:::: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ::::
الحمدُ لله الذي جعل الأمانة في قلوب الرجال بعد أن أبى عن حملها السماوات والأرض والجبال، جعل الأمانة في قلوب بني آدم ذكورًا وإناثًا؛ لأنه ركَّب فيهم عقولاً بها يفقهون، وبصائر بها يهتدون، فتحمّلوا الأمانة مخاطرين؛ ليعلوا بأدائها إلى درجة المؤمنين المتّقين، أو لينزلوا بإضاعتها إلى أسفل السافلين، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأوّلين والآخرين، خلق فأتقَنَ وشرَعَ فأحسن وهو خير الحاكمين، وأشهدُ أن محمدًا عبده ورسوله، بلَّغ رسالة ربه وأدّى أمانته على الوجه الأكمل وعبد ربه حتى أتاه اليقين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا .
أما بعد:
أيها الناس، أيها المؤمنون بالله ورسوله، اتَّقوا ربكم وأدّوا ما حَمّلكم من الأمانة، فلقد عرض الله ﴿الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ﴾[الأحزاب: 72]، أدّوا الأمانة بالقيام بِما أوجب الله عليكم من عبادته وحقوق عباده؛ فإن الأمانة تدور على هذين الأمرين: تحقيق عبادة الله والقيام بحقوق عباد الله، ولا ﴿تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [الأنفال: 27]، لا تخونوا في ذلك بإفراط ولا تفريط؛ فإن الخيانة نقص في الإيمان وسبب للخسران والحرمان .
وفي الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لا إيمان لِمَن لا أمانة له» وقال عليه الصلاة والسلام: «آيةُ المنافق ثلاث» أي: علامته التي يتميّز بها وخُلُقه الذي يتخلّق به «آية المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخْلف وإذا اؤتمن خان وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم» وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا جمع الله الأوّلين والآخرين يوم القيامة يُرفع لكل غادر لواء فيُقال: هذه غدرة فلان ابن فلان» .
يُرفع له هذا اللواء فضيحةً له بين الخلائق وخزيًا وعارًا عليه يوم القيامة .
أيها المؤمنون بالله ورسوله، إن الأمانة في العبادة والمعاملة، فالأمانة في العبادة: أن تقوم بطاعة الله مخلصًا له متّبعًا لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم، تمتثل أوامر الله وتجتنب نواهيه، تخشى الله في السر والعلانية، تخشى الله حيث يراك الناس وحيث لا يرونك، لا تكن مِمّن يخشى الله في العلانية ويعصيه في السر؛ فإن هذا هو الرياء، ألَمْ تعلم أن الله يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ؟ ألَمْ تعلم أن الله أنكر على مَن هذه حاله بقوله: ﴿أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ﴾ [الزخرف: 80]، ﴿أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ﴾ [البقرة: 77]، ﴿يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً﴾[النساء: 108] .
وأما الأمانة في المعاملة: فأن تعامل الناس بِما تحب أن يعاملوك به من النصح والبيان وأن تكون حافظًا لحقوقهم المالية وغير المالية من كل ما استؤمنت عليه لفظًا أو عُرْفًا، فتكون الأمانة بين الرجل وزوجته يجب على كل منها أن يحفظ الآخر في ماله وسرِّه فلا يحدث أحدًا بذلك، فقد صحَّ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إن من شرّ الناس منزلة عند الله يوم القيامة الرجل يُفضي إلى امرأته وتُفضي إليه ثم ينشر أحدهما سرَّ صاحبه» .
وتكون الأمانة بين الرجل وصاحبه يحدّثه بحديث سرّ يعلم أنه لا يحب أن يطلّع عليه أحد ثم يُفشي سرّه ويحدّث به الناس، وفي الحديث: «إذا حدّث الرجل رجلاً بحديث ثم التفت فهو أمانة» لأن التفاته وهو يحدّثه دليل على أنه لا يحب أن يسمعه أحد .
