1- فضل الصيام. 2- أخلاق الصائم وآدابه. 3- مبطلات الصيام وما يترتب عليها من أحكام. 4- مسائل تهمُّ المرأة. 5- الترغيب في تعجيل الفطور وتأخير السحور.
الخطبة الاولى.
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ به من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه، وعلى آله، وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا أيها الناس: اتقوا الله تعالى حق التقوى.
معشر الصائمين، أبشِروا بوعد الله الذي وعدكم والله لا يخلف الميعاد، أبشِروا بفضل الله وكرمه وجوده، أبشروا بهذا الفضل العظيم والعطاء الجزيل من رب العالمين، أبشروا فإن صيامَكم مضاعفةٌ أجورُه، وإنَّ لكم فرحةً يوم لقاء ربكم حين تجدون أعمالكم، حين تجدون ثوابَ صيامكم مدَّخرًا لكم أحوجَ ما تكونون إليه، لا يأخذ الغرماءُ منه شيئًا، أبشروا بهذا الفضل العظيم، واشكروا الله على مزيد فضله وإنعامه، في الصحيح عنه من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله : "كلّ عمل ابن آدم يُضاعف، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله تعالى: إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به، يدع شهوتَه وطعامه لأجلي، للصائم فرحتان: فرحةٌ عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه، والصوم جُنة، فإذا كان يومُ صوم أحدكم فلا يرفث ولا يسخب، وإن أحد سابّه أو قاتله فليقل: إني امرؤ صائم، والذي نفسي بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك".
أيها المسلم: الأعمال الصالحة التي يعملها العبدُ قوليةً أو فعلية تُضاعف له، الحسنة بعشر أمثالها، (مَن جَاء بِٱلْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا)، [الأنعام:160]. أما السيئاتُ فكما قال الله، (وَمَن جَاء بِٱلسَّيّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ)، [الأنعام:160]. فالحسنة الواحدة تُضاعف إلى عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف على قدر ما قام في القلب من إخلاصٍ وانقياد لله وكمال يقينٍ وقيام بهذا العمل خيرَ قيام، لكنِ الصيامُ مستثنًى من هذه المضاعفة، فإن مضاعفةَ ثواب الصيام لا يعلمُها إلا من تفضَّل بها، "قال الله، إلا الصيام"، فإنه يضاعَف أكثرَ من ذلك، فإنَّ الصومَ من الصبرِ، والله يقول: (إِنَّمَا يُوَفَّى ٱلصَّـٰبِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) [الزمر:10]. فصيامُنا ـ معشر المسلمين ـ يضاعفه الله أضعافًا كثيرة لا حصرَ لها، فضلاً منه ورحمة لمن صان الصيامَ من كلّ المفسدات والمنقِّصات. ثمّ إنّ ربّنا جلّ وعلا قال: "إلا الصيام فإنّه لي"، فأضافه الله إليه، وكلّ أعمالنا لله، لكن يختصّ الصيام بهذا الشرفِ العظيم، إذ هو سرٌّ بين العبد وبين ربّه، معاملةٌ بين العبد وبين ربّه، لا يطَّلع عليه إلا الله، قادرٌ على أن يأكل، قادرٌ [على] أن يشرب، قادر [على] أن يأتي امرأته، لكن تلك الشهوات يرفضها ويأباها محبةً لله وطاعةً لله، لكمال علمه أن الله يرضى منه ذلك. "وأنا أجزي به"، والله يقول: وأنا أجزي به، أي: وأنا أجزي الصائمين بثواب صيامهم، فعملٌ تولى الله [جزاءَه] بنفسه، فما أعظمه من جزاء، وما أكبره من ثواب. وبيَّن جل وعلا بقوله: "يدع شهوتَه وطعامه لأجلي". نعم، إن الصائمَ ترك الشهوةَ وترك الطعام، لا لشيء إلا طاعةً لله، ما تركها ليمرّن نفسَه على الصبر، ولا تركها خضوعًا لتوجيه طبيب، ولكن تركها طاعةً لربّ العالمين، تركها قربةً يتقرب بها إلى رب العالمين، فتركه الشهوات والطعام إنما هو طاعة لرب العالمين، فاستحقّ هذا الثواب الجزيل. ثم أخبرنا أن للصائم فرحتين: فرحة في الدنيا عندما يستكمل صيامَ اليوم، يفرح أن الله وفّقه فصام هذا اليوم، ثمّ يفرح لتناول الطيّبات التي أحلّها الله، وهناك الفرحة الكبرى والفوز العظيم يومَ يقوم الناس لرب العالمين، يوم يُدعى الصائمون من أحد أبواب الجنة المخصَّص للصائمين يقال له: الريان، ينادى: أين الصائمون؟ فإذا دخلوا أُغلق ذلك الباب، فلم يدخل معهم غيرُهم، حينما يقال لهم: (كُلُواْ وَٱشْرَبُواْ هَنِيئًَا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِى ٱلأَيَّامِ ٱلْخَالِيَةِ) [الحاقة:24]، حينما يجدون ثواب الصيام وهم أحوج ما يكونون إليه: (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا) [آل عمران:30]. ثم يبيّن بقوله: "الصوم جنة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يسخب، وإن أحد سابّه أو قاتله فليقل: إني امرؤ صائم، الصوم جنة"، جُنة يقي العبدَ من معاصي الله، فما تُرك الطعام والشراب لأجل ذاتِ الطعام والشراب، لكن ليكون التركُ وسيلةً للبعد عما حرم الله، ليصوم اللسان عن الكذب والغيبة والنميمة والسخرية والاستهزاء بالناس واتهام الناس والقيل فيهم بغير حق، ولتصوم العينُ عن النظر إلى ما حرم الله النظر إليه، ولتصوم الأذنان عن الإصغاء إلى ما لا خير فيه، لتصوم كلُّ الجوارح عما حرّم الله، هذه الغايةُ من الصيام، فهو جنّة يقي الصائم عذاب الله، بترك ما حرم الله والإقدام على طاعة الله. ثم إنّ الصائم ينبغي أن يتخلّق بالحلم والصفح والإعراض وتحمُّل الأذى في ذات الله، فلا يرفث، لا يقل أقوالاً بذيئة، ولا يسخب، لا يكن بذيئا، ولا يكن مؤذيًا ولا ضارًا بأحد، بل يكون متأدِّبًا بآداب الشرع، متخلقًا بالأخلاق الفاضلة: (ٱدْفَعْ بِٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ فَإِذَا ٱلَّذِى بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِىٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ٱلَّذِينَ صَبَرُواْ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظّ عَظِيمٍ)، [فصلت:34، 35]. فإذا أحدٌ سفه عليك أو جهل عليك بقول أو فعل فقل له: إني امرؤ صائم، إني امرؤ صائم، لا أخوض معك في جهلك، لا أخوض معك في سفهك، لا أكون سفيهًا مثلك، صومي يحبِسني، وصومي يمنعني، وصومي يدعوني إلى مكارم الأخلاق، وينأى بي عن الرذائل في القول والعمل. وخلوف فم صائم رائحةُ فمه تصَّاعد لخلوِّ المعدة من الطعام والشراب، في مشامِّ الناس كريهة، ولكنها لما كانت ناتجة عن طاعة قال في الحديث: "لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك".
