الصنف: فتاوى أصول الفقه
السـؤال:
هل يصحُّ الغسل بتشريك قُربتين، كغسلٍ واحدٍ للجنابة والحيض، أو غسلٍ واحدٍ للجنابة والجمعة ؟
الجـواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
فأمَّا مسألة تشريك قُربتين بعملٍ واحدٍ فإنَّ العلماء يختلفون في حكمها، كما تتباين آراؤهم فيما إذا لم تصحَّ فهل يبطل العمل بالكُلِّية أم لا ؟ وما هي العبادة الأَوْلى بالصحَّة ؟
والمختار من أقوال العلماء عدم جواز تشريك نِيَّتين في عملٍ ولا أكثر من عبادةٍ بفعلٍ واحدٍ؛ لأنَّ العبادة لا تغني عن قُربتين أو أكثر، كَمَن عليه قضاء الظهر لا يصحُّ أن يصلِّيَه بصلاة الظهر أداءً، أو كمن عليه كفَّارة نذرٍ أو قضاءُ رمضان فلا يجوز له أن ينويَه مع صيام رمضان أداءً. وخالف في هذا الأصل الأحناف، فيصحُّ عندهم الجمع بين عبادتين، وحصروا هذا التشريك في الطهارة والتيمُّم؛ لأنه يدخل في باب الوسائل لا المقاصد(١)، فيجزئ غسلٌ واحدٌ عن رفع الحدث الأكبر والأصغر، وعن الجمعة والجنابة مع حصول ثواب غُسل الجمعة، كما يجزئ عن رفع حيضٍ وجنابةٍ، ويجزئ تيمُّمٌ واحدٌ عن الحدثين الأكبر والأصغر، وهكذا.
وأمَّا ما كان داخلاً في باب المقاصد ففيه تفصيلٌ يرجع اعتباره إلى المقصود المراد تحقيقُه.
هذا، والقول بالتشريك في النيَّة هو مذهب بعض الشافعية أيضًا(٢).
ومن أدلَّة من أجاز الجمع بين عبادتين بعملٍ واحدٍ قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «…وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى»(٣)، فإنَّ عمومه يدلُّ على أنه إن نوى الكُلَّ أجزأه، ويُؤيِّدون ذلك بما رواه مسلمٌ من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنَّ وفد ثقيفٍ سألوا النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم فقالوا: يا رسول الله، إنَّ أرضنا أرضٌ باردةٌ، فكيف بالغسل ؟ فقال: «أَمَّا أَنَا فَأُفْرِغُ عَلَى رَأْسِي ثَلاَثًا»(٤)، فظاهر الحديث يفيد دخول الوضوء في الغسل، وبعملٍ واحدٍ صَحَّت قربتان، وكذلك قوله: «مَنْ غَسَّلَ يَوْمَ الجُمُعَةِ وَاغْتَسَلَ، وَبَكَّرَ وَابْتَكَرَ، وَمَشَى وَلَمْ يَرْكَبْ، وَدَنَا مِنَ الإِمَامِ، فَاسْتَمَعَ وَلَمْ يَلْغُ، كَانَ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ عَمَلُ سَنَةٍ: أَجْرُ صِيَامِهَا وَقِيَامِهَا»(٥)، والحديث إذا ما حُمل الاغتسال على غُسل الجمعة والتغسيلُ على تغسيله امرأته فإنه يدلُّ على جواز الجمع بين غسل الجنابة والجمعة، وكذلك قوله صلَّى الله عليه وسلَّم لعمَّار بن ياسرٍ رضي الله عنهما عندما أجنب: «إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيكَ هَكَذَا فَضَرَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكَفَّيْهِ الأَرْضَ وَنَفَخَ فِيهِمَا، ثُمَّ مَسَحَ بِهِمَا وَجْهَهُ وَكَفَّيْهِ»(٦)، فدلَّ الحديث على إجزاء تيمُّمٍ واحدٍ للحَدَثين الأكبر والأصغر.