وتكون الأمانة في البيع والشراء والإجارة والاستئجار، فلا يجوز للبائع أن يخون المشتري بنقص في الكيل أو الوزن أو زيادة الثمن أو كتمان العيب أو تدليس في الصفة ومن هذا النوع ما يفعله بعض الناس الذين يبيعون السيارات في المعارض، تجد الرجل يعرض سيارته وهو يعلم أن فيها عيبًا معيَّنًا ولكنّه لا يُعيّنه للناس ويجعل الأمر مُبهمًا مكتومًا؛ حتى لا ينقص السعر بذلك وهذا محرّم عليه، فكل إنسان يعلم في سلعته عيبًا فإنه يجب عليه أن يُبيِّنه سواء نقص الثمن أم لم ينقص؛ لأن هذا هو مقتضى الأمانة، أما إذا كنت لا تعلم بالعيب، مثل: أن تكون قد اشتريت السيارة قريبًا ولا تدري هل فيها عيب أم لا فلا حرج عليك أن تقول للمشتري: أنا بريء من عيوبها .
ولا يجوز للمشتري أن يخون البائع بنقص في الثمن أو إنكار أو مماطلة مع القدرة على الوفاء، وقد كان بعض الناس - مع الأسف - قد أغناهم الله ولكنّهم كفروا نعمة ربهم، أغناهم الله تعالى بإمكانهم من الوفاء ومع ذلك يماطلون مَن له الحق، يقول: ائتني غدًا أو بعد غد أو في الأسبوع الثاني أو في الشهر الثاني مع قدرته على الوفاء، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مطلُ الغني ظلم» .
وتكون الأمانة في الوكالات والولايات فيجب على الوكيل أن يتصرّف بِما هو أحسن ولا يجوز أن يخون موكله فيبيع السلعة الموكل في بيعها بأقل من قيمتها محاباةً للمشتري أو يشتري السلعة الموكّل في شرائها بأكثر من قيمتها محاباةً للبائع، ومع الأسف الشديد أن بعض الوكلاء ولاسيما الوكلاء للحكومة يشترون الحاجات بسعر ويقيّدونها في الفواتير بسعر أكثر والبائع يعلم ذلك وبهذا يكون البائع خائنًا والمشتري خائنًا، أما المشتري فإنه قد خانَ الحكومة وأما البائع فإنه قد أعان الخائن على خيانته، وقد قال الله تعالى: ﴿وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ [المائدة: 2] .
وتكون الأمانة في الولايات: كل مَن كان واليًا على شيء خاص أو عام فهو أمين عليه يجب عليه أن يؤدي الأمانة فيه، فالقاضي أمين والأمير أمين ورؤساء الدوائر ومديروها أُمناء يجب عليهم أن يتصرّفوا فيما يتعلق بولايتهم بالتي هي أحسن، وأولياء اليتامى وناظرو الأوقاف وأوصياء الوصايا كل هؤلاء أُمناء يجب عليهم أن يقوموا بالأمانة بالتي هي أحسن .
ألا وإن من الأمانة ما يتّصل بالثقافة والإرشاد والتعليم، فعلى القائمين على ذلك من مخططي المناهج ومديري الأقسام والمشرفين عليها أن يراعوا الأمانة في هذا باختيار المناهج الصالحة والمدرّسين الصالحين المصلحين وأن يثقّفوا الطلبة علميًّا وعمليًّا، دينًا ودُنيا، عبادة وخُلُقًا .
وإن من الأمانة في هذا: حفظ الاختبار من التلاعب والتهاون؛ حفظه في وضع الأسئلة بحيث تكون في مستوى الطلبة عقليًّا وفكريًّا وعلميًّا؛ لأن الأسئلة إن كانت فوق مستواهم أضرّت بهم وحطّمتهم وأضاعت كل عامهم الدراسي، وإن كانت الأسئلة دون مستواهم أضرّت بمستوى الثقافة العامة في هذه البلاد، وحفظ الاختبار وقت الإجابة على الأسئلة بحيث يكون المراقب فَطِنًا حازمًا لا يدع فرصة للتلاعب ولا يحابي ابنًا لقريب أو صديق؛ لأنهم هنا على درجة واحدة، كل الطلبة صغيرهم وكبيرهم قريبهم وبعيدهم كلهم في ذمة المراقب وعهدته سواء .
وحفظ الاختبار وقت تصحيح الأجوبة بحيث يكون التصحيح دقيقًا لا يتجاوز فيه ما يسمح به النظام؛ حتى لا يظلم أحدًا على حساب الآخر ولا ينزّل طالبًا إلا في منزلته التي يستحقّها، فإذا حافظنا على هذه الأمانة قمنا ببراءة ذمتنا ونزاهة مجتمعنا وقوّة مستواه الثقافي ودرجته العلمية .
