مجالات الإصلاح في الفقه الإسلامي
بِسْمِ اللَّـهِ الرَّحْمَـٰنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أشرف المرسلين، نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
أمَّا بعد، فقد مرَّ الفقهُ الإسلاميُّ بمراحلَ عدَّةٍ، من أهمِّها عصرُ النُّبوَّةِ، حيث كان مصدرُ التَّشريعِ وقتئذٍ هو القرآنُ والسُّنَّةُ، وقد أمر تعالى المؤمنين أن يردُّوا كلَّ ما تنازعوا فيه من أمور الدِّين: دقِّه وجلِّه، جليِّه وخفيِّه إلى هذا المصدر فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾ [النساء : 59]، والرَّدُّ إلى الله سبحانه هو الردُّ إلى كتابه، والردُّ إلى الرَّسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو الرَّدُّ إليه نفسِه في حياته، وإلى سُنَّتِه بعد وفاتِه.
وكان الرَّسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو المبلِّغ عن الله تعالى المبيِّن لشرعه، وقد قال تعالى: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً﴾ [النساء : 105]، وقد أمرنا تعالى بطاعته وتحكيمِه والتَّحاكمِ إليه فقال: ﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً﴾ [النساء : 65]، فلا شرع إلاَّ ما شرعه اللهُ أو ما شرعه رسولُه.
ولمَّا كان القرآنُ والسُّنَّةُ هما المرجعُ الأساسيُّ للصَّحابة في جميع الأحكامِ والقضايا، لم يكنْ هناك مجالٌ للاختلافِ في المسائلِ الفقهيَّةِ على عهد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، ولئن كان هناك خلافٌ بين الصَّحابة إذا وقع منهم اجتهادٌ في حَضْرَتِه أو غَيْبَتِه ـ كما هو واقع منهم في حوادثَ كثيرةٍ، ووقائعَ متعدِّدَةٍ، وهو الصَّحيح من مذاهبِ العلماءِ ـ فإنَّهم كانوا يرجعون إليه ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فَيُقِرُّ المصيبَ منهم، ويُنْكِرُ على المخطئِ، فسرعانَ ما يزول الخلافُ، ويَثْبُتُ الصَّوابُ.
ولم يفارقِ النَّبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ هذه الحياة، ويودِّعْ أصحابَه، وينقطعِ الوحيُ، حتَّى كَمُلَ الدِّينُ، وتكامل بناءُ الشَّريعةِ، فقد بلَّغ الرِّسالةَ، وأدَّى الأمانةَ، ونصح الأمَّةَ، وتركها على المحجَّة البيضاءِ، وحثَّها على التَّمسُّك بكتاب الله وسُنَّةِ رسولِه ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعده.
فأخذ الصَّحابةُ ـ رضي الله عنهم ـ بوصيَّة النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وما عَهِدَهُ إليهم، وعَضُّوا على ذلك بالنَّواجِذِ والأضْرَاسِ، فعَلِمُوا التَّنزيلَ، وفَهِمُوا مرادَ الرَّسولِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وعرفوا سُنَنَهُ، فحكَّموا النُّصوصَ وتحاكموا إليها، ووقَفُوا عند حدودِها، فإذا نزلتْ بهم نَازِلَةٌ، وعرفوا حكمَها في كتاب الله أو سنَّةِ رسولِه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يَلْتَفِتُوا إلى غيرِهِما، بل تركوا آراءَهم، ورجَعُوا عن أقوالِهم إذا رأَوْا أنَّها تخالفُ النَّصَّ.
