بسم الله الرحمن الرحيم
أوجه التدليل على مشروعية الجمع بين الاستنجاء والاستجمار
أوجه التدليل على مشروعية الجمع بين الاستنجاء والاستجمار
تذاكرت وبعض الأخوة مسألة الجمع بين الاستجمار والاستنجاء بالماء ، وكان التساؤل ما هو الدليل على جواز ذلك مع ضعف الدليل الوارد في أفضلية الجمع بينهما، فكان في ذاكرتي أنّ هناك من حكى اتفاق الفقهاء على ذلك، ثم رجعت فبحثت عنه للتأكد منه فأحببت هنا نفع إخواني به، ثم اقتضت الإفادة التوسع قليلا في النقول والآثار ، فأذكر أولًا الدليل الضعيف :
قال البزار كما في "كشف الأستار عن زوائد البزار" للهيثمي تحت باب ((باب الجمع بين الماء والحجر)) :
247- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَبِيبٍ ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، قَالَ : وَجَدْتُ فِي كِتَابِ أَبِي ، عَنِ الزُّهْرِيِّ ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي أَهْلِ قُبَاءَ : { فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ } ، فَسَأَلَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالُوا : إِنَّا نُتْبِعُ الْحِجَارَةَ الْمَاءَ
قَالَ الْبَزَّارُ : لا نَعْلَمُ رَوَاهُ عَنِ الزُّهْرِيِّ إِلا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، وَلا عَنْهُ إِلا ابْنُهُ. ا.هــــ
ضعفه النووي في المجموع والحافظ في البلوغ والهيثمي في مجمع الزوائد والعلامة الألباني في غير موضع وعارضهم الشيخ المحدث عبد الله الدويش -رحمه الله- في كتابه ((تنبيه القارئ على تقوية ما ضعفه الألباني)):
قال الحافظ في التلخيص (ص 41) ومحمد بن عبد العزيز ضعفه أبو حاتم فقال : ليس له ولا لأخويه عمران وعبد الله حديث مستقيم ، وعبد الله بن شبيب ضعيف أيضًا . انتهى من إرواء الغليل الجزء الأول (ص 83) .
أقول [الدويش] : وجدت ما يدل على أن له أصلاً قال عمر بن شبه في أخبار المدينة الجزء الأول (ص 48 ، 49) حدثنا معاوية بن عمرو قال :
حدثنا زهير يعني ابن معاوية عن عاصم الأحول عن رجل من الأنصار في هذه الآية { فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ } قال : فسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهل قباء عن طهورهم وكأنهم كانوا يستحيون أن يحدثوه فقالوا : طهورنا طهور الناس . فقال : « [إنّ] لكم طهورًا » . فقالوا : إنَّا لنا خبرًا إنَّا نستنجي بالماء بعد الحجارة أو بعد الدراري . قال : « إن الله يرضى طهوركم يا أهل قباء » . ا.هــــــ كلامه رحمه الله
قلت والله أعلم: الصواب من الناحية الحديثية ما قرره النووي وابن حجر والألباني -رحمهم الله جميعا- واللفظ الصحيح للحديث هو:
ما ورد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي أَهْلِ قُبَاءٍ: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} [التوبة: 108] "، قَالَ: «كَانُوا يَسْتَنْجُونَ بِالْمَاءِ، فَنَزَلَتْ فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَةُ»
وفي لفظ ابن ماجه ساقه بسنده إلى أن قال:
.. حَدَّثَنِي طَلْحَةُ بْنُ نَافِعٍ أَبُو سُفْيَانَ ، حَدَّثَنِي أَبُو أَيُّوبَ الأَنْصَارِيُّ ، وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ ، وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ ، أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ : {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَليْهِ وسَلَّمَ : يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ ، إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَثْنَى عَلَيْكُمْ فِي الطُّهُورِ ، فَمَا طُهُورُكُمْ ؟ قَالُوا : نَتَوَضَّأُ لِلصَّلاَةِ ، وَنَغْتَسِلُ مِنَ الْجَنَابَةِ ، وَنَسْتَنْجِي بِالْمَاءِ , قَالَ : فَهُوَ ذَاكَ ، فَعَلَيْكُمُوهُ.
