مسألة: صيام سفر اليوم الواحد
لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمهُ الله
المسألة الرّابعة: صيام سفر اليوم الواحد(1):لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمهُ الله
المقصود بهذه المسألة: عندما يقطع المسافرُ مسافةَ القصر، ثُمّ يعود مِن يومه دون مبيت ناويًا ذلك، فهل يترخّص برخص السّفر؟
ــــــــــــ
(1): هذه المسألة ليستْ مِن اختيارات شيخ الإسلام الخاضعة لضابط البحث؛ لأنّ قوله رحمه الله مُتّفقٌ مع الحنابلة، بل مع المذاهب الأربعة والظّاهريّة أيضًا، ولكنّني أفردتُ هذه المسألة بالبحث لأمرَيْن:
الأوّل: حتّى يكتمل الفهم لنظريّة شيخ الإسلام في العرف.
والثّاني: فهم بعض الباحثين أنّ هذه المسألة تندرجُ تحت نازلة: أثر وسائِل النّقل الحديثة على أحكام السّفر، وهي ليستْ كذلك كما سيأتي في التّرجيح. وعليه فكُلُّ إشارة للخِلاف في هذه المسألة هو منسوب إلى الخِلاف في هذه النّازلة.
تحرير محلّ النِّزاع:
مِن الفقرة السّابقة يتّضح أنّ هذه المسألة لها شرطان:
الأوّل: أنْ يقطع المسافة الطّويلة في الزّمن القصير.
الثّاني: أنْ يعود المُسافِر إلى موطنِه في نفسِ اليوم دون مبيت.
وعليه فمَن قطع المسافة الطّويلة بالزّمن القصير وأقام على سفرِه، فهو مُسافِرٌ عند شيخِ الإسلام(1)، وهذه الصُّورة ليستْ محلّ البحث، وإنّما صُورة هذه المسألة: أنْ يقطعها بالزّمنِ القصير ويعود مِن يومِه.
إختِيار شيخ الإسلام:
إختار رحمه اللهُ أنّ مَن عاد مِن يومِه لا يُعتبر مُسافرًا. قال رحمه الله: "والرّجُلُ قد يخرج مِن القريةِ إلى صحراء لحطب يأتي به فيغيب اليومَيْن والثلاثة، فيكون مُسافِرًا وإنْ كانت المسافة أقلَّ مِن مِيل، بخِلاف مَن يذهب ويرجع مِن يومِه فإنّه لا يكون في ذلك مُسافِرًا، فإنّ الأوّل يأخذ الزّاد والمزاد بخِلافِ الثّاني، فالمسافة القريبة في المُدّة الطّويلة تكون سفرًا، والمسافة البعيدة في المُدّة القليلة لا تكون سفرًا"(2).
سبب الخِلاف:
الاختِلاف في تعريف السّفر، فمَن ربطه بمسافةٍ مُعيّنة أوقع أحكامَه عند قطعِها، ومَن جعل تعريفَه إلى العُرف كشيخ الإسلامِ، رأى أنّ المسافة لا تكفي وحدها لإنشاء حالة السّفر ولا بدّ مِن الزّمن، فمَن عاد مِن يومِه لا يُسمّى مُسافِرًا عُرْفًا.
ـــــــــــــــــ
(1): وهم مَن أغفل الشّرط الثّاني ونتج عنه أنْ ذكر خِلافًا لِما يقع، يُراجع: أحكام السّفر في الفقه الإسلامي للشّيخ عبدالله بن عبدالعزيز العجلان ص(92)، رسالة ماجستير مُقدّمة إلى المعهد العالي للقضاء.
(2): الفتاوى135/24.
الأقوال في هذه المسألة:
شرط المبيت هذا لم أجده عند غير شيخ الإسلام فيما اطّلعتُ عليه مِتن كُتب المذاهب لاعتِبار غالِبِهم بالمسافة كما تقدّم(1)، وشيخُ الإسلام عندما رجّح العُرفَ في تحديد مسائِل السّفر، ضبط مفهوم السّفر عُرْفًا بالشُّروط الآتية(2):
(1) الخُروج عن وطنِ الإقامةِ(3).