وبعد أنِ اتَّسعتْ دائرةُ الإسلامِ عن طريق الفتوحاتِ الإسلاميَّةِ، وامتدَّ نفوذُها إلى ما وراء الجزيرة، ودخل كثيرٌ من الأُمَمِ في دين الله أفواجًا، واختلطَ العجمُ بالعربِ، واجهتْهُم وقائعُ عِدَّة، ونزلت بهم نوازلُ كثيرة، لا عَهْدَ لهم بها في عصر النُّبوَّةِ، فدعتِ الحاجةُ إلى معرفة أحكامِ تلك الحوادث الطَّارئةِ، ومعلومٌ أنَّ النُّصوصَ الشَّرعيَّةَ محدودةٌ، لم تَنُصَّ على كلِّ الحوادثِ، فكان من الضَّروريِّ أن يجتهدوا في إيجادِ حلٍّ لهذه النَّوازلِ، وينظرُوا إلى أقربِ ذلك من النُّصوص العامَّةِ، فيُخرِّجوا أحكامَ هذه الحوادثِ الجزئيَّةِ على القواعدِ الكلِّيَّةِ المقرَّرَةِ في الكتاب والسُّنَّةِ، فإنْ أعوزَهم ذلك استشاروا فقهاءَ الصَّحابةِ، فإذا اتَّفق رأيُهم على شيءٍ قضوا به، ولَزِمَ تنفيذُه، كما وقع لأبي بكرٍ الصِّدِّيقِ ـ رضي الله عنه ـ في جَمْعِهِ للقرآنِ، وقتالِه مانعِي الزَّكاةِ، وأهلِ الرِّدَّةِ وغيرِها.
وقد قال ميمون بنُ مِهرانَ: «كان أبو بكرٍ الصِّدِّيقُ إذا ورد عليه حُكْمٌ نَظَرَ في كتاب الله تعالى، فإنْ وجَدَ فيه ما يقضِي به قضى به، وإن لم يجدْ في كتابِ الله نَظَرَ في سُنَّةِ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فإن وجد فيها ما يقضي قضى به، فإن أعْيَاهُ ذلك سأل النَّاسَ: هل عَلِمْتُم أنَّ رسولَ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قضى فيه بقضاء؟ فرُبَّما قام إليه القومُ يقولون: قضى فيه بكذا وكذا، فإنْ لم يجد سُنَّةً سنَّهَا النَّبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ جمعَ رؤساءَ النَّاسِ فاستشارهم، فإذا اجتمع رأيُهم على شيء قضى به، وكان عُمَرُ يفعل ذلك، فإذا أعْيَاهُ أنْ يَجِدَ ذلك في الكتابِ والسُّنَّةِ سأل: هل كان أبو بكر قضى فيه بقضاء؟ فإن كان لأبي بكر قضاءٌ قَضَى به، وإلاَّ جمع علماءَ النَّاسِ واستشارهم، فإذا اجتمع رأيُهم على شيءٍ قضى به».
وفي كتاب عمر بنِ الخطَّاب إلى شُرَيْح: «إذا وجَدْتَ شيئًا في كتاب الله فَاقْضِ به، ولا تَلْتَفِتْ إلى غيره، وإن أتاك شيءٌ ليس في كتاب الله فاقضِ بما سنَّ رسولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فإن أتاك ما ليس في كتاب الله ولم يَسُنَّ رسولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فاقضِ بما أجمع عليه النَّاس، وإن أتاك ما ليس في كتاب الله ولا سنَّةِ رسولِ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولم يتكلَّم فيه أحدٌ قبلَك، فإنْ شِئْتَ أن تجتهدَ رأيَك فتقدَّم، وإن شِئت أن تتأخَّر فتأخَّر، وما أرى التَّأخُّرَ إلاَّ خيرًا لك»(1).
والمقصود أنَّ الصَّحابةَ ـ رضي الله عنهم ـ كانوا لا يرجِعون إلى الرَّأيِ إلاَّ عند عدمِ وجود النَّصِّ.
ثم جرى التَّابعون وتابعوهم لهم بإحسان على منهجِهم السَّليمِ، واقْتَفَوْا على آثارهم صراطَهم المستقيمَ،فكانوا يرجِعُون إلى الكتابِ والسُّنَّةِ، فإنْ لم يجدوا في الكتابِ والسُّنَّةِ، أخذُوا بأقوالِ الصَّحابةِ، فإن لم يجدوا فيما قَالَهُ واحدٌ منهم، اجتهدوا رأيَهم.
