فتاوى شرعيّة للشّيخ العلاّمة محمّد عليّ فركوس حفظه الله
في حُكم الأضحية الجواب: الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصّلاة والسّلامُ على مَن أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فقد اختلف العُلماء في حُكم الأُضحية؛ فمذهبُ الجُمهور استِحبابُها، خِلافًا لمذهبِ القائلين بوُجوبِها على المُوسِر الّذي يقدر عليها فاضلاً عن حوائجه الأصليَّة، وبه قال الأحنافُ وبعضُ المالِكيَّة(1)، وهو الأظهر -عندي- لِما رواه أبو هريرة رضي اللهُ عنه عن النّبيِّ صلّى اللهُ عليه وسلّم: "مَن كان له سَعَةٌ ولم يُضَحِّ فلايقربَنَّ مُصلاَّنا"(2)،
ـــــــــــ
(1) انظر: ((بداية المجتهد)) لابن رشد (429/1)، ((المحلَّى)) لابن حزم (355/7)، ((المغني)) لابن قدامة (617/، ((المجموع)) للنَّوويّ (355/7)، ((فتح الباري)) لابن حجر (463/10)، ((شرح فتح القدير)) لقاضي زادة (519/9)، ((سبيل السَّلام)) للصّنعانيّ (178/4).
(2) أخرجه ابن ماجة في ((الأضاحي)) باب الأضاحي: واجبة هي أم لا؟ (3123)، وأحمد في ((المسند)) (8273)، والحديث أخرجه الحاكم (231/4) وصحَّح إسنادَه ووافقه الذهبيّ، وحسّنه الألبانيّ في ((تخريج مشكلة الفقر)) (102)، وانظر: ((نصب الرَّاية)) للزَّيلعيّ (207/4).
فالحديث نهى الموسِرَ عن قربان المصلَّى إذا لم يُضَحِّ، فدَّل على أنَّه ترك واجبًا باللُّزوم، فكأنَّ الصَّلاة عديمة الفائدة مع تركِ هذا الواجب، ويؤيِّده ما رواه مِخْنَفُ بنُ سُلَيمٍ أنَّ رسولَ الله صلّى الله عليه وسلّم قال بعرفة: "يا أيُّها النَّاس! إِنَّ عَلَى كُلِّ أَهْلِ بَيْتٍ فِي كُلِّ عَامٍ أُضْحِيَةً وَعَتِيرَةً"(1)، وقد نُسخت العتيرة بقوله صلّى الله عليه وسلّم: "لاَ فَرَعَ وَلاَ عَتِرَةَ"(2)، ولا يَلزم مِن نسخِ العتيرة نسخُ الأضحية، إذ لا تلازُم بين الحُكميْن حتَّى يلزم مِن رفعِ أحد الحُكميْن رفعٌ للآخر، وممَّا يرجَّح هذا القولَ ما رواه جُنْدَبُ بنُ سُفيان البَجَليُّ قال: ((شَهِدتُ النَّبيَّ صلّى الله عليه وسلّم يوم النَّحر قال: "مّنْ ذَبَحَ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ فَلْيُعِدْ مَكَانَها أُخْرَى، وَمَن لَمْ يَذْبَحْ فَلْيَذْبَحْ"(3)، وهو ظاهر الوجوب، لا سيَّما مع الأمر بالإعادة(4).
هذا، وقد استدلَّ الجمهورُ بحديث أمِّ سلمة رضي الله عنها أنَّ رسولَ الله صلّى الله عليه وسلّم قال: "إِذَا رَأَيْتُمْ هِلاَلَ ذِي الحِجَّةِ وَأَرادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يُضَحِّيَ فَلْيُمْسِكْ عَنْ شَعْرِهِ وَأَظْفَارِهِ"(5)،
ــــــــــــ
(1) أخرجه أبو داود في ((الضَّحايا)) باب ما جاء في إيجاب الأضاحي (2788)، والتِّرمذيّ في((الأضاحي)) باب العتيرة (151 من حديث مِخنف بن سليمٍ رضي الله عنه، والحديث قوَّاه بن حجر في ((الفتح)) (4/10)، والأرناؤوط في تحقيق((جامع الأصول)) (316/3)، وحسَّنه الألبانيُّ في ((المشكاة)) (147 التّحقيق الثّاني.
