مفرغ" للعلامة محمد بن صالح العثيمين
بعنوان: سجود السّهو
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين وأصلِّ وأسلّم على نبينا محمّد وعلى آله وأصحابه أجمعين , وأمّا بعد:
فإن الله سبحانه وتعالى مَنَّ على عباده بتيسير الشّرع , وتسهيله, وتوضيحه , وتفصيله فقال تعالى في وصف القرآن: (كِتابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرِ) وإنّني في هذا الحديث أتحدث عن تفصيل أمر هام يخفى على كثير من طلبة العلم , وهو ما يتعلق بسجود السّهو , فإنّ هذا الموضوع موضوع هامّ جدّا , ولكن مع الأسف أنّ كثيرا من النّاس يجهلون أحكامه حتّى الأئمة الذين يُقتدى بهم في أفعالهم وفي صلواتهم , نجدهم يجهلون كثيرا من أحكام سجود السّهو وربمّا يعلمونها , ولكنّهم ماشون على طريقة كانوا عليها , لا يحبّون أن يأتوا بما ينبغي أن يأتوا به من الشريعة في ذلك.
سجود السّهو له أسباب ثلاثة : زيادة , ونقص , وشكّ.
_الزّيادة : الزّيادة مثل أن يزيد الإنسان ركوعا فيركع في الرّكعة الواحدة ركوعين سهوا , أو يزيد سجودا فيسجد ثلاث مرات في الرّكعة , أو جلوسا فيجلس في موضع القيام , أو قياما فيقوم في موضع الجلوس . هذه الزّيادة توجب سجود السّهو, ومحلّها - أي مَحَلُّ سجود السّهو للزّيادة- بعد السّلام , لأنه تبث في الصّحيحين من حديث أبو هريرة أنّ النّبي - صلّ الله عليه وسلّم- " صلّ بهم إحدى صلاتي العَشِيّْ إمّا الظّهر, وإما العصر فسلّم من ركعتين , ثمّ قام إلى خشبة معروضة في المسجد فَاتكأ عليها , وشَبَّكَ بين أصابعه كأنّه غضبان وكان القوم يهابون الرّسول - صلّ الله عليه وسلّم- فقام رجل يقال له ذو اليدين فقال: يا رسول الله أَنَسِيتَ , أم قَصُرَتِ الصَّلاة؟ فقال صلّ الله عليه وسلّم : لم أنسَ ولم تُقْصَرْ - بناءا على ما كان يغلب على ظنه من عدم النسيان- فقال الرجل : بلى قد نَسِيتَ, فقال النّبي - صلّ الله عليه وسلّم- أكما يقول ذُو اليدين؟ قالوا : نعم فتقدّم صلّ الله عليه وسلم وصلّ ما بقي من صلاته ,ثمّ سلّم ,ثمّ سجد سجدتين ,ثمّ سلّم". هكذا صحّ عن النّبي- صلّ الله علي وسلّم- , وهذا السّجود سببه الزّيادة ,لأنّ النّبي- صلّ الله عليه وسلّم- زاد السّلام في غير موضعه , والسّلام ركن يَخرج به من الصّلاة, فلهذا سجد النّبي- صلّ الله عليه وسلّم- بعد السّلام, وكذلك ما صحّ عنه :" أنه - صلّ الله عليه وسلّم- صلّ ذات يوم الظّهر خمسا فلمّا سلّم, قيل له: أَزِيدَ في الصّلاة؟ قال: وما ذاك؟ قالوا : صلّيت خمسا , فثنى رجليه ثمّ سجد سجدتين". وهذا السّجود بعد السّلام, ولكنَّ وقوع هذا السّجود بعد السّلام أمر لا يمكن إلاّ أن يكون بعد السّلام , لأنّ الرّسول - صلّ الله عليه وسلم- لم يعلم بسبب سجود السّهو إلاّ بعد السّلام , ولكن لمّا سجد بعد السّلام هنا, ولم يبين - صلّ الله عليه وسلم- أنّه لو حدث مثل هذه الزّيادة لكان سجودها قبل السّلام , لمَّاَ لم يبيّن ذلك, دلّ هذا على أن سجود السّهو إذا كان سببه الزّيادة يكون بعد السّلام , ويؤيّد ذلك أيضا ما سبق من سلامه - صلّ الله عليه وسلم- قبل تمام صلاته , ويؤيّد ذلك أيضا أنّه من الحكمة أن يكون السّجود للزّيادة بعد السّلام , ألاّ يجتمع في الصّلاة زيادتان الزّيادة التي سها فيها وسجود السّهو.
_أمّا النَّقص: فإنّه يسجد له قبل السّلام , مثالُ أن ينسى الإنسان التّشهد الأوّل , أو ينسى أن يقول سبحان ربّي العظيم في الرّكوع , أو ينسى أن يقول سبحان ربّي الأعلى في السّجود , أو ينسى أن يكبّر إحدى التّكبيرات سوى تكبيرة الإحرام , ففي مثل هذه الأحوال يسجد للسّهو قبل السّلام لأجل أن يحصل الجابر للصّلاة , وسد هذا النَّقص قبل تمامها , ويدلّ لذلك أنّ النبي - صلّ الله عليه وسلّم- قام في الرّكعتين فلم يجلس ثم سجد - صلّ الله عليه وسلّم- سجدتين قبل أن يسلّم , فدلّ هذا على أنّه كلّما سها الإنسان وأسقط واجبا من واجبات الصّلاة التي لا تبطل الصّلاة بتركه على السّهو, فإنه يسجد للسّهو قبل السّلام.