ثمَّ حَمَلَ الرَّايةَ بعدهم الأئمَّةُ من القرن الرَّابع، وساروا على نهجهم، في تَعَرُّفِّهِم على أحكام النَّوازلِ، وقد عَرَفَ الفقهُ في هذا العصرِ نهضةً فقهيَّةً كبيرةً، وحياةً علميَّةً واسعةً، حيث بَرَزَ فيه علماءُ مجتهدون، ودُوِّنَتِ العلومُ في مختلف الفُنُونِ، وكان للفقه الحظُّ الأَوْفَرُ في التَّدوينِ، إلى جانب علم الحديث، بل كان تدوينُ العلومِ الأخرى خَادِمًا للفِقْهِ، وكانت كتبُ الفقهِ تُعنَى بالدَّليلِ، وفقْهِ الصَّحابةِ والتَّابعينِ والفقهاءِ المجتهدين، وكانت أبوابُ الاجتهاد، والنَّظرِ في المسائلِ، وطرق الاستدلال مفتوحةً على مِصْرَاعَيْها، لمنْ هو أهلٌ لذلك.
والحاصل أنَّ هذا العصرَ يُعتبر ـ بحقّ ـ بالنِّسبةِ للفِقْهِ عصرًا ذهبيًّا.
ثُمَّ خَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ، ضَعُفَتْ هِمَّتُهُمْ عنْ سلوكِ سبيل الأوَّلِينَ، وقَصُرَ جهدُهم عن النَّظرِ في النُّصوصِ والاستنباطِ منها، ورَضُوا لأنفسِهِمُ التَّقليدَ المَحْضَ، والتَّعَصُّبَ البَحْتَ، واتَّخَذَ كُلُّ واحدٍ منهم إمامًا يتَّبعه، ومذهبًا يلتَزِمُه، وصار مبلغَ علْمِهم فَهْمُ كلامِ أئمَّتِهم، وبيانُ أدلَّتِهم، والتَّفريعُ على قواعدهم، وبذلُ الجهد في نُصْرَةِ مذهبهم، والرَّدُّ على مخالفيهم، حتى انقَسَمَت دولةُ الإسلام إلى أربعةِ مذاهبَ، لكلِّ مذهبٍ أنصارٌ وأشياعٌ، وأحزابٌ وأتباعٌ.
لقد بلغ من التَّعصُّبِ الأعمى والتَّقليدِ للأئمَّةِ أنْ صارت نصوصُ إمام المذهبِ كَنُصُوصِ الشَّارعِ، كما قال القاضي عياضٌ في «المدارك»: «إنَّ لفظَ الإمام يَتَنَزَّلُ عند مقلِّده بمنزلة ألفاظ الشَّارع»(2)، واشْتُهِرَ عن الإمام الكَرْخِيِّ الذي انتهت إليه رئاسةُ الحنَفَيَّةِ بالعراقِ أنَّه قال: «كلُّ آيةٍ أو حديثٍ يُخالف ما عليه أصحابُنا فهو إمَّا مؤوَّلٌ أو منْسُوخٌ»؛ وادَّعى القومُ انقطاعَ الاجتهادِ، وغلقَ أبوابِه على رأس المائة الرَّابعةِ، ولم يَبْقَ ـ بالنِّسبة إليهم ـ مجتهدٌ مطلقٌ، بل المجتهدُ عندهم الذي يفهم نصوصَ إمامِه، ويُفَرِّعُ على أصوله، ويطْلِقُونَ عليه اسم: «مجتهد مقيّد».