هذا، والقاعدة العامَّة تقتضي عدم إمكان إغناء العبادة الواحدة غَنَاءَ عبادتين؛ لأنه إذا ما قام الدليل على وجوب كُلِّ عبادةٍ على سبيل الانفراد، فلا يجوز تشريكها في عملٍ واحدٍ، لقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ»، فالحديث يفيد أنَّ كُلَّ عملٍ مَنُوطٌ بنِيَّته، إذ مقابلة الجمع بالجمع يقتضي القسمة آحادًا، وأَمَّا رواية الإفراد: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ» فهي موافقةٌ لرواية الجمع باعتبار المعنى، لأنَّ الألف واللام إذا دخلت على الاسم أفادت فيه العموم مطلقًا عند الجمهور، سواءً كان مفردًا أو جمعًا ما لم تكن هناك قرينة عهدٍ، وهو المنقول عن الشافعيِّ وأحمد، وبه قال الشيرازي والباجي وابن بَرهانٍ وصحَّحه ابن الحاجب والبيضاوي وغيرهم(٧). كما يمكن حمل رواية إفراد النيَّة على محلِّها وهو القلب، قال السيوطي: «أمَّا رواية: «الأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ» فوجهه أَنَّ محلََّ النِّيَّة القلب وهو مُتَّحدٌ فناسب إفرادها، ولأنَّ النيَّة ترجع إلى الإخلاص وهو واحدٌ للواحد الذي لا شريك له»(٨).
أمَّا المسائل المذكورة فإنَّما تُستثنى من هذه القاعدة لوجود دليلٍ خاصٍّ يتمثَّل في تجويز الشرع هذا العمل بهذه الكيفية، فإن وافق عملُه ما أَقرَّه الشرع عليه كان مُصيبًا وعملُه مُجزِئًا، كرفع الحدث الأكبر والأصغر بالغسل الواحد والتيمُّم الواحد، وصلاة العيد والجمعة، والقِران بين الحجِّ والعمرة، والصدقة لذي رحمٍ، وحصول تحيَّة المسجد بالفريضة أو الراتبة، فإنَّ هذه القضايا ونظائرها إنَّما أجزأت بنيَّةٍ واحدةٍ؛ لأنه بحصول الفعل يتحقَّق مراد الشارع ومقصوده، أي: أنَّ تحيَّة المسجد مثلاً تحصل بأداء الفريضة وإن لم يَنْوِ التحيَّة؛ لأنَّ القصد بالتحيَّة شغل البقعة من المسجد بالعبادة وقد حصل(٩)، فغياب قصد المُكلَّف لا يُؤثِّر لكون العبادة جاءت على وَفق ما طلبه الشارع.
أمَّا الاستدلال بعموم حديث: «وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى» فساقطٌ؛ لأنَّ المراد منه أنَّ العبد له نِيَّته الصالحة أو الفاسدة في العمل المشروع، وهذا العمل المشروع لا يجزئه عند الله تعالى إلاَّ مع النيَّة الصالحة دون الفاسدة، ويدلُّ على هذا ما خُتم به الحديث، وتمامه قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ»، فإنَّ الهجرةَ الأولى مقبولةٌ عند الله للنيَّة الصالحة، والثانيةَ مردودةٌ لفسادها، فكان الحديث دالاًّ على صلاح العمل الثابتِ في الشرع جوازُه مع اقترانه بالنيَّة الصالحة، وليس فيه دليلٌ على صِحَّة عملٍ وصلاحه بمجرَّد النيَّة الصالحة إذا لم يثبت جوازُه بدليلٍ خاصٍّ.
فالحاصل أنَّ من قصد عبادتين فأكثر بفعلٍ واحدٍ لا يصحُّ، ولا تقع إلاَّ على عبادةٍ واحدةٍ عند الجمهور، خلافًا لابن حزمٍ الذي يُقرِّر بطلان كُلِّ عبادةٍ قُصد بها تحقيق قُربتين، ونقل عن جماعةٍ من السلف القول بعدم الإجزاء(١٠).
