لم تفصح عن المعنى الصحيح الواضح للقاعدة الفقهية كما أنها لا تمنع من دخول النظريات الفقهية ودخول الضوابط الفقهية ودخول أيضا حتى القواعد الأصولية والقواعد الفقهية فيها
فتلاحظون أن تعريف تاج الدين السبكي لا يختلف عن تعريف الأصوليين وتعريف النحاة كذلك لا يختلف تعريف التفتزاني عن تعريف الأصوليين فهي غير مانع من دخول قواعد أخرى وبالتالي تكون غير مانعة لأن التعريف أو الحد ينبغي أن يكون جامعا مانعا
لذلك يمكن أن نعرف القاعدة الفقهية تعريفا نحاول فيه أن يكون جامعا مانعا وهو يظهر كالتالي :
القاعدة الفقهية هي " أصل فقهي كلي يجمع في ذاته أحكاما جزئية بلا واسطة من أبواب شتى "
قولنا " أصل " هنا روعي المعنى اللغوي في هذا التعريف لأن القاعدة في المعنى اللغوي بمعنى الأساس أساس الشيء وأصوله فهو أصل يتضمن جملة من الأحكام تلك الأحكام الفقهية تجمعها رابطة واحدة أو تجمع في سلك واحد بقياس واحد
"فقهي" يخرج منه الأمور الغير شرعية أولا الأمور الغير شرعية كالقواعد العقلية وكالقواعد القانونية تخرج من هذا التعريف كما يخرج من لفظ الفقه يخرج منه القواعد الأصولية والقواعد النحوية لأنه أصل فقهي بخلاف علم الأصول أو قواعد النحو فليس بفقهي ، أي يخرج من علم الآلات أو علم الوسائل كل من الأصول والنحو
" أصل فقهي كلي " ونقصد بالكلي هاهنا كلية نسبية لا شمولية بمعنى أنهخروج المستثنيات من هذه الكلية لا يلزم منها أن تكون غير كلية لأنه كما ذكرت آنفا العمومات في الشرعيات طريقها الإستقراء وهي عمومات لايقدح في عمومها خروج بعض الجزئيات منها تبقى عامة وتبقى كلية وإن كان الأمر يتفاوت من قاعدة لأخرى قد تكون هذه كلية وهذه كلية لكن كلية هذه أعم من كلية هذه بالنظر لعدم وجود إستثناءات كثيرة في هذه بخلاف الأخرى.
أصل فقهي كلي ثم يوصف هذا بأنه " يجمع في ذاته أحكاما جزئية " هنا يجمع في ذاته أحكاما جزئية بمعنى أن القاعدة تجمع عدة أحكام جزئية يجمعها سلك واحد جامع واحد مثلا تقول " الضرر يزال " في كل فرع فقهي وفي كل مسالة جزئية وجد فيها الضرر إلا إندرج تحت هذه القاعدة أي في سلك واحد فيقال الضرر يزال ووجد الضرر فينبغي أن يزال ،ثم بعد ذلك كما ذكرنا آنفا هذا يخصص بقواعد أخرى كالضرر لا يزال بمثله.
مثلا " اليقين لا يزول بالشك " في كل مسألة أو فرع فقهي وجد فيه يقين وشك إلا إندرج تحت هذه القاعدة أن اليقين لا يزول بالشك فيكون المسائل التي فيها يقين وشك تندرج جميعا تحت هذه القاعدة وتعطى حكمها بمعنى أنها تعطى حكم القاعدة لسائر الجزئيات التي تندرج تحتها
من هنا ندرك الفرق بين القاعدة الفقهية والنظريات الفقهية، أن القاعدة الفقهية تجمع في ذاتها بمعنى أنها تتضمن وتندرج هذه الأحكام الجزئية والفروع الفقهية تحتها بخلاف النظريات الفقهية كنظرية الملكية ونظرية (1)
ونظرية البطلان أو غيرها من النظريات فإن حقيقتها هي كل أركان وشروط وأحكام تجمع بين الشروط والأركان والأحكام صلة فقهية لا تندرج تحت أي قاعدة هي نظرية عامة شاملة هذه النظرية فيها تبين مثلا أحكام أركان الملكية وشروط الملكية والأحكام المتعلقة بالملكية تجمعها في رباط واحد بخلاف القاعدة الفقهية فهي تجمع في ذاتها ، النظريات الفقهية لاتجمع في ذاتها وهنا فرق بين القاعدة الفقهية والنظريات الفقهية وهذا ما سيأتي في مميزات القاعدة الفقهية سنعطي إن شاء الله الفوارق الكثيرة بين النظريات الفقهية والقواعد الفقهية وبين القواعد الفقهية والقواعد الأصولية وبين القواعد الفقهية والضوابط الفقهية ونعطي أمثلة على ذلك