وليس في الحديث ذكر الاستجمار لكن قد استنبط النووي بنظره الفقهي من هذا اللفظ ما يدل على الاستنجمار ومشروعية الجمع بينهما وستأتي هذه النكتة.
وجاء أثر موقوف يشد من مشروعية الجمع بين الاستجمار والاستنجاء فأخرج ابن أبي شيبة عن علي-رضي الله عنه- قال:
1645- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَعْلَى ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ ، قَالَ : قَالَ عَلِيٌّ : إنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَبْعَرُونَ بَعْرًا ، وَإِنَّكُمْ تَثْلِطُونَ ثَلْطًا ، فَأَتْبِعُوا الْحِجَارَةَ بِالْمَاءِ. ا.ه
وعبد الملك بن عُمير من المعمرين فقد عاش فوق المائة وأدرك عليا -رضي الله عنه- فهو كوفي، وقد رآه وهو صغير حيث وُلد لثلاث بقين من خلافة عثمان -رضي الله عنه- ، ففي السند انقطاع يسير ، والأثر عند البيهقي في الكبير ( ر 522 ،523 ) وقد ورد تسمية الواسطة في إحدى الروايات ( كُرْدُوس الثَّعْلَبِيِّ ) كما عند الدارقطني في العلل (ر 425) وقد ذكر الخلاف فيه، وكردوس هذا فيه خلاف هل هو واحد أم ثلاثة أم أربعة؟ والخلاف في توثيقه راجع للخلاف في تحديد عينه.
وقد جود إسناد هذا الأثر الزيلعي في "نصب الراية" وحسنه ابن حجر في "هداية الرواة"، وقد ناقش هذا الألباني في "الضعيفة" (ر 1031)
ومع ضعف الأخبار الصريحة في الباب كما ترى إلا أنّ النووي استنبط مشروعية الجمع من اللفظ المشهور فقال في "المجموع":
فإذا علم أنّه ليس له أصل من جهة الرواية فيمكن تصحيحه من جهة الاستنباط لأنّ الاسنتجاء بالحجر كان معلوما عندهم يفعله جميعهم، وأما الاستنجاء بالماء فهو الذى انفردوا به فلهذا ذُكر ولم يُذكر الحجر لأنّه مشترك بينهم وبين غيرهم ولكونه معلومًا، فإنّ المقصود بيان فضلهم الذى أثنى الله تعالى عليهم بسببه، ويؤيد هذا قولهم: ((إِذَا خَرَجَ أَحَدَنَا مِنَ الْغَائِطِ أَحَبَّ أَنْ يَسْتَنْجِيَ بِالْمَاءِ)) فهذا يدل على أنّ استنجاءهم بالماء كان بعد خروجهم من الخلاء والعادة جارية بأنّه لا يخرج من الخلاء الا بعد التمسح بماء أو حجر: وهكذا المستحب أن يستنجى بالحجر في موضع قضاء الحاجة ويؤخر الماء إلى أن ينتقل إلى موضع آخر والله أعلم ا.هـــــ
والشيخ الألباني -رحمه الله- أقرّ بظهور هذا الاستنباط لكن اعترض عليه بأمرين أحدهما ضعف اللفظ الثاني الذي ذكره النووي -رحمه الله- ويحتاج مزيد تأمل ، وبتسليم ضعفه فهذا اللفظ الثاني جاء نحوه عن صحابي كما عند ابن المنذر في الأوسط:
306 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ، ثنا عَبْدُ اللهِ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ حُصَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ ذر، عَنْ حَنْظَلَةَ، قَالَ: كَانَ حُذَيْفَةُ يَسْتَنْجِي بِالْمَاءِ إِذَا خَرَجَ مِنَ الْخَلَاءِ ا.هـ
علي بن الحسن هو ابن أبي عيسى وثقه الذهلي وغيره، وعبد الله هذا هو ابن الوليد جيد الحديث ، وسفيان هو الثوري إمام مشهور، وحصين هو السلمي ، وذر هو الهمداني ، أما حنظلة فلم يتضح لي من هو؟ وفي هذه الطبقة جماعة كابن قيس الزرقي وهو ثقة، أو ابن الربيع وهو صحابي.
