الحمد لله وبعد:
الكل يعلم أنه قد دخل على أصول الفقه دخيل، وإن من الواجب على أهل السنة الخلص أن ينقوا هذا العلم الجليل -الذي لا يستغنى عنه في فن من الفنون- من كل دخيل وإن من المسائل الدخيلة علىأصول الفقه مسألة ألا وهي:
( المباح مأمور به ) وسيدور عرض الموضوع على مقاصد هي :
نسبة القول وأدلته ومناقشته .
الصواب في المسألة .
نوع الخلاف وثمرته .
أولا نسبة القول وأدلته ومناقشته :
نسبة القول :
القائل بأن المباح مأمور به هو أبو القاسم الكعبي المعتزلي
انظر في ذلك : البرهان ( 1 / 294 ) ، التلخيص ( 1 / 251 ) ، الوصول إلى الأصول ( 1 / 167 ) ، الإحكام للآمدي ( 1 / 124 ) ، المحصول ( 1 / 2 / 349 ) ، شرح الكوكب المنير ( 1 / 425 )
يقول أبو المعالي الجويني (البرهان 1 / 264 ) : " الرد على الكعبي في مصيره إلى أنه لا مباح " .
يقول الآمدي ( الإحكام 1 / 124 ) : " اتفق الفقهاء والأصوليين قاطبة على أن المباح غير مأمور به خلافا للكعبي وأتباعه من المعتزلة " .
دليل الكعبي فيما ذهب إليه :
استدل الكعبي لقوله هذا بأن كل فعل يشار إليه هو في عينه ترك لمحظور ، وترك المحظور واجب ، فلا شيء على هذا إلا ويقع واجبا من جهة وقوعه تركا لمحظور . ( انظر ما تقدم في نسبة القول للكعبي )
ومعناه : أن الاشتغال بفعل المباح وسيلة من وسائل ترك المحرم ، وما أدى إلى ترك المحرم فهو واجب ، فالمباح على ذلك يكون واجبا . ( أراء المعتزلة الأصولية ص : 252 ) .
مناقشة دليل الكعبي :
يناقش استدلال الكعبي بأن المباح ليس هو نفس ترك الحرام ، بل هو شيء به يترك الحرام ولا يلزم من كون الترك واجبا أن يكون عين الشيء الذي يترك به واجبا إذا كان ذلك الترك ممكن التحقق بشيء آخر غير ذلك الأول لجواز تركه بواجب أو مندوب ( انظر : المحصول 1 / 2 / 349 ، والإبهاج 1 / 131 ) .
يقول القرافي ( نفائس الأصول 4 / 592 ) : " الشيء إذا كان واجبا ، وله وسائل متعددة ، لا يجب أحدها عينا ، كما إذا كان للجامع يوم الجمعة طريقان مستويان لا يجب سلوك أحدهما عينا ، وهو المباح ، ولو صح ما قالوه لكان المندوب حراما ، لأنه ترك الواجب ، المكروه أيضا كذلك ، بل الواجب حراما ؛ لأنه يستلزم ترك واجبا آخر " .
فيلزم من فعل المباح ترك الحرام ولا يلزم من ترك الحرام فعل المباح لجواز تركه بالواجب والمندوب ، ففعل المباح أخص من ترك الحرام ، والأخص غير الأعم فلا يكون المباح هو ترك الحرام بل هو شيء يحصل به تركه لأنه قد يحصل به وبغيره وإذا كان للواجب وسائل متعددة فإنه يجب واحد منها لا بعينه
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ( درء تعارض العقل والنقل 1 / 120 ) : " فإن الكعبي زعم أنه لا مباح في الشريعة لأنه ما من فعل يفعله العبد من المباحات إلا وهو مشتغل به عن محرم والنهي عن المحرم أمر بأحد أضداده فيكون من فعله من الباحات هو من أضداد المحرم المأمور بها
وجوابه أن يقال : النهي عن الفعل ليس أمرا بضد معين لا بطريق القصد ولا بطريق اللزوم بل هو نهي عن الفعل المقصود تركه بطريق القصد وذلك يستلزم الأمر بالقدر المشترك بين الأضداد فهو أمر بمعني مطلق كلي والأمر بالمعني المطلق الكلي ليس أمرا بمعين بخصوصه ولا نهيا عنه بل لا يمكن فعل المطلق إلا بمعين أي معين كان فهو أمر بالقدر المشترك بين المعينات فما امتاز به معين عن معين فالخيرة فيه إلي المأمور لم يؤمر به ولم ينه عنه وما أشتركت فيه المعنيات وهو القدر المشترك فهو الذي أمر به الآمر "
الصواب والراجح في المسألة
الراجح في المسألة والصواب هو أن المباح غير مأمور به إذ لا يترتب عليه ثواب ولا عقاب ولا مدح ولا ذم وقد صرح بعضهم بانعقاد الإجماع على ذلك
يقول البخاري ( كشف الاسرار 1 / 275 ) : " المباح غير مأمور به عند جمهور الأمة سوى طائفة من المعتزلة البغدادية ، وهذا قول شاذ خارج عن الإجماع " .