(2) أخرجه البخاريّ في ((العقيقة)) (5473) باب الفرع والعتيرة (5473)، ومسلم في ((الأضاحي)) (1976) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(3) أخرجه البخاريّ في ((الذَّبائح والصَّيد)) باب قول النَّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم: ((فَلْيَذْبَحْ عَلَى اسْمِ الله)) (5562)، ومسلم في ((الأضاحي)) (1960) من حديث جُندب البَجَلِيِّ رضي الله عنه.
(4) ((السَّيل الجرَّار)) للشَّوكانيّ (74/4).
(5) أخرجه مسلم في ((الأضاحي)) (1977) من حديث أم سلمة رضي الله عنها.
فإنَّ الحديث -عندهم- لا يدلُّ على وجوب الأضحية، بل غاية ما يدلُّ عليه استحبابُها؛ لأنَّ الواجب لا يُعَلَّق بالإرادة، كما استدلُّوا بحديث ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما قال: "ثَلاثٌ هُنَّ عَلَيَّ فَرَائِضُ، وَهُنَّ لَكُمْ تَطَوُّعٌ: الوِتْرُ، وَالنَّحْرُ، وَصَلاَةُ الضُّحَى"(1)، وصرفوا أدلَّةَ الموجِبِين بحديث جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال: ((شَهِدتُ مع النَّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم الأضحى بالمُصلَّى، فلمَّا قضَى خُطبتَهُ نزَل عن منبَره، فأُتِي بكَبشٍ، فذبَحهُ رسُولُ الله صلّى الله عليه وسلّم بيده وقال: "بِسمِ اللهِ، واللهُ أَكْبَرُ، هَذَا عَنِّي وَعَمَّن لَمْ يُضَحِّ مِنْ أُمَّتِي" ))(2). كما استدلُّوا بالآثار المرويَّة عن أبي بكرٍ وعمر وأبي مسعود رضي الله عنهم؛ فقد أخرج عبدالرزاق والبيهقيُّ عن أبي سُرَيْحَةَ قال: ((رأيتُ أبا بكرٍ وعمرَ وما يُضَحِّيانِ ))(3)، وعن أبي وائلٍ قال: قال أبو مسعودٍ الأنصاريُّ: (( إنِّي لأَدَعُ الأضحى -وإنِّي لَمُوسِرٌ- مخافةَ أنْ يرى جيرَاني أنَّه حَتمٌ علَيَّ))(4).
وما تمسَّك به الجمهورُ من أدلَّةٍ لا يصلح لصرفِ أدلَّة المخالفين عن الوجوب، فقد أجاب ابنُ تيميَّة رحمهُ الله على نفاة الوجوب بقوله: ((وأمَّا الأضحية فالأظهر وجوبُها؛ فإنَّها مِن أعظم شعائر الإسلام، وهي النُّسُكُ العامُّ في جميع الأمصار،
ـــــــــــــــــ
(1) أخرجه أحمد (2050)، والبيهقيّ في ((الكبرى)) (4145)، قال ابن حجر في ((التَّخليص الحبير)) (2/45): ((وأطلق الأئمَّةُ على هذا الحديثِ الضَّعفَ كأحمد والبيهقيِّ وابنُ الصَّلاح وابن الجوزيِّ والنَّوويِّ وغيرهم))، وانظر ((السِّلسلة الضَّعيفة)) للألبانيّ (6/494).
(2) أخرجه أبو داود في ((الضَّحايا)) بابٌ في الشَّاة يضحَّى بها عن جماعةٍ (2810)، والتِّرمذيّ في ((الأضاحي)) (1521) من حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنهما، وصحَّحه الألبانيّ في ((الإرواء)) (113).
(3) أخرجه عبدالرزّاق في ((مصنَّفه)) (293/4) برقم (8170)، والبيهقيّ (9/269).