ثم اتضح لي خطأي فحنظلة هذا هو ابْن سَبرَة بْن المُسَيَّب بْن نَجَبَة، الفَزاريّ روى عنه ذر كما في التأريخ الكبير للبخاري وأبو حاتم في الجرح والتعديل، وهو يروي عن حذيفة بواسطة عمته (جُمَانَةُ بِنْتُ الْمُسَيِّبِ) وكانت تحت حذيفة -رضي الله عنه-، وقد أتى هذا الأثر بلفظ آخر عند "الدارمي":
704 - أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ الْعَوَّامِ، عَنْ حُصَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ ذَرٍّ، عَنِ حَنْظَلَةَ بْنِ سَبْرَةَ بْنِ الْمُسَيَّبِ بْنِ نَجَبَةَ، قَالَ: حَدَّثَتْنِي عَمَّتِي، وَكَانَتْ تَحْتَ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ حُذَيْفَةَ، كَانَ «يَسْتَنْجِي بِالْمَاءِ» ا.هـ
وحنظلة هذا ذكره ابن حبان في الثقات، وأورده ابن قُطْلُوْبَغَا في كتابه "الثقات ممن لم يقع في الكتب الستة " ، روى عنه :
-ذر الهمداني. - شعيب بن خالد الرازي. - عمر بن ذر الهمداني. - عمرو بن دينار [عند ابن سعد في الطبقات]
وكلهم ثقات علماء،لا يُعرف له توثيق من معتبر، وأما عمته جمانة فهي زوج حذيفة -رضي الله عنه- كما سبق فالواسطة معلومة ، وباب الآثار يُتساهل فيه خاصة إن كان ليس حجة برأسه ثم قد يُقال : هم أهل بيت حذيفة -رضي الله عنه- أي (حنظلة، وجمانة) وهذه الأمور يضبطها حتى الضعيف لاختصاصه بأهله والله أعلم.
تتمة: قد ورد متابع لحنظلة فأخرج ابن المنذر في الأوسط:
308 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ، ثنا سَعِيدٌ، ثنا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ حُصَيْنٍ، عَنْ ذر، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ سَبْرَةَ، عَنْ عَمَّتِهِ، عَنْ حُذَيْفَةَ، أَنَّهُ كَانَ يَسْتَنْجِي بِالْمَاءِ ا.هـ
ثم إن اللفظ الأول يدل على ما دل عليه اللفظ المرفوع الذي ضعفه الشيخ الألباني -رحمه الله- حيث إن الاستنجاء بعد الخروج من الخلاء ظاهر في أنّه قد سُبق باستجمار.
فلعل استنباط النووي باقٍ سواء باللفظ الأول أو الثاني، ويشده اتفاق العلماء على العمل به ، ثم أثر حذيفة -رضي الله عنه-، ثم أثر على -رضي الله عنه- مع التسليم بالانقطاع اليسير فيه، وهذه الوجوه وإن كانت مزعزعة لكن علّها مجتمعة أقرب من مخالفة جماهير الأمة ، ودونك بعض النقول فيها نقل الاتفاق على مشروعية الجمع:
1- قال الإمام النووي في شرح مسلم:
الذي عليه الجماهير من السلف والخلف وأجمع عليه أهل الفتوى من أئمة الامصار أنّ الأفضل أن يجمع بين الماء والحجر فيستعمل الحجر أولا لتخف النجاسة وتقل مباشرتها بيده ثم يستعمل الماء ا.هـــ كتاب الطهارة باب الاستطابة
2- قال الكاساني في "بدائع الصنائع" بعد ذكر حديث اتباع الحجارة بالماء:
ثُمَّ صَارَ بَعْدَ عَصْرِهِ من السُّنَنِ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ كَالتَّرَاوِيحِ ا.هـ
3- قال المباركفوري في "تحفة الأحوذي":
قَالَ الْعَيْنِيُّ مَذْهَبُ جُمْهُورِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ وَالَّذِي أَجْمَعَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْفَتْوَى مِنْ أَهْلِ الْأَمْصَارِ أَنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الْمَاءِ وَالْحَجَرِ فَيُقَدِّمَ الْحَجَرَ أَوَّلًا ثُمَّ يَسْتَعْمِلَ الْمَاءَ فَتَخِفُّ النَّجَاسَةُ وَتَقِلُّ مُبَاشَرَتُهَا بِيَدِهِ وَيَكُونُ أَبْلَغَ فِي النَّظَافَةِ اهـــ
وبنحوه في شرح العيني على سنن أبي داود والبخاري.