(2) الإسفار والبُروز إلى الصّحراء(4).
(3) الاحتِياج إلى أخذِ الزّاد والمزاد(5).
(4) المبيت وعدم الرُّجوع مِن يومِه(6).
والشّرط الأخير هو محلّ هذه المسألة، وقد ظنّ بعضُهم أنّ المُراد بهذه المسألة قطعُ المسافة الطّويلة بزمنٍ قصيرٍ(7)، وهو وهمٌ يقع فيه كثيرٌ مِمّن يبحث أثر المُواصلات الحديثة على أحكام السّفر، وهو ظنٌّ مردودٌ لأمرَيْن:
ــــــــــــــــــــــــــ
(1) تراجع : مسألة الفطر في السفر القصير ص122 من هذه الرِّسالة؛ وكان ردّهم على القائلين بالعرف ردّا على أصل قولهم لا على الشّروط.
(2) يراجع: موسوعة فقه ابن تيمية 35/1.
(3) يراجع: الفتاوى244/19.
(4) يراجع: الفتاوى 15/24.
(5) الفتاوى244/19 و15/24.
(6) الفتاوى 244/19 و119،42/24.
(7) ذكر الفُقهاء في سفر البحر أنّ العبرة بالمسافة لا بالزّمن، يراجع: أحكام السّفر في الفقه الإسلاميّ 91-92.
الأوّل: أنّ شيخ الإسلام لا يرى شرط الجمهور في المسافة أصلاً، بل يكفي عنده البُروز إلى الصّحراء أو مُغادرة حدود وطن الإقامة، ولذا عدّ خُروج أهل مكّة إلى مِنى زمن الحج سفرًا(1)؛ لأنّهم يبيتون ويتزوّدون.
الثّاني: أنّ شيخ الإسلام بنى رأيَه على العُرفِ، وحدّد العُرفَ على زمانِه، والعُرف يختلف مِن زمان إلى زمانٍ، كما سيأتي في التّرجيح في آخر هذه المسألة إنْ شاء اللهُ.
واستدلّ شيخُ الإسلام بِما يأتي:
الدّليل الأوّل: أنْ مَن ذهب إلى مكان وعاد مِن يومِه لا يُسمّى مُسافِرًا عُرفًا(2).
ويُناقش: إنّ العبرةَ بالمسافةِ، فإذا قطعها المُسافِرُ سُمِي سفرًا.
ويُجاب: أنّ التّقدير لا يدخُله الاجتِهاد، وأنّ الشّارع لم يحدْ السّفرَ بمسافةٍ ولا زمن، فيعود تحديده للعُرف.
الدّليل الثّاني: أنّ أهل مكّة قصروا الصّلاة خلف رسول الله صلّى اللهُ عليه وسلّم في مِنى(3)، وجمعوا وقصروا الصّلاة في بطنِ عرنة(4)؛ لأنّهم حملوا الزّاد والمزاد وباتوا معه صلّى اللهُ عليه وسلّم في مِنى ومُزدلِفة، وكان صلّى اللهُ عليه وسلّم يخرج في المدينةِ مثل هذه المسافة وأصحابه ولا يقصرون "كالعوالي وقباء وأحد"(5)؛ لأنّه يعود مِن يومِه.
ــــــــــــــــ
(1) يُراجع: الفتاوى 244/19
(2) يُراجع: الفتاوى 119/24
(3) سيأتي تخريجه.
(4) سيأتي تخريجه.
(5) الفتاوى 133/24، 135
ونوقِش مِن وجهَيْن:
الوجه الأوّل: أنّه ثبت عنه صلّى اللهُ عليه وسلّم أنّه قال: "يا أهل مكّة! أتِمُّوا صلاتَكم فإنّا قوم سفر"(1).
