الخلاصة المعينة في حكم بيع العينة
أوَّلاً: نصُّ الحديث:
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِي رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: جَاءَ بِلاَلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَمْرٍ بَرْنِيٍّ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مِنْ أَيْنَ هَذَا ؟»، قَالَ بِلاَلٌ: كَانَ عِنْدَنَا تَمْرٌ رَدِيءٌ، فَبِعْتُ مِنْهُ صَاعَيْنِ بِصَاعٍ لِنُطْعِمَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ ذَلِكَ: «أَوَّهْ أَوَّهْ، عَيْنُ الرِّبَا، عَيْنُ الرِّبَا، لاَ تَفْعَلْ، وَلَكِنْ إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَشْتَرِيَ فَبِعِ التَّمْرَ بَبَيْعٍ آخَرَ، ثُمَّ اشْتَرِهِ»(١)، متَّفقٌ عليه.
ثانيًا: ترجمة راوي الحديث(١):
هو سعد بن مالك بن سنانٍ الأنصاري الخزرجي، أبو سعيدٍ الخدري، وهو مشهورٌ بكنيته، استُصغِر بأُحُدٍ، واستُشهد أبوه بها، وأوَّل مشاهده الخندق، وغزا مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم اثنتي عشرة (١٢) غزوةً.
وكان رضي الله عنه من أفاضل الصحابة، حفظ عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم سننًا كثيرةً، وله في كتب الحديث ألفٌ ومائةٌ وسبعون (١١٧٠) حديثًا(٢).
وكان من نجباء الأنصار وعلمائهم، وقد روى له جماعةٌ من الصحابة وجماعةٌ من التابعين، وتُوفِّي أبو سعيدٍ يوم الجمعة سنة أربعٍ وسبعين (٧٤) ودُفن بالبقيع(٣).
ثالثًا: غريب الحديث:
- «برني»: ضربٌ جيِّدٌ من التمر، مدوَّرٌ وأحمر مُشْرَبٌ بصفرةٍ(٤).
قال أبو حنيفة: أَصله فَارِسِيٌّ، قال: إنما هو بارِنيّ، فَالْبَارُ الحَمْلُ، ونِيّ تعظيمٌ وَمُبالغةٌ(٥)، وهذا النوع الجيِّد من التمر لا يزال معروفًا في المدينة النبوية.
- «الصاع»: مكيالٌ لأهل المدينة يأخذ أربعة أمدادٍ، يُذكَّر ويُؤنَّث(٦).
- «أوَّه»: كلمةٌ تقال عند الشكاية والتوجُّع، إلاَّ أنها ساكنة الواو، وربَّما قلبوا الواو ألفًا، فقالوا: آه من كذا، وربَّما شدَّدوا الواو وكسروها وسكَّنوا الهاء، فقالوا: أَوِّه من كذا، وربَّما حذفوا الهاء مع التشديد فقالوا: «أوَّ» من غير مدٍّ، وبعضهم يقول: آوَّه بالمدِّ والتشديد وفتح الواو وسكون الهاء لتطويل الصوت بالشكاية، فلهذه الكلمة -إذن- اللغاتُ الفصيحة المتقدِّمة(٧).
- «عين الربا»: حقيقة الربا المحرَّم.
رابعًا: المعنى الإجمالي للحديث:
يبيِّن الشارع الحكيم الطرق المباحة التي تُغني عن الوسائل المحرَّمة التي قد يفعلها مَن يجهل الحكم فيها، كما حدث لبلالٍ الذي أحبَّ أن يُطعم النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم من تمرٍ جيِّدٍ، فسأله النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم عن الكيفية والوسيلة التي استعان بها للحصول على هذه الجودة، فأخبره بلالٌ عن الصفقة التي أجراها والمتمثِّلة في بيع عوضين من جنسٍ واحدٍ مع التفاضل، فتوجَّع النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم عند ذلك مستعظِمًا المعصية الناجمة من هذه المعاملة الربوية، ونهاه أن يعود لمثل ذلك، ثمَّ أرشده إلى الأخذ بوسيلةٍ جائزةٍ تُغنيه عن المحرَّمة، وهي أنه إذا أراد بيع رديءٍ بجيِّدٍ، فعليه أن يبيع الرديء بالدراهم ثمَّ يشتريَ بالدراهم تمرًا جيِّدًا.
خامسًا: الفوائد والأحكام المستنبطة من الحديث:
تظهر الفوائد والأحكام فيما يلي:
١- الحديث يقضي بتحريم ربا الفضل وأنَّ بيع التمر بالتمر لا يجوز إلاَّ مثلاً بمثلٍ، بمعنى أنه يُمنع فيه التفاضل، وهو قول جماهير العلماء، واختلفوا في بيع التمرة الواحدة بالتمرتين، فمنعه مالكٌ والشافعيُّ وأحمد، خلافًا لمن احتجَّ بأنَّ مستهلك التمرة أو التمرتين لا تجب عليه القيمة، ولأنه غير مَكيلٍ ولا موزونٍ فجاز فيه التفاضل.
والصحيح ما عليه الجمهور، لأنَّ ما جرى الربا فيه بالتفاضل في كثيره دخل قليله في ذلك قياسًا ونظرًا(٨).
٢- فيه دليلٌ على أنَّ التفاضل في الصفات لا اعتبار له في تجويز الزيادة(٩).
٣- فيه سؤال المتبوع تابعَه عن مصدر تصرُّفه وأفعاله(١٠).
٤- فيه جواز الرفق بالنفس وترك الحمل عليها لاختيار أكل الطيِّب على الرديء ترفيهًا في المأكل والمشرب، بشرط أن لا يصل حدَّ الإسراف والتبذير المنهيِّ عنه، قال تعالى: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ. قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ [الأعراف: ٣١-٣٢].
٥- الحديث لم يذكر فسخ العقد وردَّ المبيع، وسكوت الرواة عن ذلك لا يدلُّ على عدم الوقوع، فقد يكون ذهولاً أو اكتفاءً بأنَّ ذلك معلومٌ، ومع ذلك فقد ورد الفسخ في بعض الطرق من حديث أبي نضرة عن أبي سعيدٍ رضي الله عنه نحو هذه القصَّة وفيه: «هَذَا الرِّبَا فَرُدُّوهُ ثُمَّ بِيعُوا تَمْرَنَا وَاشْتَرُوا لَنَا مِنْ هَذَا»(١١)، قال ابن عبد البرِّ -رحمه الله-: «إنَّ القصَّة وقعت مرَّتين: مرَّةً لم يقع فيه الأمر بالردِّ، وكان ذلك قبل العلم بتحريم الربا، ومرَّةً وقع فيها الأمر بالردِّ، وذلك بعد تحريم الربا والعلم به، ويدلُّ على التعدُّد أنَّ الذي تولَّى ذلك في إحدى القصَّتين سواد بن غزية عامل خيبر وفي الأخرى بلالٌ»(١٢).
٦- وفيه قيام عذر من لا يعلم التحريم حتى يعلمه.
٧- وفيه -أيضًا- أنَّ من اجتهد في الحكم فأخطأ فحكمه مردودٌ، وقد بوَّب له البخاري في الاعتصام: «باب إذا اجتهد العامل أو الحاكم فأخطأ خلاف الرسول من غير علمٍ فحكمه مردودٌ»(١٣)، وفي الوكالة: «باب إذا باع الوكيل شيئًا فاسدًا فبيعه مردود»(١٤).
٨- وفي قوله: «بِبَيْعٍ آخَرَ»: يحتمل أن يكون المقصود منه أن يبيعه بيعًا آخَر، بمعنى أن يكون على صفةٍ أخرى وتكون الباء زائدةً، ويحتمل أن يكون المقصود أن يبيعه بمبيعٍ آخَرَ، ويراد به أن يكون الثمن غير التمر.
وهذا الاحتمال الأخير هو المتبادر إلى الذهن لترتيب الشراء عليه في قوله: «ثُمَّ اشْتَرِِهِ»(١٥). ويؤكِّد هذا الاحتمالَ قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «لاَ تَفْعَلْ، بِعِ الجَمْعَ بِالدَّرَاهِمِ، ثُمَّ ابْتَعْ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا»(١٦).
٩- فيه تقبيح المعصية لمن يعلم بذلك مع تعليمها للغير حتى يتجنَّبها.
١٠- استُدلَّ بالحديث على جواز بيع التورُّق(١٧) وبه قال الجمهور، وهو الرواية الأولى عن الإمام أحمد، خلافًا للرواية الأخرى القائلة بأنَّ بيع التورُّق لا يجوز، لأنَّ القصد من هذه المعاملة الدراهم الحالَّة بالدراهم المؤجَّلة، أو أنَّ بيع التورُّق يدخل في باب بيع المضطرِّ فيُكره، وهذا الحكم مرويٌّ عن ابن عبَّاس رضي الله عنه وعمر بن عبد العزيز واختاره ابن تيمية(١٨).
والظاهر أنَّ مذهب الجمهور والرواية الأولى للإمام أحمد أقوى، لأنَّ عموم النصوص تدلُّ على الجواز، وليس داخلاً في مسألة العينة، وليس فيه محذورٌ شرعيٌّ قائمٌ ولا تحيُّلٌ على الربا بوجهٍ من الوجوه، لذلك وجب الرجوع إلى الأصل وهو الحِلُّ والإباحة الذي تقتضيه النصوص العامَّة والاعتبار(١٩).
١١- استُدلَّ بالحديث على أنَّ بيع الربا جائزٌ بأصله من حيث إنه بيعٌ، ممنوعٌ بوصفه من حيث إنه ربًا، فيسقط الربا ويصحُّ البيع، وهو قول أبي حنيفة، وتعقَّبه القرطبي بقوله: «ولو كان على ما ذكر لَما فسخ النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم هذه الصفقة، ولأمره بردِّ الزيادة على الصاع ولصحَّح الصفقة في مقابلة الصاع»(٢٠).
١٢- فيه بيانٌ لبعض جوانب أدب المفتي وأنه إذا سئل عن مسألةٍ محرَّمةٍ منع المستفتيَ عنها ونهاه عن اقترابها، وأرشده إلى الطرق المباحة التي تصرفه عنها(٢١).
١٣- فيه اهتمام الإمام بأمر الدِّين وتعليمه لمن لا يعلمه، والحرص على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإرشاده للتوصُّل إلى المباحات وغيرها(٢٢).
١٤- استُدلَّ بالحديث -أيضًا- على جواز بيع العِينة، وهي المسألة موضوع البحث الفقهي الذي أتناوله في النقطة التالية:
سادسًا: مواقف العلماء من حكم بيع العِينة:
وصورة بيع العِينة أن يبيع رجلٌ سلعةً بثمنٍ (كعشرين دينارًا) إلى أجلٍ معلومٍ (كشهرٍ)، ثمَّ يبيع المشتري السلعة نفسها لبائعها الأوَّل في الحال بأقلَّ من الثمن الذي باعها به (خمسة عشر دينارًا مثلاً)، وفي نهاية الأجل المحدَّد لدفع الثمن في العقد الأوَّل يدفع المشتري كاملَ الثمن فيكون الفرق بين الثمنين لصاحب المتاع الذي باع بيعًا صوريًّا(٢٣).
وللعلماء في تحريم هذه المعاملة وتجويزها قولان، سنذكرهما مع التعرُّض لأدلَّة الفريقين مع المناقشة وبيان سبب الخلاف.
أ- أقوال العلماء:
اختلف العلماء في الحكم على العقد الثاني على قولين:
- ذهب جمهور العلماء: أبو حنيفة ومالكٌ وأحمد وأتباعُهم إلى تحريم بيع العِينة وعدم صحَّة العقد بهذه المعاملة، وهذا القول مرويٌّ عن ابن عبَّاسٍ وعائشة وأنسٍ رضي الله عنهم والحسن وابن سيرين والشعبي والنخعي، وهو مذهب الثوري والأوزاعي(٢٤).
- وذهب الشافعي وداود الظاهري وابن حزمٍ إلى جواز بيع العِينة وصحَّة العقد بهذه المعاملة، وهذا القول مرويٌّ عن ابن عمر رضي الله عنهما(٢٥).
ب- أدلَّة المذهبين السابقين:
نورد أدلَّة الفريقين في هذه المسألة، ثمَّ نعقب ذلك بمناقشة الأدلَّة على وفق ما تقدَّم:
١- أدلَّة الجمهور:
استدلَّ الجمهور على تحريم بيع العِينة بالسنَّة والأثر والمعقول:
أمَّا بالسنَّة:
- فبما رواه أبو داود وغيره من حديث ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعًا: «إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالعِينَةِ وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ البَقَرِ، وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ، وَتَرَكْتُمُ الجِهَادَ، سَلَّطَ اللهُ عَلَيْكُمْ ذُلاًّ لاَ يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ»(٢٦).
وجه دلالة الحديث: أنه يدلُّ على تحريم بيع العينة لكونها أحد الأسباب المفضية إلى الذلِّ المسلَّط على من يبتعد عن دين الله، لذلك حذَّر الشارع منها.
- وبما رواه أبو داود من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: «مَنْ بَاعَ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ فَلَهُ أَوْكَسُهُمَا أَوِ الرِّبَا»(٢٧).
وجه دلالة الحديث: أنَّ بيع العِينة مطابقٌ لبيع صفقتين في صفقةٍ، إذ جمع بين صفقتي النقد والنسيئة في صفقةٍ واحدةٍ وبيعٍ واحدٍ، ويكون مقصوده بيع دراهمَ عاجلةٍ بدراهمَ مؤجَّلةٍ أكثر منها، ولا يستحقُّ في ذلك إلاَّ رأس ماله وهو أوكس الصفقتين، والصفقة الثانية بزيادةٍ على الأولى، وحينئذٍ يكون قد أربى.
- وبما رواه ابن بطَّة عن الأوزاعي عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم أنه قال: «يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَسْتَحِلُّونَ الرِّبَا بِالبَيْعِ»(٢٨).