إن حفظ الأمانة في الاختبار في مواضعه الثلاثة هو من مصلحة الأمة كلها ومن مصلحة العلم فهو من مصلحة القائمين على الاختبارات لأداء الواجب عليهم وإبراء ذممهم، ومن مصلحة الطلبة حيث يحصلون على مستوى علمي رفيع ولا يكون حظهم من العلم بطاقة يحملونها أو لقبًا لا يستحقون معناه وهو من مصلحة العلم؛ حيث يقوى ويزداد حقيقة، ولا يهمّنا عند ضبط الاختبار أن يكون الناجحون قليلين؛ لأن العبرة بالكيفية لا بالكمية، وإذا كانوا قليلين في عام كانوا كثيرين في العام الذي يليه حيث يعتادون على الجد ويستعدّون له .
وإذا كانت الأمانة في المراقبين وفي واضع الأسئلة والمصححين لها فإن الأمانة تكون أيضًا على الطلبة؛ فإنه لا يجوز لأي طالب أن يغش في الاختبار؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «مَنْ غشَّ فليس منَّا» ولأن الغش يؤدّي إلى أن ينزل الإنسان مرتبة لا يستحقّها فيتوظف وظيفة لا يستحقّ راتبها؛ لأنه ليس أهلاً لممارستها؛ حيث كانت شهاداته مزوّرة، وإن من الغريب أننا سمعنا بعض الناس يقولون: إنه يجوز الغش في مادة اللغة الإنجليزية وهذا خطأ؛ فإن مادة اللغة الإنجليزية من المواد العلميّة التي يُطالب الطالب بإتقانها؛ وعلى هذا فلا يجوز الغش فيها كما لا يجوز في سائر المواد .
فاتَّقوا الله - عباد الله - وأدّوا ما ائتمنتم عليه على الوجه الأكمل، واعلموا أن الله لم يحمّلكم الأمانة إلا وسائلكم عنها يوم القيامة .
اللهم إنا نسألك تثبيتًا وجوابًا صوابًا .
وفّقني الله وإياكم لأداء الأمانة وإبراء الذمة، وحفظنا من إضاعتها والتساهل فيها؛ إنه جواد كريم .
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولكافة المسلمين كل ذنب؛ إنه هو الغفور الرحيم .
من موقع فضيلة الشيخ:
محمد بن صالح العثيمين
أسكنه البارئ في عليين
الحمدُ لله الذي جعل الأمانة في قلوب الرجال بعد أن أبى عن حملها السماوات والأرض والجبال، جعل الأمانة في قلوب بني آدم ذكورًا وإناثًا؛ لأنه ركَّب فيهم عقولاً بها يفقهون، وبصائر بها يهتدون، فتحمّلوا الأمانة مخاطرين؛ ليعلوا بأدائها إلى درجة المؤمنين المتّقين، أو لينزلوا بإضاعتها إلى أسفل السافلين، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأوّلين والآخرين، خلق فأتقَنَ وشرَعَ فأحسن وهو خير الحاكمين، وأشهدُ أن محمدًا عبده ورسوله، بلَّغ رسالة ربه وأدّى أمانته على الوجه الأكمل وعبد ربه حتى أتاه اليقين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا .
أما بعد:
أيها الناس، أيها المؤمنون بالله ورسوله، اتَّقوا ربكم وأدّوا ما حَمّلكم من الأمانة، فلقد عرض الله ﴿الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ﴾[الأحزاب: 72]، أدّوا الأمانة بالقيام بِما أوجب الله عليكم من عبادته وحقوق عباده؛ فإن الأمانة تدور على هذين الأمرين: تحقيق عبادة الله والقيام بحقوق عباد الله، ولا ﴿تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [الأنفال: 27]، لا تخونوا في ذلك بإفراط ولا تفريط؛ فإن الخيانة نقص في الإيمان وسبب للخسران والحرمان .
وفي الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لا إيمان لِمَن لا أمانة له» وقال عليه الصلاة والسلام: «آيةُ المنافق ثلاث» أي: علامته التي يتميّز بها وخُلُقه الذي يتخلّق به «آية المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخْلف وإذا اؤتمن خان وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم» وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا جمع الله الأوّلين والآخرين يوم القيامة يُرفع لكل غادر لواء فيُقال: هذه غدرة فلان ابن فلان» .
يُرفع له هذا اللواء فضيحةً له بين الخلائق وخزيًا وعارًا عليه يوم القيامة .