معشر الصائمين: احفَظوا صيامكم عن كلّ ما يفسده، واحفظوه عن كل ما ينقّصه، حاولوا حفظَ صيامكم ليبقى ثوابُه لكم أحوجَ ما تكونون إليه.
أيها الصائم: إن هناك أمورًا تنافي الصيامَ أو تُنقِّصه، فقد أجمع المسلمون على أن من تعمَّد في رمضان جماعَ امرأته أو تعمَّد أكلَ الطعام أو الشراب، فإنَّ هذا مفسدٌ لصيامه بإجماع المسلمين.
فيا أخي المسلم: أعظَم مُفسد للصيام جماعُ المرأة في نهار رمضان، فهذا من كبائر الذنوب، ومن استحلّه بعد علمه فذاك ضالّ كافر والعياذ بالله، فإنَّ الله جعل الليلَ محلاً للطعام والشراب وإتيان النساء: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ ٱلصّيَامِ ٱلرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَائِكُمْ) [البقرة:187]، هكذا شرعُ الله، فبعد الإمساك من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس حرامٌ على المسلم إتيانُ امرأته، ومن زلَّت قدمُه بذلك فليعلمْ أنَّه ارتكبَ كبيرةً من كبائر الذنوب، وأتى محظورًا وفعلاً محرَّما، فعليه التوبةُ إلى الله من ذنبه، وقضاء ذلك اليوم، ثم عليه الكفارة المغلّظة: عتقُ رقبة، فإن عجز عنها أو لم يجِدها صام لله شهرين كاملين متتابعين، وإن عجز لمرض أو كبر أطعمَ ستين مسكينًا، فقد جاء رجل للنبي فقال: يا رسول الله، هلكت وأهلكت، قال: "ما لك؟"، قال: أتيت امرأتي في رمضان، قال: "هل تجد رقبةً تعتِقها؟" قال: لا، قال: "هل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟" قال: لا، قال: "هل تجد طعامَ ستين مسكينًا؟" قال: لا، فسكتَ النبي حتى أتِي بغدق فيه خمسةَ عشر صاعًا فقال: "خذه فأطعمْ به أهلك"، قال: أعَلى أفقرَ منَّا؟ فوالله ما بينَ لابتي المدينة أهلُ بيتٍ أفقر من أهل بيتي، فضحك ثم قال: "خذْه فأطعمه أهلَك"، فصلواتُ الله وسلامُه عليه، ما أعظمَ حلمه وتوجيهه ونصحَه ورفقه، حتى بمن خالف وعصى صلواتُ الله وسلامه عليه. فلهذا يجبُ على المسلم البعدُ عن هذه الأمور، وتقوى الله، وأن يكونَ المانعُ له خوفَ الله ومراقبة أمره، ولذلك ـ أيها المسلم ـ إخراج المادة المنويّة بالطريقة المرذولة وهي ما يسمَّى بالعادة السريّة، فإن من حاول وتعمَّد إخراجَ المني ولو من غير جماع فإنَّ ذلك مفسدٌ لصيامه؛ لأن الله يقول: "يدع شهوته لأجلي"، وإخراج تلك المادة المنوية من تعاطي الشهوة، فإن من تعمَّد ذلك فسد صومه، ووجب عليه قضاء ذلك اليوم، وأصبح بذلك عاصيًا لله، فعليه التوبة مما اقترف من هذا الخطأ العظيم. وأما خروجُ المني بطريق الاحتلام في النوم أو تفكير مجرَّد فإنَّ هذا معفوٌّ عنه؛ لأنّ الاحتلامَ لا قدرة له عليه، خارجٌ عن اختياره، والنبي يقول: "تجاوز الله لي عن أمتي الخطأ والنسيانَ وما استُكرهوا عليه" .
أيها المسلم: وممَّا يُفسد الصيام أن يتعمَّد المسلم أكلَ الطعام أو شربَ الماء في نهار رمضان، وهذا لا شكّ أنه لا يقع من مسلمٍ يخاف الله ويرجوه، لا يقع من مسلم يخاف الله ويعرف لقاءه، فإنَّ من تعمَّد فطرَ يومٍ من رمضان لم يكفِه الدهر كلُّه ولو صامه، لعظيم الإثم والوزر، أعاذنا الله وإياكم. فمن تعمَّد [تناوُل] الطعام والشراب فسد صيامُه، فإن كان بعذرٍ عذره الله به كمريض حلَّ به مرضٌ لا يستطيع مواصلةَ اليوم، أو اضطرّ إلى علاج في ذلك اليوم ضرورةً فأفطر فإنه لا إثم عليه، لكنه يقضي هذا اليوم، وأما تعمّدٌ بلا سبب وأرجو أن يكون ذلك إن شاء الله معلومًا [عند] المسلم الذي يخاف الله ويرجو لقاءه، فتعمُّد الأكل والشرب مفسد للصيام، وأما وقوع الأكل أو الشرب من المسلم عن طريق النسيان فإن هذا لا يؤثِّر على صيامه، يقول نبينا: "من أكل أو شرب ناسيًا فليتمَّ صومَه، فإنما أطعمه الله وسقاه"، فجعله خارجًا عن إرادته، ونسبَ الطعامَ والشراب إلى الله، بمعنى أن الله هو الذي قدّر له ذلك، وأن الأمرَ لم يكن باختياره. وممّا ينافي الصيامَ لو أُعطي الإنسان الإبَر المغذّية التي وضعُها يعوّض عن تناول الطعام والشراب، فإنَّ هذه الإبَر المغذّية التي تمدّ الجسمَ كما يأكل أو يشرب من طريق فمه، فهذه إذا اضطرَّ إليها فإنها تنافي الصيام، فيستعملها ويقضي يومًا مكانه، وأما الإبَر العلاجية فإنها لا تؤثّر على الصائم، سواء كان من طريق العضلات أو العروق، لكن إن أخّرها في الليل كان أفضل، وإن تعاطاها فلا تؤثّر عليه شيئًا، لأنّ الحال يدعو إليها، وكذلك ما يُستعمَل من الأنسُلين لأصحاب السكّر ونحوه، فهذا لا يؤثّر على صيامهم ولا ينافي صيامهم؛ لأن هذه ليست من باب ما يؤكل أو يشرب، وكذلك لو اضطرّ إلى ما يسمَّى بالبخاخ في الأنف أو الفم للمصابين بداء الربو وأمثالها، فإنّ هذه لا تؤثّر على الصائم، لأنّها لا تلحق بما يؤكل أو يُشرب. ومما يُفسد الصيامَ أيضًا ـ أيها الإخوة