وقد بُلِيَ الفقهُ في عصر التَّقليدِ بالجمودِ، وأصابه رُكودٌ، ونَجمَ عن ذلك آثارٌ وخيمةٌ، وعواقبُ ذميمةٌ، من أهَمِّهَا ردُّ النُّصوصِ الصَّحيحةِ الصَّريحةِ المخالفةِ للمذهبِ، ولو بالتَّأويلِ الفاسدِ، ومنها عَزْلُ النُّصوصِ عن المسائلِ، وخُلُوِّ كثيرٍ من كتبِ المذاهب من الأدلَّةِ، والعنايةِ بنقل أقوالِ أئِمَّتِهم، ومنها الاهتمامُ بالكتب المختصرةِ والمتونِ والحَوَاشِي التِي هي أشْبَهُ بالألغازِ، حتَّى احتيجَ إلى شَرْحِهَا، ووضعِ الحواشي عليها، بل يقوم بشرحِها مصنِّفُها نَفْسُه، وقد عَاقَتِ الطَّالبَ عنْ تأصيلِ العلمِ وتحصيلِه، وتكوينِ مَلَكَتِهِ الفقهيَّةِ، ومنها كثرةُ التَّآلِيفِ في الفَنِّ الواحد مِمَّا زادَ الأمرَ تعقيدًا والْتِبَاسًا، وأصابَ طالبَ الفقهِ الملَلُ والكَلَلُ، وعاقَهُ عن التَّحصيلِ.
وقد قال ابنُ خلدون في «مقدِّمته» (1021 ـ دار الكتاب اللُّبْنَانِي): «اعلم أنَّه ممَّا أَضَرَّ بالنَّاس في تحصيل العلم، والوقوفِ على غاياته، كثرةُ التَّآليف، واختلافُ الاصطلاحات في التَّعليم، وتعدُّدُ طرقِها، ثمُّ مطالبةُ المتعلِّم والتِّلميذِ باستحضار ذلك، وحينئذ يُسلَّم له منصِبُ التَّحصيلِ، فيحتاجُ المتعلِّمُ إلى حفظها كلِّها أو أكثرِها، ومراعاةِ طرقهَا، ولا يَفِي عمرُه بما كُتب في صناعةٍ واحدةٍ إذا تَجرَّدَ لها، فيقع القصورُ ـ ولابدّ ـ دون رتبةِ التَّحصيلِ.
ويمثل ذلك من شأن الفقه في المذهب المالكيِّ بالكتب: «المدوَّنة» ـ مثلاً ـ وما كُتِبَ عليها من الشُّروحاتِ الفقهيَّةِ، مثل: كتاب ابن يونس واللَّخمِي، وابنِ بشير، و«التَّنبيهات»، و«المقدِّمات»، و«البيانِ والتَّحصيلِ على العُتْبِيَّة»، وكذلك كتاب ابنِ الحَاجِبِ، وما كُتِبَ عليه؛ ثُمَّ إنَّه يحتاج إلى تمييز الطَّريقةِ القَيْرَوَانِيَّةِ من القُرْطُبِيَّةِ والبَغْدَادِيَّةِ والمِصْرِيَّةِ، وطرقِ المتَأَخِّرِينَ عنهم، والإحاطةِ بذلك كلِّه؛ وحينئذٍ يُسَلَّمُ له منصِبُ الفُتْيَا، وهي كلُّها متَكَرِّرَة والمعنى واحدٌ، والمتعلِّم مطالَبٌ باستحضار جميعِها، وتمييزِ ما بينها، والعُمْرُ ينْقَضِي في واحدٍ منها...».
ومنها: عدمُ تنقيح كتب الفقه فترى بعضَ المسائلِ مُشَتَّتَةً على مختلفِ الأبواب، فَيُضْطَرُّ الفقيهُ إلى جُهْدٍ كبيرٍ في مراجعتِها، وقد يستغرقُ ذلك مراجعة أبواب وفصول كثيرة، وربَّما يجدُ المسألةَ في غير مظَانِّها، كما هو حالُ بعضِ كتب الحنفيَّة والمالكيَّة؛ ومنها: اتِّساعُ دائرة الخلاف، وظهور الفِتَنِ المذهبيَّةِ حتَّى أفضى ذلك إلى التَّقاتلِ والتَّدابرِ، وطَعْنِ بعضِهم في بعضٍ، وإبطالِ الصَّلاةِ خلفَ بعضِهم بعضًا، كما حصل بَيْنَ الحنفيَّةِ والشَّافعيَّةِ، ومنها: استحلالُ المحرَّماتِ بأَدْنَى الحِيَلِ، وقدْ صُنِّفَتْ في ذلك مُصَنَّفَاتٌ؛ ومنها: اختيارُ الأقوال بالتَّشَهِّي والهوى، وتَتَبُّعُ الرُّخَصِ، والقولُ بالتَّلفيقِ؛ ومنها: كثرةُ الجَدَلِ والمناظراتِ بين المذاهبِ انتصارًا للمذهبِ، وغيرِ ذلك من البلاَيَا التي حلَّتْ بالفقه الإسلامي...
