الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن اتبع هداه إلى يوم الدين، أمَّا بعدُ:
أذكر أنه قبل ما يزيد على سبع من السنين كان هناك نقاش علمي شيق هادئ كنت محظوظًا أن أكون طرفًا فيه، شارك فيه أفاضل الإخوة من طلبة العلم، وقد اتضحت مآخذ المسألة وأدلة العلماء للكثير من القراء بعدها؛ ثم مرت سنوات فوقفت على نقاش علمي يوم عرفة الماضي في ذات المسألة نشطت نفسي أن أشارك فيه لأنه محور مسألة ويصب في لبها -ولكل مسألة لب ومحور يتبين به ضابط المسألة- فدونك إياه أخي القارئ:
قال أحد الإخوة مستشكلاً:
لدي إشكال حول قول عبدالله بن بسر -رضي الله عنه- عندما سئل عن صيام يوم السبت فقال:((لا لك ولا عليك))، فقوله: ((ولا عليك)) ألا يدل على أنه لا يرى تحريم صوم يوم السبت؟
فكانت الإجابة:
أجدني أنشط للمشاركة في ذلك ابتغاءً للفائدة والأجر؛ فجزاك الله خيرًا أخانا فلان على ذلك، وأستأذن أخي في الإجابة -طامعًا في مزيد تمحيص لما أقول ممن كان له علم- لعلي أستفيد من إخواني بالمزيد في هذه الجزئية وأرجع عن أي خطأ أو زلل.
أما ما قلته من إفادة ((لا عليك)) بعدم تحريم صوم السبت فأوافق على ذلك تمامًا، ولكن ذلك كموافقتي على قولك -مثلاً- أن قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ} (4) سورة الماعون يعني الثبور والخسران للمصلين .
والشاهد أنه ينبغي أن نأخذ الجملة بكاملها، والمعنى بتمامه، فإذا أضفت قوله -صلى الله عليه وسلَّم-: ((لا لك)) اتضح المعنى كاملاً بأنه النهي، لأن العبادة هي كل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، فهل تنطبق عبارة ((لا لك ولا عليك)) على مسمى العبادة؟ وهل هو أمر نندب الناس إليه؟ أترك الجواب لك .
والإشكال الصحيح الذي يسلم لك وهو تعديل لإشكالك السابق وتقويم له: هل يحمل الأمر على حديثه -صلى الله عليه وسلم-: ((من صام الدهر فلا صام ولا أفطر)) أم حديث معاقبة المملوك: ((وإن كان عقابك إياهم بقدر ذنوبهم كان كفافاً لا لك ولا عليك)) .
والذي دفع العلماء الذين يقولون بإفادة هذه العبارة على الأولى أنه قد ورد النهي الصريح عن صوم الدهر: ((من صام الدهر ضيقت عليه جهنم هكذا-وعقد تسعين-))، ولم يرد حديث في ما أعلم عن عقاب المملوك بقدر الذنب .
فإذًا لكي نحمل حديث صوم السبت ((لا لك ولا عليك)) على أحد الوجهين، ينبغي أن نسأل هذا السؤال: هل ورد نهي صريح عن صوم السبت في غير الفرض؟ نقول نعم. وهو قوله -صلى الله عليه وسلم-: ((وإن لم يجد أحدكم إلا لحاء عنبة أو عود شجرة فليمضغه)) ، بل وأمره الصماء -رضي الله عنها- بالإفطار حينما قال لها: ((فكلي)) ، ويتبين بذلك أن (( لا تصوموا)) في الحديث هي (لا) الناهية التي تفيد التحريم .
ولا يخفى عليك أنَّ النهي إذا عاد إلى أصل العبادة فإنه يقتضي الفساد عند الكثير من أهل الأصول والفقه.
فبذلك يتبين أن حمل أهل العلم حديث ((لا لك ولا عليك)) هو أتم الوجوه على ((لا صام ولا أفطر)) لا على حديث المملوك الآخر .
هذا وألخص كلام أهل العلم الذين تكلموا في هذه المسألة وذهبوا إلى النهي عن صوم السبت في الفرض في التالي:
1- صوم الجمعة لا يجوز مفردًا .
2- إذا أردت أن تصومه فيجب أن تصوم معه يوم الخميس .
3- أما إذا صمته جاهلاً أو غافلاً، فإن الرسول -صلى الله عليه وسلَّم- قد أعطى رخصة في صيام السبت مع الجمعة وهي الحالة التي يكون فيها صيام السبت (لا عليك) لأنه مخرج من تحريم إفراد الجمعة .
4- أمَّا إذا صام المرء السبت مفردًا جاهلاً أو غافلاً، فإن الرسول -صلى الله عليه وسلم- لم يعط في هذه الحالة الرخصة في صوم يوم بعده، وقد كان بوسعه -صلى الله عليه وسلم- أن يقول للصماء كما قال لجويرية -رضي الله عنهما-: ((تريدين أن تصومي غدا؟))، بل قال لها: (( فكلي فإن صيام يوم السبت لا لك ولا عليك ))، وكما في الحديث الآخر: ((وإن لم يجد أحدكم إلا لحاء عنبة أو عود شجرة فليمضغه)) تأكيدًا في النهي، ولا يجوز له -صلى الله عليه وسلم- تأخير البيان عن وقت الحاجة، وهنا يظهر معنى ((لا لك في الحديث)) .
هذا وقد بين أهل العلم أن المسألة من مسائل الخلاف القوي التي لا ينبغي الإنكار فيها، فمن ذهب إلى أن التحريم للإفراد وصحح حديث أم سلمة أو ضعف الأحاديث التي بين أيدينا أو ذهب للجمع بوجه يخالف ما لخصته عن أهل العلم أعلاه لديه وجه حديثي وفقهي قوي في ذلك أيضًا ، والمسألة تتجاذبها الأدلة.
وأسأل الله أن يتقبل صيام من اجتهد ورأي أن سنة الرسول -صلى الله عليه وسلم- توافي الصوم في هذا اليوم، أو من اجتهد ورأى أن سنة الرسول -صلى الله عليه وسلم- هي الإفطار، وصدق حديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- من ترك شيئًا لله عوضه الله خيرًا منه، وأسأل الله أن يكون حالنا كما في حديثه -صلى الله عليه وسلم-: ((لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة)) وقد كان ذاك اجتهاد في تأخير (((الفريضة)))، وهذا اجتهاد في ترك (((نافلة))) لاعتقاد نهيه -صلى الله عليه وسلم عن ذلك- .
فأرجو أن تكون قد اتضحت الصورة، وصلى الله وسلَّم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه إلى يوم الدين .
تعليق