ـ إخراجُ الدم من الجسد بطريق الحجامة أو سحب الدم إذا اضطرّ إلى ذلك لإسعاف مريض، فإن النبي قال: "أفطر الحاجم والمحجوم"، لأنَّ خروجَ هذا الدم يسبّب ضعفًا في الغالب للإنسان، ويعجز عن مواصلة الصيام مع خروج هذا الدم، ولهذا قيل: أفطر الحاجم والمحجوم، فمن سُحب منه دمٌ لإسعاف مريض أو نحو ذلك، فإنه يفطر ويقضي ذلك اليوم. وأما التحليل العادي اليسير فإن هذا لا يؤثّر؛ لأنه لا يترك أثرًا على المسلم. ومن ذلكم ـ أيها الإخوة ـ الدمُ الخارج من غير اختيار الإنسان، كدمٍ خرج من أنفه من طريق الرعاف، أو من فمه أو ناسور أو نحو ذلك، أو جرحٌ جَرح نفسه بغير اختياره، أو شيء سقط عليه فجرحه فسال دمُه، أو سقط على موضع فانشقّ [فخرج] الدم، فإن هذا لا يؤثر؛ لأن هذا ليس باختياره، ولا سبب له في ذلك. ومن ذلكم ـ أيها الإخوة ـ إخراج القيء من المعدة، وتعمّد إخراجه، ففي الحديث أنه قال: "من ذرعه القيء فلا قضاء عليه، ومن استقاء فعليه القضاء"، فمن حاول إخراجَ الطعام من جوفه بعد الصوم بأن عصر بطنه أو شمّ شيئًا أو غمز حلقه حتى خرج، فإنّ هذا منافٍ للصيام، فعليه قضاءُ ذلك اليوم، لكن إن كان مضطرًا فلا إثم عليه، وإن كان لغير ضرورة فهو آثم. وأما إذا خرج القيء من غير سبب، بل أمرٌ خارج عن إرادته، فإنّ هذا لا شيء عليه، بل لا يلزمه منعُ القيء إذا تهيّأ للخروج؛ لأن خروجَه يكون راحةً له، وهو لم يتعمّد ذلك ولم يقصده.
أيها المسلم: إن المسلمَ يحفظ صيامَه، ويصون صيامه عن كلّ مفسد، ويبتعد عن كل وسيلة يمكنها أن تخدَش صيامَه، لمَّا أخبرت أم المؤمنين عائشة أن النبي ربما قبَّل بعض نسائه وهو صائم قالت لهم: وأيّكم كان أملك لإربه؟! أو قالت: إن محمدًا أملك الناس لإربه، بمعنى أنه مسيطرٌ على شهوته، لا تغلبه شهوته ولا تقهره، فالمسلم يبتعد عن كلّ وسيلة يمكن أن تفسدَ صومَه، فإن صومَه أمانة في عنقه، فليتق الله في المحافظة عليه وصيانته من كل مفسد قوليًا أو فعليًا، من كلّ مفسد ومن كل منقّص، من كل مفسد من الأفعال أو منقّص للثواب من الأقوال، ليكون صومُه مصانًا حتى يكمل الثوابُ إن شاء الله.
أسأل الله لي ولكم صيامًا مقبولاً وعملاً صالحًا، أسأل الله أن يجعلنا من الصائمين المخلصين لله بصيامنا، إنه على كل شيء قدير.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَمَا ءاتَـٰكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَـٰكُمْ عَنْهُ فَٱنتَهُواْ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ) [الحشر:7].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية :
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، إنّ مما يُفسد الصيامَ خروجَ دم الحيض من المرأة، أو حصولَ النفاس بالولادة، فهذا أيضًا مما يفسد صيامَ المرأة المسلمة، فلو خرج دمُ الحيض منها ولو قبل الغروب بدقائق فإنَ هذا الصومَ يُعتبر فاسدا لخروج دم الحيض قبل غروب الشمس، وإذا غربت الشمس على المرأة ورأت الدمَ بعد غروب الشمس ولو بدقائق فإنَ صومها صحيح، لأنّ النهار قد ذهب بغروب الشمس، وما خرج بعد غروب الشمس فإنّه لا ينافي الصيام.
أيتها المرأة المسلمة، إنّ نبينا دخل على عائشة يومَ حجة الوداع وهي تبكي، فسألها فأخبرته أنها حاضت، فقال: "إنّ هذا شيء كتبه الله على بنات آدم"، فطمأنها بأنّ هذا أمرٌ قضاه الله على بنات آدم، ولله الحكمة فيما يقضي ويقدر. قال العلماء: إن الحيضَ دمُ جِبلّة وطبيعة، خلقه الله لحكمة غذاء الولد، ولهذا إذا حملت المرأة تحوّل هذا الدم غذاءً لذلك الجنين، وربّك حكيم عليم. فخروج دم الحيض إشارةٌ إلى صحة المرأة وسلامة بدنها وكمال صحتها، إذًا فما تَعمد إليه بعضُ النساء من تعاطي ما يمنع الدمَ شهرَ رمضان، تعلِّل المرأة بأنها تصوم، وتعلِّل بأنها تقرأ، كلّ هذه عللٌ لا [تبرِّر] تناولَ تلك العقاقير، فإنّ هذه العقاقير غالبًا تضرّ بالنساء، تتَّخذها المرأة أحيانًا من غير استشارة لطبيب، ومن غير رجوع لمختصّ يقدّر: هل هذه الحبوب تناسب المرأة؟ هل تناسب وضعَها أو لا تناسب؟ هل أثرُها على المرأة سليم أم أثرها سيئ؟ ثم إنها لو أفطرت بأمر الله فلا ينقص ثوابها شيئًا، ولا يمنع ذلك كمالَ عملها، فإن الله جل وعلا عليم بكل هذه الأمور.
أيتها المرأة المسلمة، تتساءل بعضُ النساء عن أمور، فمنها ما يحصل من إسقاط الأجنة أحيانًا في الشهر الأول أو الشهر الثاني، قد قرّر العلماء رحمهم الله أن إسقاط ما في البطن إن كان أقلَّ من ثمانين يومًا فإنه لا يسمَّى نفاسًا؛ لأنّ هذا دم فساد، وما زاد على الثمانين يومًا فهو وقت يمكن تخلّق الجنين فيه، فما كان بعد الشهر الثالث فإنه في الغالب متخلّق، فيكون ما سقط نفاسًا تمكث المرأة مدّة النفاس، إلا إذا انقطع الدم عنها.