وأُجيب: أنّ هذه غلطٌ مِن قائِلِه؛ لأنّه إنّما نقل أنّ النّبيَّ صلّى اللهُ عليه وسلّم قال هذا في جوفِ مكّة لأهلِ مكّة عام الفتح(2).
الوجه الثّاني: أنّ القصرَ في مِنى، والجمع والقصر في عرفة إنّما هو مِن أجل النُّسك لا مِن أجلِ السّفر(3).
وأُجيب: أنّه عُلم مِن دين الإسلام " أنّ اللهَ لم يُرخّصْ في الصّلاةِ ركعتَيْن إلاّ لمُسافِرٍ"(4). فعُلم أنّ السّبب في قصرِ الصّلاةِ هو محض السّفر، كما "أنّه لم يجمعْ بعرفةٍ لِمُجرّد السّفر كما قصّر للسّفر، بل لإشتِغالِه باتِّصالِ الوقوف عن النُّزولِ، وباشتِغالِه بالمَسيرِ إلى مُزدلِفة، وكان جمعُ عرفة لأجلِ العبادة، وجمع مُزدلِفة لأجلِ السّيْرِ"(5).
ــــــــــــــــ
(1) أخرجه أبو داود في سننِه 9/2 رقم(1229) كتاب الصّلاة، باب متى يتمّ المُسافر، والتِّرمذيّ في سننِه 548/1 رقم (545) كتاب الصّوم، باب التّقصير في السّفر، وأحمد في المُسندِ 430/2، 431، 432، والطّيالسيّ في مُسندِه189/2 رقم(89، وابن أبي شيبة في المُصنَّفِ 450/2، والطّبرانيّ في الكبير208/18 رقم (513، 514)، والطّحاوي في شرح معاني الآثار 417/1، والبيهقيّ في السّنن الكبرى 135/3-136، كلّهم مِن طريق علي بن زيد بن جدعان، عن أبي نضرة، عن عمران به.
وضعّفه النّوويّ كما في نصبِ الرّاية 184/1، وقال ابن حجر في التّلخيص الحبير 129/1: "حسّنه التِّرمذيّ، وعلي ضعيف، وإنّما حسّن التِّرمذي حديثه لشواهدِه".
(2) يُراجع: مسألة القصر في مِنى ص609 مِن هذه الرِّسالة.
(3) يُراجع: مسألة القصر في مِنى ص609 مِن هذه الرِّسالة.
(4)الفتاوى 47/24
(5) الفتاوى 46/24
الدّليل الثّالِث: ما رُوِيَ عن أبي جمرة الضُّبَعيّ(1)، قال: "قُلتُ لابن عبّاس: أقصرُ إلى الأيلةِ(2)؟ قال تذهبْ وتجيء في يوم؟ قُلتُ: نعم، قال: لا، إلاّ يوم تام"(3).
وجه الاستِدلال: أنّ ابن عبّاس رضي اللهُ عنهما اشترط المَبيتَ وهو البقاء سفرًا يومًا كامِلاً.
ويُناقش: أنّه مُعارض بما رُوِيَ عن غيرِه مِن الصّحابةِ، مِثل ما رُوِيَ عن ابن عمر رضي اللهُ عنهما أنّه كان يقول: لو خرجْتُ مِيلاً لقصّرتُ الصّلاةَ(4).
ويُجاب: بأنّه محمول على أنّ المِيلَ هو بداية أحكام السّفر، أو إذا كان هُناك مَبيت، كيف وهو الّذي أقام في أذربيجان ستة أشهر يقصر الصّلاةَ(5) انتِظارًا لِذوبانِ الجليد.
التّرجيح:
مِن استِعراض الأدلّة ومُناقشتِها يتّضِحُ وجاهة قول شيخ الإسلام؛ لأنّ تحديد السّفر مردود إلى العُرف، والّذي يعود مِن يومِه في زمنَِه لا يُعدّ مُسافِرًا، فلا تنطبق عليه أحكام السّفر.