ومن لم يُبطل العملَ بالكُلِّية ظهر الخلاف بينهم على أيِّ عبادةٍ تقع صحيحةً، فالأحناف يُقدِّمون الأولوية في الحكم، فما كان فرضًا فهو أَوْلى بالتقديم صحَّةً، لكونه أقوى في درجة الحكم الشرعي، فإن استويا في القُوَّة فيكون تصحيح إحدى العبادتين مَنُوطًا باختيار المكلَّف، فإن اختار إحداهما انصرفت إليه صِحَّةً وبطَلت الثانية(١١)، وعلى العكس من ذلك، فالشافعية يَرَون أنَّ من قصد أكثر من عبادةٍ بالفعل الواحد فإنها تقع على النفل والتطوُّع لا على الفريضة، لأنَّ النيَّة فيها غير جازمةٍ بسبب التردُّد الذي ينافي الجزم المطلوب فيها.
والذي تطمئنُّ إليه النفس -في غير المسائل المنصوص عليها- هو القول بأنَّ المكلَّف إن قصد التقرُّب بتشريك عبادتين، وكانت إحداهما مقصودةً بنِيَّته على وجه التغليب دون الأخرى فإنَّ العبادة الغالبة بنيَّته تجزئه -إن شاء الله-، بغضِّ النظر عن كونها فرضًا أو نفلاً، لكون المؤدِّي لها يقصدها بالدرجة الأولى من غير تردُّدٍ أو شكٍّ، والحكم للأغلب، إذ «مُعَظَمُ الشَّيْءِ يَقُومُ مَقَامَ كُلِّهِ».
أمَّا في حالة تساوي العبادتين في قصده فإنهما تتساقطان، ويصير العمل لا له ولا عليه؛ لأنَّ نيَّة العامل لا تصحِّح فساد عمله، لقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ»(١٢).
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
فتاوى الشيخ فركوس
١- «الأشباه والنظائر» لابن نجيم (39).
٢- «المجموع للنووي»(1/ 326)
٣- متَّفقٌ على صِحَّته: أخرجه البخاري (1/ 9، 135)، ومسلم (13/ 53)، من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
٤- أخرجه مسلم (4/ 10)، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
٥- أخرجه أبو داود (1/ 246)، والترمذي (2/ 367)، وابن ماجه (1/ 246)، والنسائي (3/ 97)، وأحمد (4/ 104)، من حديث أوس بن أوسٍ الثقفي رضي الله عنه، والحديث صَحَّحه الألباني. [انظر: «صحيح الجامع الصغير» للألباني (5/ 325)، «صحيح أبي داود» (372)، وحَسَّنه الأرناؤوط في «شرح السنَّة» للبغوي (1/ 236)].
٦- مُتَّفق عليه: أخرجه البخاري (1/ 443)، ومسلم (4/ 60)، من حديث عَمَّار بن ياسرٍ رضي الله عنهما
٧- انظر «شرح اللمع» للشيرازي (1/ 303)، «إحكام الفصول» للباجي (231)، «العدَّة» لأبي يعلى (2/ 485)، «الوصول» لابن برهان (1/ 217)، «نهاية السول» للإسنوي (2/ 91)، «إرشاد الفحول» للشوكاني (119
٨- «منتهى الآمال» للسيوطي (73).
٩- «المجموع» للنووي (1/ 325)، و«منتهى الآمال» للسيوطي (122)
١٠- «المحلَّى» لابن حزم (2/ 43، 6/ 174).
١١- «الأشباه والنظائر» لابن نجيم (39)، «نزهة النواظر» لابن عابدين (39).
١٢- أخرجه مسلم (12/ 16)، من حديث عائشة رضي الله عنها، وقد اتَّفقا على إخراجه بلفظ: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ»، أخرجه البخاري (5/ 301)، ومسلم (12/ 16).
