تفصيل بديع في حكم صلاة المنفرد خلف الصف للشيخ العثيمين ـ رحمه الله ـ .
السؤال:
بعض الأحكام التي اختلف فيها الفقهاء قد ورد فيها نص من الكتاب والسنة، كصلاة المنفرد خلف الصف، هل يقال في هذا النص أو هذا الدليل: إنه ضعيف وليس حجة، ولا ينبني عليه حكم؟ أو يقال: إنه حديث صحيح، ولا اجتهاد مع النص؛ فأيهما قد ورد في هذه المسألة؟
الجواب:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وأصحابه أجمعين. الاختلاف بين العلماء كثير في هذه المسألة وغيرها، وأسبابه -أيضاً- متعددة، قد يكون سبب الخلاف أن العالم لم يبلغه الحديث، ولا غرابة ألا يبلغه الحديث؛ لعلنا نذكر قصة خفي فيها الحديث على الخليفة الثاني في هذه المسألة وعلى من معه من الصحابة وذلك حينما توجه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب إلى الشام، وفي أثناء الطريق قيل له: إن الطاعون وقع في الشام -والطاعون وباء فتاك- فوقف واستشار الصحابة كلهم؛ المهاجرين والأنصار، واختلفت آراؤهم، فمنهم من يقول: تقدم وتوكل على الله وما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، وأنت آتٍ لله عز وجل فاستمر، ومنهم من قال: لا تهلك المسلمين، لا تقدمهم على الطاعون يقتلهم ومعك الصفوة من المهاجرين والأنصار؛ فإذا قتلوا بالطاعون فهذه نكبة كبيرة.. ارجع. اختلفوا لكن استقر رأيهم على أن يرجعوا، فأتى أبو عبيدة بن الجراح -أمين هذه الأمة- ومنـزلته عالية عند أمير المؤمنين عمر، حتى أنه لما طُعن عمر رضي الله عنه قال: [لو كان أبو عبيدة حياً لخلفته على المسلمين] جاء أبو عبيدة إلى عمر فقال: [يا أمير المؤمنين! كيف ترد الناس؟ كيف ترجع؟ أتفعل هذا فراراً من قدر الله، قال: نفر من قدر الله إلى قدر الله، ثم ضرب له مثلاً، قال: لو كان هناك وادٍ -مجرى الماء- له شعبتان إحداهما مخصبة والثانية مجدبة، ولك إبل هل تعدلها عن المجدبة إلى المخصبة أم تذهب إلى المجدبة، قال: أعدلها من المجدبة إلى المخصبة، قال: بقدر الله، قال: بقدر الله، قال: هكذا نعدل] وفي أثناء ذلك جاء عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، وكان قد تغيب لحاجة له، فسمع بالخبر فجاء إلى أمير المؤمنين فقال: يا أمير المؤمنين! إني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول في الطاعون: (إذا سمعتم به في أرض فلا تقدموا عليها، وإذا وقع في أرض وأنتم فيها فلا تخرجوا منها فراراً منه) فوافق الاجتهاد النص. فأقول لكم .
أولاً: قد يخفى على العالم النص فلا يبلغه فيقول بخلافه، وقد أحسن من انتهى إلى ما سمع.
ثانياً: قد يبلغه النص لكن لم يتبين له صحته إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فيقول: هذا حديث ضعيف، ولا يعمل به.
ثالثاً: ربما بلغه ويعتقد صحته لكن لا يفهمه على فهم الآخر، فيخطئ في الفهم، يتأول ويخطئ في التأويل.
رابعاً: قد يكون بلغه وهو عنده صحيح، ويفهمه فهماً صحيحاً لكن يظن أن له نصاً آخر يعارضه، يكون النص المعارض عنده أقوى من هذا. خامساً: قد يكون ثبت عنده وليس له معارض، لكنه ظنه منسوخاً فيأخذ بما ظنه ناسخاً، مثل: أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن نتوضأ من لحوم الإبل، وهذا ثابت، فيه حديثان صحيحان عن النبي صلى الله عليه وسلم، حديث البراء وحديث جابر بن سمرة ، ففي حديث جابر (كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مست النار)، فظن كثير من العلماء أن أكل لحوم الإبل لا ينقض الوضوء؛ لأن جابراً يقول: (كان آخر الأمرين ترك الوضوء مما مست النار) فظن أن هذا الحديث ناسخ للحديث الأول؛ لأنه قال: آخر الأمرين، والحق أنه ليس بناسخ؛ لأن مورد النصين مختلف، وذلك في لحم الإبل نيئاً أو مطبوخاً، وهذا فيما مست النار، ثم ترك ذلك، فيخطئ من يظن أن حديث الوضوء من لحم الإبل منسوخ، المهم أن أسباب الخلاف كثيرة.
