بسم الله الرحمن الرحيم
اختلاف العلماء في تفسير (من حمله فليتوضأ) . ما معنى (حمله)؟
[ولطائف إسنادية وبحث في براءة ابن عجلان من التدليس]
[ولطائف إسنادية وبحث في براءة ابن عجلان من التدليس]
اختلفت نظرات علماء الحديث فيما روي عن النبي-صلى الله عليه وسلم- ((مَنْ غَسَّلَ مَيِّتًا فَلْيَغْتَسِلْ وَمَنْ حَمَلَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ )) من جهة الحكم عليه صحة وضعفا ، ومن جهة تأويله وفهمه، فأما الجهة الأولى:
فالحديث مما اختلف فيه العلماء خلافا مبسوطا فذهب أحمد وابن المديني -ويظهر من كلام البخاري متابعتهما -وابن خزيمة وجماعة إلى أنّه لا يصح في الباب شيء ، وذهب الترمذي إلى تحسينه -أي لغيره- كما في السنن وصححه ابن حبان في كتابه ، وذهب البيهقي إلى صحته موقوفا على أبي هريرة-رضي الله عنه- وضعف المرفوع.
وقد ورد الحديث من أحد عشر طريقًا إن لم يكن أكثر ، وأكثر هذه الطرق وقع فيها خلاف بين الرواة ، لكن بعض أهل العلم قواه لكثرة طرقه كابن الملقن والذهبي وابن حجر والشيخ الألباني والشيخ مقبل -رحمهم الله- ، ولو أراد المرء سرد طرق هذا الحديث لبلغت المشاركة جزءا وقد قال ابن الملقن في البدر ((وَقد نقل الإِمَام أَبُو الْحسن الْمَاوَرْدِيّ من أَئِمَّة أَصْحَابنَا فِي «حاويه» عَن بعض أَصْحَاب الحَدِيث أَنه خرج لصِحَّة هَذَا الحَدِيث مائَة وَعشْرين طَرِيقا[1] ، فَأَقل أَحْوَاله (إِذا) أَن يكون حسنا )) ا.هـ [2/ 536]
وعلى أية حال : فرغم أنّ عامة طرق هذا الحديث مضطربة أو معلة إلا أنّه بقيت طريق واحدة لست أدري ما شأنها فظاهر إسنادها الحسن وليس لها علة حسب علمي، وقد أورد هذه الطريق البيهقي في سننه الكبير وأشار إليها البخاري في تأريخه فقال الأول:
1447- أَخْبَرَنَا أَبُو زَكَرِيَّا يَحْيَى بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى، حدثنا أَبُو سَهْلٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ، عَنِ الْقَعْقَاعِ بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " مَنْ غَسَّلَ مَيِّتًا فَلْيَغْتَسِلْ وَمَنْ حَمَلَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ " [2/ 382 ط هجر] [2]
وقال البخاري في ترجمة ((إِسحاق، أَبو عَبد اللهِ، مَولَى زائدة، المَدَنِيٌّ.)):
قالَ لي عِمران بْنُ مَيسرة، عَنِ ابْنِ عُلَيَّة، عَنْ سُهَيل، عَنْ أَبيه، عَنْ إِسحاق، مَولَى زَائِدَةَ، عَنْ أَبي هُرَيرةَ، قَالَ: مَنْ غَسَّلَ مَيِّتًا فَلْيَغْتَسِلْ.
....