وجه دلالة الحديث: أنَّ فيه إخبارًا عمَّا تكون عليه الأمَّة من تحليل الربا المحرَّم بالبيع المباح، ومن بين الوسائل المستعملة للوصول إلى هذه الغاية وسيلةُ بيع العِينة، لذلك حُرِّمت سدًّا لذريعة الربا.
- وبما رواه الدارقطني وغيره: أنَّ العالية بنت أيفع قالت: خرجتُ أنا وأمّ مَحَبَّةَ إلى مكَّة، فدخلنا على عائشة فسلَّمنا عليها،... فقالت لها أمُّ مَحَبَّة: يا أمَّ المؤمنين، كانت لي جاريةٌ وإنِّي بِعْتُها من زيد بن أرقم الأنصاري بثمانمائة درهمٍ إلى عطائه، وإنه أراد بيعها فابتعتها منه بستِّمائة درهمٍ نقدًا، فقالت: بئسما شَرَيْتِ وما اشتريتِ، فأبلغي زيدًا أنه أبطل جهاده مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم إلاَّ أن يتوب، فقالت لها: أرأيتِ إن لم آخُذْ منه إلاَّ رأسَ مالي؟ قالت: ﴿فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ﴾ [البقرة: ٢٧٥](٢٩).
ووجهه ظاهرٌ في التحريم، ولم ينكر أحدٌ على عائشة رضي الله عنها والصحابة متوافرون، ولأنَّ التغليظ الشديد لا يصدر منها عن اجتهادٍ، بل بتوقيفٍ من النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، لا سيَّما إن كانت قد قصدت أنَّ العمل يحبط بالردَّة، وأنَّ استحلال الربا كفرٌ، غيرَ أنَّ زيدًا معذورٌ لأنه لم يعلم أنَّ هذا محرَّمٌ، ولهذا قالت: «أبلغيه»(٣٠)، كما أنَّ في قولها: «بئسما شريتِ وما اشتريتِ» دليلاً على بطلان العقدين معًا.
أمَّا بالأثر:
- فبما ثبت عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما: «أنه سئل عن رجلٍ باع من رجلٍ حريرةً بمائةٍ، ثمَّ اشتراها بخمسين ؟ فقال: دراهم بدراهمَ متفاضلةٍ، دخلت بينهما حريرةٌ»(٣١).
- وعنه أنه قال: «اتَّقوا هذه العِينة، لا تبيعوا دراهمَ بدراهمَ بينهما حريرةٌ»(٣٢).
- وعنه قال: «إذا بعتم السَرَقَ(٣٣) -من سَرَقِ الحرير بنسيئةٍ- فلا تشتروه»(٣٤).
- وعن أنسٍ رضي الله عنه أنه سئل عن العِينة فقال: «إنَّ الله لا يُخدع، هذا ممَّا حرَّم اللهُ ورسوله»(٣٥).
وجه دلالة هذه الآثار: أنها تفيد -بوضوحٍ- تحريمَ بيع العِينة، وتعضد الرواياتِ السابقة بانضمامها إليها، وهي في حكم المرفوع لأنَّ قول الصحابيِّ: «حرَّم رسول الله كذا، أو أمر بكذا، أو أوجب كذا، أو قضى بكذا» له هذا الحكم، والرجوع إلى فهم الصحابة في معاني الألفاظ متعيِّنٌ.
أمَّا بالمعقول:
فاستدلُّوا على أنَّ بيع العِينة مبنيٌّ على أصل سدِّ الذرائع، وهو ذريعةٌ إلى الربا، وبه يُتوصَّل إلى إباحة ما حرَّم الله تعالى، والوسيلة إلى الحرام حرامٌ.
٢- أدلَّة الشافعية والظاهرية:
استدلَّ الشافعية والظاهرية على إباحة بيع العِينة بالكتاب والسنَّة والإجماع:
أمَّا بالكتاب:
- فبقوله تعالى: ﴿وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ﴾ [البقرة: ٢٧٥]، والظاهر من العينة أنه بيعٌ عُقد بين المتبايعين، فلا يخرج من عموم الحِلِّ بالآية، ولا يُعدل عن هذا الحكم إلاَّ بوجود قرينةٍ مانعةٍ وصارفةٍ عن هذا المعنى وتفيد غيره، وهو أمرٌ متعذِّرٌ على ما سيأتي.
أمَّا بالسنَّة:
- فبحديث الباب في قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «وَلَكِنْ إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَشْتَرِيَ فَبِعِ التَّمْرَ بِبَيْعٍ آخَرَ، ثُمَّ اشْتَرِهِ».
- وبما أخرجه البخاري ومسلمٌ من حديث أبي سعيدٍ وأبي هريرة رضي الله عنهما أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم استعمل رجلاً على خيبر، فجاءه بتمرٍ جنيبٍ(٣٦)، فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «أَكُلُّ تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَذَا ؟»، قال: لا والله يا رسول الله، إنَّا لنأخذ الصاعَ من هذا بالصاعين والصاعين بالثلاثة، فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «لاَ تَفْعَلْ، بِعِ الجَمْعَ بِالدَّرَاهِمَ ثَمَّ ابْتَعْ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا»(٣٧).
وجه دلالة الحديثين: أنهما يدلاَّن بعمومهما في قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «فَبِعِ التَّمْرَ» و«بِعِ الجَمْعَ» على صحَّة بيع العِينة وجوازها، لأنَّ من اشترى منه التمرَ الرديءَ هو نفس من باع عليه التمر الطيِّب، فرَجَعَتْ دراهمه إليه، ولم يفصِّل في مقام الاحتمال بين أن يبيعه ممَّن باعه أو من غيره، ولم يفصِّل -أيضًا- بين أن يكون القصد التوصُّل إلى شراء الأكثر أو لا، فدلَّ ذلك على صحَّة البيع مطلقًا سواءً من البائع أو من المشتري، لأنَّ «تَرْكَ الاسْتِفْصَالِ فِي مَقَامِ الاحْتِمَالِ يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ العُمُومِ فِي المَقَالِ».
ومن ناحيةٍ أخرى فإنهما يدلاَّن -أيضًا- على جواز الذرائع من أجل ترك التفصيل في البائع والمبتاع والأكثر والأقلِّ(٣٨).
أمَّا الإجماع:
فاستدلُّوا على قيامه بجواز البيع من البائع بعد فترةٍ من غير قصد التوصُّل إلى الرجوع بالزيادة عليه، لأنه لو قال: «أبيعك هذه الدراهم بدراهمَ مثلِها وأمهلك شهرًا» فهو غير جائزٍ، بخلاف ما لو قال: «أسلفني دراهمَ وأَنْظِرْني بها شهرًا» جاز، ولا فرْقَ بين الصورتين إلاَّ اختلاف لفظ البيع وقصده ولفظ القرض وقصده(٣٩).
هذا، وقد اعتذر الشافعية والظاهرية عن الأخذ بأحاديث المانعين بالأعذار التالية:
١- بخصوص حديث ابن عمر رضي الله عنهما: فقد أجابوا عنه من ناحيتين:
الناحية الأولى: من حيث سند الحديث:
يرى هؤلاء أنَّ حديث ابن عمر رضي الله عنهما في التبايع بالعينة ضعيفٌ لا يُحتجُّ به، لأنَّ في إسناده إسحاق بن أُسَيْدٍ أبا عبد الرحمن الخراساني، نزيل مصر، لا يُحتجُّ به، وفيه -أيضًا- عطاءٌ الخراساني وفيه مقالٌ كما جاء في «مختصر السنن» للمنذري(٤٠)، قال الذهبي: «هذا الحديث من مناكيره»(٤١)، وقال الحافظ في «بلوغ المرام»: «وفي إسناده مقالٌ، ولأحمد نحوه من رواية عطاءٍ ورجالُه ثقاتٌ وصحَّحه ابن القطَّان»(٤٢)، ثمَّ قال في «التلخيص»: «وعندي أنَّ إسناد الحديث الذي صحَّحه ابن القطَّان معلولٌ، لأنه لا يلزم من كون رجاله ثقاتٍ أن يكون صحيحًا، لأنَّ الأعمش مدلِّسٌ، ولم يَذكر سماعه من عطاءٍ، وعطاءٌ يحتمل أن يكون هو عطاءً الخراساني فيكون فيه تدليس التسوية بإسقاط نافعٍ بين عطاءٍ وابن عمر»(٤٣).
الناحية الثانية: من حيث متن الحديث:
فإنَّ دلالة الحديث على التحريم من هذه الناحية غير جليَّةٍ من وجهين:
- الأوَّل: اقتران بيع العِينة بأخذ أذناب البقر والاشتغال بالزرع مع أنَّ هذه المذكوراتِ غيرُ محرَّمةٍ فدلَّ ذلك على أنَّ بيع العِينة ليس محرَّمًا.
- الثاني: أنَّ الحديث توعَّد عليه بالذلِّ، وهذا التوعُّد لايقتضي تحريمًا.
٢- بخصوص حديث أبي هريرة رضي الله عنه: فقد تأوَّله الشافعي بتأويلين:
- أحدهما: أن يقول: «بعتك بألفين نسيئةً وبألفٍ نقدًا، فأيَّهما شئت أخذت به»، وهذا بيعٌ فاسدٌ لأنه إبهامٌ وتعليقٌ.
- والثاني: أن يقول بعتُك عبدي على أن تبيعني فرسك(٤٤).
وعلى هذا، فتفسير الشرطين في بيعٍ أو البيعتين في بيعةٍ بأنه بيع العينة غيرُ متعيِّنٍ.
٣- وفيما يتعلَّق بحديث الأوزاعي: فهو حديثٌ مرسلٌ لا تقوم به حجَّةٌ، ولا يقوى على معارضة عموم النصوص القاضية بالجواز.
٤- بخصوص حديث العالية بنت أيفع: يردُّ القائلون بجواز بيع العِينة على حديث العالية من جهتين:
- الجهة الأولى: حالة عدم التسليم بصحَّة الحديث: فقد ضعَّف هؤلاء حديثها سندًا ومتنًا:
- أمَّا من حيث السند، فقد قال ابن حزمٍٍ -رحمه الله-: إنَّ امرأة أبي إسحاق مجهولة الحال، لم يَروِ عنها أحدٌ غيرَ زوجها وولدها يونس، على أنَّ يونس قد ضعَّفه شعبة بأقبح التضعيف، وضعَّفه يحيى القطَّان وأحمد بن حنبلٍ جدًّا(٤٥)، وردَّه الشافعي -رحمه الله- من أجل امرأة أبي إسحاق(٤٦).
- أمَّا من حيث المتن، فإنه يبعد أن تحكم عائشة رضي الله عنها ببطلان جهاد زيد ابن أرقم رضي الله عنه مع النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم في أمرٍ اجتهد فيه واعتقد حِلَّه، قال ابن حزمٍ -رحمه الله- -بعد ذكر منقبة زيدٍ رضي الله عنه-:
«فوالله ما يُبطل هذا كلَّه ذنبٌ من الذنوب غيرَ الردَّة عن الإسلام فقط، وقد أعاذه الله تعالى منها برضاه عنه، وأعاذ أمَّ المؤمنين من أن تقول هذا الباطلَ»(٤٧).
قال الشافعي -رحمه الله-: «وجملة هذا أنَّا لا نُثبت مثلَه على عائشة مع أنَّ زيد بن أرقم لا يبيع إلاَّ ما يراه حلالاً ولا يبتاع مثله، فلو أنَّ رجلاً باع شيئًا أو ابتاعه نراه نحن محرَّمًا وهو يراه حلالاً لم نزعم أنَّ الله يُحبط من عمله شيئًا»(٤٨).
- الجهة الثانية: حالة التسليم بصحَّة الحديث:
وعلى فرض صحَّة الحديث والتسليم بثبوته فليس فيه حجَّةٌ لوجوهٍ:
- يُستبعد أن يكون قول عائشة رضي الله عنها توقيفًا عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لافتقاره إلى دليلٍ، ولا يكفي رفعُه بالرأي، ولأنه لو كان مثلُ هذا خبرًا فلا تكتمه عائشة رضي الله عنها وتخفيه عن الناس(٤٩)، وعلى فرض صحَّته، فغاية ما فيه أنه اجتهادٌ منها، وهو مخالفٌ للنصوص العامَّة القاضية بجوازه.
- أنَّ قول عائشة رضي الله عنها ليس بأَوْلى من قول زيد رضي الله عنه، وهو صحابيٌّ ومعه القياس، وقول الصحابي ليس بحجَّةٍ على صحابيٍّ آخَرَ، قال الشافعي -رحمه الله-: «ولو اختلف بعض أصحاب النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم في شيءٍ، فقال بعضهم فيه شيئًا، وقال بعضهم بخلافه، كان أصلُ ما نذهب إليه أنَّا نأخذ بقول الذي معه القياس، والذي معه القياس زيد بن أرقم»(٥٠)، وقال: «وإذا اختلفوا فمذهبنا القياس وهو مع زيدٍ»(٥١).
- ويحتمل أن تكون عائشة رضي الله عنها عابت البيعَ إلى العطاء لأنه أجلٌ غير معلومٍ يدخله الغرر.
٥- أمَّا الاستدلال بالآثار، فقد تمثَّل اعتذارهم فيها بما يلي:
- أنَّ حديث ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما رأيٌ منه واجتهادٌ، وقد خالفه ابن عمر وزيد بن أرقم رضي الله عنهم، والقياس معهما.
- وأمَّا حديث أنس رضي الله عنه فلعلَّه رواه بالمعنى، فظنَّ ما ليس بأمرٍ ولا تحريمٍ كذلك، والحامل لذلك مخالفة الصحابيِّ له في الفهم، مع أنَّ ابن عمر رضي الله عنهما هو راوي حديث بيع العِينة.
هذا، ولا يخفى أنَّ قيام مثل هذه التضعيفات والاحتمالات في أدلَّة الجمهور على تحريم بيع العِينة لها ما يعكِّرها سندًا ومتنًا، لذلك أخذ أصحاب هذا الرأي بعموم ظواهر النصوص الصحيحة القاضية بالجواز وعدلوا عن غيرها، حملاً لحال الناس على الصلاح.