أيتها المرأة المسلمة، إنّ المرأة بعد الولادة لا شك أنّ أكثر مدة النفاس أربعون يومًا، ولكن لو أن المرأة رأت الطهرَ الكاملَ قبل كمال الأربعين وجب عليها أن تغتسل وتصوم؛ لأنه إذا انقطع المانع وجب الصيام. المرأة المسلمة لو انقطع الدمُ عنها قبل صلاة الفجر وجب عليها الإمساكُ ولو تأخَّر غسلها بعد طلوع الفجر، كذلك المسلم لو عليه جنابة فتسحَّر وتأخّر غسلُه إلى بعد طلوع الفجر، فإن ذلك لا شيء عليه، نبينا ربما جامع نساءه وأمسك ثم اغتسل بعد طلوع الفجر صلوات الله وسلامه عليه.
أيتها المرأة المسلمة، إن كثيرًا من النساء يتساءلن كثيرًا عما يحصل لهنّ من اضطرابٍ في دورتهن الشهرية، من تقدّم أو تأخرٍ أو زيادة أو نقصان، فلتعلم المرأة المسلمة أن الحيض مانع من الصيام، وأنّ المرأة تجلس المدّة التي هي سائرة عليها في الغالب، وغالب ذلك سبعة أيام أو ستة أيام، وما زاد على ذلك فإن كانت الزيادة لم تبلغ اليومَ الخامسَ عشر فإن ذلك يمكن أن يكون حيضًا، وأما إذا اضطربَ الأمر عليها في الأشهر البقية فإنها تلزم عادتها الأولى التي قبل هذا الاضطراب، ولتتقي المرأة ربَّها في أمورها كلّها، وإذا انقطع الدم عنها دمُ الحيض في أثناء النهار وجب الاغتسال وصيام بقية هذا اليوم ثم قضاؤه؛ [عليها] صيامُه حيث إنها شاهدةٌ للشهر، و[عليها] قضاؤه حيث إنها لم تستكمل صيامَ اليوم كله، كذلك بعضُ النساء ربّما سبق العادةَ [عندهنّ] شيءٌ من الصفرة أو الكدرة، فيقول العلماء: إنَّ ما تقدّم من صفرة أو كدرة قبل الحيض مرتبطًا به فإنه ملحق به، وما وقع أيضًا بعده ملحقٌ به، إلا إذا حصل الطهرُ، فما وقع بعد الطهر فلا يضرّ المرأةَ شيء من ذلك، فإنَّ أم عطيّة تقول: كنّا لا نعدّ الصفرةَ والكدرة بعد الطهر شيئًا[3]، أي: في عهد النبي ، فهذه سنة رسول الله ، فعلى المرأة المسلمة التفقّه في دين الله وتعلّم ما ينفعها وسؤالها عما تجهله؛ لتكون عباداتها على وفق ما دلّ الكتاب والسنة عليه: (فَٱسْأَلُواْ أَهْلَ ٱلذّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ) [النحل:43].
أيها المسلمون: سنة نبيّكم دلَّت على استحباب السحور، ويقول لكم نبيكم : "تسحَّروا فإن في السحور بركة"، هذه البركةُ بركة في هذا السحور، ليتقوّى به المسلم على صيامه، وبركةٌ في هذا الوقت الذي ينزل فيه الربّ إلى سمائه الدنيا، فينادي: هل من سائل فيعطَى سؤله، هل من مستغفر فيُغفر له، هل من تائب فيتاب عليه، فيتقرّب إلى الله بدعائه ورجائه، ويؤدّي صلاة الفجر في وقتها جماعة، كان نبيّكم يحبّ تأخيرَ السحور حتى قدّروا ما بين انقضائه من سحوره وإقامة الصلاة بمقدار خمسين آية، وكان نبيكم يرغِّب في المبادرة بالفطر إذا تأكّد غروبُ الشمس، فيقول : "إذا أقبلَ الليل من ها هنا وأدبر النهار من ها هنا وغربت الشمس فقد أفطر الصائم"، ويقول لكم : "لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر"، ويقول عن ربّنا جل جلاله أنه قال: "أحبُّ عبادي إليّ أعجلُهم فطرًا"، وحثَّكم على السحور بقوله: "السحور بركة فلا تدعوه، ولو أن يجرعَ أحدُكم جرعةً من ماء، فإنَّ الله وملائكته يصلّون على المتسحّرين"، فأحيِ هذه السنة ولو قليلا، ولا تقل سبق العَشاء قبل ذلك، تناولْ وجبةَ السحر ولو بكأس من ماء أو تناولِ شيءٍ ولو يسيرا إحياءً لهذه السنة، واقتداءً بسيد الأولين والآخرين، فكان يؤخّر السحور، ويبادر بالفطر على أيّ شيء كان، يقول أنس رضي الله عنه: كان رسول الله يفطر على رطبات، فإن لم يكن فتمرات، فإن لم يكن حسا حسوات من ماء، صلوات الله وسلامه عليه أبدًا دائمًا إلى يوم الدين، ورزقنا وإياكم الاقتداءَ به والتأسي به في كلّ الأحوال، والله يقول:(لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ ٱللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لّمَن كَانَ يَرْجُو ٱللَّهَ وَٱلْيَوْمَ ٱلآخِرَ وَذَكَرَ ٱللَّهَ كَثِيرًا) [الأحزاب:21].
واعلموا -رحمكم الله-: أن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله على الجماعة، ومن شذ، شذ في النار، وصلوا -رحمكم الله- على عبد الله ورسوله محمدٍ ، امتثالاً لأمر ربكم، قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا).
اللهم صلي وسلم، وبارك على عبدك، ورسولك سيد ولد آدم، وارض اللهم عن خلفاءه الراشدين، أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعن سائر أصحاب نبيك أجمعين، وعن التابعين، وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك، وكرمك، وجودك، وإحسانك، يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام، والمسلمين، وأذل الشرك، والمشركين، ودمر أعداء الدين، وانصر عبادك الموحدين، واجعل اللهم هذا البلد آمنا مطمئناً، وسائر بلاد المسلمين يا رب العالمين .
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا، وولاة أمرنا؛ اللهم وفقهم لما فيه صلاح الإسلام والمسلمين؛ اللهم وفق إمامنا إمام المسلمين فهد عبد العزيز لكل خير، اللهم أمده بعونك وتوفيقك وتأييدك؛ اللهم أنصر به دينك، وأعلي به كلمتك، واجمع به قلوب الأمة على الخير والهدى.
اللهم وفق ولي عهده عبد الله بن عبد العزيز لكل خير، وسدده في أقواله وأعماله، واجعلهم أعواناً على البر والتقوى.
ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا، ربنا إنك رؤوف رحيم، ربنا ظلمنا أنفسنا، وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.