ففي خِضَمِّ هذا الجمودِ الفِكْرِيِّ والتَّقلِيدِ الأعْمى، والأوضاعِ المزرية الّتي آلَ إليه الفقهُ، كان من الضَّرُورِيِّ إعادةُ النَّظرِ فيه، والعودةُ به إلى العهد الأوَّلِ، وإبرازُه في الحُلَّةِ الزَّاهيَةِ التي كان يَتَحَلَّى بها في العصرِ الذَّهبيِّ، وإصلاحُ ما شَانَهُ، ليَنْهَضَ من كَبْوَتِهِ، ويَصْفُوَ مِنْ كُدْرَتِهِ، ويَسْتَعِيدَ حيَوِيَّتَه ومكانَتَه المرمُوقَةَ التي كان يَحْظَى بها.
وهذه الدَّعوةُ تَتَلاَءَمُ والنَّهضَةَ العلميَّةَ المباركةَ التي يعيشُها العالم الإسلاميُّ اليوم، فلا يصلح آخرُ هذه الأمَّةِ إلاَّ بما صَلحَ بِهِ أوَّلُها.
وتتجلَّى مظاهرُ الإصلاح في الجوانب التَّاليةِ:
أوَّلاً: إصلاحُ الفقهِ من حيثُ تشجيعُ الاجتهادِ لمن تَوَفَّرَتْ فيه شروطُه، وتحقَّقَتْ فيه أدواتُه، ـ ولا أقول: فَتْحُ باب الاجتهاد، لأنَّ بابَه لم ولن يُغْلَقَ ـ، وذلك بتدبُّر النُّصوصِ وتفهُّمِها، واستخراجِ القواعدِ والحِكَمِ والعِلَلِ والمناسباتِ منها، وتطبِيقِها على المسائلِ المسْتَجَدَّةِ، وإلحاقِ ما لا نصَّ فيه منها على ما ورد به النَّصُّ؛ لأنَّ الحوادثَ تَتَجَدَّدُ، والنَّوازلَُ تحدُثُ، وقد لا تكون معروفةً في العصورِ الماضيةِ، والنُّصوصُ الشَّرعيَّةُ لم تَنُصَّ على كلِّ حادثةٍ بعينِها، ولابدَّ من معرفةِ حكمِ الله فيها، ولا يتأتَّى ذلك إلاَّ عن طريق الاجتهاد، وهو أيْسَرُ ممَّا كان عليه في العصور السَّابقةِ؛ لأنَّ موادَّه متوفِّرَةٌ مجتمعةٌ في مظَانِّها، فقد جمع العلماءُ آياتِ الأحكامِ، وأحاديثَ الأحكامِ، وبيَّنُوا النَّاسخَ والمنسوخَ، وضَبَطُوا مواضعَ الإجماعِ، ومواطنَ الخلافِ، ودوَّنُوا الفقهَ، وقعَّدوا قواعدَه وأصولَه، وتكلَّموا في اللُّغةِ وفنونِها، وكلُّ هذه العلومِ التي تعتبرُ دَعَائِمَ أساسيَّةً للاجتهاد مدوَّنَةً في كتبٍ خاصَّةٍ، سهلة المرَامِ، لَيِّنَة المأخذِ.
وقد كان المتقدِّمُونَ يَبْذُلُونَ جهودًا مُضْنِيَةً في تحصيلها، وقد لا يتأتَّى لهم ذلك، كما هو واقعٌ في مسائل الإجماعِ والخلافِ، فكم من مسألةٍ ادُّعي فيها الإجماعُ، وقد ثَبَتَ فيها الخلافُ.