ج- مناقشة الأدلَّة السابقة:
بعد استعراض ما تقدَّم نتناول مناقشةَ أدلَّة الفريقين على ما يأتي:
- أمَّا حديث ابن عمر رضي الله عنهما فقد رُوي بإسنادين: الإسناد الأوَّل رجاله ثقاتٌ، غيرَ أنَّ الذي يعكِّره احتمال التدليس، أمَّا الإسناد الثاني فيبيِّن أنَّ للحديث أصلاً محفوظًا عن ابن عمر رضي الله عنهما، وله -أيضًا- طريقٌ ثالثٌ رواه السريُّ ابن سهيلٍ(٥٢)، قال ابن كثير -رحمه الله-: ورُوي من وجهٍ ضعيفٍ -أيضًا- عن عبد الله ابن عمرو بن العاص رضي الله عنهما مرفوعًا، ويعضده حديث عائشة رضي الله عنها(٥٣).
والظاهر أنَّ هذه الطرقَ يشدُّ بعضها بعضًا، لا سيَّما الآثار التي وردت عن ابن عبَّاسٍ وأنس بن مالكٍ رضي الله عنهم أنها ممَّا حرَّم الله ورسوله، وكذا حديث عائشة رضي الله عنها، والمرسل منها له ما يوافقه، وهذا ما يقوِّي الحديث ويجعله صالحًا للاحتجاج.
- ومن حيث المتن، فإنَّ دلالة الاقتران عند جمهور الأصوليين ضعيفةٌ، لأنَّ «الاِقْتِرَانَ فِي النَّظْمِ لاَ يَسْتَلْزِمُ الاِقْتِرَانَ فِي الحُكْمِ»(٥٤).
ولو سلَّمْنا بحجِّيَّة دلالة الاقتران فلِمَ لَمْ تَقترن دلالتها بالجهاد المفروض من ناحية أنَّ الترك فعلٌ، وفعل المنهيِّ عنه حرامٌ، وعلى أقلِّ تقديرٍ -في حالة التسليم بحجِّيَّتها- فهي متأرجحةٌ بين حكم الإباحة والمنع، والمنعُ مقدَّمٌ على الإباحة، ولو سلَّمْنا تساوِيَ دليلَيِ الحكمين لتساقطا وبطل طريق الاستدلال بها وآل الأمر إلى طلب الدليل الخارجيِّ، وهو مؤيِّدٌ لتحريم العِينة.
والقول بأنَّ التوعُّد بالذلِّ لا يدلُّ على التحريم فغير مُسلَّمٍ، لأنَّ الواجب على كلِّ مسلمٍ أن يطلب أسباب العزَّة الدينية، وأن يتجنَّب أسباب الذلَّة المنافية للدين، وقد توعَّد في الرواية الأخرى بإنزال البلاء، ولا يترتَّب ذلك إلاَّ على ذنبٍ عظيمٍ وإثمٍ كبيرٍ(٥٥).
- وأمَّا حديث أبي هريرة رضي الله عنه فإنَّ التأويل الأوَّل للشافعيِّ -وإن كان مشتملاً على غررٍ لعدم استقرار الثمن لِما فيه من الإبهام والتعليق- إلاَّ أنه لا يدخل الربا في هذه الصورة(٥٦)، ولا توجد صفقتان في هذا البيع، وإنما هي صفقةٌ واحدةٌ بأحد الثمنين، ولأنَّ الإبهام ينتفي في حالة قبول المشتري إحدى الصورتين، وتأويله الثاني -وإن اشتمل على غررٍ لعدم استقرار العقد بسبب تعليقه بشرطٍ مستقبلٍ يمكن وقوعه وعدم وقوعه- إلاَّ أنه مجزومٌ بشرطٍ واحدٍ لا بشرطين ومجرَّدٌ عن صورة النهي عن بيعتين في بيعةٍ، وعليه فإنَّ أرجح تفسيرٍ لمعنى الحديث الذي لا معنى له غيره هو تفسيره ببيع العِينة، لأنَّ فعله لا يخلو عن أحد الأمرين: إمَّا أن يأخذ الثمن الزائد فيربيَ، أو الثمن الأوَّل وهو أوكسهما، وهذا موافقٌ لحديث: «نَهَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ»(٥٧)، ومطابقٌ «للنهي عن شرطين في بيعٍ»، وأيضًا «عَنْ سَلَفٍ وَبَيْعٍ»(٥٨)، لأنَّ الظاهر منهما أنهما بيعٌ وفي الحقيقة ربًا.
- وأمَّا حديث الأوزاعي -وإن كان من المراسيل- فهو صالحٌ للاعتضاد به بالاتِّفاق، وله من المستندات والشواهد ما يقوِّيه.
- وأمَّا حديث العالية بنت أيفع، فقد قال صاحب «التعليق المغني» فيه ما يلي: «قال في «التنقيح»: إسناده جيِّدٌ، وإن كان الشافعي لا يُثبت مثلَه عن عائشة، وكذلك الدارقطني، قال في العالية: هي مجهولةٌ لا يُحتجُّ بها، فيه نظرٌ، فقد خالفه غيره، ولولا أنَّ عند أمِّ المؤمنين علمًا من رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أنَّ هذا محرَّمٌ لم تستجِزْ أن تقول مثْلَ هذا الكلام بالاجتهاد، قال ابن الجوزي: قالوا: العالية امرأةٌ مجهولةٌ لا يُقبل خبرها، قلنا: بل هي امرأةٌ معروفةٌ جليلة القدر، ذكرها ابن سعدٍ في «الطبقات»(٥٩) فقال: العالية بنت أيفع بن شراحيل امرأة أبي إسحاق السبيعي سمعت من عائشة»(٦٠).
قال ابن التركماني: «العالية معروفةٌ روى عنها زوجها وابنها وهما إمامان، وذكرها ابن حبَّان في الثقات من التابعين، وذهب إلى حديثها هذا الثوري والأوزاعي وأبو حنيفة وأصحابه ومالكٌ وابن حنبلٍ والحسن بن صالحٍ»(٦١).
وفي الحديث قصَّةٌ وسياقٌ يدلُّ على أنه محفوظٌ، وأنَّ العالية لم تختلق هذه القصَّةَ ولم تَضَعْها، كما أنه لا يقال: إنَّ زيدًا خالف عائشةَ رضي الله عنهما وهو من الصحابة، لأنه قام بفعله لا بقوله، وفعلُ المجتهد لا يدلُّ على قوله على الراجح، لاحتمال تأويلٍ أو سهوٍ أو غفلةٍ أو رجوعٍ عن العقد، ولم يُنقل عن زيدٍ رضي الله عنه أنه صرَّح بقوله أنَّ هذا الفعل حلالٌ ولا أنه أصرَّ على ذلك.
- ويحتمل -من جهةٍ أخرى- أنَّ ثمن الجارية قد نقص عن حالة المبيع، فإنَّ نَقْص الثمن لنقص المبيع جائزٌ لانتفاء ذريعة الربا فيه.
- وفيما يتعلَّق بحديث أنسٍ رضي الله عنه فالقول بأنَّ الأمر والنهي يشتبه في صيغته ومعانيه، لذلك يَحتمل اعتقادَ الراوي ما ليس بأمرٍ أمرًا وما ليس بنهيٍ نهيًا لاختلاف الناس في الأمر والنهي، فيكون أنسٌ رضي الله عنه قد رواه بالمعنى فظنَّ ما ليس بتحريمٍ تحريمًا.
فجوابه أنَّ الصحابي أعلم بمعاني النصوص، وأنه لا يمكنه التصريح بنقل الأمر أو التحريم إلاَّ بعد سماع ذلك منه صلَّى الله عليه وسلَّم وجزمه بوجود حقيقة الأمر والنهي أو غيرهما، لأنَّ حقيقة الأمر والنهي مستفادةٌ من اللغة، والصحابة أهل اللغة، ولم يكن في عصرهم خلافٌ في صيغة الأمر والنهي، بل كان معلومًا بالضرورة من لغتهم من غير اشتباهٍ، والخلاف في الصيغة إنما وقع بعد عصر الصحابة بكثيرٍ(٦٢).
قال ابن القيِّم -رحمه الله-: «واحتمال خلاف هذا كاحتمال الغلط والسهو في الرواية بل دونه، فإن رُدَّ قولُه: «أمر» ونحوه بهذا الاحتمال وجب رَدُّ روايته لاحتمال السهو والغلط، وإن قُبلت روايته وجب قبول الآخَر»(٦٣).
لذلك تعيَّن الرجوع إلى الصحابة في فهم معاني الألفاظ والصيغ، سواءً كانت لغويةً أو شرعيةً.
- أمَّا الأخذ بمبدإ سدِّ الذرائع فلا يصحُّ التوسُّع فيه لئلاَّ يفضيَ إلى المنع ممَّا هو حلالٌ من جهةٍ، ويؤدِّي من جهةٍ أخرى إلى حمل حال الناس على التهم.
قال أبو زهرة: «إنَّ الأخذ بالذرائع لا تصحُّ المبالغة فيه، فإنَّ المغرق فيه قد يمتنع عن أمرٍ مباحٍ أو مندوبٍ أو واجبٍ، خشيةَ الوقوع في الظلم»(٦٤).
- أمَّا الاستدلال بآية: ﴿وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ﴾ -إن سُلِّم بعمومها-، فهو مخصوصٌ بحديث بيع العِينة ولأنَّ ظاهره مصروفٌ بقرينة العرف المعهود، ذلك لأنَّ غالب تعاقُد المتبايعين بهذه الصورة هو التذرُّع بها إلى المحرَّم، والشيء المتعارَف عليه يُنزَّل منزلة الشرط المنصوص، وغالبُ الشيء يقوم مقام كلِّه، فكان إبطال بيعهما هو مقتضى الظاهر.
- ومن جهةٍ أخرى فإنَّ الاستدلال بعموم الآية السابقة وحديث الباب وحديث أبي سعيدٍ وأبي هريرة رضي الله عنهما في قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «بِعِ التَّمْرَ» على صحَّة بيع العِينة وجوازها، فهو عمومٌ غير مُسلَّمٍ، ذلك لأنَّ اللفظ غير عامٍّ بل هو لفظٌ مطلقٌ، والأمر المطلق بالبيع إنما يقتضي البيعَ الصحيح، لأنَّ البيع الباطل غيرُ مأذونٍ فيه، ولأنَّ الحقيقة المطلقة مشتركةٌ بين الأفراد، والقدر المشترك ليس هو ممَّا يُميَّز به كلُّ واحدٍ من الأفراد عن الآخَر، ويُكتفى في العمل به بصورةٍ واحدةٍ، وعلى هذا الأساس يكون عامًّا لها على سبيل البدل لا على سبيل الجمع، وهو معنى المطلق، وإرادة القدر المشترك بين أفراد البيع إنما تنصرف إلى البيع المعهود عرفًا وشرعًا(٦٥).
وعلى فرض التسليم بأنَّ لفظ الحديث عامٌّ فإنه يُخصَّص منه الصورة السابقة بالنصوص المتقدِّمة، وإن اعتُرض بسبب ضعفها، فإنَّ اللفظ يُخصَّص بالأدلَّة الصحيحة الواردة في بطلان الحيل وإضعافها(٦٦).
د- سبب اختلاف العلماء:
يرجع سبب اختلاف العلماء في هذه المسألة إلى المواضيع الأصولية التالية:
- هل يصحُّ الأخذ بمبدإ الذرائع ؟
- هل قول الصحابي حجَّةٌ على انفراده ؟
- هل لفظ الحديث في قوله: «بِعِ التَّمْرَ» عامٌّ أو مطلقٌ ؟
- هل كلُّ مجتهدٍ مصيبٌ ؟
- فمن خالف مبدأَ الذرائع ولم يعتدَّ به كأصلٍ من أصول الفقه(٦٧)، ورأى أنه لا حجَّةَ في قول الصحابيِّ على انفراده في الاجتهاد المحض، ولا يجب على من بعده تقليدُه(٦٨)، ورأى -أيضًا- أنَّ لفظ الحديث عامٌّ لعدم التفصيل بين أن يبيعه ممَّن باعه أو من غيره، ولا بين أن يقصد التوصُّل إلى شراء الأكثر أو لا، أخذًا بقاعدة: «تَرْكُ الاِسْتِفْصَالِ فِي مَقَامِ الاِحْتِمَالِ يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ العُمُومِ فِي المَقَالِ»، الأمر الذي لا تقوى النصوص الأخرى على معارضته، كما رأى تصويبَ كلٍّ من عائشة وزيدٍ رضي الله عنهما بناءً على أنَّ كلَّ مجتهدٍ في فروع الشريعة مصيبٌ، عمل بمقتضى هذا العموم، وقال: يجوز بيع العِينة ويصحُّ العقد بها.
- ومن اعتبر مبدأ الذرائع كأصلٍ من أصول الفقه(٦٩)، ورأى أنَّ قول الصحابي بالاجتهاد المحض حجَّةٌ شرعيةٌ مقدَّمةٌ على القياس(٧٠)، ورأى أنَّ لفظ حديث الباب مطلقٌ لا عامٌّ(٧١)، وأنَّ النصوص المعارضة مُعضِّدةٌ، كما رأى أنه ليس كلُّ مجتهدٍ مصيبًا، لأنَّ الحقَّ واحدٌ غيرُ متعدِّدٍ، قال: بيوعُ العِينة محرَّمةٌ ويبطل العقد بها.
ﻫ- الترجيح:
والمتأمِّل في نظرة الفقهاء إلى هذه المسألة يدرك أنَّ الاتِّجاه الأوَّل -المتمثِّل في مذهب الجمهور- نَظَر إلى الأفعال والأحكام من حيث الغاية والمآل والمقصد نظرةً مجرَّدةً، خلافًا للاتِّجاه الثاني -المتمثِّل في مذهب الشافعية والظاهرية- الذي نظر إلى الأحكام الظاهرة والأفعال عند حدوثها من غير الْتفاتٍ إلى غاياتها ومراميها ومآلاتها، دفعًا للتهم وحملاً لحال الناس على الصلاح، واعتدادًا بالألفاظ في العقود دون النيَّات والقصود(٧٢).