عباد الله، إن الله يأمر بالعدل، والإحسان، وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء، والمنكر، والبغي يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على عموم نعمه، يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
الشيخ:
عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ
الخطبة الاولى.
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ به من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه، وعلى آله، وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا أيها الناس: اتقوا الله تعالى حق التقوى.
معشر الصائمين، أبشِروا بوعد الله الذي وعدكم والله لا يخلف الميعاد، أبشِروا بفضل الله وكرمه وجوده، أبشروا بهذا الفضل العظيم والعطاء الجزيل من رب العالمين، أبشروا فإن صيامَكم مضاعفةٌ أجورُه، وإنَّ لكم فرحةً يوم لقاء ربكم حين تجدون أعمالكم، حين تجدون ثوابَ صيامكم مدَّخرًا لكم أحوجَ ما تكونون إليه، لا يأخذ الغرماءُ منه شيئًا، أبشروا بهذا الفضل العظيم، واشكروا الله على مزيد فضله وإنعامه، في الصحيح عنه من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله : "كلّ عمل ابن آدم يُضاعف، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله تعالى: إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به، يدع شهوتَه وطعامه لأجلي، للصائم فرحتان: فرحةٌ عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه، والصوم جُنة، فإذا كان يومُ صوم أحدكم فلا يرفث ولا يسخب، وإن أحد سابّه أو قاتله فليقل: إني امرؤ صائم، والذي نفسي بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك".
أيها المسلم: الأعمال الصالحة التي يعملها العبدُ قوليةً أو فعلية تُضاعف له، الحسنة بعشر أمثالها، (مَن جَاء بِٱلْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا)، [الأنعام:160]. أما السيئاتُ فكما قال الله، (وَمَن جَاء بِٱلسَّيّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ)، [الأنعام:160]. فالحسنة الواحدة تُضاعف إلى عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف على قدر ما قام في القلب من إخلاصٍ وانقياد لله وكمال يقينٍ وقيام بهذا العمل خيرَ قيام، لكنِ الصيامُ مستثنًى من هذه المضاعفة، فإن مضاعفةَ ثواب الصيام لا يعلمُها إلا من تفضَّل بها، "قال الله، إلا الصيام"، فإنه يضاعَف أكثرَ من ذلك، فإنَّ الصومَ من الصبرِ، والله يقول: (إِنَّمَا يُوَفَّى ٱلصَّـٰبِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) [الزمر:10]. فصيامُنا ـ معشر المسلمين ـ يضاعفه الله أضعافًا كثيرة لا حصرَ لها، فضلاً منه ورحمة لمن صان الصيامَ من كلّ المفسدات والمنقِّصات. ثمّ إنّ ربّنا جلّ وعلا قال: "إلا الصيام فإنّه لي"، فأضافه الله إليه، وكلّ أعمالنا لله، لكن يختصّ الصيام بهذا الشرفِ العظيم، إذ هو سرٌّ بين العبد وبين ربّه، معاملةٌ بين العبد وبين ربّه، لا يطَّلع عليه إلا الله، قادرٌ على أن يأكل، قادرٌ [على] أن يشرب، قادر [على] أن يأتي امرأته، لكن تلك الشهوات يرفضها ويأباها محبةً لله وطاعةً لله، لكمال علمه أن الله يرضى منه ذلك. "وأنا أجزي به"، والله يقول: وأنا أجزي به، أي: وأنا أجزي الصائمين بثواب صيامهم، فعملٌ تولى الله [جزاءَه] بنفسه، فما أعظمه من جزاء، وما أكبره من ثواب. وبيَّن جل وعلا بقوله: "يدع شهوتَه وطعامه لأجلي". نعم، إن الصائمَ ترك الشهوةَ وترك الطعام، لا لشيء إلا طاعةً لله، ما تركها ليمرّن نفسَه على الصبر، ولا تركها خضوعًا لتوجيه طبيب، ولكن تركها طاعةً لربّ العالمين، تركها قربةً يتقرب بها إلى رب العالمين، فتركه الشهوات والطعام إنما هو طاعة لرب العالمين، فاستحقّ هذا الثواب الجزيل. ثم أخبرنا أن للصائم فرحتين: فرحة في الدنيا عندما يستكمل صيامَ اليوم، يفرح أن الله وفّقه فصام هذا اليوم، ثمّ يفرح لتناول الطيّبات التي أحلّها الله، وهناك الفرحة الكبرى والفوز العظيم يومَ يقوم الناس لرب العالمين، يوم يُدعى الصائمون من أحد أبواب الجنة المخصَّص للصائمين يقال له: الريان، ينادى: أين الصائمون؟ فإذا دخلوا أُغلق ذلك الباب، فلم يدخل معهم غيرُهم، حينما يقال لهم: (كُلُواْ وَٱشْرَبُواْ هَنِيئًَا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِى ٱلأَيَّامِ ٱلْخَالِيَةِ) [الحاقة:24]، حينما يجدون ثواب الصيام وهم أحوج ما يكونون إليه: (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا) [آل عمران:30]. ثم يبيّن بقوله: "الصوم جنة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يسخب، وإن أحد سابّه أو قاتله فليقل: إني امرؤ صائم، الصوم جنة"، جُنة يقي العبدَ من معاصي الله، فما تُرك الطعام والشراب لأجل ذاتِ الطعام والشراب، لكن ليكون التركُ وسيلةً للبعد عما حرم الله، ليصوم اللسان عن الكذب والغيبة والنميمة والسخرية والاستهزاء بالناس واتهام الناس والقيل فيهم بغير حق، ولتصوم العينُ عن النظر إلى ما حرم الله النظر إليه، ولتصوم الأذنان عن الإصغاء إلى ما لا خير فيه، لتصوم كلُّ الجوارح عما حرّم الله، هذه الغايةُ من الصيام، فهو جنّة يقي الصائم عذاب الله، بترك ما حرم الله والإقدام على طاعة الله. ثم إنّ الصائم ينبغي أن يتخلّق بالحلم والصفح والإعراض وتحمُّل الأذى في ذات الله، فلا يرفث، لا يقل أقوالاً بذيئة، ولا يسخب، لا يكن بذيئا، ولا يكن مؤذيًا ولا ضارًا بأحد، بل يكون متأدِّبًا بآداب الشرع، متخلقًا بالأخلاق الفاضلة: (ٱدْفَعْ بِٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ فَإِذَا ٱلَّذِى بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِىٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ٱلَّذِينَ صَبَرُواْ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظّ عَظِيمٍ)، [فصلت:34، 35]. فإذا أحدٌ سفه عليك أو جهل عليك بقول أو فعل فقل له: إني امرؤ صائم، إني امرؤ صائم، لا أخوض معك في جهلك، لا أخوض معك في سفهك، لا أكون سفيهًا مثلك، صومي يحبِسني، وصومي يمنعني، وصومي يدعوني إلى مكارم الأخلاق، وينأى بي عن الرذائل في القول والعمل. وخلوف فم صائم رائحةُ فمه تصَّاعد لخلوِّ المعدة من الطعام والشراب، في مشامِّ الناس كريهة، ولكنها لما كانت ناتجة عن طاعة قال في الحديث: "لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك".