وها هنا سؤال حول مَن سافر في الطّائِرةِ مِن الرِّياض إلى جدّة مثلاً وعاد مِن يومِه فهل هو مُسافر أو لا؟
ــــــــــــــــ
(1) هو أبو جمرة نصر بن عمران بن عصام الضبعي البصريّ نزيل خراسان، مشهور بكنيتِه، ثقة ثبت. مات سنة 128هـ. يُراجع: الجرح والتّعديل465/8، التّقريب ص561.
(2) الأيلة: مدينة صغيرة على البحر الأحمر، على طريق حجّاج مصر. يُراجع: مُعجم البلدان347/1.
(3) أخرجه ابن أبي شيبة في المُصنَّف 444/2، والبيهقيّ في السُّننّ الكبرى137/3.
(4) ذكره الحافظ ابن حجر في الفتح 660/2، وعزاه إلى الثّوريّ، وصحّح إسنادَه.
(5) تقدّم تخريجه 118/4.
بعضهم أجرى كلام شيخ الإسلام على ظاهرِه، ورأى أنّه ليس مُسافرًا بناءً على فوات شرطِ المَبيت.
والّذي يظهر لي مِن كلام شيخ الإسلام إرجاع كُلّ هذه الشّروط إلى العُرف؛ لأنّ النّاس لا يحكمون لِمن برز عن عامر ِبُنيان بلده بمِيلٍ أو مِيلَيْن ثُمّ يعود مِن يومِه مُسافِرًا، فأقول: مَن ذهب مِن الرِّياض إلى جدّة بالطائِرةِ وعاد مِن يومِه، فالنّاس يُسمّونه مُسافِرًا، وهذا هو العُرف، وعليه وتطبيقًا لِفهمِ شيخ الإسلام لقاعدةِ العُرف، فإنّ ذلك الرّجل يعدّ مُسافِرًا، وكانت عبارة شيخنا محمّد بن عثيمين أكثر وُضوحًا وجلاءً حين قال:
" إنّ المسألةَ لا تخلو مِن أربع حالات:
(1) مُدّة طويلة في مسافة طويلة، فهذا سفر لا إشكال فيه...
(2) مُدّة قصيرة في مسافة قصيرة، فهذا ليس بسفرٍ، كما لو خرج مثلاً مِن عنيزة إلى بُريدة في ضُحى يوم ورجع.
(3) مُدّة طويلة في مسافة قصيرة...فهذا سفرٌ.
(4) مُدّة قصيرة في مسافة طويلة، كمَن ذهب مِن القصيمِ إلى جدّة في يومِه ورجع، فهذا يُسمّى سفر"(1).
فالخُلاصة:
أنّ ضوابط العُرف في السّفرِ تتغيّر مِن زمانٍ إلى زمان، فشرطُ المَبيت مِثل شرط حمل الزّاد والمزاد، فمُسافِرُو اليوم يتنقّلون اليوم بين القارات دون حملِه، وعليه فإنّ شرط المَبيت في هذا الزّمن لا يلزم تحقّقه، بل ما عدّه النّاس سفرًا فهو سفر، كالمُسافِرِ مِن الرِّياض إلى جدّة، سواء عاد مِن يومِه أو لم يعد، وسواء حمل الزّاد أو لم يحمله. واللهُ أعلم.
ـــــــــــ
(1) الشرح المُمتع 498/4، 499.
اختِيارات شيخ الإسلام ابن تيمية الفقهيّة: صالح الجربوع
ط. كنوز إشبيليا - المجلّد الرّابع
اختِيارات شيخ الإسلام ابن تيمية في الصِّيام
الفصل الثّالِث: مُفسدات الصّوم ومُستحبّاته ص(120-126)
ط. كنوز إشبيليا - المجلّد الرّابع
اختِيارات شيخ الإسلام ابن تيمية في الصِّيام
الفصل الثّالِث: مُفسدات الصّوم ومُستحبّاته ص(120-126)
تعليق