هذا، وفي تقديري أنَّ الاتِّجاه الأوَّل أقوى دليلاً وأصحُّ نظرًا، لقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى»(٧٣)، فإنَّ وجهه ظاهرٌ في أنَّ العمل لا يقع إلاَّ بالنيَّة، وليس للعامل من فعله إلاَّ ما نواه، لأنَّ الأمور بمقاصدها، ولأنَّ حديث ابن عمر رضي الله عنهما له طريقان يشدُّ أحدها الآخَرَ يجعله صالحًا للاحتجاج، ولأنَّ الاختلاف في حجِّيَّة قول الصحابي إنما هو فيما إذا كانت فتواه في الاجتهاد المحض، أمَّا إذا كانت من قبيل الخبر التوقيفي فلا خلافَ بين الأئمَّة في الأخذ بقوله، وحديث العالية منه، لجزم عائشة رضي الله عنها بهذا الدليل على أنه لا يجوز فيه الاجتهاد، ويقوِّي التوقيفَ حديثَا ابن عمر وأنسٍ وغيرهما رضي الله عنهم، ولأنَّ حديث ابن عمر رضي الله عنهما رافعٌ للبراءة الأصلية وناقلٌ عنها، بخلاف حديث أبي سعيدٍ رضي الله عنه فهو مؤكِّدٌ ومبقٍ لها، والدليل الرافع مقدَّمٌ على المبقي، لأنَّ الأوَّل فائدته التأسيس، والثاني فائدته التأكيد، و«التَّأْسِيسُ أَوْلَى مِنَ التَّأْكِيدِ»، وعليه يتعيَّن الحكم الشرعي بالنصوص السابقة المعتضدة.
تنبيه:
وتجدر الإشارة أخيرًا إلى أنَّ هذه المعاملة تجوز في حالة بيع السلعة بثمن المثل أو أكثر، كما يجوز شراؤها بأيِّ ثمنٍ شاء في حالة نقصان المبيع، قال ابن قدامة -رحمه الله-: «…فأمَّا بيعها بمثل الثمن أو أكثر فيجوز لأنه لا يكون ذريعةً، وهذا إذا كانت السلعة لم تنقص عن حالة المبيع، فإن نقصت… جاز له شراؤها بما شاء، لأنَّ نقْصَ الثمن لنقص المبيع لا للتوصُّل إلى الربا، وإن نقص سعرُها أو زاد لذلك أو لمعنًى حدث فيها لم يجُزْ بيعُها بأقلَّ من ثمنها كما لو كانت بحالها» بتصرُّف(٧٤).
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا.
(١) أخرجه البخاري في «الوكالة» (٢٣١٢)، ومسلم في «المساقاة» (١٥٩٤).
(٢) «الباعث الحثيث اختصار علوم الحديث لابن كثير» (١٨٧).
(٣) انظر ترجمته في: «الإصابة» لابن حجر (٢/ ٣٢)، «الاستيعاب» لابن عبد البرِّ (٢/ ٤٤)، «أسد الغابة» لابن الأثير (٢/ ٢٨٩)، «الرياض المستطابة» للعامري (١٠٠-١٠١)، ومؤلَّفنا: «الإعلام بمنثور تراجم المشاهير والأعلام» (٨٠).
(٤) «مختار الصحاح» (٥٠)، «المعجم الوسيط» (١/ ٥٢).
(٥) «لسان العرب» (١/ ٢٠٤).
(٦) المرجع السابق (٢/ ٤٩٣).
(٧) المرجع السابق (١/ ١٣٦)، «جامع الأصول» لابن الأثير (١/ ٥٤٩)، «النهاية» لابن الأثير (١/ ٨٢).
(٨) انظر: «تفسير القرطبي» (٣/ ٣٥٢).
(٩) انظر: «شرح عمدة الأحكام» (٣/ ١٨٦).
(١٠) انظر: «فتح الباري» لابن حجر (٤/ ٤٩١).
(١١) أخرجه مسلم في «المساقاة» (١٥٩٤).
(١٢) «فتح الباري» لابن حجر (٤/ ٤٩٠).
(١٣) «صحيح البخاري» (٤/ ٣١٧).
(١٤) «صحيح البخاري» (٤/ ٤٩٠).
(١٥) انظر: «شرح عمدة الأحكام» (٣/ ١٨٦).
(١٦) أخرجه البخاري في «البيوع» (٢٢٠١)، ومسلم في «المساقاة» (١٥٩٣)، عن أبي سعيد الخدري وعن أبي هريرة رضي الله عنهما.
(١٧) صورة مسألة التورُّق هي: أن يشتريَ سلعةً بثمن مؤجَّلٍ ثم يبيعها على غير من اشتراها منه بثمنٍ حالٍّ أقلَّ منه لغير قصد الانتفاع بها، وإنما ليبيعها المشتري فينتفع بالثمن الحالِّ ويرتفق به.
(١٨) انظر: «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (٢٩/ ٤٤٢-٤٤٦)، «الاختيارات الفقهية» للبعلي (١٢٩).
(١٩) غير أنَّ الجمهور احتاطوا للجواز باشتراط أن تكون السلعة عند الدائن وقت العقد، وأن يقبضها المدين قبضًا تامًّا، وأن يبيعها على غير من اشتراها منه بدون سابق تواطؤٍ بينهما.
(٢٠) «تفسير القرطبي» (٣/ ٣٥٨)، قلت: لعلَّ النهي عند أبي حنيفة لا يقتضي فساد المنهي عنه، لأنه لم يَرِدْ في الحديث بطلان العقد، ولعلَّه حمل قولَه صلَّى الله عليه وسلَّم: «بِبَيْعٍ آخَرَ» على أنَّ الباء زائدة، ويكون معناه: أن يبيعه بيعًا على صفةٍ أخرى.
(٢١) انظر: «تيسير العلاَّم» (٢/ ٨٩).
(٢٢) انظر: «فتح الباري» لابن حجر (٤/ ٤٩١).
(٢٣) والغرض من هذه المعاملة كلِّها هو التحايل على القرض بالربا عن طريق البيع والشراء.
(٢٤) انظر: «بداية المجتهد» لابن رشد (٢/ ١٤٢)، «القوانين الفقهية» لابن جُزَيٍّ (٢٥٠-٢٥١)، «المغني» لابن قدامة (٤/ ١٩٣)، «نيل الأوطار» للشوكاني (٦/ ٣٦٣).
(٢٥) انظر: «الأمَّ» للشافعي (٣/ ٣٨-٤٠)، «المحلَّى» لابن حزم (٩/ ٤٧)، وقد روي عن ابن عمر خلاف ذلك، [انظر: «الموطَّأ» (٢/ ١٥٦)].
(٢٦) أخرجه أبو داود في «البيوع» (٣٤٦٢)، والبيهقي في «السنن الكبرى» (٥/ ٣١٦).
(٢٧) أخرجه أبو داود في «البيوع» (٣٤٦١).
(٢٨) «تهذيب السنن» (٩/ ٣٤٥).
(٢٩) أخرجه الدارقطني في «سننه» (٣٢٠٢)، وأخرجه عبد الرزَّاق في «المصنَّف» (٨/ ١٨٤) رقم (١٤٨١٢).
(٣٠) انظر: «المغني» لابن قدامة (٤/ ١٩٤)، «جامع الأصول» لابن الأثير (١/ ٥٧٢).
(٣١) انظر: «حاشية ابن القيِّم» مع «عون المعبود» (٩/ ٢٤١).
(٣٢) المرجع والصفحة نفسهما.
(٣٣) السَّرَق: قطعة من جيِّد الحرير، [انظر: «النهاية» لابن الأثير (٢/ ٣٦٢)].
(٣٤) أخرجه عبد الرزَّاق في «المصنَّف» (٨/ ١٨٧) رقم: (١٤٨٢٣).
(٣٥) «تهذيب السنن» (٩/ ٣٣٨)، وروي مثله عن ابن عبَّاسٍ كما في المرجع السابق.
(٣٦) نوعٌ من جيِّد التمر، [انظر: «القاموس المحيط» للفيروز آبادي (٨٩)].
(٣٧) أخرجه البخاري في «البيوع» (٢٢٠١)، ومسلم في «المساقاة» (١٥٩٣).
(٣٨) انظر: «سبل السلام» للصنعاني (٣/ ٣٨)، «شرح العمدة» (٣/ ١٨٦).
(٣٩) انظر: «بداية المجتهد» لابن رشد (٢/ ١٤١).
(٤٠) «نيل الأوطار» للشوكاني (٦/ ٣٦٢).
(٤١) «الميزان» للذهبي (٤/ ٥٤٧).
(٤٢) «بلوغ المرام» بشرح «سبل السلام» (٣/ ٤١).
(٤٣) «التلخيص الحبير» لابن حجر (٣/ ١٩).
(٤٤) «سبل السلام» للصنعاني (٣/ ١٦).
(٤٥) «المحلَّى» لابن حزم (٩/ ٤٩).
(٤٦) «الأمُّ» للشافعي (٣/ ٣٨).
(٤٧) «المحلَّى» لابن حزم (٩/ ٤٩).
(٤٨) «الأمُّ» للشافعي (٣/ ٣٨).
(٤٩) المرجع السابق الجزء نفسه (٥٠-٥١).
(٥٠) المرجع السابق الجزء نفسه (٧٨).
(٥١) «مختصر المزني» (٨٥).
(٥٢) «تهذيب السنن» لابن القيِّم (٩/ ٣٤٢).
(٥٣) «نيل الأوطار» للشوكاني (٦/ ٣٦٣).
(٥٤) ودلالة الاقتران -عند التحقيق- على مراتبَ متفاوتةٍ قوَّةً وضعفًا، فإن جَمَع بين المقترنَيْن لفظٌ اشتركا في إطلاقه وافترقا في تفصيله ظهرت -عندئذٍ- قوَّتها، أمَّا إذا تعدَّدت الجمل واستقلَّ كلُّ واحدٍ منها في الحكم والسبب والغاية ظهر ضعفها، كما هو الشأن في حديث ابن عمر، ذلك لأنَّ العطف يفيد الاشتراكَ في المعنى إذا كان عطف مفردٍ على مفردٍ، أمَّا إذا عُطفت جملةٌ على جملةٍ فلا اشتراك في المعنى، نحو: أكرم زيدًا وامنع عمرًا.
راجع: «المسوَّدة» لآل تيمية (١٤٠، ١٤١)، «بدائع الفوائد» لابن القيِّم (٤/ ١٨٣)، «إرشاد الفحول» للشوكاني (٢٤٨)، «التمهيد في تخريج الأصول على الفروع» للإسنوي (٢٧٣)، «أضواء البيان» للشنقيطي (٢/ ٢٥٦).
(٥٥) «نيل الأوطار» (٦/ ٨٦٤).
(٥٦) تنتفي صورة الربا إذا ما قال في أوَّل الأمر: أبيعك نسيئةً بكذا فقط، وكان أكثر من سعر يومه، مع أنَّ المتمسِّكين بظاهر التفسير يمنعون هذه الصورة.
(٥٧) أخرجه أبو داود في «البيوع» (٣٤٦١)، والترمذي في «البيوع» (١٢٣١)، والنسائي في «البيوع» (٤٦٣٢)، وأحمد (٩٥٣٤).
(٥٨) أخرجه أحمد في «المسند» (٦٦٧١)، وأبو داود في «البيوع» (٣٥٠٤)، والترمذي في «البيوع» (١٢٣٤)، والنسائي في «البيوع» (٤٦١١).
(٥٩) «الطبقات الكبرى» لابن سعد (٨/ ٣٥٧).
(٦٠) «التعليق المغني على سنن الدارقطني» لمحمَّد شمس الحقِّ (٣/ ٥٢)، «نصب الراية» للزيلعي (٤/ ١٦).
(٦١) «الجوهر النقي» لابن التركماني (٥/ ٣٣٠).
(٦٢) «المستصفى» للغزَّالي (١/ ١٣٠)، «روضة الناظر» لابن قدامة (١/ ٢٣٩-٢٤٠)، «إرشاد الفحول» للشوكاني (٦٠).
(٦٣) «تهذيب السنن» (٩/ ٣٣٨-٣٣٩).
(٦٤) «أصول الفقه» (٢٧٥).
(٦٥) «إعلام الموقِّعين» لابن القيِّم (٣/ ٢٢٣-٢٢٦).
(٦٦) المرجع السابق نفسه.
(٦٧) انظر: «الإحكام» لابن حزم (٦/ ٩٨٨-٩٩١)، «إرشاد الفحول» للشوكاني (٢٤٦).
(٦٨) انظر: «روضة الناظر» لابن قدامة (١/ ٤٠٣)، «الرسالة» للشافعي (٥٩٦)، «تخريج الفروع على الأصول» (١٧٩).
(٦٩) انظر: «إرشاد الفحول» للشوكاني (٢٤٦)، «الوسيط في أصول الفقه» للزحيلي (٤٣٨).
(٧٠) انظر: «روضة الناظر» لابن قدامة (١/ ٤٠)، «الوسيط» (٤٠٠-٤٠٨).
(٧١) انظر: «إعلام الموقِّعين» نفس الجزء والصفحة.
(٧٢) انظر تفصيل ابن القيِّم لمبدإ الباعث والقصد في العقود في: «إعلام الموقِّعين» لابن القيِّم (٣/ ٩٥).
(٧٣) أخرجه البخاري في «باب بدء الوحي» (١)، ومسلم في «الإمارة» (١٩٠٧)، من حديث عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه.
(٧٤) «المغني» لابن قدامة (٤/ ١٩٤)، «الكافي» (٢/ ٢٦).