السـؤال:
هل يصحُّ الغسل بتشريك قُربتين، كغسلٍ واحدٍ للجنابة والحيض، أو غسلٍ واحدٍ للجنابة والجمعة ؟
الجـواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
فأمَّا مسألة تشريك قُربتين بعملٍ واحدٍ فإنَّ العلماء يختلفون في حكمها، كما تتباين آراؤهم فيما إذا لم تصحَّ فهل يبطل العمل بالكُلِّية أم لا ؟ وما هي العبادة الأَوْلى بالصحَّة ؟
والمختار من أقوال العلماء عدم جواز تشريك نِيَّتين في عملٍ ولا أكثر من عبادةٍ بفعلٍ واحدٍ؛ لأنَّ العبادة لا تغني عن قُربتين أو أكثر، كَمَن عليه قضاء الظهر لا يصحُّ أن يصلِّيَه بصلاة الظهر أداءً، أو كمن عليه كفَّارة نذرٍ أو قضاءُ رمضان فلا يجوز له أن ينويَه مع صيام رمضان أداءً. وخالف في هذا الأصل الأحناف، فيصحُّ عندهم الجمع بين عبادتين، وحصروا هذا التشريك في الطهارة والتيمُّم؛ لأنه يدخل في باب الوسائل لا المقاصد(١)، فيجزئ غسلٌ واحدٌ عن رفع الحدث الأكبر والأصغر، وعن الجمعة والجنابة مع حصول ثواب غُسل الجمعة، كما يجزئ عن رفع حيضٍ وجنابةٍ، ويجزئ تيمُّمٌ واحدٌ عن الحدثين الأكبر والأصغر، وهكذا.
وأمَّا ما كان داخلاً في باب المقاصد ففيه تفصيلٌ يرجع اعتباره إلى المقصود المراد تحقيقُه.
هذا، والقول بالتشريك في النيَّة هو مذهب بعض الشافعية أيضًا(٢).
ومن أدلَّة من أجاز الجمع بين عبادتين بعملٍ واحدٍ قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «…وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى»(٣)، فإنَّ عمومه يدلُّ على أنه إن نوى الكُلَّ أجزأه، ويُؤيِّدون ذلك بما رواه مسلمٌ من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنَّ وفد ثقيفٍ سألوا النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم فقالوا: يا رسول الله، إنَّ أرضنا أرضٌ باردةٌ، فكيف بالغسل ؟ فقال: «أَمَّا أَنَا فَأُفْرِغُ عَلَى رَأْسِي ثَلاَثًا»(٤)، فظاهر الحديث يفيد دخول الوضوء في الغسل، وبعملٍ واحدٍ صَحَّت قربتان، وكذلك قوله: «مَنْ غَسَّلَ يَوْمَ الجُمُعَةِ وَاغْتَسَلَ، وَبَكَّرَ وَابْتَكَرَ، وَمَشَى وَلَمْ يَرْكَبْ، وَدَنَا مِنَ الإِمَامِ، فَاسْتَمَعَ وَلَمْ يَلْغُ، كَانَ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ عَمَلُ سَنَةٍ: أَجْرُ صِيَامِهَا وَقِيَامِهَا»(٥)، والحديث إذا ما حُمل الاغتسال على غُسل الجمعة والتغسيلُ على تغسيله امرأته فإنه يدلُّ على جواز الجمع بين غسل الجنابة والجمعة، وكذلك قوله صلَّى الله عليه وسلَّم لعمَّار بن ياسرٍ رضي الله عنهما عندما أجنب: «إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيكَ هَكَذَا فَضَرَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكَفَّيْهِ الأَرْضَ وَنَفَخَ فِيهِمَا، ثُمَّ مَسَحَ بِهِمَا وَجْهَهُ وَكَفَّيْهِ»(٦)، فدلَّ الحديث على إجزاء تيمُّمٍ واحدٍ للحَدَثين الأكبر والأصغر.