والمثال الذي ذكره الأخ السائل: وهو صلاة الإنسان منفرداً خلف الصف، للعلماء فيه أقوال متعددة:
القول الأول: أن صلاته صحيحة سواء تم الصف الذي أمامه أم لم يتم، ولكنه ترك الأفضل، وهذا مذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة، ورواية عن الإمام أحمد، انظر كيف أن أكثر العلماء على أن صلاة المنفرد خلف الصف صحيحة سواء تم الصف الأول الذي قبله أم لم يتم، يعتبر ثلاثة مذاهب ورواية في مذهب الإمام أحمد، وحملوا قوله صلى الله عليه وسلم: (لا صلاة لمنفرد خلف الصف) على نفي الكمال قالوا: لا صلاة أي: كاملة، وليس المعنى أن الصلاة غير صحيحة.
القول الثاني: أن صلاة المنفرد خلف الصف غير صحيحة، سواء تم الصف الذي قبله أم لم يتم، لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (لا صلاة لمنفرد خلف الصف) ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يصلي خلف الصف فأمره أن يعيد الصلاة، هذان قولان متقابلان.
القول الثالث:وسط، يقول: إن تم الصف الذي قبله فصلاته صحيحة، وإن لم يتم فصلاته غير صحيحة، وهذا القول أصح الأقوال؛ لأن الأدلة تجتمع في هذا القول، فيكون معنى: لا صلاة لمنفرد خلف الصف مع تمكن القيام في الصف، وأما إذا لم يتمكن فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها، أين يذهب؟ هل يترك الفرض مع الجماعة أم ماذا؟ قال بعضهم: اذهب وتقدم مع الإمام وهذا ليس بحل، إذا تقدمت مع الإمام لزم من هذا تخطي رقاب الناس وشق الصفوف، وهذا يؤذي المصلين، كما رأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يتخطى الرقاب يوم الجمعة فقال: (اجلس فقد آذيت) ثم إنه إذا تقدم وقام مع الإمام حصل بهذا مخالفة للسنة، فالسنة أن ينفرد الإمام بمكانه حتى لا يأتم الناس بإمامين، ولو كان مع الإمام أحد فأيهما الإمام؟ نقول: السنة أن يقف الإمام وحده في مكانه ليتبين أنه إمام، وهذا هدي النبي صلى الله عليه وسلم، ثم لو تقدم وصلى مع الإمام وجاء آخر ووجد الصف تاماً نقول: تقدم فصاروا ثلاثة، ثم جاء آخر وجد الصف تاماً نقول تقدم فصاروا أربعة، حتى يصبحوا عشرة مع الإمام وهذا غير ممكن أن يصف هؤلاء جميعاً مع الإمام، لكن لو وقف وصلى وحده خلف الصف ثم جاء آخر وقف معه وكونوا صفاً، فالقول الوسط الذي يقول: إذا وجدت الصف تاماً فصف وحدك ولا حرج، هذا هو الصحيح، وهو الذي تجتمع عليه الأدلة، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، واختيار شيخنا عبد الرحمن بن سعدي فالمهم: أن العلماء والأئمة لا يمكن أن يخالفوا النص مع علمهم بأنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بتأويل أو بخفاء الدليل، أو بظن مرجح في غيره، أو بظن النسخ، فهذه أعذار أهل العلم في مخالفة ما يظهر من النصوص، وأنصح الأخ السائل والمستمعين -أيضاً- بقراءة ( رفع الملام عن الأئمة الأعلام ) لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، أو رسالتنا الصغيرة التي ألفناها في هذا الموضوع، وهي ( أسباب اختلاف العلماء وموقفنا من ذلك)، ففي ذلك كفاية وفيها أمثلة -أيضاً- تزيدكم علماً، لأن فيها أمثلة لما خالف فيه بعض العلماء ظاهر النص، وأعذار أهل العلم في ذلك.