أوَّلاً: نصُّ الحديث:
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِي رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: جَاءَ بِلاَلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَمْرٍ بَرْنِيٍّ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مِنْ أَيْنَ هَذَا ؟»، قَالَ بِلاَلٌ: كَانَ عِنْدَنَا تَمْرٌ رَدِيءٌ، فَبِعْتُ مِنْهُ صَاعَيْنِ بِصَاعٍ لِنُطْعِمَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ ذَلِكَ: «أَوَّهْ أَوَّهْ، عَيْنُ الرِّبَا، عَيْنُ الرِّبَا، لاَ تَفْعَلْ، وَلَكِنْ إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَشْتَرِيَ فَبِعِ التَّمْرَ بَبَيْعٍ آخَرَ، ثُمَّ اشْتَرِهِ»(١)، متَّفقٌ عليه.
ثانيًا: ترجمة راوي الحديث(١):
هو سعد بن مالك بن سنانٍ الأنصاري الخزرجي، أبو سعيدٍ الخدري، وهو مشهورٌ بكنيته، استُصغِر بأُحُدٍ، واستُشهد أبوه بها، وأوَّل مشاهده الخندق، وغزا مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم اثنتي عشرة (١٢) غزوةً.
وكان رضي الله عنه من أفاضل الصحابة، حفظ عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم سننًا كثيرةً، وله في كتب الحديث ألفٌ ومائةٌ وسبعون (١١٧٠) حديثًا(٢).
وكان من نجباء الأنصار وعلمائهم، وقد روى له جماعةٌ من الصحابة وجماعةٌ من التابعين، وتُوفِّي أبو سعيدٍ يوم الجمعة سنة أربعٍ وسبعين (٧٤) ودُفن بالبقيع(٣).
ثالثًا: غريب الحديث:
- «برني»: ضربٌ جيِّدٌ من التمر، مدوَّرٌ وأحمر مُشْرَبٌ بصفرةٍ(٤).
قال أبو حنيفة: أَصله فَارِسِيٌّ، قال: إنما هو بارِنيّ، فَالْبَارُ الحَمْلُ، ونِيّ تعظيمٌ وَمُبالغةٌ(٥)، وهذا النوع الجيِّد من التمر لا يزال معروفًا في المدينة النبوية.
- «الصاع»: مكيالٌ لأهل المدينة يأخذ أربعة أمدادٍ، يُذكَّر ويُؤنَّث(٦).
- «أوَّه»: كلمةٌ تقال عند الشكاية والتوجُّع، إلاَّ أنها ساكنة الواو، وربَّما قلبوا الواو ألفًا، فقالوا: آه من كذا، وربَّما شدَّدوا الواو وكسروها وسكَّنوا الهاء، فقالوا: أَوِّه من كذا، وربَّما حذفوا الهاء مع التشديد فقالوا: «أوَّ» من غير مدٍّ، وبعضهم يقول: آوَّه بالمدِّ والتشديد وفتح الواو وسكون الهاء لتطويل الصوت بالشكاية، فلهذه الكلمة -إذن- اللغاتُ الفصيحة المتقدِّمة(٧).
- «عين الربا»: حقيقة الربا المحرَّم.
رابعًا: المعنى الإجمالي للحديث:
يبيِّن الشارع الحكيم الطرق المباحة التي تُغني عن الوسائل المحرَّمة التي قد يفعلها مَن يجهل الحكم فيها، كما حدث لبلالٍ الذي أحبَّ أن يُطعم النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم من تمرٍ جيِّدٍ، فسأله النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم عن الكيفية والوسيلة التي استعان بها للحصول على هذه الجودة، فأخبره بلالٌ عن الصفقة التي أجراها والمتمثِّلة في بيع عوضين من جنسٍ واحدٍ مع التفاضل، فتوجَّع النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم عند ذلك مستعظِمًا المعصية الناجمة من هذه المعاملة الربوية، ونهاه أن يعود لمثل ذلك، ثمَّ أرشده إلى الأخذ بوسيلةٍ جائزةٍ تُغنيه عن المحرَّمة، وهي أنه إذا أراد بيع رديءٍ بجيِّدٍ، فعليه أن يبيع الرديء بالدراهم ثمَّ يشتريَ بالدراهم تمرًا جيِّدًا.
خامسًا: الفوائد والأحكام المستنبطة من الحديث:
تظهر الفوائد والأحكام فيما يلي:
١- الحديث يقضي بتحريم ربا الفضل وأنَّ بيع التمر بالتمر لا يجوز إلاَّ مثلاً بمثلٍ، بمعنى أنه يُمنع فيه التفاضل، وهو قول جماهير العلماء، واختلفوا في بيع التمرة الواحدة بالتمرتين، فمنعه مالكٌ والشافعيُّ وأحمد، خلافًا لمن احتجَّ بأنَّ مستهلك التمرة أو التمرتين لا تجب عليه القيمة، ولأنه غير مَكيلٍ ولا موزونٍ فجاز فيه التفاضل.
والصحيح ما عليه الجمهور، لأنَّ ما جرى الربا فيه بالتفاضل في كثيره دخل قليله في ذلك قياسًا ونظرًا(٨).
٢- فيه دليلٌ على أنَّ التفاضل في الصفات لا اعتبار له في تجويز الزيادة(٩).
٣- فيه سؤال المتبوع تابعَه عن مصدر تصرُّفه وأفعاله(١٠).
٤- فيه جواز الرفق بالنفس وترك الحمل عليها لاختيار أكل الطيِّب على الرديء ترفيهًا في المأكل والمشرب، بشرط أن لا يصل حدَّ الإسراف والتبذير المنهيِّ عنه، قال تعالى: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ. قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ [الأعراف: ٣١-٣٢].
٥- الحديث لم يذكر فسخ العقد وردَّ المبيع، وسكوت الرواة عن ذلك لا يدلُّ على عدم الوقوع، فقد يكون ذهولاً أو اكتفاءً بأنَّ ذلك معلومٌ، ومع ذلك فقد ورد الفسخ في بعض الطرق من حديث أبي نضرة عن أبي سعيدٍ رضي الله عنه نحو هذه القصَّة وفيه: «هَذَا الرِّبَا فَرُدُّوهُ ثُمَّ بِيعُوا تَمْرَنَا وَاشْتَرُوا لَنَا مِنْ هَذَا»(١١)، قال ابن عبد البرِّ -رحمه الله-: «إنَّ القصَّة وقعت مرَّتين: مرَّةً لم يقع فيه الأمر بالردِّ، وكان ذلك قبل العلم بتحريم الربا، ومرَّةً وقع فيها الأمر بالردِّ، وذلك بعد تحريم الربا والعلم به، ويدلُّ على التعدُّد أنَّ الذي تولَّى ذلك في إحدى القصَّتين سواد بن غزية عامل خيبر وفي الأخرى بلالٌ»(١٢).
٦- وفيه قيام عذر من لا يعلم التحريم حتى يعلمه.
٧- وفيه -أيضًا- أنَّ من اجتهد في الحكم فأخطأ فحكمه مردودٌ، وقد بوَّب له البخاري في الاعتصام: «باب إذا اجتهد العامل أو الحاكم فأخطأ خلاف الرسول من غير علمٍ فحكمه مردودٌ»(١٣)، وفي الوكالة: «باب إذا باع الوكيل شيئًا فاسدًا فبيعه مردود»(١٤).
٨- وفي قوله: «بِبَيْعٍ آخَرَ»: يحتمل أن يكون المقصود منه أن يبيعه بيعًا آخَر، بمعنى أن يكون على صفةٍ أخرى وتكون الباء زائدةً، ويحتمل أن يكون المقصود أن يبيعه بمبيعٍ آخَرَ، ويراد به أن يكون الثمن غير التمر.
وهذا الاحتمال الأخير هو المتبادر إلى الذهن لترتيب الشراء عليه في قوله: «ثُمَّ اشْتَرِِهِ»(١٥). ويؤكِّد هذا الاحتمالَ قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «لاَ تَفْعَلْ، بِعِ الجَمْعَ بِالدَّرَاهِمِ، ثُمَّ ابْتَعْ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا»(١٦).
٩- فيه تقبيح المعصية لمن يعلم بذلك مع تعليمها للغير حتى يتجنَّبها.
١٠- استُدلَّ بالحديث على جواز بيع التورُّق(١٧) وبه قال الجمهور، وهو الرواية الأولى عن الإمام أحمد، خلافًا للرواية الأخرى القائلة بأنَّ بيع التورُّق لا يجوز، لأنَّ القصد من هذه المعاملة الدراهم الحالَّة بالدراهم المؤجَّلة، أو أنَّ بيع التورُّق يدخل في باب بيع المضطرِّ فيُكره، وهذا الحكم مرويٌّ عن ابن عبَّاس رضي الله عنه وعمر بن عبد العزيز واختاره ابن تيمية(١٨).
والظاهر أنَّ مذهب الجمهور والرواية الأولى للإمام أحمد أقوى، لأنَّ عموم النصوص تدلُّ على الجواز، وليس داخلاً في مسألة العينة، وليس فيه محذورٌ شرعيٌّ قائمٌ ولا تحيُّلٌ على الربا بوجهٍ من الوجوه، لذلك وجب الرجوع إلى الأصل وهو الحِلُّ والإباحة الذي تقتضيه النصوص العامَّة والاعتبار(١٩).
١١- استُدلَّ بالحديث على أنَّ بيع الربا جائزٌ بأصله من حيث إنه بيعٌ، ممنوعٌ بوصفه من حيث إنه ربًا، فيسقط الربا ويصحُّ البيع، وهو قول أبي حنيفة، وتعقَّبه القرطبي بقوله: «ولو كان على ما ذكر لَما فسخ النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم هذه الصفقة، ولأمره بردِّ الزيادة على الصاع ولصحَّح الصفقة في مقابلة الصاع»(٢٠).
١٢- فيه بيانٌ لبعض جوانب أدب المفتي وأنه إذا سئل عن مسألةٍ محرَّمةٍ منع المستفتيَ عنها ونهاه عن اقترابها، وأرشده إلى الطرق المباحة التي تصرفه عنها(٢١).
١٣- فيه اهتمام الإمام بأمر الدِّين وتعليمه لمن لا يعلمه، والحرص على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإرشاده للتوصُّل إلى المباحات وغيرها(٢٢).
١٤- استُدلَّ بالحديث -أيضًا- على جواز بيع العِينة، وهي المسألة موضوع البحث الفقهي الذي أتناوله في النقطة التالية:
سادسًا: مواقف العلماء من حكم بيع العِينة:
وصورة بيع العِينة أن يبيع رجلٌ سلعةً بثمنٍ (كعشرين دينارًا) إلى أجلٍ معلومٍ (كشهرٍ)، ثمَّ يبيع المشتري السلعة نفسها لبائعها الأوَّل في الحال بأقلَّ من الثمن الذي باعها به (خمسة عشر دينارًا مثلاً)، وفي نهاية الأجل المحدَّد لدفع الثمن في العقد الأوَّل يدفع المشتري كاملَ الثمن فيكون الفرق بين الثمنين لصاحب المتاع الذي باع بيعًا صوريًّا(٢٣).
وللعلماء في تحريم هذه المعاملة وتجويزها قولان، سنذكرهما مع التعرُّض لأدلَّة الفريقين مع المناقشة وبيان سبب الخلاف.
أ- أقوال العلماء:
اختلف العلماء في الحكم على العقد الثاني على قولين:
- ذهب جمهور العلماء: أبو حنيفة ومالكٌ وأحمد وأتباعُهم إلى تحريم بيع العِينة وعدم صحَّة العقد بهذه المعاملة، وهذا القول مرويٌّ عن ابن عبَّاسٍ وعائشة وأنسٍ رضي الله عنهم والحسن وابن سيرين والشعبي والنخعي، وهو مذهب الثوري والأوزاعي(٢٤).
- وذهب الشافعي وداود الظاهري وابن حزمٍ إلى جواز بيع العِينة وصحَّة العقد بهذه المعاملة، وهذا القول مرويٌّ عن ابن عمر رضي الله عنهما(٢٥).
ب- أدلَّة المذهبين السابقين:
نورد أدلَّة الفريقين في هذه المسألة، ثمَّ نعقب ذلك بمناقشة الأدلَّة على وفق ما تقدَّم:
١- أدلَّة الجمهور:
استدلَّ الجمهور على تحريم بيع العِينة بالسنَّة والأثر والمعقول:
أمَّا بالسنَّة:
- فبما رواه أبو داود وغيره من حديث ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعًا: «إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالعِينَةِ وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ البَقَرِ، وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ، وَتَرَكْتُمُ الجِهَادَ، سَلَّطَ اللهُ عَلَيْكُمْ ذُلاًّ لاَ يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ»(٢٦).
وجه دلالة الحديث: أنه يدلُّ على تحريم بيع العينة لكونها أحد الأسباب المفضية إلى الذلِّ المسلَّط على من يبتعد عن دين الله، لذلك حذَّر الشارع منها.
- وبما رواه أبو داود من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: «مَنْ بَاعَ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ فَلَهُ أَوْكَسُهُمَا أَوِ الرِّبَا»(٢٧).
وجه دلالة الحديث: أنَّ بيع العِينة مطابقٌ لبيع صفقتين في صفقةٍ، إذ جمع بين صفقتي النقد والنسيئة في صفقةٍ واحدةٍ وبيعٍ واحدٍ، ويكون مقصوده بيع دراهمَ عاجلةٍ بدراهمَ مؤجَّلةٍ أكثر منها، ولا يستحقُّ في ذلك إلاَّ رأس ماله وهو أوكس الصفقتين، والصفقة الثانية بزيادةٍ على الأولى، وحينئذٍ يكون قد أربى.
- وبما رواه ابن بطَّة عن الأوزاعي عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم أنه قال: «يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَسْتَحِلُّونَ الرِّبَا بِالبَيْعِ»(٢٨).