أيها المؤمنون بالله ورسوله، إن الأمانة في العبادة والمعاملة، فالأمانة في العبادة: أن تقوم بطاعة الله مخلصًا له متّبعًا لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم، تمتثل أوامر الله وتجتنب نواهيه، تخشى الله في السر والعلانية، تخشى الله حيث يراك الناس وحيث لا يرونك، لا تكن مِمّن يخشى الله في العلانية ويعصيه في السر؛ فإن هذا هو الرياء، ألَمْ تعلم أن الله يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ؟ ألَمْ تعلم أن الله أنكر على مَن هذه حاله بقوله: ﴿أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ﴾ [الزخرف: 80]، ﴿أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ﴾ [البقرة: 77]، ﴿يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً﴾[النساء: 108] .
وأما الأمانة في المعاملة: فأن تعامل الناس بِما تحب أن يعاملوك به من النصح والبيان وأن تكون حافظًا لحقوقهم المالية وغير المالية من كل ما استؤمنت عليه لفظًا أو عُرْفًا، فتكون الأمانة بين الرجل وزوجته يجب على كل منها أن يحفظ الآخر في ماله وسرِّه فلا يحدث أحدًا بذلك، فقد صحَّ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إن من شرّ الناس منزلة عند الله يوم القيامة الرجل يُفضي إلى امرأته وتُفضي إليه ثم ينشر أحدهما سرَّ صاحبه» .
وتكون الأمانة بين الرجل وصاحبه يحدّثه بحديث سرّ يعلم أنه لا يحب أن يطلّع عليه أحد ثم يُفشي سرّه ويحدّث به الناس، وفي الحديث: «إذا حدّث الرجل رجلاً بحديث ثم التفت فهو أمانة» لأن التفاته وهو يحدّثه دليل على أنه لا يحب أن يسمعه أحد .
وتكون الأمانة في البيع والشراء والإجارة والاستئجار، فلا يجوز للبائع أن يخون المشتري بنقص في الكيل أو الوزن أو زيادة الثمن أو كتمان العيب أو تدليس في الصفة ومن هذا النوع ما يفعله بعض الناس الذين يبيعون السيارات في المعارض، تجد الرجل يعرض سيارته وهو يعلم أن فيها عيبًا معيَّنًا ولكنّه لا يُعيّنه للناس ويجعل الأمر مُبهمًا مكتومًا؛ حتى لا ينقص السعر بذلك وهذا محرّم عليه، فكل إنسان يعلم في سلعته عيبًا فإنه يجب عليه أن يُبيِّنه سواء نقص الثمن أم لم ينقص؛ لأن هذا هو مقتضى الأمانة، أما إذا كنت لا تعلم بالعيب، مثل: أن تكون قد اشتريت السيارة قريبًا ولا تدري هل فيها عيب أم لا فلا حرج عليك أن تقول للمشتري: أنا بريء من عيوبها .
ولا يجوز للمشتري أن يخون البائع بنقص في الثمن أو إنكار أو مماطلة مع القدرة على الوفاء، وقد كان بعض الناس - مع الأسف - قد أغناهم الله ولكنّهم كفروا نعمة ربهم، أغناهم الله تعالى بإمكانهم من الوفاء ومع ذلك يماطلون مَن له الحق، يقول: ائتني غدًا أو بعد غد أو في الأسبوع الثاني أو في الشهر الثاني مع قدرته على الوفاء، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مطلُ الغني ظلم» .
وتكون الأمانة في الوكالات والولايات فيجب على الوكيل أن يتصرّف بِما هو أحسن ولا يجوز أن يخون موكله فيبيع السلعة الموكل في بيعها بأقل من قيمتها محاباةً للمشتري أو يشتري السلعة الموكّل في شرائها بأكثر من قيمتها محاباةً للبائع، ومع الأسف الشديد أن بعض الوكلاء ولاسيما الوكلاء للحكومة يشترون الحاجات بسعر ويقيّدونها في الفواتير بسعر أكثر والبائع يعلم ذلك وبهذا يكون البائع خائنًا والمشتري خائنًا، أما المشتري فإنه قد خانَ الحكومة وأما البائع فإنه قد أعان الخائن على خيانته، وقد قال الله تعالى: ﴿وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ [المائدة: 2] .
وتكون الأمانة في الولايات: كل مَن كان واليًا على شيء خاص أو عام فهو أمين عليه يجب عليه أن يؤدي الأمانة فيه، فالقاضي أمين والأمير أمين ورؤساء الدوائر ومديروها أُمناء يجب عليهم أن يتصرّفوا فيما يتعلق بولايتهم بالتي هي أحسن، وأولياء اليتامى وناظرو الأوقاف وأوصياء الوصايا كل هؤلاء أُمناء يجب عليهم أن يقوموا بالأمانة بالتي هي أحسن .