4- قال اللكنوي:
والجمع بينهما أفضل إجماعا خلافا للشيعة حيث لم يكتفوا بغير الماء ا.هـ التعليق الممجد على موطأ مالك رواية محمد بن الحسن.
4- وعبارة القسطلاني في "إرشاد الساري شرح البخاري":
والذي عليه جمهور السلف والخلف رضي الله عنهما أن الجمع بين الماء والحجر أفضل فيقدم الحجر لتخفيف النجاسة وثقل مباشرتها بيده ثم يستعمل الماء وسواء فيه الغائط والبول كما قاله ابن سراقة وسليم الرازي، وكلام القفال الشاشي في محاسن الشريعة يقتضي تخصيصه بالغائط ا.هـ
5- قال الشيخ عطية سالم -رحمه الله-:
ولهذا قال العلماء: أيها أفضل: الاستجمار فقط بالحجارة أم الغسل بالماء فقط، أم الجمع بينهما؟ واتفقوا على أن الجمع بينهما أفضل. ا.هـ
ثم نقل الشيخ اعتراض بعض المتأخرين فقال:
وبعض العلماء يقول: لم ينقل لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم استعمل الحجارة والماء، ففي قضية تبوك حديث المغيرة : ( ائتني بثلاثة أحجار ) وحديث ابن مسعود : ( فأتيته بحجرين
وروثة ) وحديث المغيرة : ( ثم جاء فصببت على يديه فتوضأ ) وكانت الإداوة مع المغيرة فقالوا: الرسول لم يجمع بين الحجارة والماء في حديث عرفناه ا.هــ
ثم كرر نقل الاتفاق فقال:
والبعض يقول: هذه طهارة، وينبغي استعمالها، واتفقوا على أن الجمع بين الطهورين أفضل، فيستجمر بالحجارة ولا يباشر النجوى بيده، ثم يغسل بالماء ما أبقت الحجارة في ذلك المحل ا.هـــ من شرح بلوغ المرام.
قلت: وممن خالف في هذه المسألة من المعاصرين الشيخ الألباني -رحمه الله- حيث قال في "تمام المنة":
الجمع بين الماء والحجارة في الاستنجاء لم يصح عنه -صلى الله عليه وسلم- فأخشى أن يكون القول بالجمع من الغلو في الدين لأنّ هديه -صلى الله عليه وسلم- الاكتفاء بأحدهما"وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم- وشر الأمور محدثاتها . . " ا.هـــ
والصواب ما سبق من مشروعية الجمع استنباطا من الحديث الصحيح كما أفاده العلامة النووي -رحمه الله- وهكذا الاتفاق المنقول ويُستأنس بأثر حذيفة ثم أثر علي-رضي الله عنه-، وقد قال ابن عبد البر في "الاستذكار":
وأما الأنصار فمشهور عنهم أنهم كانوا يتوضؤون بالماء ومنهم من كان يجمع بين الطهارتين فيستنجي بالأحجار ثم يتبع آثار الأحجار الماء ا.هــ
ثم هكذا يدل عليه النظر يدل عليه فهو:
أ- أبلغ في التنظيف. ب- أبعد من مس الأذى باليد.
كما أشار إليه جماعة وسيأتي من كلام ابن تيمية -رحمه الله-، وقد ناقش الشيخ الألباني -رحمه الله- استنباط النووي في "الضعيفة" ، وعمومًا في الأمر سعة وقول عامة العلماء من بعد العصور الفاضلة أرجى للقبول ، وقد اختار هذا:
- الشافعي في "الأم" فقال:
وإذا اسْتَنْجَى رَجُلٌ بِشَيْءٍ غَيْرِ الْمَاءِ لم يُجْزِهِ أَقَلُّ من ثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ وَإِنْ أَنْقَى وَالِاسْتِنْجَاءُ كَافٍ وَلَوْ جَمَعَهُ رَجُلٌ ثُمَّ غَسَلَ بِالْمَاءِ كان أَحَبَّ إلَيَّ ا.هـ
والإمام أحمد:
- جاء في مسائل "عبد الله": رأيت أبي إذا بال استبرأ استبراء شديدا وكان إذا دخل الخلاء له أحجار يتمسح بها ثم يتبعها الماء بعد ذلك ويتبع الاستبراء بالماء أيضا رأيت أبي إذا بال له مواضع يمسح فيها ذكره وينثره مرارا كثيرة وكانت له أحجار ثم يتبع الأحجار بالماء اهــ
- قال شيخ الإسلام في شرح العمدة:" ثُمَّ يَسْتَجْمِرُ وِتْرًا ثُمَّ يَسْتَنْجِي بِالْمَاءِ ".