معشر الصائمين: احفَظوا صيامكم عن كلّ ما يفسده، واحفظوه عن كل ما ينقّصه، حاولوا حفظَ صيامكم ليبقى ثوابُه لكم أحوجَ ما تكونون إليه.
أيها الصائم: إن هناك أمورًا تنافي الصيامَ أو تُنقِّصه، فقد أجمع المسلمون على أن من تعمَّد في رمضان جماعَ امرأته أو تعمَّد أكلَ الطعام أو الشراب، فإنَّ هذا مفسدٌ لصيامه بإجماع المسلمين.
فيا أخي المسلم: أعظَم مُفسد للصيام جماعُ المرأة في نهار رمضان، فهذا من كبائر الذنوب، ومن استحلّه بعد علمه فذاك ضالّ كافر والعياذ بالله، فإنَّ الله جعل الليلَ محلاً للطعام والشراب وإتيان النساء: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ ٱلصّيَامِ ٱلرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَائِكُمْ) [البقرة:187]، هكذا شرعُ الله، فبعد الإمساك من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس حرامٌ على المسلم إتيانُ امرأته، ومن زلَّت قدمُه بذلك فليعلمْ أنَّه ارتكبَ كبيرةً من كبائر الذنوب، وأتى محظورًا وفعلاً محرَّما، فعليه التوبةُ إلى الله من ذنبه، وقضاء ذلك اليوم، ثم عليه الكفارة المغلّظة: عتقُ رقبة، فإن عجز عنها أو لم يجِدها صام لله شهرين كاملين متتابعين، وإن عجز لمرض أو كبر أطعمَ ستين مسكينًا، فقد جاء رجل للنبي فقال: يا رسول الله، هلكت وأهلكت، قال: "ما لك؟"، قال: أتيت امرأتي في رمضان، قال: "هل تجد رقبةً تعتِقها؟" قال: لا، قال: "هل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟" قال: لا، قال: "هل تجد طعامَ ستين مسكينًا؟" قال: لا، فسكتَ النبي حتى أتِي بغدق فيه خمسةَ عشر صاعًا فقال: "خذه فأطعمْ به أهلك"، قال: أعَلى أفقرَ منَّا؟ فوالله ما بينَ لابتي المدينة أهلُ بيتٍ أفقر من أهل بيتي، فضحك ثم قال: "خذْه فأطعمه أهلَك"، فصلواتُ الله وسلامُه عليه، ما أعظمَ حلمه وتوجيهه ونصحَه ورفقه، حتى بمن خالف وعصى صلواتُ الله وسلامه عليه. فلهذا يجبُ على المسلم البعدُ عن هذه الأمور، وتقوى الله، وأن يكونَ المانعُ له خوفَ الله ومراقبة أمره، ولذلك ـ أيها المسلم ـ إخراج المادة المنويّة بالطريقة المرذولة وهي ما يسمَّى بالعادة السريّة، فإن من حاول وتعمَّد إخراجَ المني ولو من غير جماع فإنَّ ذلك مفسدٌ لصيامه؛ لأن الله يقول: "يدع شهوته لأجلي"، وإخراج تلك المادة المنوية من تعاطي الشهوة، فإن من تعمَّد ذلك فسد صومه، ووجب عليه قضاء ذلك اليوم، وأصبح بذلك عاصيًا لله، فعليه التوبة مما اقترف من هذا الخطأ العظيم. وأما خروجُ المني بطريق الاحتلام في النوم أو تفكير مجرَّد فإنَّ هذا معفوٌّ عنه؛ لأنّ الاحتلامَ لا قدرة له عليه، خارجٌ عن اختياره، والنبي يقول: "تجاوز الله لي عن أمتي الخطأ والنسيانَ وما استُكرهوا عليه" .
أيها المسلم: وممَّا يُفسد الصيام أن يتعمَّد المسلم أكلَ الطعام أو شربَ الماء في نهار رمضان، وهذا لا شكّ أنه لا يقع من مسلمٍ يخاف الله ويرجوه، لا يقع من مسلم يخاف الله ويعرف لقاءه، فإنَّ من تعمَّد فطرَ يومٍ من رمضان لم يكفِه الدهر كلُّه ولو صامه، لعظيم الإثم والوزر، أعاذنا الله وإياكم. فمن تعمَّد [تناوُل] الطعام والشراب فسد صيامُه، فإن كان بعذرٍ عذره الله به كمريض حلَّ به مرضٌ لا يستطيع مواصلةَ اليوم، أو اضطرّ إلى علاج في ذلك اليوم ضرورةً فأفطر فإنه لا إثم عليه، لكنه يقضي هذا اليوم، وأما تعمّدٌ بلا سبب وأرجو أن يكون ذلك إن شاء الله معلومًا [عند] المسلم الذي يخاف الله ويرجو لقاءه، فتعمُّد الأكل والشرب مفسد للصيام، وأما وقوع الأكل أو الشرب من المسلم عن طريق النسيان فإن هذا لا يؤثِّر على صيامه، يقول نبينا: "من أكل أو شرب ناسيًا فليتمَّ صومَه، فإنما أطعمه الله وسقاه"، فجعله خارجًا عن إرادته، ونسبَ الطعامَ والشراب إلى الله، بمعنى أن الله هو الذي قدّر له ذلك، وأن الأمرَ لم يكن باختياره. وممّا ينافي الصيامَ لو أُعطي الإنسان الإبَر المغذّية التي وضعُها يعوّض عن تناول الطعام والشراب، فإنَّ هذه الإبَر المغذّية التي تمدّ الجسمَ كما يأكل أو يشرب من طريق فمه، فهذه إذا اضطرَّ إليها فإنها تنافي الصيام، فيستعملها ويقضي يومًا مكانه، وأما الإبَر العلاجية فإنها لا تؤثّر على الصائم، سواء كان من طريق العضلات أو العروق، لكن إن أخّرها في الليل كان أفضل، وإن تعاطاها فلا تؤثّر عليه شيئًا، لأنّ الحال يدعو إليها، وكذلك ما يُستعمَل من الأنسُلين لأصحاب السكّر ونحوه، فهذا لا يؤثّر على صيامهم ولا ينافي صيامهم؛ لأن هذه ليست من باب ما يؤكل أو يشرب، وكذلك لو اضطرّ إلى ما يسمَّى بالبخاخ في الأنف أو الفم للمصابين بداء الربو وأمثالها، فإنّ هذه لا تؤثّر على الصائم، لأنّها لا تلحق بما يؤكل أو يُشرب. ومما يُفسد الصيامَ أيضًا ـ أيها الإخوة