وقال ابْن عَجلان: عَنِ الْقَعْقَاعِ، عَنْ أَبي صَالِحٍ، عَنْ أَبي هُرَيرةَ، عَن النبيِّ صَلى اللَّهُ عَلَيه وسَلم. ا.هـ
فهذه الطريق حسنة لولا ما قيل من تدليس ابن عجلان ، وهذا لو ثبت فهو نادر ولم يذكره إلا الطحاوي من المتقدمين وأورده الحافظ في الطبقة الثالثة؟! ولا أدري ما وجهه، ويحتاج لسبر منهج الأئمة الحفاظ هل كان يُعلون بعنعنته أم لا؟
ومما وجدته ما قاله صاحب مصباح الزجاج في زوائد ابن ماجه" حيث قال:
16 باب النهي عن إقامة الحدود في المسجد
( 924 ) حدثنا محمد بن رمح أنبأنا عبدالله بن لهيعة عن محمد بن عجلان أنه سمع عمرو بن شعيب يحدث عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن جلد الحد في المساجد
( 029 ) هذا إسناد ضعيف لضعف ابن لهيعة وله شاهد من حديث ابن عباس رواه الترمذي وابن ماجه ومحمد بن عجلان مدلس أيضا ا.هــ
وقد حاولت قدر الطاقة تتبع كتب التخريج والعلل لأجد حديثا أعله العلماء بعنعنة ابن عجلان فلم أجد وهذا يدل على ندرة تدليسه إن صح، ولذا استنكر العلامة الألباني ما ذكره صاحب الزوائد بل كأنه لم يقع عليه في "الزوائد" فقد قال في الإرواء":
وأما ما نقله السندي في ( حاشية ابن ماجه ) عن ( الزوائد ) أنه أعله بمحمد بن عجلان أيضا قال : وهو مدلس . فهو مع عدم وجوده في نسختنا من ( الزوائد ) ( 1 / 161 ) فإنى لم أر من رمى ابن عجلان بالتدليس . والله أعلم ا.هــــ
قلت (عاصم): صدق الألباني -رحمه الله- فليس هو كذلك في طبعة دار "الجنان" لكنه في طبعة "العربية" ت: الكشناوي.
وأما قول الإمام -رحمه الله-: فإنى لم أر من رمى ابن عجلان بالتدليس ا.هـ
فمن حيث النتيجة فحق وصواب كما سيأتي تحريره، لكن من حيث الواقع فقد رماه بالتدليس العلائي في جامع التحصيل" وتابعه ابن العجمي وابن حجر والسيوطي ، وأقدم من وصفه بذلك الطحاوي فقال:
فَتَأَمَّلْنَا إسْنَادَ هذا الحديث هل هو مَوْصُولٌ أو قد دَخَلَهُ تَدْلِيسٌ من ابْنِ عَجْلاَنَ أَتَاهُ بِهِ عَنِ الأَعْرَجِ يحدث بِهِ عنه بِغَيْرِ سَمَاعٍ منه إيَّاهُ.....وَوَجَدْنَا يحيى بن عُثْمَانَ قد حدثنا قال حدثنا نُعَيْمُ بن حَمَّادٍ حدثنا ابن الْمُبَارَكِ ثُمَّ ذَكَرَ بِإِسْنَادِهِ مثله وقال في آخِرِهِ ثُمَّ سَمِعْتُهُ من رَبِيعَةَ بن عُثْمَانَ ولم يُذْكَرْ في أَوَّلِهِ رَبِيعَةُفَوَقَفْنَا بِذَلِكَ على أَنَّ مُحَمَّدَ بن عَجْلاَنَ إنَّمَا حَدَّثَ بِهِ عَنِ الأَعْرَجِ تَدْلِيسًا منه بِهِ عنه وَأَنَّهُ إنَّمَا كان أَخَذَهُ من رَبِيعَةَ بن عُثْمَانَ... ا.هـ من مشكل الآثار.
قلت: هكذا ابتدأ الطحاوي -رحمه الله- رمي ابن عجلان بالتدليس، وما ذكره لا يصح مثالا لتدليس ابن عجلان، بل الذي يظهر أنه من قبيل الاختلاف عليه، وليت الطحاوي تأنى قبل هجمته على هذا العالم الجليل ، ولبيان الأمر قال الحافظ الدارقطني:
2021- وَسُئِلَ عَنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَكُلٌّ عَلَى خَيْرٍ.
فَقَالَ: يَرْوِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَجْلَانَ، وَاخْتُلِفَ عَنْهُ؛
فَرَوَاهُ ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ ابْنِ عَجْلَانَ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
قَالَ ذَلِكَ نُعَيْمُ بْنُ يَعْقُوبَ عَنْهُ.
وَخَالَفَهُ الْحُمَيْدِيُّ؛
فَرَوَاهُ عَنْهُ عَنِ ابْنِ عَجْلَانَ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ آلِ أَبِي رَبِيعَةَ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
وَرَوَاهُ ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنِ ابْنِ عَجْلَانَ، عَنْ رَبِيعَةَ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَهُوَ رَبِيعَةُ بْنُ عُثْمَانَ.
وَرَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِدْرِيسَ، فَضَبَطَ إِسْنَادَهُ وُجُودُهُ، رَوَاهُ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حِبَّانٍ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَهُوَ الصَّحِيحُ. ا.هــ العلل [10/ 302]
بل قد اختلف على ابن عجلان فوق ما ذكره الحافظ الدراقطني فأتى عند النسائي في "الكبرى":
أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَصْرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْفُضَيْلُ وَهُوَ ابْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَجْلَانَ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ا.هــ
بل أفاد أبو نعيم في الحلية وجهًا آخر فقال:
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، ثنا عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ، ثنا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، ثنا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ ابْنِ عَجْلَانَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، ا.هــ
بل ذكر ابن أبي حاتم في العلل اختلافا آخر عنه فقال:
أَخْبَرَنَا أَبُو محمَّد قَالَ : وسمعتُ عليَّ بنَ الْحُسَيْنِ بْنِ الجُنَيْد، وَرَأَى فِي كِتَابِي حديثً عَنْ محمَّد بْنِ عَوْف الحِمْصي، عَنْ حَيْوَة بْنِ شُرَيح، عَنْ بَقِيَّة ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ يَحْيَى الصَّدَفي ، عن محمَّد ابن عَجْلان، عَنِ الأعْرَج ، عَنْ أَبِي هريرة، عن عمر بن الخطَّاب؛ قَالَ: قَالَ رسولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-..الحديث ا.هـ
قلت (عاصم) : فزاد في هذه الطريق -بعد أبي هريرة- عمر بن الخطاب -رضي الله عنهما-، وبناء على ما سبق يكون هذا الحديث مما اضطرب فيه ابن عجلان -رحمه الله- على سبعة أوجه ، فهل يصح أن يأتي الطحاوي ويأخذ رواية منها ثم يقول: فلان مدلس لأنه في طريق من الطرق حذف أحد الرواة؟! سبحانك ربي ! فعلى هذا يصح لنا رمي كبار الحفاظ بالتدليس فما من إمام إلا وقد أخطأ في أحاديث أسقط منها بعض الرواة ! ولذا أنصف ابن حجر لما قال في الفتح" بعد إيراده الخلاف عليه وإيراده لكلام الطحاوي:
وقد أخرجها مسلم من طريق عبد الله بن إدريس أيضا واقتصر عليها ولم يخرج بقية الطرق من أجل الاختلاف على ابن عجلان في سنده ا.هــ من فتح الباري.
فجعله من قبيل الاختلاف عليه لا من التدليس ولا أدري كيف غفل عن هذا في طبقاته للمدلسين؟، فكأنه ذهل حينها عن مستند من رمى ابن عجلان بالتدليس ، ثم كأن التصحيف الذي وقع في نسخته أوهمه بشهرة تدليسه ، وصورة التصحيف أنه ظن ابن حبان يرمي ابن عجلان بالتدليس وليس كذلك ولكن تصحف (ابن أبي حاتم) إلى (أبي حاتم) في نسخته كما سيأتي بيان هذه اللطيفة والله أعلم.
وعليه ختاما لهذا المبحث فلا يصح رمي ابن عجلان بالتدليس فضلا عن أن يُوضع في الطبقة الثالثة التي لا تقبل عنعنتهم فهذا بعيد جدا ، وعليه فهذا السند ظاهره الحسن وهذه علة مطرحة والله أعلم.
تنبيه: ثم هنا لطيفة أخرى وهي أنّ العلائي لمّا ذكر تدليس ابن عجلان قال:
فقال-[أي ابن أبي حاتم]: إنما سمعه من ربيعة بن عثمان عن الأعرج...وذكر غير ابن أبي حاتم أيضا أنه كان يدلس أعني ابن عجلان ا.هـ
فلما نقل الحافظ ابن حجر الخبر في طبقاته قال: وصفه ابن حبان بالتدليس ا.هــ
وهنا عدة أوهام في كلامهما:
أما الأول: ففي كلام العلائي حيث إنّ الكلام الذي نسبه لابن أبي حاتم ليس هو كلامه وإنما هو كلام الطحاوي ولكن اختلط عليه، وقد تابعه على هذا الخطأ من أتى بعده كسبط ابن العجمي في كتابه، والزركشي في نكته على ابن الصلاح.