هَذَا هُوَ الْأَفْضَلُ؛ لِأَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: " «مُرْنَ أَزْوَاجَكُنَّ أَنْ يُتْبِعُوا الْحِجَارَةَ الْمَاءَ مِنْ أَثَرِ الْغَائِطِ وَالْبَوْلِ فَإِنِّي أَسْتَحْيِيهِمْ، كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُهُ» " احْتَجَّ بِهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ، وَرَوَى أَيْضًا فِي كِتَابِ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ أَنَّ نَاسًا مِنَ الْأَنْصَارِ كَانُوا يُتْبِعُونَ الِاسْتِنْجَاءَ بِالْحِجَارَةِ الْمَاءَ فَنَزَلَتْ (فِيهِ رِجَالٌ)، وَلِأَنَّ الْغَسْلَ بَعْدَ تَجْفِيفِ النَّجَاسَةِ أَبْلَغُ فِي التَّنْظِيفِ، فَصَارَ كَالْغَسْلِ بَعْدَ الْحَتِّ وَالْفَرْكِ فِي غَيْرِ ذَلِكَ؛ وَلِأَنَّهُ أَبْعَدُ مِنْ مَسِّ الْأَذَى بِالْيَدِ الْمُحْوِجِ إِلَى تَكَلُّفِ تَطْهِيرِهَا.ا.هـــ كلامه رحمه الله
قلت : أما سبب النزول فقد مضى التنبيه على عدم صحته حديثيا، وابن تيمية قد ذكره على الصواب في مواضع عدة من كتبه، وأما حديث عائشة "مرن أزواجكن" فكذلك لا أصل له بهذا اللفظ انظر "إرواء الغليل" (ر 42) ورحم الله العلامة الألباني وغفر له فقد كان دقيقا في هذا الباب.
3- ابن المنذر في "الأوسط":
وَلَوْ جَمَعَهُمَا فَاعِلٌ فَبَدَأَ بِالْحِجَارَةِ، ثُمَّ أَتْبَعَهُ الْمَاءَ كَانَ حَسَنًا، وَأَيُّ ذَلِكَ فَعَلَ يجزئه ا.هـ
ولم أحاول تتبع كتب الفقه المتقدمة وإلا لوجدت نقولا أخرى فلعل أخواننا يفيدون بها ، وأؤكد أخيرا أنّ ما سبق ذكره من اتفاق العلماء وما يعضده من الأدلة يفيد أقله جواز الجمع بينهما دون كراهة والله تعالى أعلى وأعلم.
فائدة:
ذهب اللكنوي بعيدًا حيث ادعى أنّ الجمع هو ظاهر فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال:
وأما الجمع بين الماء والحجر فهو أفضل الأحوال وفيه نزلت { فيه } أي في مسجد قبا { رجال يحبون أن يتطهروا } وكان أهل قبا يجمعون بينهما . أخرجه ابن خزيمة والبزار وغيرهما .
وقد سقت الأخبار فيه في رسالتي " مذيلة الدراية لمقدمة الهداية " والمعلوم من الأحاديث المروية في الصحاح أن الجمع كان غالب أحواله صلى الله عليه و سلم وهذا كله في الاستنجاء من الغائط وأما الاستنجاء من البول فلم نعلم فيه خبرا يدل على الإنقاء بالحجر إلا ما يحكى عن عمر أنه بال ومسح ذكره على التراب وقد فصلته في رسالتي المذكورة ا.هــ من تعليقه على موطأ مالك رواية محمد بن الحسن.
قلت: وهذا البحث في ص13 من "ذيل الدراية" وهو لا يتجاوز نصف صفحة وليس فيه أثارة من التحرير والله المستعان.