يقول ابن النجار ( شرح الكوكب المنير 1 / 425 ) : " ومن عجب ما حكي عن الكعبي ... من إنكار المباح في الشريعة وأنه لا وجود له أصلا ، وهو خلاف الإجماع "
ودليلهم :
أن الأمر اقتضاء وطلب وقطع للتخير وأما الإباحة فهي تعليق الفعل المباح بمشيئة المأذون له فلا ينقطع التخير
فالواجب لا يجوز تركه والمباح يجوز تركه فلو كان مأمورا به لما جاز تركه ولكان تاركه معرضا نفسه للعقاب، فلما لم يجب بتركه شيء دل على أنه غير مأمور به .
وقد انعقد الإجماع على ذلك كما تقدم .
يقول ابن الساعاتي ( نهاية الوصول 1 / 186 ) : " لنا الأمر طلب وأقله ترجيح الفعل، والمباح لا ترجيح فيه ، والإجماع أنه قسم من الأحكام " .
ومن لوازم هذا القول :
أولا : إنكار النوافل فلا شيء على قول الكعبي نافلة ، وإنما يكون واجبا إذا كان ذريعة لترك الحرام كالزنا !
ثانيا : وصوف المحرم بالوجوب إذا كان يشغل عن الإقدام على محرم آخر أشنع منه ، فيوصف الزنا بأنه واجب إذا كان ذريعة لترك القتل !
انظر : أراء المعتزلة الأصولية ص : 259
والحمد لله رب العالمين
وكتب:
أبو زياد محمد آل يعقوب النوبي
الكل يعلم أنه قد دخل على أصول الفقه دخيل، وإن من الواجب على أهل السنة الخلص أن ينقوا هذا العلم الجليل -الذي لا يستغنى عنه في فن من الفنون- من كل دخيل وإن من المسائل الدخيلة علىأصول الفقه مسألة ألا وهي:
( المباح مأمور به ) وسيدور عرض الموضوع على مقاصد هي :
نسبة القول وأدلته ومناقشته .
الصواب في المسألة .
نوع الخلاف وثمرته .
أولا نسبة القول وأدلته ومناقشته :
نسبة القول :
القائل بأن المباح مأمور به هو أبو القاسم الكعبي المعتزلي
انظر في ذلك : البرهان ( 1 / 294 ) ، التلخيص ( 1 / 251 ) ، الوصول إلى الأصول ( 1 / 167 ) ، الإحكام للآمدي ( 1 / 124 ) ، المحصول ( 1 / 2 / 349 ) ، شرح الكوكب المنير ( 1 / 425 )
يقول أبو المعالي الجويني (البرهان 1 / 264 ) : " الرد على الكعبي في مصيره إلى أنه لا مباح " .
يقول الآمدي ( الإحكام 1 / 124 ) : " اتفق الفقهاء والأصوليين قاطبة على أن المباح غير مأمور به خلافا للكعبي وأتباعه من المعتزلة " .
دليل الكعبي فيما ذهب إليه :
استدل الكعبي لقوله هذا بأن كل فعل يشار إليه هو في عينه ترك لمحظور ، وترك المحظور واجب ، فلا شيء على هذا إلا ويقع واجبا من جهة وقوعه تركا لمحظور . ( انظر ما تقدم في نسبة القول للكعبي )
ومعناه : أن الاشتغال بفعل المباح وسيلة من وسائل ترك المحرم ، وما أدى إلى ترك المحرم فهو واجب ، فالمباح على ذلك يكون واجبا . ( أراء المعتزلة الأصولية ص : 252 ) .