إذن في هذا التعريف " أصل فقهي كلي يجمع في ذاته أحكاما جزئية " وأحكاما جزئية كما ذكرنا تدخل في ذاته وهنا قيد لإخراج النظريات الفقهية
" بلا واسطة " هنا أيضا قيد آخر لإخراج القواعد الأصولية لأن القواعد الأصولية تتوسط بين الحكم والدليل بمعنى أن القاعدة الأصولية منشأة للحكم من الدليل فهي تتوسط بين الحكم والدليل فمثلا ( أقيموا الصلاة ) دليل جزئي تفصيلي ويفهم الأمر بواسطة القاعدة أن الأمر يفيد الوجوب ففهمنا أن الأمر في أقيموا أمر والقاعدة تقول أن الأمر يفيد الوجوب إذن الصلاة واجبة فإذن القاعدة توسطت بين الدليل وهو أقيموا الصلاة وبين الحكم الذي هو وجوب الصلاة و القاعدة أن الأمر يفيد الوجوب
فالقاعدة الأصولية تتوسط بين الدليل والحكم بخلاف القاعدة الفقهية فهي مباشرة تتعلق بفعل المكلف لأنها أحكام ليست سوى كونها تندرج تحت تلك الصياغة العامة التي تعرف أحكام هذه الجزئيات بها، بمعنى أن القاعدة الأصولية قاعدة منشأة للحكم مولدة للحكم بينما القواعد الفقهية مجمعة للحكم ، أي كل قاعدة لها نفس الموضوع يتعلق بها تجتمع تحت هذه الصياغة الكلية مثلا: مسألة فيها ضرر تجتمع كليا تحت " لاضرر ولاضرار" مسألة تتعلق بالمشقة تجتمع تحت " المشقة تجلب التيسير " وهكذا بخلاف كما سيأتي بيانه في مميزات القاعدة أو الفرق بين القاعدة الأصولية والقاعدة الفقهية ، حيث إنه يدرك الفرق بينهما حيث أن القاعدة الأصولية مولدة ومنشأة للحكم وهي تتوسط بين الدليل والحكم بخلاف القاعدة الفقهية فهي مباشرة تتعلق بفعل المكلف.
في التعريف قلنا هو " أصل فقهي كلي يجمع في ذاته أحكاما جزئيت بلا واسطة من أبواب شتى "
قولنا " من أبواب شتى " يدل على أو قيد يستفاد منه الإحتراز من الضوابط الفقهية ، الضابط الفقهي يجمع تحته عدة جزئيات لكن من باب واحد يقال باب الصلاة مثلا الصلاة الأمور التي تتعلق بمسألة من مسائل الصلاة ويوضع عليها ضابط فهي تدخل في باب واحد وهو باب الصلاة فهذا يسمى ضابط فقهي أما القاعدة فشاملة لكل أبواب الفقه ، فالقاعدة التي تكون كليتها فكليتها ليست محصورة في باب بل هي شاملة لكل الأبواب سواء باب العبادات أو باب المعاملات في الجملة مثلا تقول " الأعمال بالنيات " فشاملة لكل الأبواب أو قاعدة " المشقة تجلب التيسير " فشاملة لكل الأبواب بخلاف الضابط الفقهي فهو شامل لباب واحد ، فإذن التعريف بلا واسطة في أبواب شتى يعني أن هذا القيد لإخراج الضابط الفقهي وهنا الفرق بين الضابط الفقهي والقاعدة الفقهية أن الضابط الفقهي شبيه بالقاعدة الفقهية غير أنه محدود الأثر ولا ينتقل إلى غيره من الأبواب بل يبقى في باب واحد بخلاف القاعدة الفقهية فهي شاملة لأكثر من باب
بعد هذا التعريف للقاعدة الفقهية فإنشاء الله سنتعرض في الحصة اللاحقة بحول الله إلى مسائل أخرى منها مصادر القاعدة الفقهية ثم نتناول بعدها إلى مميزات القاعدة الفقهية وبعد إنشاء الله إلى مناهج التأليف في القواعد الفقهية لندخل بعدها من الناحية التطبيقية العملية لرؤية المسائل المتعلقة أو ندخل في القواعد وننظر في الجزئيات التي تندرج تحتها والمسائل التي تستثنى من هذه القواعد
تعليق