::: مِنْ أَهَمِّ مَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ؛ الحِفَاظُ عَلَى الضَّرُورِيَّاتِ الخَمْسِ :::
===============
إن الحمد لله نحمده، ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا؛ ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله؛ فلا مضل له، ومن يُضلل؛ فلا هادي له، أما بعد؛......===============
فإن الحفاظَ على الضروريات الخمس وهي: (الدِّينُ، وَالنَّفْسُ، وَالنَّسْلُ، وَالْعَقْلُ، وَالْمالُ) من أهم مقاصد هذا الدين العظيم، ومن أسمى مطالبه، وأجلِّ حِكَمه.
قال الشاطبي في (الاعتصام) [2/389]: إِنَّ الْكَبَائِرَ مُنْحَصِرَةٌ فِي الإِخلال بِـ الضَّرُورِيَّاتِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي كُلِّ مِلَّة؛ وَهِيَ: الدِّينُ، وَالنَّفْسُ، وَالنَّسْلُ، وَالْعَقْلُ، وَالْمالُ. أ هــ .
وأَعْلى هذه الضروريات مرتبة: (الدِّين) ولذلك شُرع الجهادُ في سبيل الله -مع ما يتعرض له المرء من إتلاف النفس- حفاظًا على الدين.
ثم يأتي في المرتبة التي تلي مرتبة (الدين): مرتبة (النفس)؛ ولذلك حرَّم الله -تبارك وتعالى- قتلَ النفس بغير حق، وعُدت من الكبائر؛ والأحاديث والآيات في تحريم قتل النفس التي حرم الله إلَّا بالحق؛ كثيرةٌ.
ثم تأتي مرتبة (النَّسلِ) ولذلك حرَّم الله الزنا؛ بل وسدَّ الذرائع الموصلة إليه، كــ النظر، والاختلاط، والخلوة، والدخول على النساء، وغير ذلك...، وهذه المرتبة تتمثل في الحفاظ على الأعراض، والأنساب؛ وعدم اختلاط الأنساب، وعلى عفاف المرأة والرجل، إلى غير ذلك ممَّا هو معلوم من فوائد، ومكتسبات الحفاظ على (النَّسل).
ثم تأتي مرتبة (العقل)؛ والعقل من أجل نعم الله على الإنسان، وقد كرم اللهُ الإنسان على الحيوان بهذا العقل، قال تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا) [الإسراء:70]، والعقل وهبه الله للإنسان، كي يميز به، ويفكر به، ويضع الأمور حيث يجب أن توضع، ويترفع عن أشياءٍ لا يسعه إلَّا التَّرَفُّعَ عنها، وهذا كله؛ لا يتحقق إلا بوجود العقل، فالعقل مناط التكليف -كما هو معروف-، وإلا فمن زال عقله؛ رُفع التكليف عنه، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ عَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَبْلُغَ وَعَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ وَعَنْ الْمعْتُوهِ حَتَّى يَبْرَأَ)) وفي رواية: ((وعن المَجْنُون حَتَّى يَفيق)) رواه البخاري موقوفًا؛ عن عليٍ -رضي الله عنه-، ورواه الترمذي وأبو داود وابن ماجه وغيرهم مرفوعًا، وقال الألباني: (صحيح).
وأخرج البخاري -أيضًا- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ:أَتَى رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ فِي المسْجِدِ؛ فَنَادَاهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي زَنَيْتُ!، فَأَعْرَضَ عَنْهُ حَتَّى رَدَّدَ عَلَيْهِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ!، فَلَمَّا شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ؛ دَعَاهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: ((أَبِكَ جُنُونٌ؟)) قَالَ: لَا، قَالَ: ((فَهَلْ أَحْصَنْتَ؟)) قَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((اذْهَبُوا بِهِ فَارْجُمُوهُ)).
ومِنْ أَجْلِ الحِفَاظِ على العقل؛ حرم الله الخمر، ورتَّب على ذلك العقوبة بالجلد، وتوعد شاربها -في الدنيا- بالعقاب، الى آخر تلك الأمور...
ثم تأتي مرتبة (المال)، و(المال) هو: ما يقتات به الإنسان، وتقوم به حياته الدنيوية، وهو عبارة عن معادنَ وعملاتٍ متعارف عليها بين أهل كل بلد؛ كــ الذهب، والفضة، والدرهم، والدينار، والريال، والجنيه، والدولار، والليرة، وغير ذلك...، وقد جعل الله (المال) من زينة الحياة الدنيا فقال: (الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً) [الكهف:46]، ولا يستطيع المرءُ سدَّ حاجته، وحاجة عياله؛ بغير المال؛ إلا على وجه الندرة النادرة -لا سيما في الحياة المعاصرة-، ولأهمية (المال) في حياة الإنسان؛ حرَّم الله -عز وجل- ما يؤدي إلى إتلافه وإفساده،وإنفاقه على غير الوجه المرضي، فمن ذلك:
قال تعالى: (وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَاماً) [النساء:5]، وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ ) [البقرة:227-228]، وَعَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ شَأْنُ الْمَرْأَةِ الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ، فَقَالُوا: مَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟، فَقَالُوا: وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إِلَّا أُسَامَةُ حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؛ فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (( أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ؟!؛ ثُمَّ قَامَ فَخطَبَ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ: إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ!، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ!، وَايْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا)) رواه البخاري ومسلم، واللفظ لمسلم.
فتأمل -بارك الله فيك- قوله صلى الله عليه وسلم (لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا) وحاشاها -رضي الله عنها- من الوقوع في مثل هذا وما دونه، ولكن؛ من مقاصد هذا الحديث: (الحفاظ على المال) بإقامة الحدِّ وهو: قطع اليد؛ ولو في حبل!، ولو في بيضة!.
قال النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((لَعَنَ اللّه السَّارِقَ؛ يَسْرِقُ الْبَيْضَةَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ، وَيَسْرقُ الحبلَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ)) متفق عليه، من رواية أبي -هريرة رضي الله عنه-.
والترتيب في الضروريات على هذا النحو الذي مرَّ؛ مُختلفٌ فيه، ولكن لا اختلاف في أن أعلى وأجلَّ هذه المراتب رتبة: (الدين) ثم (النفس) ثم اختلفوا في ترتيب الثلاثة الباقين.
وعلى كلٍ؛ فكلها ضروريات، والإخلال بواحدة من هذه الضروريات كبيرة من الكبائر!؛ من مثل: الشرك بالله، والبدعة من الإخلال بالدين، وهما من الكبائر.
والقتل -بغير حق-والتحريض على القتل، من الإخلال بالنفس، وهو من الكبائر.
والزنا من الإخلال بالنسل، وهو من الكبائر.
وشرب الخمر والمخدرات من الإخلال بالعقل، وهو من الكبائر.
والسرقة وأكل الربا وأكل مال اليتيم من الإخلال بالمال، وهو من الكبائر.
وبالجملة: فكل ما أدَّى إلى الإخلال بشيءٍ من الضروريات؛ فهو من الكبائر، مع تفاوت في قدر الذنب على حسب وقوعه.
هذا؛ والله أسأل أن يرزقنا الحفاظ على الدين والنفس وكل الضروريات، وأن يُجنبنا الوقوع في كبائر الإثم وصغائرها، إنه بكل جميل كفيل، وبالإجابة جدير، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وكتبه: أبو معاذ محمود الصعيدي، من بورسعيد - مصر، في يوم الأربعاء
الثاني عشر من شهر رجب سنة 1434 هـ.،
الموافق 22-5-2013م
الثاني عشر من شهر رجب سنة 1434 هـ.،
الموافق 22-5-2013م