فالاجتهاد هو القلبُ النَّابِضُ الذي به حياةُ الفقهِ الإسلاميِّ، ودليلٌ على صلاحيَّةِ الشَّريعةِ الإسلاميَّةِ السَّمْحَةِ لكلِّ زمانٍ ومكانٍ، والوسيلةُ المثْلَى للتعَرُّفِ على أحكامِ النَّوازلِ؛ والقولُ بسدِّ بابِ الاجتهادِ هو إجهاضٌ للفقهِ الإسلاميِّ، وتضييقٌ لدَوْرِه الفَعَّالِ في مواجهة المستجدَّاتِ، ومواكبةِ التَّطَوُّرَاتِ، وإيجادِ حلولٍ للمشكلاتِ، ونُكْرَانٌ لنعمةِ الفِكْرِ والنَّظَرِ.
ثانيا: إصلاحُ الفقه من حيثُ تصفيَتُه من الأحاديثِ الضَّعيفةِ، والأخبارِ الوَاهيَةِ التي شانَتْ كُتُبَ الفقهِ، وقد بَنَى كثيرٌ من الفقهاءِ عليها أحكامَهم، وخرَّجوا عليها أصولَهم، إمَّا جهلاً منهم بأسانيدِها وعِلَلِها، وإمَّا تعصُّبًا ونصرةً للمذهبِ.
ومعلومٌ أنَّ الأحكامَ لا تُبْنَى إلاَّ على ما صحَّ من الأحاديث، فإذا صُفِّيَتْ كتبُ الفقه من هذه الأحاديثِ، فإنَّه يَقِلُّ الخلافُ، ويُعْرَفُ الصَّوابُ.
وقد صُرِفَتْ عنايةُ كثيرٍ من علماءِ الحديث إلى تخريج الأحاديثِ الواردة في كتب الفقه المعتمدةِ وتحقيقِها، مع بيانِ درجتها من حيث الصِّحَّةُ أو الضَّعفُ.
ثالثًا: إصلاحُ الفقه منْ حيثُ تحليتُه بالنُّصوصِ الشَّرعيَّةِ، وربطُ مسائِلِه بدلائلِها، فيُذْكَرُ مع كلِّ مسألةٍ دليلُها من القرآنِ والسنَّةِ والإجماعِ والقياسِ وأقوالِ الصَّحابةِ، وغيرِها من المصادر التبعيَّة؛ وبهذا تُفْهَمُ الأحكامُ، وتُعرفُ مآخذُ الأقوالِ؛ لأنَّ أخذَ الحكم بغير معرفةِ دليله هو عينُ التَّقليدِ، وقد عرَّف العلماءُ التَّقليدَ أنَّه: «قَبُولُ قولِ الغير بغير حُجَّةٍ»، واتَّفقوا على أنَّ التَّقليدَ ليس بعلمٍ.
رابعًا: إصلاحُ الفقهِ من حيثُ تصفيتُه من الأقوالِ الشَّاذَّةِ، والآراءِ الباطلةِ المخالفةِ للنُّصوصِ، والاختياراتِ المرْجُوحَةِ التي ثَبَتَ ضعفُهَا، وإبرازُ المسائلِ المجمعِ عليها، والمسائلِ الرَّاجحةِ التي ثَبَتَتْ بالدَّليلِ الصَّحيحِ الصَّريحِ؛ أمَّا المسائلُ التي تكافأَتْ فيها الأدِلَّةُ، ولم يُتَبَيَّنْ فيها القولُ الرَّاجحُ فَتُعْرَضُ، ويبقى الاختيارُ بحسب الرُّجوع إلى الأصل أو المرجِّحَاتِ الخارجيَّةِ، فمواردُ النِّزاعِ ومسالكُ الاجتهاد لا إنكارَ فيها.