هذا، والقاعدة العامَّة تقتضي عدم إمكان إغناء العبادة الواحدة غَنَاءَ عبادتين؛ لأنه إذا ما قام الدليل على وجوب كُلِّ عبادةٍ على سبيل الانفراد، فلا يجوز تشريكها في عملٍ واحدٍ، لقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ»، فالحديث يفيد أنَّ كُلَّ عملٍ مَنُوطٌ بنِيَّته، إذ مقابلة الجمع بالجمع يقتضي القسمة آحادًا، وأَمَّا رواية الإفراد: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ» فهي موافقةٌ لرواية الجمع باعتبار المعنى، لأنَّ الألف واللام إذا دخلت على الاسم أفادت فيه العموم مطلقًا عند الجمهور، سواءً كان مفردًا أو جمعًا ما لم تكن هناك قرينة عهدٍ، وهو المنقول عن الشافعيِّ وأحمد، وبه قال الشيرازي والباجي وابن بَرهانٍ وصحَّحه ابن الحاجب والبيضاوي وغيرهم(٧). كما يمكن حمل رواية إفراد النيَّة على محلِّها وهو القلب، قال السيوطي: «أمَّا رواية: «الأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ» فوجهه أَنَّ محلََّ النِّيَّة القلب وهو مُتَّحدٌ فناسب إفرادها، ولأنَّ النيَّة ترجع إلى الإخلاص وهو واحدٌ للواحد الذي لا شريك له»(٨).
أمَّا المسائل المذكورة فإنَّما تُستثنى من هذه القاعدة لوجود دليلٍ خاصٍّ يتمثَّل في تجويز الشرع هذا العمل بهذه الكيفية، فإن وافق عملُه ما أَقرَّه الشرع عليه كان مُصيبًا وعملُه مُجزِئًا، كرفع الحدث الأكبر والأصغر بالغسل الواحد والتيمُّم الواحد، وصلاة العيد والجمعة، والقِران بين الحجِّ والعمرة، والصدقة لذي رحمٍ، وحصول تحيَّة المسجد بالفريضة أو الراتبة، فإنَّ هذه القضايا ونظائرها إنَّما أجزأت بنيَّةٍ واحدةٍ؛ لأنه بحصول الفعل يتحقَّق مراد الشارع ومقصوده، أي: أنَّ تحيَّة المسجد مثلاً تحصل بأداء الفريضة وإن لم يَنْوِ التحيَّة؛ لأنَّ القصد بالتحيَّة شغل البقعة من المسجد بالعبادة وقد حصل(٩)، فغياب قصد المُكلَّف لا يُؤثِّر لكون العبادة جاءت على وَفق ما طلبه الشارع.
أمَّا الاستدلال بعموم حديث: «وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى» فساقطٌ؛ لأنَّ المراد منه أنَّ العبد له نِيَّته الصالحة أو الفاسدة في العمل المشروع، وهذا العمل المشروع لا يجزئه عند الله تعالى إلاَّ مع النيَّة الصالحة دون الفاسدة، ويدلُّ على هذا ما خُتم به الحديث، وتمامه قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ»، فإنَّ الهجرةَ الأولى مقبولةٌ عند الله للنيَّة الصالحة، والثانيةَ مردودةٌ لفسادها، فكان الحديث دالاًّ على صلاح العمل الثابتِ في الشرع جوازُه مع اقترانه بالنيَّة الصالحة، وليس فيه دليلٌ على صِحَّة عملٍ وصلاحه بمجرَّد النيَّة الصالحة إذا لم يثبت جوازُه بدليلٍ خاصٍّ.
فالحاصل أنَّ من قصد عبادتين فأكثر بفعلٍ واحدٍ لا يصحُّ، ولا تقع إلاَّ على عبادةٍ واحدةٍ عند الجمهور، خلافًا لابن حزمٍ الذي يُقرِّر بطلان كُلِّ عبادةٍ قُصد بها تحقيق قُربتين، ونقل عن جماعةٍ من السلف القول بعدم الإجزاء(١٠).