وأما الثاني: فهو أنّ ابن حجر -رحمه الله- وقع في خطأين:
الأول: ظن أنّ الكلام هكذا ((ذكر ابن أبي حاتم أيضا أنه كان يدلس)).
فكأن ابن أبي حاتم نسب التدليس لابن عجلان، ثم وقع في وهم آخر وهو ناشئ عن سقط -فيما أحسب- وهو:
أنه ظن المذكور (ابن أبي حاتم) :( أبا حاتم = ابن حبان)، فلما أتى يختصر كلام العلائي ظنه يتكلم عن أبي حاتم ، ثم أبدله بالاسم الصريح في ظنه وهو : ابن حبان حيث كنيته (أبو حاتم).
وابن حبان لم ينسب ابن عجلان إلى التدليس لا في الثقات ولا غيره، بل العجيب وما أكثر العجائب! أنّ ابن حبان خصوصا صحح سماع ابن عجلان لهذا الحديث من الأعرج وبوب عليه؟! فقال:
((ذِكْرُ الْخَبَرِ الْمُدْحِضِ قَوْلَ مَنْ زَعَمَ أَنَّ خَبَرَ ابْنَ عَجْلَانَ مُنْقَطِعٌ، لَمْ يَسْمَعْهُ مِنَ الْأَعْرَجِ))
ثم قال تحته:
«يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ ابْنُ عَجْلَانَ سَمِعَ هَذَا الْخَبَرَ مِنَ الْأَعْرَجِ، وَسَمِعَهُ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ، عَنِ الْأَعْرَجِ، فَمَرَّةً كَانَ يُحَدِّثُ بِهِ عَنِ الْأَعْرَجِ مُفْرَدًا، وَتَارَةً يَرْوِيهِ عَنْ رَجُلٍ، عَنِ الْأَعْرَجِ مُفْرَدًا» ا.هــ
فسبحان الله ! كيف توالت الأخطاء في هذا المبحث ، وليس العجب من وقوع مثل هذه الهفوة من بعض الحفاظ الذين كانوا يجمعون من العلم عشرات الآلاف من المسائل والتحقيقات ولكن العجب من بعض المحققين المتأخرين حيث قلّ علمهم فكان الأولى عليهم حينها تحرير هذه المعلومات اليسيرة، أما وقوع الكدر في البحر الواسع فلا يضره ! والله المستعان.
فهذا أخي القارئ طرف من الخلاف في الجهة الأولى خذه سائغا ميسورا، وأما خلافهم في فهم معنى (الحَمْل) فدونك باختصار:
1- قال ابن حبان -رحمه الله- في صحيحه":
ذِكْرُ الْأَمْرِ بِالْوُضُوءِ مِنْ حَمْلِ الْمَيِّتِ
قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: أُضْمِرَ فِي هَذَا الْخَبَرِ: إِذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا حَائِلٌ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ الْوُضُوءُ الَّذِي لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ إِلَّا بِهِ دُونَ غَسْلِ الْيَدَيْنِ، تَقْرِينُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوُضُوءَ بِالِاغْتِسَالِ فِي شَيْئَيْنِ مُتَجَانِسَيْنِ ا.هــ
فهنا يذهب أبو حاتم ابن حبان إلى تقييد الحمل فيما إذا لم يكن ثمّت حائل وهذا عادة يكون قبل التكفين.
وإلى هذا ذهب الصنعاني في "سبل السلام" فقال:
ويفسّر الوضوء بغسل اليدين، كما يفيده التعليل بقوله: "إن ميتكم يموت طاهراً"؛ فإن لمس الطاهر لا يوجب غسل اليدين منه، فيكون في حمل الميت غسل اليدين ندباً تعبداً، إذ المراد إذا حمله مباشراً لبدنه، بقرينة السياق، ولقوله: "يموت طاهراً" فإنه لا يناسب ذلك إلا من يباشر بدنه بالحمل. ا.هـ
إلا أنه حمل الأمر بالوضوء على غسل اليدين.
2- وهذا حكاه البغوي في شرح السنة فقال:
وقيل في قوله : " ومن حملة فليتوضأ " أن المراد منه المس.
وقيل : أراد بقوله : " فليتوضأ " أي : ليكن على وضوء حالة
ما يحمله ليتهيأ له الصلاة عليه إذا وضعها. ا.هـ
لكن البغوي أفاد زيادة على هذا أمرين:
- بيان وجه الأمر بالوضوء لمن حمل الجنازة.