وجه دلالة الحديث: أنَّ فيه إخبارًا عمَّا تكون عليه الأمَّة من تحليل الربا المحرَّم بالبيع المباح، ومن بين الوسائل المستعملة للوصول إلى هذه الغاية وسيلةُ بيع العِينة، لذلك حُرِّمت سدًّا لذريعة الربا.
- وبما رواه الدارقطني وغيره: أنَّ العالية بنت أيفع قالت: خرجتُ أنا وأمّ مَحَبَّةَ إلى مكَّة، فدخلنا على عائشة فسلَّمنا عليها،... فقالت لها أمُّ مَحَبَّة: يا أمَّ المؤمنين، كانت لي جاريةٌ وإنِّي بِعْتُها من زيد بن أرقم الأنصاري بثمانمائة درهمٍ إلى عطائه، وإنه أراد بيعها فابتعتها منه بستِّمائة درهمٍ نقدًا، فقالت: بئسما شَرَيْتِ وما اشتريتِ، فأبلغي زيدًا أنه أبطل جهاده مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم إلاَّ أن يتوب، فقالت لها: أرأيتِ إن لم آخُذْ منه إلاَّ رأسَ مالي؟ قالت: ﴿فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ﴾ [البقرة: ٢٧٥](٢٩).
ووجهه ظاهرٌ في التحريم، ولم ينكر أحدٌ على عائشة رضي الله عنها والصحابة متوافرون، ولأنَّ التغليظ الشديد لا يصدر منها عن اجتهادٍ، بل بتوقيفٍ من النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، لا سيَّما إن كانت قد قصدت أنَّ العمل يحبط بالردَّة، وأنَّ استحلال الربا كفرٌ، غيرَ أنَّ زيدًا معذورٌ لأنه لم يعلم أنَّ هذا محرَّمٌ، ولهذا قالت: «أبلغيه»(٣٠)، كما أنَّ في قولها: «بئسما شريتِ وما اشتريتِ» دليلاً على بطلان العقدين معًا.
أمَّا بالأثر:
- فبما ثبت عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما: «أنه سئل عن رجلٍ باع من رجلٍ حريرةً بمائةٍ، ثمَّ اشتراها بخمسين ؟ فقال: دراهم بدراهمَ متفاضلةٍ، دخلت بينهما حريرةٌ»(٣١).
- وعنه أنه قال: «اتَّقوا هذه العِينة، لا تبيعوا دراهمَ بدراهمَ بينهما حريرةٌ»(٣٢).
- وعنه قال: «إذا بعتم السَرَقَ(٣٣) -من سَرَقِ الحرير بنسيئةٍ- فلا تشتروه»(٣٤).
- وعن أنسٍ رضي الله عنه أنه سئل عن العِينة فقال: «إنَّ الله لا يُخدع، هذا ممَّا حرَّم اللهُ ورسوله»(٣٥).
وجه دلالة هذه الآثار: أنها تفيد -بوضوحٍ- تحريمَ بيع العِينة، وتعضد الرواياتِ السابقة بانضمامها إليها، وهي في حكم المرفوع لأنَّ قول الصحابيِّ: «حرَّم رسول الله كذا، أو أمر بكذا، أو أوجب كذا، أو قضى بكذا» له هذا الحكم، والرجوع إلى فهم الصحابة في معاني الألفاظ متعيِّنٌ.
أمَّا بالمعقول:
فاستدلُّوا على أنَّ بيع العِينة مبنيٌّ على أصل سدِّ الذرائع، وهو ذريعةٌ إلى الربا، وبه يُتوصَّل إلى إباحة ما حرَّم الله تعالى، والوسيلة إلى الحرام حرامٌ.
٢- أدلَّة الشافعية والظاهرية:
استدلَّ الشافعية والظاهرية على إباحة بيع العِينة بالكتاب والسنَّة والإجماع:
أمَّا بالكتاب:
- فبقوله تعالى: ﴿وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ﴾ [البقرة: ٢٧٥]، والظاهر من العينة أنه بيعٌ عُقد بين المتبايعين، فلا يخرج من عموم الحِلِّ بالآية، ولا يُعدل عن هذا الحكم إلاَّ بوجود قرينةٍ مانعةٍ وصارفةٍ عن هذا المعنى وتفيد غيره، وهو أمرٌ متعذِّرٌ على ما سيأتي.
أمَّا بالسنَّة:
- فبحديث الباب في قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «وَلَكِنْ إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَشْتَرِيَ فَبِعِ التَّمْرَ بِبَيْعٍ آخَرَ، ثُمَّ اشْتَرِهِ».
- وبما أخرجه البخاري ومسلمٌ من حديث أبي سعيدٍ وأبي هريرة رضي الله عنهما أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم استعمل رجلاً على خيبر، فجاءه بتمرٍ جنيبٍ(٣٦)، فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «أَكُلُّ تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَذَا ؟»، قال: لا والله يا رسول الله، إنَّا لنأخذ الصاعَ من هذا بالصاعين والصاعين بالثلاثة، فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «لاَ تَفْعَلْ، بِعِ الجَمْعَ بِالدَّرَاهِمَ ثَمَّ ابْتَعْ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا»(٣٧).
وجه دلالة الحديثين: أنهما يدلاَّن بعمومهما في قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «فَبِعِ التَّمْرَ» و«بِعِ الجَمْعَ» على صحَّة بيع العِينة وجوازها، لأنَّ من اشترى منه التمرَ الرديءَ هو نفس من باع عليه التمر الطيِّب، فرَجَعَتْ دراهمه إليه، ولم يفصِّل في مقام الاحتمال بين أن يبيعه ممَّن باعه أو من غيره، ولم يفصِّل -أيضًا- بين أن يكون القصد التوصُّل إلى شراء الأكثر أو لا، فدلَّ ذلك على صحَّة البيع مطلقًا سواءً من البائع أو من المشتري، لأنَّ «تَرْكَ الاسْتِفْصَالِ فِي مَقَامِ الاحْتِمَالِ يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ العُمُومِ فِي المَقَالِ».
ومن ناحيةٍ أخرى فإنهما يدلاَّن -أيضًا- على جواز الذرائع من أجل ترك التفصيل في البائع والمبتاع والأكثر والأقلِّ(٣٨).
أمَّا الإجماع:
فاستدلُّوا على قيامه بجواز البيع من البائع بعد فترةٍ من غير قصد التوصُّل إلى الرجوع بالزيادة عليه، لأنه لو قال: «أبيعك هذه الدراهم بدراهمَ مثلِها وأمهلك شهرًا» فهو غير جائزٍ، بخلاف ما لو قال: «أسلفني دراهمَ وأَنْظِرْني بها شهرًا» جاز، ولا فرْقَ بين الصورتين إلاَّ اختلاف لفظ البيع وقصده ولفظ القرض وقصده(٣٩).
هذا، وقد اعتذر الشافعية والظاهرية عن الأخذ بأحاديث المانعين بالأعذار التالية:
١- بخصوص حديث ابن عمر رضي الله عنهما: فقد أجابوا عنه من ناحيتين:
الناحية الأولى: من حيث سند الحديث:
يرى هؤلاء أنَّ حديث ابن عمر رضي الله عنهما في التبايع بالعينة ضعيفٌ لا يُحتجُّ به، لأنَّ في إسناده إسحاق بن أُسَيْدٍ أبا عبد الرحمن الخراساني، نزيل مصر، لا يُحتجُّ به، وفيه -أيضًا- عطاءٌ الخراساني وفيه مقالٌ كما جاء في «مختصر السنن» للمنذري(٤٠)، قال الذهبي: «هذا الحديث من مناكيره»(٤١)، وقال الحافظ في «بلوغ المرام»: «وفي إسناده مقالٌ، ولأحمد نحوه من رواية عطاءٍ ورجالُه ثقاتٌ وصحَّحه ابن القطَّان»(٤٢)، ثمَّ قال في «التلخيص»: «وعندي أنَّ إسناد الحديث الذي صحَّحه ابن القطَّان معلولٌ، لأنه لا يلزم من كون رجاله ثقاتٍ أن يكون صحيحًا، لأنَّ الأعمش مدلِّسٌ، ولم يَذكر سماعه من عطاءٍ، وعطاءٌ يحتمل أن يكون هو عطاءً الخراساني فيكون فيه تدليس التسوية بإسقاط نافعٍ بين عطاءٍ وابن عمر»(٤٣).
الناحية الثانية: من حيث متن الحديث:
فإنَّ دلالة الحديث على التحريم من هذه الناحية غير جليَّةٍ من وجهين:
- الأوَّل: اقتران بيع العِينة بأخذ أذناب البقر والاشتغال بالزرع مع أنَّ هذه المذكوراتِ غيرُ محرَّمةٍ فدلَّ ذلك على أنَّ بيع العِينة ليس محرَّمًا.
- الثاني: أنَّ الحديث توعَّد عليه بالذلِّ، وهذا التوعُّد لايقتضي تحريمًا.
٢- بخصوص حديث أبي هريرة رضي الله عنه: فقد تأوَّله الشافعي بتأويلين:
- أحدهما: أن يقول: «بعتك بألفين نسيئةً وبألفٍ نقدًا، فأيَّهما شئت أخذت به»، وهذا بيعٌ فاسدٌ لأنه إبهامٌ وتعليقٌ.
- والثاني: أن يقول بعتُك عبدي على أن تبيعني فرسك(٤٤).
وعلى هذا، فتفسير الشرطين في بيعٍ أو البيعتين في بيعةٍ بأنه بيع العينة غيرُ متعيِّنٍ.
٣- وفيما يتعلَّق بحديث الأوزاعي: فهو حديثٌ مرسلٌ لا تقوم به حجَّةٌ، ولا يقوى على معارضة عموم النصوص القاضية بالجواز.
٤- بخصوص حديث العالية بنت أيفع: يردُّ القائلون بجواز بيع العِينة على حديث العالية من جهتين:
- الجهة الأولى: حالة عدم التسليم بصحَّة الحديث: فقد ضعَّف هؤلاء حديثها سندًا ومتنًا:
- أمَّا من حيث السند، فقد قال ابن حزمٍٍ -رحمه الله-: إنَّ امرأة أبي إسحاق مجهولة الحال، لم يَروِ عنها أحدٌ غيرَ زوجها وولدها يونس، على أنَّ يونس قد ضعَّفه شعبة بأقبح التضعيف، وضعَّفه يحيى القطَّان وأحمد بن حنبلٍ جدًّا(٤٥)، وردَّه الشافعي -رحمه الله- من أجل امرأة أبي إسحاق(٤٦).
- أمَّا من حيث المتن، فإنه يبعد أن تحكم عائشة رضي الله عنها ببطلان جهاد زيد ابن أرقم رضي الله عنه مع النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم في أمرٍ اجتهد فيه واعتقد حِلَّه، قال ابن حزمٍ -رحمه الله- -بعد ذكر منقبة زيدٍ رضي الله عنه-:
«فوالله ما يُبطل هذا كلَّه ذنبٌ من الذنوب غيرَ الردَّة عن الإسلام فقط، وقد أعاذه الله تعالى منها برضاه عنه، وأعاذ أمَّ المؤمنين من أن تقول هذا الباطلَ»(٤٧).
قال الشافعي -رحمه الله-: «وجملة هذا أنَّا لا نُثبت مثلَه على عائشة مع أنَّ زيد بن أرقم لا يبيع إلاَّ ما يراه حلالاً ولا يبتاع مثله، فلو أنَّ رجلاً باع شيئًا أو ابتاعه نراه نحن محرَّمًا وهو يراه حلالاً لم نزعم أنَّ الله يُحبط من عمله شيئًا»(٤٨).
- الجهة الثانية: حالة التسليم بصحَّة الحديث:
وعلى فرض صحَّة الحديث والتسليم بثبوته فليس فيه حجَّةٌ لوجوهٍ:
- يُستبعد أن يكون قول عائشة رضي الله عنها توقيفًا عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لافتقاره إلى دليلٍ، ولا يكفي رفعُه بالرأي، ولأنه لو كان مثلُ هذا خبرًا فلا تكتمه عائشة رضي الله عنها وتخفيه عن الناس(٤٩)، وعلى فرض صحَّته، فغاية ما فيه أنه اجتهادٌ منها، وهو مخالفٌ للنصوص العامَّة القاضية بجوازه.
- أنَّ قول عائشة رضي الله عنها ليس بأَوْلى من قول زيد رضي الله عنه، وهو صحابيٌّ ومعه القياس، وقول الصحابي ليس بحجَّةٍ على صحابيٍّ آخَرَ، قال الشافعي -رحمه الله-: «ولو اختلف بعض أصحاب النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم في شيءٍ، فقال بعضهم فيه شيئًا، وقال بعضهم بخلافه، كان أصلُ ما نذهب إليه أنَّا نأخذ بقول الذي معه القياس، والذي معه القياس زيد بن أرقم»(٥٠)، وقال: «وإذا اختلفوا فمذهبنا القياس وهو مع زيدٍ»(٥١).
- ويحتمل أن تكون عائشة رضي الله عنها عابت البيعَ إلى العطاء لأنه أجلٌ غير معلومٍ يدخله الغرر.
٥- أمَّا الاستدلال بالآثار، فقد تمثَّل اعتذارهم فيها بما يلي:
- أنَّ حديث ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما رأيٌ منه واجتهادٌ، وقد خالفه ابن عمر وزيد بن أرقم رضي الله عنهم، والقياس معهما.
- وأمَّا حديث أنس رضي الله عنه فلعلَّه رواه بالمعنى، فظنَّ ما ليس بأمرٍ ولا تحريمٍ كذلك، والحامل لذلك مخالفة الصحابيِّ له في الفهم، مع أنَّ ابن عمر رضي الله عنهما هو راوي حديث بيع العِينة.
هذا، ولا يخفى أنَّ قيام مثل هذه التضعيفات والاحتمالات في أدلَّة الجمهور على تحريم بيع العِينة لها ما يعكِّرها سندًا ومتنًا، لذلك أخذ أصحاب هذا الرأي بعموم ظواهر النصوص الصحيحة القاضية بالجواز وعدلوا عن غيرها، حملاً لحال الناس على الصلاح.