خامسًا: إصلاحُ الفقه منْ حيثُ تصفيتُه من الفَرَضِيَّاتِ والأُغْلُوطَاتِ التي يستحيلُ وقوعُها، بل رُبَّما وصلت إلى حدِّ السَّخافاتِ والحماقاتِ ـ في بعض الأحيانِ يُسْتَحْيَى من ذكرها ـ أو المسائلِ التي لا فائدةَ منها، ولا طائلَ من ورائِها، وقد يُعتبر البحثُ عنها من التَّكلُّفِ الذي نُهِينَا عنه، وتكون دراستُها من باب إضاعةِ الوقت وشُغْلِ البَالِ، وقد أَخْرَجَتِ الفقهَ عن مقصده وأبعدَتْه عن ميدانِ العمل.
سادسًا: إصلاحُ الفقه من حيثُ تصفيتُه من البدع والمحدثات؛ لأنَّ الأصلَ في العبادات التَّوقُّفُ، فلا يُشْرَعُ منها إلاَّ ما شَرَعَه الله وما صحَّ عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، كالقولِ باستحباب صلاةِ الرَّغائِبِ وصلاةِ ليلةِ النِّصفِ من شعبانَ.
ولتحقيق هذه الإصلاحات، وتجسيدها على أرض الواقع فإنَّني أقدِّم هذه الاقتراحات التَّالية:
أوَّلاً: العملُ على إخراج فقهاء مجتهدين، وتأهيلِهم لحمل الرَّايةِ، يتَّصِفُونَ بحُسْنِ الفهم، وسلامةِ الفكرِ، وقوَّةِ النَّظَرِ، ويملِكُونَ الملَكَةَ العلميَّة، تمكِّنُهم من استنباط الأحكام من أدلَّتِها، وإلحاقِ ما لا نصَّ فيه بالمنْصُوصِ عليه، وذلك بتحصيل علوم الاجتهاد، كالقرآن وعلومه، والحديثِ وعلومه، وأصول الفقه وقواعدِه، والعربيَّةِ وعلومِها، ولا شكَّ أنَّ للجامعات والكلِّيَّات الإسلاميَّةِ دورًا مهمًّا في هذا المجال.
ثانيًا: تكوينُ طلبةِ العلمِ النُّجباءِ للتَّفَقُّهِ بتخريج الفروع على الأصول، والتَّأَمُّلِ في مقاصد التَّشريع وأسرارِه، والنَّظرِ في معاني الأحكام ومناسباتها،واستخراجِ حكمِها وعللِها، حتى تتكوَّنَ لديهم مَلَكَةٌ علميَّةٌ، وأهليَّةٌ تامَّةٌ، وذَوْقٌ فِقْهِيٌّ سليمٌ، يمكِّنُهُم بذلك بلوغَ درجةِ «الاتِّباع»، وتمكِّنُهم من معرفة الحكم.
ثالثا: الاهتمامُ بدراسة كتب الفقه المقَارَنِ، التي تُعْنَى بذكر أقوالِ الأئمَّة وأدلَّتِهِم ومآخذِهم، وتبيِّنُ القولَ الرَّاجحَ من أقوالهم، كـ«المحلَّى» لابن حزم، و«الاستذكار» لابن عبد البَرِّ، و«المغني» لابن قدامة، و«المجموع» للنووي...
رابعًا: عقدُ دوراتٍ علميَّة، ومَجَامِعَ فقهيَّة، تكون دوريَّةً ـ على غِرَارِ ما هو موجود في بعض البلاد الإسلاميَّة ـ، يلتقِي فيها العلماءُ والفقهاءُ من كلِّ أنحاء العالم، يبحثون أهمَّ القضايا المستجدَّةِ في العالم الإسلاميِّ، بغيةَ النَّظرِ فيها، ومعرفةِ حُكْمِ الشَّريعة فيها.
خامسًا: تشجيعُ البُحُوثِ العلميَّة التي تتناول مسائلَ فقهيَّةً معيَّنَةً، على نحو المجلاَّتِ المحكَّمة والأطروحات الجامعيَّة.
هذا، واللهُ وليُّ التَّوفيقِ، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين.
(1) انظر: «إعلام الموقِّعين»: (2/115 ـ تحقيق مشهور).
(2) نقلاً عن كتاب «الفكر السَّامي» للفاسي (3/7).