ألا وإن من الأمانة ما يتّصل بالثقافة والإرشاد والتعليم، فعلى القائمين على ذلك من مخططي المناهج ومديري الأقسام والمشرفين عليها أن يراعوا الأمانة في هذا باختيار المناهج الصالحة والمدرّسين الصالحين المصلحين وأن يثقّفوا الطلبة علميًّا وعمليًّا، دينًا ودُنيا، عبادة وخُلُقًا .
وإن من الأمانة في هذا: حفظ الاختبار من التلاعب والتهاون؛ حفظه في وضع الأسئلة بحيث تكون في مستوى الطلبة عقليًّا وفكريًّا وعلميًّا؛ لأن الأسئلة إن كانت فوق مستواهم أضرّت بهم وحطّمتهم وأضاعت كل عامهم الدراسي، وإن كانت الأسئلة دون مستواهم أضرّت بمستوى الثقافة العامة في هذه البلاد، وحفظ الاختبار وقت الإجابة على الأسئلة بحيث يكون المراقب فَطِنًا حازمًا لا يدع فرصة للتلاعب ولا يحابي ابنًا لقريب أو صديق؛ لأنهم هنا على درجة واحدة، كل الطلبة صغيرهم وكبيرهم قريبهم وبعيدهم كلهم في ذمة المراقب وعهدته سواء .
وحفظ الاختبار وقت تصحيح الأجوبة بحيث يكون التصحيح دقيقًا لا يتجاوز فيه ما يسمح به النظام؛ حتى لا يظلم أحدًا على حساب الآخر ولا ينزّل طالبًا إلا في منزلته التي يستحقّها، فإذا حافظنا على هذه الأمانة قمنا ببراءة ذمتنا ونزاهة مجتمعنا وقوّة مستواه الثقافي ودرجته العلمية .
إن حفظ الأمانة في الاختبار في مواضعه الثلاثة هو من مصلحة الأمة كلها ومن مصلحة العلم فهو من مصلحة القائمين على الاختبارات لأداء الواجب عليهم وإبراء ذممهم، ومن مصلحة الطلبة حيث يحصلون على مستوى علمي رفيع ولا يكون حظهم من العلم بطاقة يحملونها أو لقبًا لا يستحقون معناه وهو من مصلحة العلم؛ حيث يقوى ويزداد حقيقة، ولا يهمّنا عند ضبط الاختبار أن يكون الناجحون قليلين؛ لأن العبرة بالكيفية لا بالكمية، وإذا كانوا قليلين في عام كانوا كثيرين في العام الذي يليه حيث يعتادون على الجد ويستعدّون له .
وإذا كانت الأمانة في المراقبين وفي واضع الأسئلة والمصححين لها فإن الأمانة تكون أيضًا على الطلبة؛ فإنه لا يجوز لأي طالب أن يغش في الاختبار؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «مَنْ غشَّ فليس منَّا» ولأن الغش يؤدّي إلى أن ينزل الإنسان مرتبة لا يستحقّها فيتوظف وظيفة لا يستحقّ راتبها؛ لأنه ليس أهلاً لممارستها؛ حيث كانت شهاداته مزوّرة، وإن من الغريب أننا سمعنا بعض الناس يقولون: إنه يجوز الغش في مادة اللغة الإنجليزية وهذا خطأ؛ فإن مادة اللغة الإنجليزية من المواد العلميّة التي يُطالب الطالب بإتقانها؛ وعلى هذا فلا يجوز الغش فيها كما لا يجوز في سائر المواد .
فاتَّقوا الله - عباد الله - وأدّوا ما ائتمنتم عليه على الوجه الأكمل، واعلموا أن الله لم يحمّلكم الأمانة إلا وسائلكم عنها يوم القيامة .
اللهم إنا نسألك تثبيتًا وجوابًا صوابًا .
وفّقني الله وإياكم لأداء الأمانة وإبراء الذمة، وحفظنا من إضاعتها والتساهل فيها؛ إنه جواد كريم .
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولكافة المسلمين كل ذنب؛ إنه هو الغفور الرحيم .
من موقع فضيلة الشيخ:
محمد بن صالح العثيمين
أسكنه البارئ في عليين