ج- مناقشة الأدلَّة السابقة:
بعد استعراض ما تقدَّم نتناول مناقشةَ أدلَّة الفريقين على ما يأتي:
- أمَّا حديث ابن عمر رضي الله عنهما فقد رُوي بإسنادين: الإسناد الأوَّل رجاله ثقاتٌ، غيرَ أنَّ الذي يعكِّره احتمال التدليس، أمَّا الإسناد الثاني فيبيِّن أنَّ للحديث أصلاً محفوظًا عن ابن عمر رضي الله عنهما، وله -أيضًا- طريقٌ ثالثٌ رواه السريُّ ابن سهيلٍ(٥٢)، قال ابن كثير -رحمه الله-: ورُوي من وجهٍ ضعيفٍ -أيضًا- عن عبد الله ابن عمرو بن العاص رضي الله عنهما مرفوعًا، ويعضده حديث عائشة رضي الله عنها(٥٣).
والظاهر أنَّ هذه الطرقَ يشدُّ بعضها بعضًا، لا سيَّما الآثار التي وردت عن ابن عبَّاسٍ وأنس بن مالكٍ رضي الله عنهم أنها ممَّا حرَّم الله ورسوله، وكذا حديث عائشة رضي الله عنها، والمرسل منها له ما يوافقه، وهذا ما يقوِّي الحديث ويجعله صالحًا للاحتجاج.
- ومن حيث المتن، فإنَّ دلالة الاقتران عند جمهور الأصوليين ضعيفةٌ، لأنَّ «الاِقْتِرَانَ فِي النَّظْمِ لاَ يَسْتَلْزِمُ الاِقْتِرَانَ فِي الحُكْمِ»(٥٤).
ولو سلَّمْنا بحجِّيَّة دلالة الاقتران فلِمَ لَمْ تَقترن دلالتها بالجهاد المفروض من ناحية أنَّ الترك فعلٌ، وفعل المنهيِّ عنه حرامٌ، وعلى أقلِّ تقديرٍ -في حالة التسليم بحجِّيَّتها- فهي متأرجحةٌ بين حكم الإباحة والمنع، والمنعُ مقدَّمٌ على الإباحة، ولو سلَّمْنا تساوِيَ دليلَيِ الحكمين لتساقطا وبطل طريق الاستدلال بها وآل الأمر إلى طلب الدليل الخارجيِّ، وهو مؤيِّدٌ لتحريم العِينة.
والقول بأنَّ التوعُّد بالذلِّ لا يدلُّ على التحريم فغير مُسلَّمٍ، لأنَّ الواجب على كلِّ مسلمٍ أن يطلب أسباب العزَّة الدينية، وأن يتجنَّب أسباب الذلَّة المنافية للدين، وقد توعَّد في الرواية الأخرى بإنزال البلاء، ولا يترتَّب ذلك إلاَّ على ذنبٍ عظيمٍ وإثمٍ كبيرٍ(٥٥).
- وأمَّا حديث أبي هريرة رضي الله عنه فإنَّ التأويل الأوَّل للشافعيِّ -وإن كان مشتملاً على غررٍ لعدم استقرار الثمن لِما فيه من الإبهام والتعليق- إلاَّ أنه لا يدخل الربا في هذه الصورة(٥٦)، ولا توجد صفقتان في هذا البيع، وإنما هي صفقةٌ واحدةٌ بأحد الثمنين، ولأنَّ الإبهام ينتفي في حالة قبول المشتري إحدى الصورتين، وتأويله الثاني -وإن اشتمل على غررٍ لعدم استقرار العقد بسبب تعليقه بشرطٍ مستقبلٍ يمكن وقوعه وعدم وقوعه- إلاَّ أنه مجزومٌ بشرطٍ واحدٍ لا بشرطين ومجرَّدٌ عن صورة النهي عن بيعتين في بيعةٍ، وعليه فإنَّ أرجح تفسيرٍ لمعنى الحديث الذي لا معنى له غيره هو تفسيره ببيع العِينة، لأنَّ فعله لا يخلو عن أحد الأمرين: إمَّا أن يأخذ الثمن الزائد فيربيَ، أو الثمن الأوَّل وهو أوكسهما، وهذا موافقٌ لحديث: «نَهَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ»(٥٧)، ومطابقٌ «للنهي عن شرطين في بيعٍ»، وأيضًا «عَنْ سَلَفٍ وَبَيْعٍ»(٥٨)، لأنَّ الظاهر منهما أنهما بيعٌ وفي الحقيقة ربًا.
- وأمَّا حديث الأوزاعي -وإن كان من المراسيل- فهو صالحٌ للاعتضاد به بالاتِّفاق، وله من المستندات والشواهد ما يقوِّيه.
- وأمَّا حديث العالية بنت أيفع، فقد قال صاحب «التعليق المغني» فيه ما يلي: «قال في «التنقيح»: إسناده جيِّدٌ، وإن كان الشافعي لا يُثبت مثلَه عن عائشة، وكذلك الدارقطني، قال في العالية: هي مجهولةٌ لا يُحتجُّ بها، فيه نظرٌ، فقد خالفه غيره، ولولا أنَّ عند أمِّ المؤمنين علمًا من رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أنَّ هذا محرَّمٌ لم تستجِزْ أن تقول مثْلَ هذا الكلام بالاجتهاد، قال ابن الجوزي: قالوا: العالية امرأةٌ مجهولةٌ لا يُقبل خبرها، قلنا: بل هي امرأةٌ معروفةٌ جليلة القدر، ذكرها ابن سعدٍ في «الطبقات»(٥٩) فقال: العالية بنت أيفع بن شراحيل امرأة أبي إسحاق السبيعي سمعت من عائشة»(٦٠).
قال ابن التركماني: «العالية معروفةٌ روى عنها زوجها وابنها وهما إمامان، وذكرها ابن حبَّان في الثقات من التابعين، وذهب إلى حديثها هذا الثوري والأوزاعي وأبو حنيفة وأصحابه ومالكٌ وابن حنبلٍ والحسن بن صالحٍ»(٦١).
وفي الحديث قصَّةٌ وسياقٌ يدلُّ على أنه محفوظٌ، وأنَّ العالية لم تختلق هذه القصَّةَ ولم تَضَعْها، كما أنه لا يقال: إنَّ زيدًا خالف عائشةَ رضي الله عنهما وهو من الصحابة، لأنه قام بفعله لا بقوله، وفعلُ المجتهد لا يدلُّ على قوله على الراجح، لاحتمال تأويلٍ أو سهوٍ أو غفلةٍ أو رجوعٍ عن العقد، ولم يُنقل عن زيدٍ رضي الله عنه أنه صرَّح بقوله أنَّ هذا الفعل حلالٌ ولا أنه أصرَّ على ذلك.
- ويحتمل -من جهةٍ أخرى- أنَّ ثمن الجارية قد نقص عن حالة المبيع، فإنَّ نَقْص الثمن لنقص المبيع جائزٌ لانتفاء ذريعة الربا فيه.
- وفيما يتعلَّق بحديث أنسٍ رضي الله عنه فالقول بأنَّ الأمر والنهي يشتبه في صيغته ومعانيه، لذلك يَحتمل اعتقادَ الراوي ما ليس بأمرٍ أمرًا وما ليس بنهيٍ نهيًا لاختلاف الناس في الأمر والنهي، فيكون أنسٌ رضي الله عنه قد رواه بالمعنى فظنَّ ما ليس بتحريمٍ تحريمًا.
فجوابه أنَّ الصحابي أعلم بمعاني النصوص، وأنه لا يمكنه التصريح بنقل الأمر أو التحريم إلاَّ بعد سماع ذلك منه صلَّى الله عليه وسلَّم وجزمه بوجود حقيقة الأمر والنهي أو غيرهما، لأنَّ حقيقة الأمر والنهي مستفادةٌ من اللغة، والصحابة أهل اللغة، ولم يكن في عصرهم خلافٌ في صيغة الأمر والنهي، بل كان معلومًا بالضرورة من لغتهم من غير اشتباهٍ، والخلاف في الصيغة إنما وقع بعد عصر الصحابة بكثيرٍ(٦٢).
قال ابن القيِّم -رحمه الله-: «واحتمال خلاف هذا كاحتمال الغلط والسهو في الرواية بل دونه، فإن رُدَّ قولُه: «أمر» ونحوه بهذا الاحتمال وجب رَدُّ روايته لاحتمال السهو والغلط، وإن قُبلت روايته وجب قبول الآخَر»(٦٣).
لذلك تعيَّن الرجوع إلى الصحابة في فهم معاني الألفاظ والصيغ، سواءً كانت لغويةً أو شرعيةً.
- أمَّا الأخذ بمبدإ سدِّ الذرائع فلا يصحُّ التوسُّع فيه لئلاَّ يفضيَ إلى المنع ممَّا هو حلالٌ من جهةٍ، ويؤدِّي من جهةٍ أخرى إلى حمل حال الناس على التهم.
قال أبو زهرة: «إنَّ الأخذ بالذرائع لا تصحُّ المبالغة فيه، فإنَّ المغرق فيه قد يمتنع عن أمرٍ مباحٍ أو مندوبٍ أو واجبٍ، خشيةَ الوقوع في الظلم»(٦٤).
- أمَّا الاستدلال بآية: ﴿وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ﴾ -إن سُلِّم بعمومها-، فهو مخصوصٌ بحديث بيع العِينة ولأنَّ ظاهره مصروفٌ بقرينة العرف المعهود، ذلك لأنَّ غالب تعاقُد المتبايعين بهذه الصورة هو التذرُّع بها إلى المحرَّم، والشيء المتعارَف عليه يُنزَّل منزلة الشرط المنصوص، وغالبُ الشيء يقوم مقام كلِّه، فكان إبطال بيعهما هو مقتضى الظاهر.
- ومن جهةٍ أخرى فإنَّ الاستدلال بعموم الآية السابقة وحديث الباب وحديث أبي سعيدٍ وأبي هريرة رضي الله عنهما في قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «بِعِ التَّمْرَ» على صحَّة بيع العِينة وجوازها، فهو عمومٌ غير مُسلَّمٍ، ذلك لأنَّ اللفظ غير عامٍّ بل هو لفظٌ مطلقٌ، والأمر المطلق بالبيع إنما يقتضي البيعَ الصحيح، لأنَّ البيع الباطل غيرُ مأذونٍ فيه، ولأنَّ الحقيقة المطلقة مشتركةٌ بين الأفراد، والقدر المشترك ليس هو ممَّا يُميَّز به كلُّ واحدٍ من الأفراد عن الآخَر، ويُكتفى في العمل به بصورةٍ واحدةٍ، وعلى هذا الأساس يكون عامًّا لها على سبيل البدل لا على سبيل الجمع، وهو معنى المطلق، وإرادة القدر المشترك بين أفراد البيع إنما تنصرف إلى البيع المعهود عرفًا وشرعًا(٦٥).
وعلى فرض التسليم بأنَّ لفظ الحديث عامٌّ فإنه يُخصَّص منه الصورة السابقة بالنصوص المتقدِّمة، وإن اعتُرض بسبب ضعفها، فإنَّ اللفظ يُخصَّص بالأدلَّة الصحيحة الواردة في بطلان الحيل وإضعافها(٦٦).
د- سبب اختلاف العلماء:
يرجع سبب اختلاف العلماء في هذه المسألة إلى المواضيع الأصولية التالية:
- هل يصحُّ الأخذ بمبدإ الذرائع ؟
- هل قول الصحابي حجَّةٌ على انفراده ؟
- هل لفظ الحديث في قوله: «بِعِ التَّمْرَ» عامٌّ أو مطلقٌ ؟
- هل كلُّ مجتهدٍ مصيبٌ ؟
- فمن خالف مبدأَ الذرائع ولم يعتدَّ به كأصلٍ من أصول الفقه(٦٧)، ورأى أنه لا حجَّةَ في قول الصحابيِّ على انفراده في الاجتهاد المحض، ولا يجب على من بعده تقليدُه(٦٨)، ورأى -أيضًا- أنَّ لفظ الحديث عامٌّ لعدم التفصيل بين أن يبيعه ممَّن باعه أو من غيره، ولا بين أن يقصد التوصُّل إلى شراء الأكثر أو لا، أخذًا بقاعدة: «تَرْكُ الاِسْتِفْصَالِ فِي مَقَامِ الاِحْتِمَالِ يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ العُمُومِ فِي المَقَالِ»، الأمر الذي لا تقوى النصوص الأخرى على معارضته، كما رأى تصويبَ كلٍّ من عائشة وزيدٍ رضي الله عنهما بناءً على أنَّ كلَّ مجتهدٍ في فروع الشريعة مصيبٌ، عمل بمقتضى هذا العموم، وقال: يجوز بيع العِينة ويصحُّ العقد بها.
- ومن اعتبر مبدأ الذرائع كأصلٍ من أصول الفقه(٦٩)، ورأى أنَّ قول الصحابي بالاجتهاد المحض حجَّةٌ شرعيةٌ مقدَّمةٌ على القياس(٧٠)، ورأى أنَّ لفظ حديث الباب مطلقٌ لا عامٌّ(٧١)، وأنَّ النصوص المعارضة مُعضِّدةٌ، كما رأى أنه ليس كلُّ مجتهدٍ مصيبًا، لأنَّ الحقَّ واحدٌ غيرُ متعدِّدٍ، قال: بيوعُ العِينة محرَّمةٌ ويبطل العقد بها.
ﻫ- الترجيح:
والمتأمِّل في نظرة الفقهاء إلى هذه المسألة يدرك أنَّ الاتِّجاه الأوَّل -المتمثِّل في مذهب الجمهور- نَظَر إلى الأفعال والأحكام من حيث الغاية والمآل والمقصد نظرةً مجرَّدةً، خلافًا للاتِّجاه الثاني -المتمثِّل في مذهب الشافعية والظاهرية- الذي نظر إلى الأحكام الظاهرة والأفعال عند حدوثها من غير الْتفاتٍ إلى غاياتها ومراميها ومآلاتها، دفعًا للتهم وحملاً لحال الناس على الصلاح، واعتدادًا بالألفاظ في العقود دون النيَّات والقصود(٧٢).