لقاء الباب المفتوح-33-للشيخ العثيمين.
السؤال:
بعض الأحكام التي اختلف فيها الفقهاء قد ورد فيها نص من الكتاب والسنة، كصلاة المنفرد خلف الصف، هل يقال في هذا النص أو هذا الدليل: إنه ضعيف وليس حجة، ولا ينبني عليه حكم؟ أو يقال: إنه حديث صحيح، ولا اجتهاد مع النص؛ فأيهما قد ورد في هذه المسألة؟
الجواب:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وأصحابه أجمعين. الاختلاف بين العلماء كثير في هذه المسألة وغيرها، وأسبابه -أيضاً- متعددة، قد يكون سبب الخلاف أن العالم لم يبلغه الحديث، ولا غرابة ألا يبلغه الحديث؛ لعلنا نذكر قصة خفي فيها الحديث على الخليفة الثاني في هذه المسألة وعلى من معه من الصحابة وذلك حينما توجه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب إلى الشام، وفي أثناء الطريق قيل له: إن الطاعون وقع في الشام -والطاعون وباء فتاك- فوقف واستشار الصحابة كلهم؛ المهاجرين والأنصار، واختلفت آراؤهم، فمنهم من يقول: تقدم وتوكل على الله وما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، وأنت آتٍ لله عز وجل فاستمر، ومنهم من قال: لا تهلك المسلمين، لا تقدمهم على الطاعون يقتلهم ومعك الصفوة من المهاجرين والأنصار؛ فإذا قتلوا بالطاعون فهذه نكبة كبيرة.. ارجع. اختلفوا لكن استقر رأيهم على أن يرجعوا، فأتى أبو عبيدة بن الجراح -أمين هذه الأمة- ومنـزلته عالية عند أمير المؤمنين عمر، حتى أنه لما طُعن عمر رضي الله عنه قال: [لو كان أبو عبيدة حياً لخلفته على المسلمين] جاء أبو عبيدة إلى عمر فقال: [يا أمير المؤمنين! كيف ترد الناس؟ كيف ترجع؟ أتفعل هذا فراراً من قدر الله، قال: نفر من قدر الله إلى قدر الله، ثم ضرب له مثلاً، قال: لو كان هناك وادٍ -مجرى الماء- له شعبتان إحداهما مخصبة والثانية مجدبة، ولك إبل هل تعدلها عن المجدبة إلى المخصبة أم تذهب إلى المجدبة، قال: أعدلها من المجدبة إلى المخصبة، قال: بقدر الله، قال: بقدر الله، قال: هكذا نعدل] وفي أثناء ذلك جاء عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، وكان قد تغيب لحاجة له، فسمع بالخبر فجاء إلى أمير المؤمنين فقال: يا أمير المؤمنين! إني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول في الطاعون: (إذا سمعتم به في أرض فلا تقدموا عليها، وإذا وقع في أرض وأنتم فيها فلا تخرجوا منها فراراً منه) فوافق الاجتهاد النص. فأقول لكم .
أولاً: قد يخفى على العالم النص فلا يبلغه فيقول بخلافه، وقد أحسن من انتهى إلى ما سمع.
ثانياً: قد يبلغه النص لكن لم يتبين له صحته إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فيقول: هذا حديث ضعيف، ولا يعمل به.
ثالثاً: ربما بلغه ويعتقد صحته لكن لا يفهمه على فهم الآخر، فيخطئ في الفهم، يتأول ويخطئ في التأويل.
رابعاً: قد يكون بلغه وهو عنده صحيح، ويفهمه فهماً صحيحاً لكن يظن أن له نصاً آخر يعارضه، يكون النص المعارض عنده أقوى من هذا. خامساً: قد يكون ثبت عنده وليس له معارض، لكنه ظنه منسوخاً فيأخذ بما ظنه ناسخاً، مثل: أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن نتوضأ من لحوم الإبل، وهذا ثابت، فيه حديثان صحيحان عن النبي صلى الله عليه وسلم، حديث البراء وحديث جابر بن سمرة ، ففي حديث جابر (كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مست النار)، فظن كثير من العلماء أن أكل لحوم الإبل لا ينقض الوضوء؛ لأن جابراً يقول: (كان آخر الأمرين ترك الوضوء مما مست النار) فظن أن هذا الحديث ناسخ للحديث الأول؛ لأنه قال: آخر الأمرين، والحق أنه ليس بناسخ؛ لأن مورد النصين مختلف، وذلك في لحم الإبل نيئاً أو مطبوخاً، وهذا فيما مست النار، ثم ترك ذلك، فيخطئ من يظن أن حديث الوضوء من لحم الإبل منسوخ، المهم أن أسباب الخلاف كثيرة.