ـ إخراجُ الدم من الجسد بطريق الحجامة أو سحب الدم إذا اضطرّ إلى ذلك لإسعاف مريض، فإن النبي قال: "أفطر الحاجم والمحجوم"، لأنَّ خروجَ هذا الدم يسبّب ضعفًا في الغالب للإنسان، ويعجز عن مواصلة الصيام مع خروج هذا الدم، ولهذا قيل: أفطر الحاجم والمحجوم، فمن سُحب منه دمٌ لإسعاف مريض أو نحو ذلك، فإنه يفطر ويقضي ذلك اليوم. وأما التحليل العادي اليسير فإن هذا لا يؤثّر؛ لأنه لا يترك أثرًا على المسلم. ومن ذلكم ـ أيها الإخوة ـ الدمُ الخارج من غير اختيار الإنسان، كدمٍ خرج من أنفه من طريق الرعاف، أو من فمه أو ناسور أو نحو ذلك، أو جرحٌ جَرح نفسه بغير اختياره، أو شيء سقط عليه فجرحه فسال دمُه، أو سقط على موضع فانشقّ [فخرج] الدم، فإن هذا لا يؤثر؛ لأن هذا ليس باختياره، ولا سبب له في ذلك. ومن ذلكم ـ أيها الإخوة ـ إخراج القيء من المعدة، وتعمّد إخراجه، ففي الحديث أنه قال: "من ذرعه القيء فلا قضاء عليه، ومن استقاء فعليه القضاء"، فمن حاول إخراجَ الطعام من جوفه بعد الصوم بأن عصر بطنه أو شمّ شيئًا أو غمز حلقه حتى خرج، فإنّ هذا منافٍ للصيام، فعليه قضاءُ ذلك اليوم، لكن إن كان مضطرًا فلا إثم عليه، وإن كان لغير ضرورة فهو آثم. وأما إذا خرج القيء من غير سبب، بل أمرٌ خارج عن إرادته، فإنّ هذا لا شيء عليه، بل لا يلزمه منعُ القيء إذا تهيّأ للخروج؛ لأن خروجَه يكون راحةً له، وهو لم يتعمّد ذلك ولم يقصده.
أيها المسلم: إن المسلمَ يحفظ صيامَه، ويصون صيامه عن كلّ مفسد، ويبتعد عن كل وسيلة يمكنها أن تخدَش صيامَه، لمَّا أخبرت أم المؤمنين عائشة أن النبي ربما قبَّل بعض نسائه وهو صائم قالت لهم: وأيّكم كان أملك لإربه؟! أو قالت: إن محمدًا أملك الناس لإربه، بمعنى أنه مسيطرٌ على شهوته، لا تغلبه شهوته ولا تقهره، فالمسلم يبتعد عن كلّ وسيلة يمكن أن تفسدَ صومَه، فإن صومَه أمانة في عنقه، فليتق الله في المحافظة عليه وصيانته من كل مفسد قوليًا أو فعليًا، من كلّ مفسد ومن كل منقّص، من كل مفسد من الأفعال أو منقّص للثواب من الأقوال، ليكون صومُه مصانًا حتى يكمل الثوابُ إن شاء الله.
أسأل الله لي ولكم صيامًا مقبولاً وعملاً صالحًا، أسأل الله أن يجعلنا من الصائمين المخلصين لله بصيامنا، إنه على كل شيء قدير.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَمَا ءاتَـٰكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَـٰكُمْ عَنْهُ فَٱنتَهُواْ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ) [الحشر:7].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية :
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، إنّ مما يُفسد الصيامَ خروجَ دم الحيض من المرأة، أو حصولَ النفاس بالولادة، فهذا أيضًا مما يفسد صيامَ المرأة المسلمة، فلو خرج دمُ الحيض منها ولو قبل الغروب بدقائق فإنَ هذا الصومَ يُعتبر فاسدا لخروج دم الحيض قبل غروب الشمس، وإذا غربت الشمس على المرأة ورأت الدمَ بعد غروب الشمس ولو بدقائق فإنَ صومها صحيح، لأنّ النهار قد ذهب بغروب الشمس، وما خرج بعد غروب الشمس فإنّه لا ينافي الصيام.
أيتها المرأة المسلمة، إنّ نبينا دخل على عائشة يومَ حجة الوداع وهي تبكي، فسألها فأخبرته أنها حاضت، فقال: "إنّ هذا شيء كتبه الله على بنات آدم"، فطمأنها بأنّ هذا أمرٌ قضاه الله على بنات آدم، ولله الحكمة فيما يقضي ويقدر. قال العلماء: إن الحيضَ دمُ جِبلّة وطبيعة، خلقه الله لحكمة غذاء الولد، ولهذا إذا حملت المرأة تحوّل هذا الدم غذاءً لذلك الجنين، وربّك حكيم عليم. فخروج دم الحيض إشارةٌ إلى صحة المرأة وسلامة بدنها وكمال صحتها، إذًا فما تَعمد إليه بعضُ النساء من تعاطي ما يمنع الدمَ شهرَ رمضان، تعلِّل المرأة بأنها تصوم، وتعلِّل بأنها تقرأ، كلّ هذه عللٌ لا [تبرِّر] تناولَ تلك العقاقير، فإنّ هذه العقاقير غالبًا تضرّ بالنساء، تتَّخذها المرأة أحيانًا من غير استشارة لطبيب، ومن غير رجوع لمختصّ يقدّر: هل هذه الحبوب تناسب المرأة؟ هل تناسب وضعَها أو لا تناسب؟ هل أثرُها على المرأة سليم أم أثرها سيئ؟ ثم إنها لو أفطرت بأمر الله فلا ينقص ثوابها شيئًا، ولا يمنع ذلك كمالَ عملها، فإن الله جل وعلا عليم بكل هذه الأمور.
أيتها المرأة المسلمة، تتساءل بعضُ النساء عن أمور، فمنها ما يحصل من إسقاط الأجنة أحيانًا في الشهر الأول أو الشهر الثاني، قد قرّر العلماء رحمهم الله أن إسقاط ما في البطن إن كان أقلَّ من ثمانين يومًا فإنه لا يسمَّى نفاسًا؛ لأنّ هذا دم فساد، وما زاد على الثمانين يومًا فهو وقت يمكن تخلّق الجنين فيه، فما كان بعد الشهر الثالث فإنه في الغالب متخلّق، فيكون ما سقط نفاسًا تمكث المرأة مدّة النفاس، إلا إذا انقطع الدم عنها.
