السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أمَّا بعدُ:
هذه المسألة . . مسألة مهمَّة، ويكثر السؤال فيها لأهل العلم؛ فدونكم خلاصة موجزة في المسألة إخواني الأعزَّاء:
اعلم -رحمك الله- أنَّ من أعطى ماله في ضرورة دفع الظلم أوطلب حق مجمع عليه ليس راشياً شرعاً وإن كان راشياً لُغةً، وذلك أنَّ الرِشوة -شرعاً- هي ما يعطى لإبطال حق أو لإحقاق باطل (1)، وفاعل ذلك ليس بآثم لأنه يستنقذ ماله كما يستنقذ الرجل أسيره؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الْخَضِرَ عَلَيْهِ السَّلَامُ خَرَقَ السَّفِينَةَ كَيْ لَا يَأْخُذَهَا الظَّالِمُ وَمَا كَانَ مُرَادُهُ بِذَلِكَ إلَّا الْإِصْلَاحَ، وَاَللَّهُ يَعْلَمُ الْمُصْلِحَ مِنْ الْمُفْسِدِ .
فإن أطلقنا عليها رشوة لغةً، فإنَّ الراشي على الحق معذور؛ لأنه يستخلص بذلك ماله .
أمَّا المرتشي فهو آثم، حرام عليه، ويطلق عليه ذلك الاسم لغة وشرعاً .
وقد خالف في هذا القاضي الشوكاني -رحمه الله- وقال بإثم الطرفين، انظر كلامه في النيل (13/317) .
ولكنَّ ذلك -أي القول بأنَّه ليس برِشوة- قد رُويَ عن ابن مسعود -رضي الله عنه- وذهب إلى ذلك جماعة من أئمة التابعين منهم عطاء وجابر بن زيد ووهب بن منبه والحسن والشعبي، وقد ذهب لهذا النخعي ومجاهد وهذا ما عليه جمهور العلماء، فهو قول الأحناف وذكر منهم صريحاً في المبسوطات مُحمَّد وأبو يوسف وابن الملك، وهو قول الطحاوي والجصَّاص ونصر بن محمد أبو الليث السمرقندي؛ وهو قول المالكية وبسط المسألة منهم ابن العربي والقرطبي، وهو قول الشافعية فهو قول الشافعي وقال به الخطَّابي والبيهقي وجماعة من أصحاب الشافعي، وهو قول الحنابلة، ومنهم ابن قدامة المقدسي؛ وقول شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم والذهبي وذكر ابن الأثير قول الفقهاء في "النهاية"؛ وهو قول ابن حزم من الظاهرية، وهو قول جمهور المحدثين بوَّب له البيهقي في سننه الكبرى بباب: ((من اعطاها ليدفع بها عن نفسه أو ماله ظلما اؤ يأخذ بها حقا))، وقد أورد الإمام عبدالرزَّاق الصنعاني الآثار عن ابن مسعود وجابر بن زياد في مصنفه؛ ويقول بهذا القول ابن بطَّال وابن حجر الهيثمي وشمس الحق والمباركفوري والسندي .
وعلى ذلك من المعاصرين سماحة الشيخ العلاَّمة عبد العزيز بن باز -رحمه الله- والشيخ العلاَّمة المحدث الألباني والشيخ الفقيه الأصولي العلاَّمة ابن عثيمين -رحمه الله- والشيخ المحدث العلاَّمة مقبل الوادعي -رحمه الله- وغيرهم كثير .
وعلى هذا فإنَّ من مُنع من حقه فأعطى ليدفع عن نفسه الظلم فذلك مباح للمعطي وأمَّا الآخذ فآثم(2)؛ قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى: " فَأَمَّا إذَا أَهْدَى لَهُ هَدِيَّةً لِيَكُفَّ ظُلْمَهُ عَنْهُ أَوْ لِيُعْطِيَهُ حَقَّهُ الْوَاجِبَ، كَانَتْ هَذِهِ الْهَدِيَّةُ حَرَامًا عَلَى الْآخِذِ وَجَازَ لِلدَّافِعِ أَنْ يَدْفَعَهَا إلَيْهِ كَمَا كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: ((إنِّي لَأُعْطِي أَحَدَهُمْ الْعَطِيَّةَ فَيَخْرُجُ بِهَا يَتَأَبَّطُهَا نَارًا قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: فَلِمَ تُعْطِيهِمْ؟ قَالَ: يَأْبَوْنَ إلَّا أَنْ يَسْأَلُونِي وَيَأْبَى اللَّهُ لِي الْبُخْلَ))، وَمِثْلُ ذَلِكَ إعْطَاءُ مَنْ أَعْتَقَ وَكَتَمَ عِتْقَهُ، أَوْ أَسَرَّ خَبَرًا، أَوْ كَانَ ظَالِمًا لِلنَّاسِ، فَإِعْطَاءُ هَؤُلَاءِ جَائِزٌ لِلْمُعْطِي، حَرَامٌ عَلَيْهِمْ أَخْذُهُ"(3).
وفقك الله ورعاك .
----------------------------------------------------------1) وهذا ما عليه الجمهور وهو أقرب التعريفات لمدلول القرآن كما أشار لذلك الشيخ عطية سالم -رحمه الله-، انظر تعريف الجرجاني أيضاً .
2) قاله ابن حزم بلفظه في المُحلى 9/157 .
3) مجموع الفتاوى 8/87 وانظر الفتاوى الكبرى 6/51 .
تعليق