هذا، وفي تقديري أنَّ الاتِّجاه الأوَّل أقوى دليلاً وأصحُّ نظرًا، لقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى»(٧٣)، فإنَّ وجهه ظاهرٌ في أنَّ العمل لا يقع إلاَّ بالنيَّة، وليس للعامل من فعله إلاَّ ما نواه، لأنَّ الأمور بمقاصدها، ولأنَّ حديث ابن عمر رضي الله عنهما له طريقان يشدُّ أحدها الآخَرَ يجعله صالحًا للاحتجاج، ولأنَّ الاختلاف في حجِّيَّة قول الصحابي إنما هو فيما إذا كانت فتواه في الاجتهاد المحض، أمَّا إذا كانت من قبيل الخبر التوقيفي فلا خلافَ بين الأئمَّة في الأخذ بقوله، وحديث العالية منه، لجزم عائشة رضي الله عنها بهذا الدليل على أنه لا يجوز فيه الاجتهاد، ويقوِّي التوقيفَ حديثَا ابن عمر وأنسٍ وغيرهما رضي الله عنهم، ولأنَّ حديث ابن عمر رضي الله عنهما رافعٌ للبراءة الأصلية وناقلٌ عنها، بخلاف حديث أبي سعيدٍ رضي الله عنه فهو مؤكِّدٌ ومبقٍ لها، والدليل الرافع مقدَّمٌ على المبقي، لأنَّ الأوَّل فائدته التأسيس، والثاني فائدته التأكيد، و«التَّأْسِيسُ أَوْلَى مِنَ التَّأْكِيدِ»، وعليه يتعيَّن الحكم الشرعي بالنصوص السابقة المعتضدة.
تنبيه:
وتجدر الإشارة أخيرًا إلى أنَّ هذه المعاملة تجوز في حالة بيع السلعة بثمن المثل أو أكثر، كما يجوز شراؤها بأيِّ ثمنٍ شاء في حالة نقصان المبيع، قال ابن قدامة -رحمه الله-: «…فأمَّا بيعها بمثل الثمن أو أكثر فيجوز لأنه لا يكون ذريعةً، وهذا إذا كانت السلعة لم تنقص عن حالة المبيع، فإن نقصت… جاز له شراؤها بما شاء، لأنَّ نقْصَ الثمن لنقص المبيع لا للتوصُّل إلى الربا، وإن نقص سعرُها أو زاد لذلك أو لمعنًى حدث فيها لم يجُزْ بيعُها بأقلَّ من ثمنها كما لو كانت بحالها» بتصرُّف(٧٤).
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا.
الجزائرفي: 16 ربيع الأول 1434ﻫ
الموافـق ﻟ: 28 جانـفي 2013م
(١) أخرجه البخاري في «الوكالة» (٢٣١٢)، ومسلم في «المساقاة» (١٥٩٤).
(٢) «الباعث الحثيث اختصار علوم الحديث لابن كثير» (١٨٧).
(٣) انظر ترجمته في: «الإصابة» لابن حجر (٢/ ٣٢)، «الاستيعاب» لابن عبد البرِّ (٢/ ٤٤)، «أسد الغابة» لابن الأثير (٢/ ٢٨٩)، «الرياض المستطابة» للعامري (١٠٠-١٠١)، ومؤلَّفنا: «الإعلام بمنثور تراجم المشاهير والأعلام» (٨٠).
(٤) «مختار الصحاح» (٥٠)، «المعجم الوسيط» (١/ ٥٢).
(٥) «لسان العرب» (١/ ٢٠٤).
(٦) المرجع السابق (٢/ ٤٩٣).
(٧) المرجع السابق (١/ ١٣٦)، «جامع الأصول» لابن الأثير (١/ ٥٤٩)، «النهاية» لابن الأثير (١/ ٨٢).
(٨) انظر: «تفسير القرطبي» (٣/ ٣٥٢).
(٩) انظر: «شرح عمدة الأحكام» (٣/ ١٨٦).
(١٠) انظر: «فتح الباري» لابن حجر (٤/ ٤٩١).
(١١) أخرجه مسلم في «المساقاة» (١٥٩٤).
(١٢) «فتح الباري» لابن حجر (٤/ ٤٩٠).
(١٣) «صحيح البخاري» (٤/ ٣١٧).
(١٤) «صحيح البخاري» (٤/ ٤٩٠).
(١٥) انظر: «شرح عمدة الأحكام» (٣/ ١٨٦).
(١٦) أخرجه البخاري في «البيوع» (٢٢٠١)، ومسلم في «المساقاة» (١٥٩٣)، عن أبي سعيد الخدري وعن أبي هريرة رضي الله عنهما.
(١٧) صورة مسألة التورُّق هي: أن يشتريَ سلعةً بثمن مؤجَّلٍ ثم يبيعها على غير من اشتراها منه بثمنٍ حالٍّ أقلَّ منه لغير قصد الانتفاع بها، وإنما ليبيعها المشتري فينتفع بالثمن الحالِّ ويرتفق به.
(١٨) انظر: «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (٢٩/ ٤٤٢-٤٤٦)، «الاختيارات الفقهية» للبعلي (١٢٩).
(١٩) غير أنَّ الجمهور احتاطوا للجواز باشتراط أن تكون السلعة عند الدائن وقت العقد، وأن يقبضها المدين قبضًا تامًّا، وأن يبيعها على غير من اشتراها منه بدون سابق تواطؤٍ بينهما.
(٢٠) «تفسير القرطبي» (٣/ ٣٥٨)، قلت: لعلَّ النهي عند أبي حنيفة لا يقتضي فساد المنهي عنه، لأنه لم يَرِدْ في الحديث بطلان العقد، ولعلَّه حمل قولَه صلَّى الله عليه وسلَّم: «بِبَيْعٍ آخَرَ» على أنَّ الباء زائدة، ويكون معناه: أن يبيعه بيعًا على صفةٍ أخرى.
(٢١) انظر: «تيسير العلاَّم» (٢/ ٨٩).
(٢٢) انظر: «فتح الباري» لابن حجر (٤/ ٤٩١).
(٢٣) والغرض من هذه المعاملة كلِّها هو التحايل على القرض بالربا عن طريق البيع والشراء.
(٢٤) انظر: «بداية المجتهد» لابن رشد (٢/ ١٤٢)، «القوانين الفقهية» لابن جُزَيٍّ (٢٥٠-٢٥١)، «المغني» لابن قدامة (٤/ ١٩٣)، «نيل الأوطار» للشوكاني (٦/ ٣٦٣).
(٢٥) انظر: «الأمَّ» للشافعي (٣/ ٣٨-٤٠)، «المحلَّى» لابن حزم (٩/ ٤٧)، وقد روي عن ابن عمر خلاف ذلك، [انظر: «الموطَّأ» (٢/ ١٥٦)].
(٢٦) أخرجه أبو داود في «البيوع» (٣٤٦٢)، والبيهقي في «السنن الكبرى» (٥/ ٣١٦).
(٢٧) أخرجه أبو داود في «البيوع» (٣٤٦١).
(٢٨) «تهذيب السنن» (٩/ ٣٤٥).
(٢٩) أخرجه الدارقطني في «سننه» (٣٢٠٢)، وأخرجه عبد الرزَّاق في «المصنَّف» (٨/ ١٨٤) رقم (١٤٨١٢).
(٣٠) انظر: «المغني» لابن قدامة (٤/ ١٩٤)، «جامع الأصول» لابن الأثير (١/ ٥٧٢).
(٣١) انظر: «حاشية ابن القيِّم» مع «عون المعبود» (٩/ ٢٤١).
(٣٢) المرجع والصفحة نفسهما.
(٣٣) السَّرَق: قطعة من جيِّد الحرير، [انظر: «النهاية» لابن الأثير (٢/ ٣٦٢)].
(٣٤) أخرجه عبد الرزَّاق في «المصنَّف» (٨/ ١٨٧) رقم: (١٤٨٢٣).
(٣٥) «تهذيب السنن» (٩/ ٣٣٨)، وروي مثله عن ابن عبَّاسٍ كما في المرجع السابق.
(٣٦) نوعٌ من جيِّد التمر، [انظر: «القاموس المحيط» للفيروز آبادي (٨٩)].
(٣٧) أخرجه البخاري في «البيوع» (٢٢٠١)، ومسلم في «المساقاة» (١٥٩٣).
(٣٨) انظر: «سبل السلام» للصنعاني (٣/ ٣٨)، «شرح العمدة» (٣/ ١٨٦).
(٣٩) انظر: «بداية المجتهد» لابن رشد (٢/ ١٤١).
(٤٠) «نيل الأوطار» للشوكاني (٦/ ٣٦٢).
(٤١) «الميزان» للذهبي (٤/ ٥٤٧).
(٤٢) «بلوغ المرام» بشرح «سبل السلام» (٣/ ٤١).
(٤٣) «التلخيص الحبير» لابن حجر (٣/ ١٩).
(٤٤) «سبل السلام» للصنعاني (٣/ ١٦).
(٤٥) «المحلَّى» لابن حزم (٩/ ٤٩).
(٤٦) «الأمُّ» للشافعي (٣/ ٣٨).
(٤٧) «المحلَّى» لابن حزم (٩/ ٤٩).
(٤٨) «الأمُّ» للشافعي (٣/ ٣٨).
(٤٩) المرجع السابق الجزء نفسه (٥٠-٥١).
(٥٠) المرجع السابق الجزء نفسه (٧٨).
(٥١) «مختصر المزني» (٨٥).
(٥٢) «تهذيب السنن» لابن القيِّم (٩/ ٣٤٢).
(٥٣) «نيل الأوطار» للشوكاني (٦/ ٣٦٣).
(٥٤) ودلالة الاقتران -عند التحقيق- على مراتبَ متفاوتةٍ قوَّةً وضعفًا، فإن جَمَع بين المقترنَيْن لفظٌ اشتركا في إطلاقه وافترقا في تفصيله ظهرت -عندئذٍ- قوَّتها، أمَّا إذا تعدَّدت الجمل واستقلَّ كلُّ واحدٍ منها في الحكم والسبب والغاية ظهر ضعفها، كما هو الشأن في حديث ابن عمر، ذلك لأنَّ العطف يفيد الاشتراكَ في المعنى إذا كان عطف مفردٍ على مفردٍ، أمَّا إذا عُطفت جملةٌ على جملةٍ فلا اشتراك في المعنى، نحو: أكرم زيدًا وامنع عمرًا.
راجع: «المسوَّدة» لآل تيمية (١٤٠، ١٤١)، «بدائع الفوائد» لابن القيِّم (٤/ ١٨٣)، «إرشاد الفحول» للشوكاني (٢٤٨)، «التمهيد في تخريج الأصول على الفروع» للإسنوي (٢٧٣)، «أضواء البيان» للشنقيطي (٢/ ٢٥٦).
(٥٥) «نيل الأوطار» (٦/ ٨٦٤).
(٥٦) تنتفي صورة الربا إذا ما قال في أوَّل الأمر: أبيعك نسيئةً بكذا فقط، وكان أكثر من سعر يومه، مع أنَّ المتمسِّكين بظاهر التفسير يمنعون هذه الصورة.
(٥٧) أخرجه أبو داود في «البيوع» (٣٤٦١)، والترمذي في «البيوع» (١٢٣١)، والنسائي في «البيوع» (٤٦٣٢)، وأحمد (٩٥٣٤).
(٥٨) أخرجه أحمد في «المسند» (٦٦٧١)، وأبو داود في «البيوع» (٣٥٠٤)، والترمذي في «البيوع» (١٢٣٤)، والنسائي في «البيوع» (٤٦١١).
(٥٩) «الطبقات الكبرى» لابن سعد (٨/ ٣٥٧).
(٦٠) «التعليق المغني على سنن الدارقطني» لمحمَّد شمس الحقِّ (٣/ ٥٢)، «نصب الراية» للزيلعي (٤/ ١٦).
(٦١) «الجوهر النقي» لابن التركماني (٥/ ٣٣٠).
(٦٢) «المستصفى» للغزَّالي (١/ ١٣٠)، «روضة الناظر» لابن قدامة (١/ ٢٣٩-٢٤٠)، «إرشاد الفحول» للشوكاني (٦٠).
(٦٣) «تهذيب السنن» (٩/ ٣٣٨-٣٣٩).
(٦٤) «أصول الفقه» (٢٧٥).
(٦٥) «إعلام الموقِّعين» لابن القيِّم (٣/ ٢٢٣-٢٢٦).
(٦٦) المرجع السابق نفسه.
(٦٧) انظر: «الإحكام» لابن حزم (٦/ ٩٨٨-٩٩١)، «إرشاد الفحول» للشوكاني (٢٤٦).
(٦٨) انظر: «روضة الناظر» لابن قدامة (١/ ٤٠٣)، «الرسالة» للشافعي (٥٩٦)، «تخريج الفروع على الأصول» (١٧٩).
(٦٩) انظر: «إرشاد الفحول» للشوكاني (٢٤٦)، «الوسيط في أصول الفقه» للزحيلي (٤٣٨).
(٧٠) انظر: «روضة الناظر» لابن قدامة (١/ ٤٠)، «الوسيط» (٤٠٠-٤٠٨).
(٧١) انظر: «إعلام الموقِّعين» نفس الجزء والصفحة.
(٧٢) انظر تفصيل ابن القيِّم لمبدإ الباعث والقصد في العقود في: «إعلام الموقِّعين» لابن القيِّم (٣/ ٩٥).
(٧٣) أخرجه البخاري في «باب بدء الوحي» (١)، ومسلم في «الإمارة» (١٩٠٧)، من حديث عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه.
(٧٤) «المغني» لابن قدامة (٤/ ١٩٤)، «الكافي» (٢/ ٢٦).