والمثال الذي ذكره الأخ السائل: وهو صلاة الإنسان منفرداً خلف الصف، للعلماء فيه أقوال متعددة:
القول الأول: أن صلاته صحيحة سواء تم الصف الذي أمامه أم لم يتم، ولكنه ترك الأفضل، وهذا مذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة، ورواية عن الإمام أحمد، انظر كيف أن أكثر العلماء على أن صلاة المنفرد خلف الصف صحيحة سواء تم الصف الأول الذي قبله أم لم يتم، يعتبر ثلاثة مذاهب ورواية في مذهب الإمام أحمد، وحملوا قوله صلى الله عليه وسلم: (لا صلاة لمنفرد خلف الصف) على نفي الكمال قالوا: لا صلاة أي: كاملة، وليس المعنى أن الصلاة غير صحيحة.
القول الثاني: أن صلاة المنفرد خلف الصف غير صحيحة، سواء تم الصف الذي قبله أم لم يتم، لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (لا صلاة لمنفرد خلف الصف) ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يصلي خلف الصف فأمره أن يعيد الصلاة، هذان قولان متقابلان.
القول الثالث:وسط، يقول: إن تم الصف الذي قبله فصلاته صحيحة، وإن لم يتم فصلاته غير صحيحة، وهذا القول أصح الأقوال؛ لأن الأدلة تجتمع في هذا القول، فيكون معنى: لا صلاة لمنفرد خلف الصف مع تمكن القيام في الصف، وأما إذا لم يتمكن فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها، أين يذهب؟ هل يترك الفرض مع الجماعة أم ماذا؟ قال بعضهم: اذهب وتقدم مع الإمام وهذا ليس بحل، إذا تقدمت مع الإمام لزم من هذا تخطي رقاب الناس وشق الصفوف، وهذا يؤذي المصلين، كما رأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يتخطى الرقاب يوم الجمعة فقال: (اجلس فقد آذيت) ثم إنه إذا تقدم وقام مع الإمام حصل بهذا مخالفة للسنة، فالسنة أن ينفرد الإمام بمكانه حتى لا يأتم الناس بإمامين، ولو كان مع الإمام أحد فأيهما الإمام؟ نقول: السنة أن يقف الإمام وحده في مكانه ليتبين أنه إمام، وهذا هدي النبي صلى الله عليه وسلم، ثم لو تقدم وصلى مع الإمام وجاء آخر ووجد الصف تاماً نقول: تقدم فصاروا ثلاثة، ثم جاء آخر وجد الصف تاماً نقول تقدم فصاروا أربعة، حتى يصبحوا عشرة مع الإمام وهذا غير ممكن أن يصف هؤلاء جميعاً مع الإمام، لكن لو وقف وصلى وحده خلف الصف ثم جاء آخر وقف معه وكونوا صفاً، فالقول الوسط الذي يقول: إذا وجدت الصف تاماً فصف وحدك ولا حرج، هذا هو الصحيح، وهو الذي تجتمع عليه الأدلة، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، واختيار شيخنا عبد الرحمن بن سعدي فالمهم: أن العلماء والأئمة لا يمكن أن يخالفوا النص مع علمهم بأنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بتأويل أو بخفاء الدليل، أو بظن مرجح في غيره، أو بظن النسخ، فهذه أعذار أهل العلم في مخالفة ما يظهر من النصوص، وأنصح الأخ السائل والمستمعين -أيضاً- بقراءة ( رفع الملام عن الأئمة الأعلام ) لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، أو رسالتنا الصغيرة التي ألفناها في هذا الموضوع، وهي ( أسباب اختلاف العلماء وموقفنا من ذلك)، ففي ذلك كفاية وفيها أمثلة -أيضاً- تزيدكم علماً، لأن فيها أمثلة لما خالف فيه بعض العلماء ظاهر النص، وأعذار أهل العلم في ذلك.
لقاء الباب المفتوح-33-للشيخ العثيمين.
تعليق