ومن لم يُبطل العملَ بالكُلِّية ظهر الخلاف بينهم على أيِّ عبادةٍ تقع صحيحةً، فالأحناف يُقدِّمون الأولوية في الحكم، فما كان فرضًا فهو أَوْلى بالتقديم صحَّةً، لكونه أقوى في درجة الحكم الشرعي، فإن استويا في القُوَّة فيكون تصحيح إحدى العبادتين مَنُوطًا باختيار المكلَّف، فإن اختار إحداهما انصرفت إليه صِحَّةً وبطَلت الثانية(١١)، وعلى العكس من ذلك، فالشافعية يَرَون أنَّ من قصد أكثر من عبادةٍ بالفعل الواحد فإنها تقع على النفل والتطوُّع لا على الفريضة، لأنَّ النيَّة فيها غير جازمةٍ بسبب التردُّد الذي ينافي الجزم المطلوب فيها.
والذي تطمئنُّ إليه النفس -في غير المسائل المنصوص عليها- هو القول بأنَّ المكلَّف إن قصد التقرُّب بتشريك عبادتين، وكانت إحداهما مقصودةً بنِيَّته على وجه التغليب دون الأخرى فإنَّ العبادة الغالبة بنيَّته تجزئه -إن شاء الله-، بغضِّ النظر عن كونها فرضًا أو نفلاً، لكون المؤدِّي لها يقصدها بالدرجة الأولى من غير تردُّدٍ أو شكٍّ، والحكم للأغلب، إذ «مُعَظَمُ الشَّيْءِ يَقُومُ مَقَامَ كُلِّهِ».
أمَّا في حالة تساوي العبادتين في قصده فإنهما تتساقطان، ويصير العمل لا له ولا عليه؛ لأنَّ نيَّة العامل لا تصحِّح فساد عمله، لقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ»(١٢).
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
فتاوى الشيخ فركوس
١- «الأشباه والنظائر» لابن نجيم (39).
٢- «المجموع للنووي»(1/ 326)
٣- متَّفقٌ على صِحَّته: أخرجه البخاري (1/ 9، 135)، ومسلم (13/ 53)، من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
٤- أخرجه مسلم (4/ 10)، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
٥- أخرجه أبو داود (1/ 246)، والترمذي (2/ 367)، وابن ماجه (1/ 246)، والنسائي (3/ 97)، وأحمد (4/ 104)، من حديث أوس بن أوسٍ الثقفي رضي الله عنه، والحديث صَحَّحه الألباني. [انظر: «صحيح الجامع الصغير» للألباني (5/ 325)، «صحيح أبي داود» (372)، وحَسَّنه الأرناؤوط في «شرح السنَّة» للبغوي (1/ 236)].
٦- مُتَّفق عليه: أخرجه البخاري (1/ 443)، ومسلم (4/ 60)، من حديث عَمَّار بن ياسرٍ رضي الله عنهما
٧- انظر «شرح اللمع» للشيرازي (1/ 303)، «إحكام الفصول» للباجي (231)، «العدَّة» لأبي يعلى (2/ 485)، «الوصول» لابن برهان (1/ 217)، «نهاية السول» للإسنوي (2/ 91)، «إرشاد الفحول» للشوكاني (119
٨- «منتهى الآمال» للسيوطي (73).
٩- «المجموع» للنووي (1/ 325)، و«منتهى الآمال» للسيوطي (122)
١٠- «المحلَّى» لابن حزم (2/ 43، 6/ 174).
١١- «الأشباه والنظائر» لابن نجيم (39)، «نزهة النواظر» لابن عابدين (39).
١٢- أخرجه مسلم (12/ 16)، من حديث عائشة رضي الله عنها، وقد اتَّفقا على إخراجه بلفظ: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ»، أخرجه البخاري (5/ 301)، ومسلم (12/ 16).