(4) أخرجه عبدالرزّاق (295/4) برقم (8180)، والبيهقيّ (265/9).
والنُّسُكُ مقرونٌ بالصَّلاة في قوله تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾[الأنعام(162)]، وقد قال تعالى: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ ﴾[الكوثر: 2]، فأمر بالنَّحر كما أمر بالصَّلاة...)) ثمّ قال: (( ونفاة الوجوب ليس معهم نصٌ؛ فإنَّ عُمدتهم قولهُ صلّى الله عليه وسلّم: "مَنْ أَرَادَ أَنْ يُضَحِّيَ وَدَخَلَ العَشْرُ فَلاَ يَأْخُذْ مِنْ شَعْرِهِ وَلاَ مِنْ أَظْافَرِهِ"، قالوا: والواجب لا يُعلَّق بالإرادة، وهذا كلامٌ مجملٌ، فإنَّ الواجب لا يوكَل إلى إرادة العبد فيقالَ: إن شئت فافعلْه، بل يعلَّق الواجب بالشَّرط لبيان حكمٍ مِن الأحكام كقوله: ﴿إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا﴾[المائدة (6)]، وقد قدَّروا فيه: ((إذا أردتم القيامَ))، وقدَّروا: ((إذا أردتَ القراءة فاستعِذْ))، والطَّهارة واجبةٌ والقراءة في الصَّلاة واجبةٌ، وقد قال: ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ * لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ﴾[ التّكوير: 27-28]، ومشيئة الاستقامة واجبةٌ))(1).
أمَّا حديث ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما فضعيفٌ، وله طرُقٌ أخرى كلُّها ضعيفةٌ لا تصلح للاحتجاج، فضلاً عن كونها معارضةً للأحاديث الثَّابة المرفوعة. وحديث جابر بن عبدالله رضي الله عنهما يَسَع معه الجمعُ بأن تُحمل تضحيةُ النَّبَيِّ صلّى الله عليه وسلّم على كونها عن غير الموسِرين مِن أمَّته كما يُفيد قولُه: "مَّن لَمْ يُضَحِّ مِنْ أُمَّتِي" مع قوله: "...عَلَى كُلِّ أَهْلِ بَيْتٍ فِي كُلِ عَامٍ أُضْحِيَةً...".
وأمَّا الإستدلال بالآثار المرويَّة عن أبي بكرٍ وعمر وأبي مسعودٍ رضي الله عنهم في سقوط وجوب الأضحية؛ فإّن الصَّحابة اختلفوا في حكمها، والواجبُ التَّخيُّرُ من أقوالهم ما يوافقه الدليلُ وتدعمهُ الحُجَّة، وهي تشهد للقائلين بالوجوب على المُوسِر، ومن جهة أخرى فإنَّ الآثار المرويَّة موقوفةٌ معارضةٌ للنّصوص المرفوعة المتقدِّمة، و"المَرْفُوعُ مُقَدَّمٌ عَلَى المَوقُوفِ" على ما هو مقرَّرٌ أُصُوليًا.
ــــــــــــ
(1) ((مجموع الفتاوى)) لابن تيميّة (163،162/23)
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلَّم تسليمًا.
الجزائر: (29 شعبان 1434هـ)
الموافق لـ: (08 جويلية 2013م)
المصدر
الأجوبة العلميّة على أسئلة مُنتديات التّصفية والتّربية
(المجموعة الأولى 1-15)
ص(83-87)
وهي موجودة في مجلّة الإحياء
العدد7 ص(47-48)
وصياغة الفقرة الأخيرة أثبتّها حسب ما جاء في مجلّة الإحياء
يُنظر أيضًا هُنا في وجوب الأضحية على الموسر
المصدر
الأجوبة العلميّة على أسئلة مُنتديات التّصفية والتّربية
(المجموعة الأولى 1-15)
ص(83-87)
وهي موجودة في مجلّة الإحياء
العدد7 ص(47-48)
وصياغة الفقرة الأخيرة أثبتّها حسب ما جاء في مجلّة الإحياء
يُنظر أيضًا هُنا في وجوب الأضحية على الموسر