- وهذا في الحقيقة أيضا راجع لتفسير معنى الحمل فيكون تفسيرا ثانيا ولذا قال العلامة عطية سالم-رحمه الله-:
( من حمل) معناه: بأنه بعدما يحمل الميت يتوضأ، والجمهور قالوا: (من حمل) أي: من أراد أن يحمل، كما في حديث أنس : ( كان صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء قال ...) فقوله: (إذا دخل) أي: إذا أراد الدخول؛ لأنه بعد دخوله لا يحق له أن يأتي بشيء فيه ذكر الله، وكما في قوله تعالى: { فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ } [النحل:98] والمراد أن يستعيذ عند إرادته القراءة لا عند فراغه منها، فقالوا: وهنا أيضاً (من حمل) أي: من أراد أن يحمل ميتاً فليتوضأ، ولماذا يتوضأ؟
قالوا: لأن من يحمله سيذهب به إلى المصلى فينبغي أن يكون متوضئاً، حتى إذا قدموا الميت للصلاة عليه يكون حامله أولى الناس بأن يصلي عليه، وإذا كان سيصلي عليه يجب أن يتهيأ للصلاة عليه بالوضوء من قبل.ا.هـ من شرحه الممتع على بلوغ المرام
3- وأما التفسير الثالث للحمل فهو ما ذكره ابن حزم فقال:
قَالَ مَنْ غَسَّلَ مَيِّتًا فَلْيَغْتَسِلْ وَمَنْ حَمَلَهَا فَلْيَتَوَضَّأْ» قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: يَعْنِي مَنْ حَمَلَ الْجِنَازَةَ.
. ا.هـــ من المحلى
فهذا يعني ولو من غير مس لبدن الميت، فكل من حمل الجنازة يؤمر بالوضوء، وهذا يُطابق تقريبا تبويب ابن أبي شيبة حيث قال:
مَنْ كَانَ إِذَا حَمَلَ جِنَازَةً تَوَضَّأَ ا.هـ
وأخرج تحته الأثر الموقوف على أبي هريرة بتنصيص الجنازة فقال:
حدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ ، أَخبرنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : مَنْ غَسَلَ مَيِّتًا فَلْيَغْتَسِلْ وَمَنْ حَمَلَ جِنَازَةً فَلْيَتَوَضَّأْ. ا.هـــ
قلت: لكن أتى الأثر من طريق محمد بن عمرو ومن طرق أخرى أعلى بلفظ (ومن حمله فليتوضأ) فلا أدري هل هو تصرف من يزيد بن هارون (الراوي عن محمد) بحسب ما فهمه أم ماذا؟
ثم أورد ابن أبي شيبة أيضا أثرا عن عثمان-رضي الله عنه- فقال:
12126- حدَّثَنَا حَفْصٌ ، عَنْ لَيْثٍ ، عَنْ مُجَاهِدٍ ، عَنْ عُثْمَانَ ، قَالَ : مَنْ حَمَلَ جِنَازَةً فَلْيَتَوَضَّأْ. ا.هــ
وهذا ضعيف بل شديد الضعف فيه ليث بن أبي سليم ومع هذا فهو منقطع بين مجاهد وعثمان-رضي الله عنه-.
ولم يتبين لي مذهب ابن حزم هل هو على الوجوب أم الاستحباب؟ ، أما في غسل الميت فهو يرى وجوب الغسل على من غسّله أما الحمل فلم يتعرض لبيان مذهبه -رحمه الله-.
وعموما فالحديث مُشكل فقول ابن حبان-رحمه الله- له وجاهة من جهة ؛ فبعض الصحابة ورد عنهم الوضوء من غسل الميت والغسل ملازم لمسه ، لكن هذا الفهم يبعد مع سياق الحديث فالنبي -صلى الله عليه وسلم- فرّق بين الغسل والحمل؟! ، إلا أن يقال الحمل هو من مسّ البدن دون فرك وتطهير له!.