أيتها المرأة المسلمة، إنّ المرأة بعد الولادة لا شك أنّ أكثر مدة النفاس أربعون يومًا، ولكن لو أن المرأة رأت الطهرَ الكاملَ قبل كمال الأربعين وجب عليها أن تغتسل وتصوم؛ لأنه إذا انقطع المانع وجب الصيام. المرأة المسلمة لو انقطع الدمُ عنها قبل صلاة الفجر وجب عليها الإمساكُ ولو تأخَّر غسلها بعد طلوع الفجر، كذلك المسلم لو عليه جنابة فتسحَّر وتأخّر غسلُه إلى بعد طلوع الفجر، فإن ذلك لا شيء عليه، نبينا ربما جامع نساءه وأمسك ثم اغتسل بعد طلوع الفجر صلوات الله وسلامه عليه.
أيتها المرأة المسلمة، إن كثيرًا من النساء يتساءلن كثيرًا عما يحصل لهنّ من اضطرابٍ في دورتهن الشهرية، من تقدّم أو تأخرٍ أو زيادة أو نقصان، فلتعلم المرأة المسلمة أن الحيض مانع من الصيام، وأنّ المرأة تجلس المدّة التي هي سائرة عليها في الغالب، وغالب ذلك سبعة أيام أو ستة أيام، وما زاد على ذلك فإن كانت الزيادة لم تبلغ اليومَ الخامسَ عشر فإن ذلك يمكن أن يكون حيضًا، وأما إذا اضطربَ الأمر عليها في الأشهر البقية فإنها تلزم عادتها الأولى التي قبل هذا الاضطراب، ولتتقي المرأة ربَّها في أمورها كلّها، وإذا انقطع الدم عنها دمُ الحيض في أثناء النهار وجب الاغتسال وصيام بقية هذا اليوم ثم قضاؤه؛ [عليها] صيامُه حيث إنها شاهدةٌ للشهر، و[عليها] قضاؤه حيث إنها لم تستكمل صيامَ اليوم كله، كذلك بعضُ النساء ربّما سبق العادةَ [عندهنّ] شيءٌ من الصفرة أو الكدرة، فيقول العلماء: إنَّ ما تقدّم من صفرة أو كدرة قبل الحيض مرتبطًا به فإنه ملحق به، وما وقع أيضًا بعده ملحقٌ به، إلا إذا حصل الطهرُ، فما وقع بعد الطهر فلا يضرّ المرأةَ شيء من ذلك، فإنَّ أم عطيّة تقول: كنّا لا نعدّ الصفرةَ والكدرة بعد الطهر شيئًا[3]، أي: في عهد النبي ، فهذه سنة رسول الله ، فعلى المرأة المسلمة التفقّه في دين الله وتعلّم ما ينفعها وسؤالها عما تجهله؛ لتكون عباداتها على وفق ما دلّ الكتاب والسنة عليه: (فَٱسْأَلُواْ أَهْلَ ٱلذّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ) [النحل:43].
أيها المسلمون: سنة نبيّكم دلَّت على استحباب السحور، ويقول لكم نبيكم : "تسحَّروا فإن في السحور بركة"، هذه البركةُ بركة في هذا السحور، ليتقوّى به المسلم على صيامه، وبركةٌ في هذا الوقت الذي ينزل فيه الربّ إلى سمائه الدنيا، فينادي: هل من سائل فيعطَى سؤله، هل من مستغفر فيُغفر له، هل من تائب فيتاب عليه، فيتقرّب إلى الله بدعائه ورجائه، ويؤدّي صلاة الفجر في وقتها جماعة، كان نبيّكم يحبّ تأخيرَ السحور حتى قدّروا ما بين انقضائه من سحوره وإقامة الصلاة بمقدار خمسين آية، وكان نبيكم يرغِّب في المبادرة بالفطر إذا تأكّد غروبُ الشمس، فيقول : "إذا أقبلَ الليل من ها هنا وأدبر النهار من ها هنا وغربت الشمس فقد أفطر الصائم"، ويقول لكم : "لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر"، ويقول عن ربّنا جل جلاله أنه قال: "أحبُّ عبادي إليّ أعجلُهم فطرًا"، وحثَّكم على السحور بقوله: "السحور بركة فلا تدعوه، ولو أن يجرعَ أحدُكم جرعةً من ماء، فإنَّ الله وملائكته يصلّون على المتسحّرين"، فأحيِ هذه السنة ولو قليلا، ولا تقل سبق العَشاء قبل ذلك، تناولْ وجبةَ السحر ولو بكأس من ماء أو تناولِ شيءٍ ولو يسيرا إحياءً لهذه السنة، واقتداءً بسيد الأولين والآخرين، فكان يؤخّر السحور، ويبادر بالفطر على أيّ شيء كان، يقول أنس رضي الله عنه: كان رسول الله يفطر على رطبات، فإن لم يكن فتمرات، فإن لم يكن حسا حسوات من ماء، صلوات الله وسلامه عليه أبدًا دائمًا إلى يوم الدين، ورزقنا وإياكم الاقتداءَ به والتأسي به في كلّ الأحوال، والله يقول:(لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ ٱللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لّمَن كَانَ يَرْجُو ٱللَّهَ وَٱلْيَوْمَ ٱلآخِرَ وَذَكَرَ ٱللَّهَ كَثِيرًا) [الأحزاب:21].
واعلموا -رحمكم الله-: أن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله على الجماعة، ومن شذ، شذ في النار، وصلوا -رحمكم الله- على عبد الله ورسوله محمدٍ ، امتثالاً لأمر ربكم، قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا).
اللهم صلي وسلم، وبارك على عبدك، ورسولك سيد ولد آدم، وارض اللهم عن خلفاءه الراشدين، أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعن سائر أصحاب نبيك أجمعين، وعن التابعين، وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك، وكرمك، وجودك، وإحسانك، يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام، والمسلمين، وأذل الشرك، والمشركين، ودمر أعداء الدين، وانصر عبادك الموحدين، واجعل اللهم هذا البلد آمنا مطمئناً، وسائر بلاد المسلمين يا رب العالمين .
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا، وولاة أمرنا؛ اللهم وفقهم لما فيه صلاح الإسلام والمسلمين؛ اللهم وفق إمامنا إمام المسلمين فهد عبد العزيز لكل خير، اللهم أمده بعونك وتوفيقك وتأييدك؛ اللهم أنصر به دينك، وأعلي به كلمتك، واجمع به قلوب الأمة على الخير والهدى.
اللهم وفق ولي عهده عبد الله بن عبد العزيز لكل خير، وسدده في أقواله وأعماله، واجعلهم أعواناً على البر والتقوى.
ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا، ربنا إنك رؤوف رحيم، ربنا ظلمنا أنفسنا، وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.
عباد الله، إن الله يأمر بالعدل، والإحسان، وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء، والمنكر، والبغي يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على عموم نعمه، يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
الشيخ:
عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