مناقشة دليل الكعبي :
يناقش استدلال الكعبي بأن المباح ليس هو نفس ترك الحرام ، بل هو شيء به يترك الحرام ولا يلزم من كون الترك واجبا أن يكون عين الشيء الذي يترك به واجبا إذا كان ذلك الترك ممكن التحقق بشيء آخر غير ذلك الأول لجواز تركه بواجب أو مندوب ( انظر : المحصول 1 / 2 / 349 ، والإبهاج 1 / 131 ) .
يقول القرافي ( نفائس الأصول 4 / 592 ) : " الشيء إذا كان واجبا ، وله وسائل متعددة ، لا يجب أحدها عينا ، كما إذا كان للجامع يوم الجمعة طريقان مستويان لا يجب سلوك أحدهما عينا ، وهو المباح ، ولو صح ما قالوه لكان المندوب حراما ، لأنه ترك الواجب ، المكروه أيضا كذلك ، بل الواجب حراما ؛ لأنه يستلزم ترك واجبا آخر " .
فيلزم من فعل المباح ترك الحرام ولا يلزم من ترك الحرام فعل المباح لجواز تركه بالواجب والمندوب ، ففعل المباح أخص من ترك الحرام ، والأخص غير الأعم فلا يكون المباح هو ترك الحرام بل هو شيء يحصل به تركه لأنه قد يحصل به وبغيره وإذا كان للواجب وسائل متعددة فإنه يجب واحد منها لا بعينه
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ( درء تعارض العقل والنقل 1 / 120 ) : " فإن الكعبي زعم أنه لا مباح في الشريعة لأنه ما من فعل يفعله العبد من المباحات إلا وهو مشتغل به عن محرم والنهي عن المحرم أمر بأحد أضداده فيكون من فعله من الباحات هو من أضداد المحرم المأمور بها
وجوابه أن يقال : النهي عن الفعل ليس أمرا بضد معين لا بطريق القصد ولا بطريق اللزوم بل هو نهي عن الفعل المقصود تركه بطريق القصد وذلك يستلزم الأمر بالقدر المشترك بين الأضداد فهو أمر بمعني مطلق كلي والأمر بالمعني المطلق الكلي ليس أمرا بمعين بخصوصه ولا نهيا عنه بل لا يمكن فعل المطلق إلا بمعين أي معين كان فهو أمر بالقدر المشترك بين المعينات فما امتاز به معين عن معين فالخيرة فيه إلي المأمور لم يؤمر به ولم ينه عنه وما أشتركت فيه المعنيات وهو القدر المشترك فهو الذي أمر به الآمر "
الصواب والراجح في المسألة
الراجح في المسألة والصواب هو أن المباح غير مأمور به إذ لا يترتب عليه ثواب ولا عقاب ولا مدح ولا ذم وقد صرح بعضهم بانعقاد الإجماع على ذلك
يقول البخاري ( كشف الاسرار 1 / 275 ) : " المباح غير مأمور به عند جمهور الأمة سوى طائفة من المعتزلة البغدادية ، وهذا قول شاذ خارج عن الإجماع " .
يقول ابن النجار ( شرح الكوكب المنير 1 / 425 ) : " ومن عجب ما حكي عن الكعبي ... من إنكار المباح في الشريعة وأنه لا وجود له أصلا ، وهو خلاف الإجماع "
ودليلهم :
أن الأمر اقتضاء وطلب وقطع للتخير وأما الإباحة فهي تعليق الفعل المباح بمشيئة المأذون له فلا ينقطع التخير
فالواجب لا يجوز تركه والمباح يجوز تركه فلو كان مأمورا به لما جاز تركه ولكان تاركه معرضا نفسه للعقاب، فلما لم يجب بتركه شيء دل على أنه غير مأمور به .
وقد انعقد الإجماع على ذلك كما تقدم .
يقول ابن الساعاتي ( نهاية الوصول 1 / 186 ) : " لنا الأمر طلب وأقله ترجيح الفعل، والمباح لا ترجيح فيه ، والإجماع أنه قسم من الأحكام " .
ومن لوازم هذا القول :
أولا : إنكار النوافل فلا شيء على قول الكعبي نافلة ، وإنما يكون واجبا إذا كان ذريعة لترك الحرام كالزنا !
ثانيا : وصوف المحرم بالوجوب إذا كان يشغل عن الإقدام على محرم آخر أشنع منه ، فيوصف الزنا بأنه واجب إذا كان ذريعة لترك القتل !
انظر : أراء المعتزلة الأصولية ص : 259
والحمد لله رب العالمين
وكتب:
أبو زياد محمد آل يعقوب النوبي
تعليق