_وأما الشك : وهو السّبب الثالث من أسباب سجود السّهو ,فإنّه ينقسم إلى قسمين.
_شك يحصل معه ترجيح لأحد الطّرفين, وشك لا يحصل معه ترجيح.
فأمّا الشك الذي يحصل معه التّرجيح : فإنه يَسجُد له ويجعل السّجود بعد السّلام ,مثال ذلك إذا شكّ , هل صلّ ثلاثا أم أربعا ؟وترجّح عنده أنّه صلّ ثلاثا, فإنّه يأتي بالرّكعة الرّابعة ويسلّم منها ثم يسجد للسّهو بعد السّلام ,لو شك هل صلّ ثلاثا أم اثنتين ؟ وترجّح عنده أنّها ثلاث , فإنّه يأتي بركعة واحدة لتكون أربعا ويسلم ,ثم يسجد للسّهو بعد السّلام ,ومتى سجد للسّهو بعد السّلام فإنّه يجب عليه أن يسلّم بعد السّجود -أي بعد سجود السّهو.
أمّا القسم الثاني من الشك فهو: شك لا يحصل معه ترجيح , فيبني فيه على المُتيقَّن ويسجد للسّهو قبل السّلام مثال, إذا شك أنه صلّ ثنتين أم ثلاثا, ولم يترجّح عنده أنّها إثنتان , ولا أنّها ثلاث ,فإنّه يجعلها إثنتين لأن ذلك هو المتيقّن , ويكمل بقيّة الصّلاة الباقية بعد الرّكعتين ,ثمّ يسجد للسّهو ثم يُسّلّم , فيكون محلُّ السّجود هنا -أي في الشك الذي لم يترجّح فيه أحد الطرفين على الآخر- يكون سجود السّهو فيه قبل السّلام.
خلاصة الكلام: أنّ السّجود بعد السّلام يكون في موضعين في الزّيادة , وفيما إذا شك وترجّح عنده أحد الطرفين, وأنّ السّجود قبل السّلام يكون في موضعين أيضا , في النَّقص وفيما إذا لم يترجح عنده أحد الطرفين, فالواجب على المسلم أن يتفقّه في دين الله وأن يعرف أحكام الله تعالى في هذه المسألة الهامّة وهي هامّة جدّا , لأنّ هذه السُّنة أعني سُنَّةَ السّجود للسّهو بعد السّلام سُنَّةٌ ماتت , حتّى كان كثير من النّاس يُنْكِرها ولقد خاطبنا بعض الأئمّة فيها وقالوا لنا في العذر بعد تركهم السلام , إنّ ذلك يُشوّش على المصلّين , وفي الحقيقة أنّ هذا ليس بعذر والذي جعله يُشوّش هو عدم معرفة النّاس له , وعدم تطبيقه من الأئمّة -هدانا الله وإياهم- وإلاّ لو أنّ الأئمّة طبّقوا هذا وعملوا به مرة بعد مرة , كلّما وُجِدَ سببه لزال استغراب النّاس له , وإنكارهم إيّاه. وإنكار النّاس له الآن إنّما هو من قلّة العمل به , وهذه المسؤوليّة تقع على الأئمّة وعلى طلبة العلم أيضا , وعلى من يهم المستمع الكريم أنّ محلّ سجود السّهو قبل السّلام , أو بعده ليس بالأمر الهيّن , فإنّ من أهل العلم كشيخ الإسلام إبن تيمية من يرى أن سجود السّهو إذا كان محلّه قبل السّلام فإنه يجب أن يكون قبل السّلام , وإذا كان محلّه بعد السّلام فإنّه يجب أن يكون بعد السّلام وجوبا لأنّ النّبي -صلّ الله عليه وسلم- يقول: "صلّوا كما رأيتموني أصلّ". وإذا كان كذلك فإنّ من صفة صلاته أن يسجد للسّهو قبل السّلام في موضعه , وبعد السّلام في موضعه , وإذا سجدنا بعد السّلام لسجود قبل السّلام فمعنى ذلك أنّنّا أخللنا بسجود في صلب الصّلاة , وإذا سجدنا قبل السّلام لسجود بعد السّلام فمعنى ذلك أننا أدخلنا سجودا في صلب الصّلاة , وهو خارج عنها لسُنَّةِ النّبي -صلّ الله عليه وسلّم- , لهذا أدعوا إخواني الأئمّة وطلبة العلم إلى فهم هذه المسائل , وإلى نشرها بين النّاس, وإلى إحياء السُّنة فيها. والله سبحانه الموفّق والحمد لله رب العالمين وصلّ الله على نبينا محمّد وعلى آله وأصحابه أجمعين.