- وأما إن أخذنا بقول ابن حزم-رحمه الله-فهو أقرب لدلالة ظاهر الخبر وهكذا أقرب للمذكور عن أبي هريرة -رضي الله عنه- موقوفا وهو راوي هذا الخبر فهو أعلم بمرويه إلا أنّ عموم البلوى في هذه المسألة يُشكل مع عدم اشتهار هذا الحكم بين الصحابة-رضوان الله عليهم- فما أكثر الأموات في كل يوم وكل عصر ومع هذا لم يشتهر أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- لهم بالوضوء من حمل الجنازة بخلاف الغسل من تغسيل الميت أو الوضوء من تغسيله فهذا وارد عن الصحابة -مع وقوع الخلاف أيضًا - مع أن البلوى بتغسيل الميت محدودة أما حمله فيشارك فيه عامة الناس فكان الأوفق عقلا انقلاب الصورة، ولذا فلو أخذنا بظاهر الخبر فلا محيص ولا مناص من حمله على الاستحباب دون الوجوب قطعًا [3]، وهذه قاعدة أشار إليها ابن تيمية -رحمه الله- وملخصها أنّ الأمر المُتعلق بما تعم به البلوى إن ورد في خبر غير مشهور بين الناس لا يمكن حمله على الوجوب بل هذه قرينة تصرف الأمر من الوجوب إلى الاستحباب، وهي قاعدة جيدة وعليها يُحمل أمر النبي-صلى الله عليه وسلم- بالاغتسال لبعض من دخل في الإسلام من الصحابة -رضوان الله عليهم- فيُحمل على الاستحباب، وجماعة من الأحناف غلو في هذه القاعدة فردوا خبر الآحاد فيما تعم به البلوى والتوسط هو الصواب والله أعلم.
ولكن يبقى الحكم المُتعلق بلفظة ((من حمله فليتوضأ)) من المُشكلات ، ولذا قال الشيخ العباد -حفظه المولى-:
ولا أدري الآن مَن مِن العلماء ذكر أن الوضوء يكفي من حمْله مفضياً إليه، أي: لعل ذلك مِن مسّ جسده، وعلى كل فالمسألة مشكلة. وأما قول بعضهم: إن هذا الحديث من الأحاديث التي لم يجر العمل عليها، فغير صحيح؛ لأن بعض أهل العلم قال باستحباب ذلك، ومعنى ذلك أنهم عملوا به. ا.هـ من شرحه لسنن أبي داود.
ومما زاد هذه المسألة غموضا كون أكثر من بوب على هذا الحديث أو شرحه اهتم بأوله لشهرة الخلاف في الاغتسال من تغسيل الميت ولم يتعرضوا لآخره بالبيان ، فكأن لب العزيمة والهمة انتهض لتحقيق أوله سندا ومعنىً فلم يحظَ آخره بنفس الاهتمام، وهنا فائدة أخيرة قبل التمام وهي أنّ بعض العلماء كابن شاهين جعل هذا الخبر من قبيل المنسوخ كما في كتابه "ناسخ الحديث ومنسوخه" وهذا آخر المطاف وقد طال المقال والحمد لله رب العالمين.
الهامش:
[1] أظنه عدّ كل رواية على انفراد،ولو كانت تلك الطرق المختلفة مردها إلى طريق معينة ، كأن تكون روايات عدة مرجعها إلى سهيل بن أبي صالح فكأنه عدّ كل طريق إليه منفصلة فبلغت هذا العدد الكبير!
[2] وقد أحلت على النسخة الجديدة من السنن حثًا للجميع من الاستفادة من هذا التحقيق المفيد ولتحميل النسخة كاملة (21 مجلدا) اضغط هنا: http://ajurry.com/vb/showthread.php?p=86515
[3] هذا إن لم نقل بأنّ هذا من وجوه إعلال خبر أبي هريرة المرفوع ؛ حيث إنّ أبا هريرة لم يستدل بالمرفوع لمّا أنكر عليه بعض الصحابة الأمر بالاغتسال من غسل الميت ، ولو كان قد سمع عن النبي -عليه الصلاة والسلام- شيئا صريحا في المسألة لبادر بذكره، فيمكن هنا أن يقول قائل: هذا دليل على إعلال طريق ابن عجلان التي ذكرناها آنفًا والله أعلم.
فائدة: أوسع من رأيته جمع طرق هذا الحديث هو الدكتور علي الصياح في رسالته الجامعية ((التعليق على قطعة من علل ابن أبي حاتم)) إلا أنّه لم يتعرّض لها بالبحث ولكنه جمع شمل طرق هذا الحديث بما فيه فائدة عظيمة والله أعلم.
تعليق